الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْحَدِيثين لما لم يُوقف على طَرِيق إِزَالَته وَهُوَ معرفَة النَّاسِخ مِنْهُمَا أَو الرَّاجِح تعين الْمصير إِلَى التَّوَقُّف لعدم وجود طَرِيق إِلَى غير ذَلِك
وَأما الْجمع بَينهمَا فَغير مُمكن لإفضائه إِلَى التَّكْلِيف بالمحال وَقيل بالتخيير وَقيل غير ذَلِك
ومبحث التَّعَارُض وَالتَّرْجِيح من أهم مبَاحث أصُول الْفِقْه وأصبعها وَقد أطلق الْعلمَاء فِي ميدانه الفسيح الأرجاء أَعِنَّة أقلامهم فَمن أَرَادَ الِاسْتِيفَاء فَعَلَيهِ بالكتب المبسوطة فِيهِ غير أَنه يَنْبَغِي لَهُ أَن يخْتَار مِنْهَا الْكتب الَّتِي لأربابها براعة فِي نَحْو الْأُصُول
فَوَائِد تتَعَلَّق بمبحث التَّعَارُض وَالتَّرْجِيح
الْفَائِدَة الأولى
ذهب كثير من الْعلمَاء إِلَى أَنه يمْتَنع أَن يرد فِي الشَّرْع متكافئان فِي نفس الْأَمر بِحَيْثُ لَا يكون لأَحَدهمَا مُرَجّح مَعَ تعارضهما من كل وَجه وَبِه قَالَ الْعَنْبَري وَابْن السَّمْعَانِيّ وَقَالَ هُوَ مَذْهَب الْفُقَهَاء وَحَكَاهُ عَن أَحْمد بن حَنْبَل القَاضِي وَأَبُو الْخطاب من أَصْحَابه وَهُوَ الْمَنْقُول عَن الشَّافِعِي
قَالَ الصَّيْرَفِي فِي شرح الرسَالَة صرح الشَّافِعِي بِأَنَّهُ لَا يَصح عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أبدا حديثان صَحِيحَانِ متضادان يَنْفِي أَحدهمَا مَا يُثبتهُ الآخر من غير جِهَة الْخُصُوص والعموم والإجمال وَالتَّفْسِير إِلَّا على وَجه النّسخ وَإِن لم نجده
وَذهب الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَن ذَلِك غير مُمْتَنع بل هُوَ جَائِز وواقع وَقد اخْتلفُوا على فرض وُقُوع التعادل فِي نفس الْأَمر مَعَ عجز الْمُجْتَهد عَن التَّرْجِيح بَينهمَا وَعدم وجود دَلِيل آخر فَقيل إِنَّه يُخَيّر وَقيل إِن الدَّلِيلَيْنِ يتساقطان وَيطْلب الحكم من مَوضِع آخر أَو يرجع إِلَى عُمُوم أولي الْبَرَاءَة الْأَصْلِيَّة وَنقل ذَلِك عَن أهل
الظَّاهِر وَأنكر على ابْن حزم نسبته إِلَيْهِم وَقَالَ إِنَّمَا هُوَ قَول بعض شُيُوخنَا وَهُوَ خطا بل الْوَاجِب الْأَخْذ بِالزَّائِدِ إِذا لم يقدر على استعمالهما جَمِيعًا
وَقيل إِن كَانَ التَّعَارُض بَين حديثين تساقطا وَلَا يعْمل بِوَاحِد مِنْهُمَا وَإِن كَانَ بَين قياسين يُخَيّر بَينهمَا
وَقيل بالتوقف واستبعده بَعضهم وَقَالَ كَيفَ يتَوَقَّف لَا إِلَى غَايَة وأمد إِذْ لَا يُرْجَى فِيهِ ظُهُور الرجحان وَإِلَّا لم يكن مِمَّا فرض فِيهِ التعادل فِي نفس الْأَمر بِخِلَاف مَا فِيهِ التعادل بِالنّظرِ إِلَى ظَاهر الْحَال فَإِنَّهُ يُرْجَى فِيهِ ظُهُور الْمُرَجح فيعقل التَّوَقُّف فِيهِ إِلَى أَن يظْهر الْمُرَجح
وَقيل يُؤْخَذ بالأشد وَقيل يُصَار إِلَى التَّوْزِيع إِن أمكن تَنْزِيل إِحْدَى الأمارتين على أَمر والأمارة الْأُخْرَى على أَمر آخر
وَقيل إِن الحكم فِيهِ كَالْحكمِ قبل وُرُود الشَّرْع فتجيئ فِيهِ الْأَقْوَال الْمَشْهُورَة فِي ذَلِك
