الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْفَصْل السَّادِس
فِي أَقسَام الحَدِيث
قبل الْخَوْض فِي ذَلِك يَنْبَغِي الْوُقُوف على مَسْأَلَتَيْنِ
الْمَسْأَلَة الأولى أَن الْمُحدثين لَا يبحثون عَن الْمُتَوَاتر لاستغنائه بالتواتر عَن يُرَاد سَنَد لَهُ حَتَّى إِنَّه إِذا اتّفق لَهُ سَنَد لم يبْحَث عَن أَحْوَال رُوَاته لما سبق بَيَانه فِي الْمَسْأَلَة السَّابِعَة من الْفَصْل الْخَامِس
فَقَوْل الْمُحدثين إِن الحَدِيث يَنْقَسِم إِلَى صَحِيح وَحسن وَضَعِيف يُرِيدُونَ بِهِ الحَدِيث الْمَرْوِيّ من طَرِيق الْآحَاد وَأما الحَدِيث الْمُتَوَاتر فَهُوَ خَارج عَن مورد الْقِسْمَة
وَقد ألحق بَعضهم المستفيض بالمتواتر فَجعله أَيْضا خَارِجا عَن مورد الْقِسْمَة وَقد نقلنا فِيمَا مضى أقوالا فِي حد المستفيض وَقد وقفت الْآن على أَقْوَال أخر ذكرهَا بعض من ألف فِي الْقَوَاعِد الْفِقْهِيَّة فَأَحْبَبْت إِيرَاد خُلَاصَة ذَلِك قَالَ
قد اقْتضى كَلَام قوم أَن المستفيض خبر جمع يمْتَنع تواطؤهم على الْكَذِب وَكَلَام قوم أَنه خبر جمع يُفِيد ظنا فَوق الظَّن الْمُجَرّد وَقَالَ بَعضهم إِنَّه خبر جمع كثير يَقع الْعلم أَو الظَّن بقَوْلهمْ
وَقَالَ بعض الْفُقَهَاء لَا تقبل الشَّهَادَة بالاستفاضة إِلَّا فِي مسَائِل مِنْهَا النّسَب وَالْوَقْف وَولَايَة الْوَالِي وعزله وَقَالَ بَعضهم إِذا استفاض فسق الشَّاهِد بَين النَّاس لم يحْتَج إِلَى الْبَحْث وَالسُّؤَال عَنهُ
وَيَنْبَغِي التنبه لأمر وَهُوَ أَنه لَا يجوز الْجرْح بِمُجَرَّد الشُّيُوع والانتشار بل لَا بُد مَعَ ذَلِك من حُصُول الْعلم فَإِذا لم يحصل الْعلم لم يجز الِاعْتِمَاد عَلَيْهِ وهتك أَعْرَاض النَّاس بِهِ وَقد صرح بذلك الْغَزالِيّ وَهُوَ الْحق لِأَنَّهُ مِمَّا يُمكن الْوُقُوف عَلَيْهِ وَإِذا وَقع لم يحصل فِيهِ لبس فَلَا يَقع فِيهِ بِمَا لَا يُفِيد الْعلم من الاستفاضة والاستفاضة تحصل بِأَقَلّ جموع الْكَثْرَة وَهُوَ أحد عشر فَمن زعم استفاض بِدُونِهَا فَهُوَ ذاهل
وَشرط الْعَمَل بالاستفاضة أَن لَا عَارض باستفاضة مثلهَا فَإِن عورضت بَطل حكمهَا لأَنا إِن شرطنا فِي الاستفاضة الْعلم فالمعارضة تدل على انه لَا استفاضة من الْجَانِبَيْنِ لِأَن القاطعين لَا يتعارضان وَإِن اكتفينا بِالظَّنِّ فَلَيْسَ أحد الظنين بِأولى من مُقَابِله
وَاعْلَم أَن الشَّيْء الَّذِي لَا تنضبط أَسبَاب الِاطِّلَاع عَلَيْهِ إِذا أثارت أَسبَابه لبَعض العارفين ظنا يسوغ لَهُ الشَّهَادَة لم يسغْ لَهُ أَن يُصَرح بِهِ عِنْد الْحَاكِم لن من الْجَائِز أَن لَا يتَبَيَّن لَهُ الظَّن الَّذِي ثار عِنْد الشَّاهِد لَا سِيمَا إِن قَامَت عِنْد الشَّاهِد إشارات تقصر عَنْهَا الْعبارَات وَمن ثمَّ قَالُوا فِيمَا يشْهد فِيهِ بالاستفاضة إِن الشَّاهِد لَو صرح بِأَن مُسْتَنده الاستفاضة لم يقبل لِأَنَّهُ أَضْعَف قَوْله بِذكر مُسْتَنده اهـ