وَقد نسب القَوْل الْمَذْكُور وَهُوَ القَوْل بتكافؤ الْأَدِلَّة إِلَى الْقَائِلين بِأَن كل مُجْتَهد مُصِيب وَلذَا قَالَ بعض الْعلمَاء إِن التَّرْجِيح بَين الظَّوَاهِر المتعارضة إِنَّمَا يتَعَيَّن عِنْد من يَقُول إِن الْمُصِيب فِي الْفُرُوع وَاحِد وَأما من يَقُول إِن كل مُجْتَهد مُصِيب فَلَا يتَعَيَّن عِنْده التَّرْجِيح لاعْتِقَاده أَن الْكل صَوَاب
وَقد أنكر كثير من الْعلمَاء هَذَا القَوْل
قَالَ الْعَلامَة أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم الشاطبي فِي كتاب الموافقات التَّعَارُض إِمَّا أَن يعْتَبر من جِهَة مَا فِي نفس الْأَمر وَإِمَّا من جِهَة نظر الْمُجْتَهد
أما من جِهَة مَا فِي نفس الْأَمر فَغير مُمكن بِإِطْلَاق وَقد مر آنِفا فِي كتاب الِاجْتِهَاد من ذَلِك فِي مَسْأَلَة أَن الشَّرِيعَة على قَول وَاحِد مَا فِيهِ كِفَايَة
وَأما من جِهَة نظر الْمُجْتَهد فممكن بِلَا خلاف إِلَّا أَنهم إِنَّمَا نظرُوا فِيهِ بِالنّسَبِ إِلَى كل مَوضِع لَا يُمكن فِيهِ الْجمع بَين الدَّلِيلَيْنِ وَهُوَ صَوَاب فَإِنَّهُ إِن أمكن الْجمع فَلَا تعَارض كالعام مَعَ الْخَاص وَالْمُطلق مَعَ الْقَيْد وَأَشْبَاه ذَلِك
وَقَالَ فِي كتاب الِاجْتِهَاد فِي الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة الشَّرِيعَة كلهَا ترجع إِلَى قَول وَاحِد فِي فروعها وَإِن كثر الْخلاف كَمَا أَنَّهَا فِي أُصُولهَا كَذَلِك
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أُمُور
أَحدهَا أَدِلَّة الْقُرْآن من ذَلِك قَوْله تَعَالَى {وَلَو كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا} فنفى أَن يَقع فِيهِ الِاخْتِلَاف الْبَتَّةَ وَلَو كَانَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي قَوْلَيْنِ مُخْتَلفين لم يصدق عَلَيْهِ هَذَا الْكَلَام على حَال والآيات فِي ذمّ الِاخْتِلَاف وَالْأَمر بِالرُّجُوعِ إِلَى الشَّرِيعَة كَثِيرَة كلهَا قَاطع فِي أَنَّهَا لَا اخْتِلَاف فِيهَا
الثَّانِي أَن عَامَّة أهل الشَّرِيعَة أثبتوا فِي الْقُرْآن وَالسّنة النَّاسِخ والمنسوخ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا بَين دَلِيلين يتعارضان بِحَيْثُ لَا يَصح اجْتِمَاعهمَا بِحَال وَإِلَّا لما كَانَ أَحدهمَا نَاسِخا وَالْآخر مَنْسُوخا وَالْفَرْض خلَافَة
فَلَو كَانَ الِاخْتِلَاف من الدّين لما كَانَ لإِثْبَات النَّاسِخ والمنسوخ من غير نَص قَاطع فِيهِ فَائِدَة وَكَانَ الْكَلَام فِي ذَلِك كلَاما فِيمَا لَا يجني ثَمَرَة إِذْ كَانَ يَصح الْعَمَل بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا ابْتِدَاء ودواما استنادا إِلَى أَن الِاخْتِلَاف أصل من أصُول الدّين لَكِن هَذَا بَاطِل بِإِجْمَاع على أَن الِاخْتِلَاف لَا أصل لَهُ فِي الشَّرِيعَة وَهَكَذَا القَوْل فِي كل دَلِيل مَعَ مُعَارضَة كالعموم وَالْخُصُوص وَالْإِطْلَاق وَالتَّقْيِيد وَمَا أشبه ذَلِك