وَقد تبين من عباراتهم المخلفة أَن من الْعلمَاء من يَجْعَل المستفيض مرادفا للمتواتر وَمِنْهُم من يَجعله أعلم مِنْهُ بِحَيْثُ يُقَال كل متواتر مستفيض وَلَيْسَ كل مستفيض متواترا وَمِنْهُم من يَجعله قسما على حِدة غير انه دون الْمُتَوَاتر وَفَوق الْمَشْهُور وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُور
وَالْمَقْصُود بِمَا ذكرنَا التَّنْبِيه على اخْتِلَاف الِاصْطِلَاح فِيهِ ليعرف الْمطَالع إِذا رأى توارد الْأَحْكَام الْمُخْتَلفَة عَلَيْهِ أَن ذَلِك إِنَّمَا هُوَ لاخْتِلَاف اصْطِلَاح المصطلحين فِيهِ لَا لأمر آخر
المسالة الثَّانِيَة قد سبق ذكر معنى السَّنَد والإسناد وَقَول ابْن الْمُبَارك الْإِسْنَاد من الدّين وَلَوْلَا الْإِسْنَاد لقَالَ من شَاءَ مَا شَاءَ وَقد دَعَا الْحَال إِلَى أَن نذْكر هُنَا معنى الْمسند وَمَا يُنَاسِبه فَنَقُول
قَالَ الْحَافِظ ابْن حجر فِي شرح نخبة الْفِكر والمسند فِي قَول أهل الحَدِيث هَذَا حَدِيث مُسْند هُوَ مَرْفُوع صَحَابِيّ بِسَنَد ظَاهره الِاتِّصَال
فَقولِي مَرْفُوع كالجنس وَقَوْلِي صَحَابِيّ كالفصل يخرج بِهِ مَا رَفعه التَّابِعِيّ فَإِنَّهُ مُرْسل أَو من دونه فَإِنَّهُ معضل أَو مُعَلّق وَقَوْلِي ظَاهِرَة الِاتِّصَال يخرج مَا ظَاهره الِانْقِطَاع وَيدخل مَا فِيهِ الِاحْتِمَال وَمَا يُوجد فِيهِ حَقِيقَة الِاتِّصَال من بَاب الأولى وَيفهم من التَّقْيِيد بالظهور أَن الِانْقِطَاع الْخَفي كعنعنة المدلس والمعاصر الَّذِي لم يثبت لقِيه لَا يخرج الحَدِيث عَن كَونه مُسْندًا لإطباق الْأَئِمَّة الَّذين خَرجُوا المسانيد على ذَلِك
وَهَذَا تَعْرِيف مُوَافق لقَوْل الْحَاكِم الْمسند مَا رَوَاهُ الْمُحدث عَن شيخ يظْهر سَمَاعه مِنْهُ وَكَذَا شَيْخه عَن شَيْخه مُتَّصِلا إِلَى صَحَابِيّ إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم
وَأما الْخَطِيب فَقَالَ الْمسند الْمُتَّصِل فعلى هَذَا الْمَوْقُوف إِذا جَاءَ بِسَنَد مُتَّصِل يُسمى عِنْده مُسْندًا لَكِن قَالَ إِن ذَلِك قد يَأْتِي لَكِن بقلة
وَأبْعد ابْن عبد الْبر حَيْثُ قَالَ الْمسند الْمَرْفُوع وَلم يتَعَرَّض للإسناد فَإِنَّهُ يصدق على الْمُرْسل والمعضل والمنقطع إِذا كَانَ الْمَتْن مَرْفُوعا وَلَا قَائِل بِهِ اهـ
قَالَ بعض الْعلمَاء يَنْبَغِي أَن يُرَاد بموافقة تَعْرِيفه لتعريف الْحَاكِم الْمُوَافقَة فِي الْجُمْلَة وَإِلَّا فالمتبادر من تَعْرِيف الْحَاكِم اخْتِصَاص الْمسند بِمَا اتَّصل فِيهِ السَّنَد حَقِيقَة وَقد صرح بِاشْتِرَاط عدم التَّدْلِيس فِي رُوَاته نعم إِن أَرْبَاب المساند لم يتحاموا فِيهَا تَخْرِيج معنعنات المدلسين وَلَا أَحَادِيث من لَيْسَ لَهُ من النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِلَّا مُجَرّد الرُّؤْيَة
وَقد عرفت بِمَا ذكر أَن للْعُلَمَاء فِي معنى الْمسند ثَلَاثَة أَقْوَال