الثَّالِث أَنه لَو كَانَ فِي الشَّرِيعَة مساغ للْخلاف لَأَدَّى إِلَى تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق
لِأَن الدَّلِيلَيْنِ إِذا فَرضنَا تعارضهما وفرضناهما مقصودين مَعًا للشارع فإمَّا أَن يُقَال إِن الْمُكَلف مَطْلُوب بمقتضاهما أَو لَا أَو مَطْلُوب بِأَحَدِهِمَا دون الآخر والجميع غير صَحِيح
فَالْأول يَقْتَضِي افْعَل لَا تفعل لمكلف وَاحِد من وَجه وَاحِد وَهُوَ عين التَّكْلِيف بِمَا لَا يُطَاق
وَالثَّانِي بَاطِل لِأَنَّهُ خلاف الْفَرْض إِذْ الْفَرْض توجه الطّلب بهما فَلم يبْق إِلَّا الأول فليزم مِنْهُ مَا تقدم لَا يُقَال إِن الدَّلِيلَيْنِ بِحَسب شَخْصَيْنِ أَو حَالين لِأَنَّهُ خلاف الْفَرْض وَهُوَ أَيْضا قَول وَاحِد لَا قَولَانِ لِأَنَّهُ إِذا انْصَرف كل دَلِيل إِلَى جِهَة لم يكن ثمَّ اخْتِلَاف وَهُوَ الْمَطْلُوب
الرَّابِع أَن الْأُصُولِيِّينَ اتَّفقُوا على إِثْبَات التَّرْجِيح بَين الْأَدِلَّة المتعارضة إِذا لم يُمكن الْجمع وَأَنه لَا يَصح إِعْمَال أحد دَلِيلين متعارضين جزَافا من غير نظر فِي تَرْجِيحه على الآخر وَالْقَوْل بِثُبُوت الْخلاف فِي الشَّرِيعَة يرفع بَاب التَّرْجِيح جملَة إِذْ لَا فَائِدَة فِيهِ وَلَا حَاجَة إِلَيْهِ على ثُبُوت الْخلاف أصلا شَرْعِيًّا لصِحَّة وُقُوع التَّعَارُض فِي الشَّرِيعَة لَكِن لَك فَاسد فَمَا أدّى إِلَيْهِ مثله
الْخَامِس أَنه شَيْء لَا يتَصَوَّر لِأَن الدَّلِيلَيْنِ المتعارضين إِذا قصدهما الشَّارِع مثلا لم يحصل مَقْصُوده لِأَنَّهُ إِذا قَالَ فِي الشَّيْء الْوَاحِد افْعَل لَا تفعل فَلَا يُمكن أَن يكون الْمَفْهُوم مِنْهُ طلب الْفِعْل لقَوْله لَا تفعل لقَوْله لَا تفعل وَلَا طلب تَركه لقَوْله افْعَل فَلَا يحصل للمكلف فهم التَّكْلِيف فَلَا يتَصَوَّر توجهه على حَال والأدلة على ذَلِك كَثِيرَة لَا يحْتَاج فِيهَا إِلَى التَّطْوِيل انْتهى بِاخْتِصَار قَلِيل ثمَّ أورد بعد ذَلِك اعتراضات من طرف الْمُخَالفين وَأجَاب عَنْهَا
وَقَالَ الْفَخر فِي الْمَحْصُول اخْتلفُوا فِي أَنه هَل يجوز تعادل الأمارتين فَمنع الْكَرْخِي مِنْهُ مُطلقًا وَجوزهُ الْبَاقُونَ
ثمَّ المجوزون اخْتلفُوا فِي حكمه عِنْد وُقُوعه فَعِنْدَ القَاضِي أبي بكر منا وَأبي عَليّ وَأبي هَاشم من الْمُعْتَزلَة حكمه التَّخْيِير وَعند بعض الْفُقَهَاء حكمه أَنَّهُمَا يتساقطان وَيجب الرُّجُوع إِلَى مُقْتَضى الْعقل
وَالْمُخْتَار أَن نقُول تعادل الأمارتين إِمَّا أَن يَقع فِي حكمين متنافيين وَالْفِعْل وَاحِد وَهُوَ كتعارض الأمارتين على كَون الْفِعْل قبيحا ومباحا وواجبا وَإِمَّا أَن يكون فِي فعلين متنافيين وَالْحكم وَاحِد نَحْو وجوب التَّوْجِيه إِلَى جِهَتَيْنِ قد غلب فِي ظَنّه أَنَّهُمَا جِهَة الْقبْلَة
أما الْقسم الأول فَهُوَ جَائِز فِي الْجُمْلَة لكنه غير وَاقع فِي الشَّرْع
إِمَّا أَنه جَائِز فِي الْجُمْلَة فَلِأَنَّهُ يجوز أَن يخبرنا رجلَانِ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَات وتستوي عدالتهما وَصدق لهجتهما بِحَيْثُ لَا يكون لأَحَدهمَا مزية على الآخر
وَأما أَنه فِي الشَّرْع غير وَاقع فالدليل عَلَيْهِ أَنه لَو تعادلت أمارتان على كَون هَذَا الْفِعْل مَحْظُورًا أَو مُبَاحا فإمَّا أَن يعْمل بهما مَعًا أَو يتركا مَعًا أَو يعْمل بِأَحَدِهِمَا دون الثَّانِيَة وَهُوَ محَال لِأَنَّهُمَا لما كَانَتَا فِي نفسيهما بِحَيْثُ لَا يُمكن الْعَمَل بهما الْبَتَّةَ كَانَ وضعهما عَبَثا والعبث غير جَائِز على الله تَعَالَى
وَأما الثَّالِث وَهُوَ أَن يعْمل بِإِحْدَاهُمَا دون الْأُخْرَى فإمَّا أَن يعْمل بِإِحْدَاهُمَا على التَّعْيِين أَولا على التَّعْيِين وَالْأول بَاطِل لِأَنَّهُ تَرْجِيح من غير مُرَجّح فَيكون ذَلِك قولا فِي الدّين بِمُجَرَّد التشهي وَإنَّهُ غير جَائِز وَالثَّانِي أَيْضا بَاطِل لأَنا إِذا خيرناه بَين الْفِعْل وَالتّرْك فقد أبحنا لَهُ الْفِعْل فَيكون تَرْجِيحا لأمارة الْإِبَاحَة بِعَينهَا على أَمارَة الْحَظْر وَلَك هُوَ الْقسم الَّذِي تقدم إِبْطَاله فَثَبت أَن القَوْل بتعادل الأمارتين فِي
حكمين متنافيين وَالْفِعْل وَاحِد يُفْضِي إِلَى هَذِه الْأَقْسَام الْبَاطِلَة فَوَجَبَ ان يكون بَاطِلا
ثمَّ قَالَ وَأما الْقسم الثَّانِي وَهُوَ تعادل الأمارتين فِي فعلين متنافيين وَالْحكم وَاحِد فَهَذَا جَائِز وَمُقْتَضَاهُ التَّخْيِير وَالدَّلِيل على جَوَازه وُقُوعه فِي صور
إِحْدَاهَا قَوْله عليه الصلاة والسلام فِي زَكَاة الْإِبِل فِي كل أَرْبَعِينَ بنت لبون وَفِي كل خمسين حقة فَمن ملك مئتين فقد ملك أَربع خمسينات وَخمْس أربعينات فَإِن أخرج الحقات فقد أدّى الْوَاجِب إِذْ عمل بقوله فِي كل خمسين حَقه وَإِن اخْرُج بَنَات اللَّبُون فقد عمل بقوله فِي كل أَرْبَعِينَ بنت لبون وَلَيْسَ أحد اللَّفْظَيْنِ أولى من الآخر
وثانيتها من دخل الْكَعْبَة فَلهُ أَن يسْتَقْبل أَي جَانب مِنْهَا شَاءَ لِأَنَّهُ كَيفَ فعل فَهُوَ مُسْتَقْبل شَيْئا من الْكَعْبَة
وثالثتها أَن الْوَلِيّ إِذا لم يجد من اللَّبن لَا مَا يسد رَمق أحد رضيعيه وَلَو قسمه عَلَيْهِمَا أَو منعهما لماتا وَلَو سقى أَحدهمَا مَاتَ الآخر فها هُنَا هُوَ مُخَيّر بَين أَن يسْقِي هَذَا فَيهْلك ذَاك أَو ذَاك فَيهْلك هَذَا وَلَا سَبِيل التَّخْيِير
ورابعتها أَن ثُبُوت الحكم فِي الفعليين المتنافيين نفس إِيجَاب الضدين وَذَلِكَ يَقْتَضِي إِيجَاب فعل الضدين كل وَاحِد مِنْهُمَا بَدَلا من الآخر
وَاحْتج الْخصم على فَسَاد التَّخْيِير بِأَن أَمارَة وجوي كل وَاحِد من الْفِعْلَيْنِ اقْتَضَت وُجُوبه على وَجه لَا يسوغ الْإِخْلَال بِهِ والتخيير بَينه وَبَين ضِدّه يسوغ الْإِخْلَال بِهِ فَالْقَوْل بالتخيير مُخَالف لمقْتَضى الأمارتين مَعًا
وَالْجَوَاب أَن اارة وجوب الْفِعْل تَقْتَضِي وُجُوبه قطعا فَأَما الْمَنْع من الْإِخْلَال بِهِ على كل حَال فموقوف على عدم الدّلَالَة على قيام غَيره مقَامه وَإِذا كَانَ كَذَلِك لم يكن التَّخْيِير مُخَالفا لمقْتَضى الأمارتين اهـ