القَوْل الأول قَول من قَالَ ن الْمسند لَا يَقع إِلَّا على مَا اتَّصل مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَبِه جزم الْحَاكِم فِي كِتَابه فِي عُلُوم الحَدِيث وَلم يذكر فِيهِ غَيره وَحَكَاهُ الْحَافِظ ابْن عبد الْبر فِي كتاب التَّمْهِيد عَن قوم من أهل الحَدِيث
وَهَذَا القَوْل هُوَ الْمَشْهُور وَبِه يحصل الْفرق بَين الْمسند وَبَين الْمُتَّصِل وَالْمَرْفُوع وَذَلِكَ أَن الْمَرْفُوع نظر فِيهِ إِلَى حَال الْمَتْن مَعَ قطع النّظر عَن الْإِسْنَاد اتَّصل أم لم يتَّصل والمتصل نظر فِيهِ إِلَى حَال الْإِسْنَاد مَعَ قطع النّظر عَن الْمَتْن مَرْفُوعا كَانَ أم مَوْقُوفا والمسند نظر فِيهِ إِلَى الْأَمريْنِ وهما الرّفْع والاتصال فَيكون أخص من كل مِنْهُمَا فَكل مُسْند مَرْفُوع وكل مُسْتَند مُتَّصِل وَلَيْسَ كل مَرْفُوع مُسْندًا وَلَا كل مُتَّصِل مُسْندًا
القَوْل الثَّانِي قَول من قَالَ الْمسند هُوَ الَّذِي اتَّصل إِسْنَاده من رَاوِيه إِلَى منتهاه ذكره الْخَطِيب نقلا عَن جُمْهُور أهل الحَدِيث قَالَ ابْن الصّلاح وَأكْثر مَا يسْتَعْمل ذَلِك فِيمَا جَاءَ عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم دون مَا جَاءَ عَن الصَّحَابَة وَغَيرهم
وعَلى ذَلِك يدْخل فِيهِ الْمَرْفُوع وَالْمَوْقُوف فَلَا يكون بَينه وَبَين الْمُتَّصِل فرق إِلَّا من جِهَة ان الْمُتَّصِل يسْتَعْمل فِي الْمَرْفُوع وَالْمَوْقُوف على حد سَوَاء بِخِلَاف الْمسند فَإِنَّهُ يسْتَعْمل فِي الْمَرْفُوع كثيرا وَفِي الْمَوْقُوف قَلِيلا غير أَن كَلَام الْخَطِيب يَقْتَضِي دُخُول الْمَقْطُوع فِيهِ وَهُوَ قَول التَّابِعين وَكَذَا قَول من بعد التَّابِعين وَكَلَام أهل الحَدِيث يأباه
القَوْل الثَّالِث قَول من قَالَ الْمسند مَا رفع إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم خَاصَّة وَهُوَ قد يكون تصلا مثل مَالك عَن نَافِع عَن ابْن عمر عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَقد يكون مُنْقَطِعًا مثل مَالك عَن الزُّهْرِيّ عَن ابْن عَبَّاس عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَهَذَا مُسْند لِأَنَّهُ قد أسْند إِلَى
رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُنْقَطع لِأَن الزُّهْرِيّ لم يسمع من ابْن عَبَّاس قَالَه ابْن عبد الْبر فِي التَّمْهِيد
فعلى هَذَا يَسْتَوِي الْمسند وَالْمَرْفُوع وَقد جرى على ذَلِك الدارقني فِي قَوْله فِي سعيد بن جُبَير بن حَيَّة الثَّقَفِيّ إِنَّه لَيْسَ بِالْقَوِيّ يحدث بِأَحَادِيث يسندها وَغَيره يقفها
هَذَا وَقد اسْتشْكل بَعضهم مَا ذكر فِي القَوْل الأول من قَوْلهم كل مُسْند تصل وَلَيْسَ كل مُتَّصِل مُسْندًا فَقَالَ إِن الْمسند غنما يُطلق على الْمَتْن والمتصل إِنَّمَا يُطلق على السَّنَد فَكيف يسوغ حمل أَحدهمَا على الآخر
وَيُمكن أَن يُجَاب بِأَن المُرَاد بقَوْلهمْ كل مُسْند مُتَّصِل أَن كل حَدِيث مُسْند فَهُوَ مُتَّصِل الْإِسْنَاد وبقولهم لَيْسَ كل مُتَّصِل مُسْندًا أَنه لَيْسَ كل مَا كَانَ مُتَّصِل الْإِسْنَاد مُسْندًا وَذَلِكَ لكَونه بعضه لَيْسَ بمرفوع إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَمَا لَا يكون مَرْفُوعا إِلَيْهِ لَا يُقَال لَهُ مُسْند فَيصح الْحمل فِي الْمَوْضِعَيْنِ على الْوَجْه الَّذِي ذكر
ونظائر ذَلِك كَثِيرَة لَا تحصى وَلَيْسَ فِي ذَلِك تعقيد لتبادر الْمَعْنى المُرَاد إِلَى الذِّهْن وَمن وقف مَعَ ظواهر الْأَلْفَاظ حَار فِي أَكثر الْمَوَاضِع
وَالْمرَاد بالمتصل مَا لم يسْقط فِيهِ أحد من رِجَاله وَيُسمى عدم السُّقُوط اتِّصَالًا ويقابل الْمُتَّصِل الْمُنْقَطع وَهُوَ مَا سقط فِيهِ وَاحِد من رِجَاله أَو أَكثر
تَنْبِيه لَا يُقَال الْمُتَّصِل فِي حَال الْإِطْلَاق إِلَّا فِي الْمَرْفُوع وَالْمَوْقُوف وَأما فِي حَال التَّقْيِيد فيسوغ أَن يُقَال فِي الْمَقْطُوع وَهُوَ وَاقع فِي كَلَامهم يَقُولُونَ هَذَا مُتَّصِل إِلَى سعيد بن الْمسيب أَو إِلَى الزُّهْرِيّ أَو إِلَى مَالك
ولنذكر تَفْسِير هَذِه الْأَلْفَاظ فَنَقُول
الْمَرْفُوع هُوَ مَا أضيف إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم من أَقْوَاله وأفعاله أَو تَقْرِيره سَوَاء أَضَافَهُ إِلَيْهِ صَحَابِيّ أَو تَابِعِيّ أَو من بعدهمَا وَسَوَاء اتَّصل إِسْنَاده أم لَا
وَقَالَ الْخَطِيب الْمَرْفُوع مَا أخبر فِيهِ الصَّحَابِيّ عَن قَول الرَّسُول صلى الله عليه وسلم أَو فعله فعلى هَذَا لَا يدْخل فِيهِ مَا أرْسلهُ التابعون وَمن بعدهمْ قَالَ الْحَافِظ ابْن الصّلاح وَمن جعل من أهل الحَدِيث الْمَرْفُوع فِي مُقَابلَة الْمُرْسل فقد عَنى بالمرفوع الْمُتَّصِل
وَالْمَوْقُوف مَا يرْوى عَن الصَّحَابَة رضي الله عنهم من أَقْوَالهم أَو أفعالهم أَو تقريرهم وَسمي مَوْقُوفا لِأَنَّهُ وقف عَلَيْهِم وَلم يتَجَاوَز بِهِ إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم ثمَّ إِن مِنْهُ مَا يتَّصل الْإِسْنَاد فِيهِ إِلَى الصَّحَابِيّ فَيكون من الْمَوْقُوف الْمَوْصُول وَمِنْه مَا لَا يتَّصل إِسْنَاده إِلَيْهِ فَيكون من الْمَوْقُوف الْمُنْقَطع على حسب مَا عرف مثله فِي الْمَرْفُوع إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم
وَشرط الْحَاكِم فِي الْمَوْقُوف أَن يكون إِسْنَاده غير مُنْقَطع إِلَى الصَّحَابِيّ وَهُوَ شَرط لم يُوَافقهُ عَلَيْهِ أحد وَمَا ذكر من تَخْصِيص الْمَوْقُوف بالصحابي إِنَّمَا هُوَ فِيمَا إِذا كرّ مُطلقًا وَإِلَّا فقد يسْتَعْمل فِي غير الصَّحَابِيّ يُقَال هَذَا مَوْقُوف على عَطاء أَو على طَاوس أَو وَقفه فلَان على مُجَاهِد وَنَحْو ذَلِك
وَقد سمى بعض الْفُقَهَاء الْمَوْقُوف بالأثر وَأما المحدثون فجمهورهم يطلقون الْأَثر على الْمَرْفُوع وَالْمَوْقُوف وعَلى ذَلِك جرى الطَّحَاوِيّ فِي تَسْمِيَة كِتَابه الْمُشْتَمل عَلَيْهِمَا بشرح مَعَاني الْأَثر وَكَذَلِكَ أَبُو جَعْفَر الطَّبَرِيّ فِي تَسْمِيَة كِتَابه الْمُشْتَمل عَلَيْهِمَا بتهذيب الْآثَار إِلَّا أَن إِيرَاده للْمَوْقُوف فِيهِ إِنَّمَا كَانَ بطرِيق التّبعِيَّة