الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(نفيت السقيم من الغافلين
…
وَمن كَانَ مُتَّهمًا بِالْكَذِبِ)
(وَأثبت من عدلته
…
وَصحت رِوَايَته فِي الْكتب)
(وأبرزت فِي حسن ترتيبه
…
وتبويبه عجبا للعجب)
(فأعطاك رَبك مَا تشتهيه
…
وأجزل حظك فِيمَا يهب)
(وخصك فِي غرفات الْجنان
…
بِخَير يَدُوم وَلَا يقتضب)
تَتِمَّة
قَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق الإسفرائيني أهل الصَّنْعَة مجمعون على أَن الْأَخْبَار الَّتِي اشْتَمَل عَلَيْهَا الصحيحان مَقْطُوع بحة أَصْلهَا ومتونها وَلَا يحصل الْخلاف فِيهَا بِحَال وَإِن حصل فَذَاك اخْتِلَاف فِي طرقها ورواتها قَالَ فَمن خَالف حكمه خَبرا مِنْهَا وَلَيْسَ لَهُ تَأْوِيل سَائِغ للْخَبَر نقضا حكمه لِأَن هَذِه الْأَخْبَار تلقتها الْأمة بِالْقبُولِ
قَالَ الْحَافِظ أَبُو عَمْرو بن الصّلاح فِي مَبْحَث الصَّحِيح فِي الْفَائِدَة السَّابِعَة بعد أَن ذكر الْأَقْسَام السَّبْعَة الَّتِي سبق بَيَانهَا هَذِه أُمَّهَات أقسامه وأعلاها الأول وَهُوَ الَّذِي يَقُول فِيهِ أهل الحَدِيث كثيرا صَحِيح مُتَّفق عَلَيْهِ يطلقون ويعنون بِهِ اتِّفَاق البُخَارِيّ وَمُسلم لَا اتِّفَاق الْأمة عَلَيْهِ لَكِن اتِّفَاق الْأمة عَلَيْهِ لَازم من ذَلِك وَحَاصِل مَعَه لِاتِّفَاق الْأمة على تلقي مَا اتفقَا عيه بِالْقبُولِ
وَهَذَا الْقسم جَمِيعه مَقْطُوع بِصِحَّتِهِ وَالْعلم اليقيني النظري وَاقع بِهِ خلافًا لمن نفى ذَلِك محتجا بِأَنَّهُ لَا يُفِيد فِي أَصله إِلَّا الظَّن وَغنما تَلَقَّتْهُ الْأمة بِالْقبُولِ لِأَنَّهُ يجب عَلَيْهِم الْعَمَل بِالظَّنِّ وَالظَّن قد يُخطئ وَقد كنت أميل إِلَى هَذَا وَأَحْسبهُ قَوِيا ثمَّ بَان لي أَن الْمَذْهَب الَّذِي اخترناه أَولا هُوَ الصَّحِيح لِأَن ظن من هُوَ مَعْصُوم من الْخَطَأ لَا يُخطئ وَالْأمة فِي مجموعها معصومة من الْخَطَأ وَلِهَذَا كَانَ الْإِجْمَاع الْمَبْنِيّ على الِاجْتِهَاد حجَّة مَقْطُوعًا بهَا وَأكْثر إجماعات الْعلمَاء كَذَلِك
وَهَذِه نُكْتَة نفيسة نافعة وَمن فوائدها القَوْل بِأَن مَا تفرد بِهِ البُخَارِيّ أَو مُسلم مندرج فِي قبيل مَا يقطع بِصِحَّتِهِ لتلقي الْأمة كل وَاحِد من كِتَابَيْهِمَا بِالْقبُولِ على الْوَجْه الَّذِي فصلناه من حَالهمَا فِيمَا سبق سوى أحرف يسيرَة تكلم عَلَيْهَا بعض أهل النَّقْد من الْحفاظ كالدارقطني وَغَيره وَهِي مَعْرُوفَة عِنْد أهل هَذَا الشَّأْن اهـ
ومجمل مَا فَصله سَابِقًا هُوَ ان مَا حكم البُخَارِيّ وَمُسلم بِصِحَّتِهِ بِلَا إِشْكَال هُوَ مَا أوردهُ بِالْإِسْنَادِ الْمُتَّصِل وَأما الْمُعَلق الَّذِي حذف من مُبْتَدأ إِسْنَاده وَاحِد أَو أَكثر وأغلب مَا وَقع ذَلِك فِي كتاب البُخَارِيّ وَهُوَ فِي كتاب مُسلم قَلِيل جدا فَفِي بعضه نظر وَأَن قَول البُخَارِيّ مَا أدخلت فِي كتاب الْجَامِع إِلَّا مَا صَحَّ مَحْمُول على مَا وضع الْكتاب لأَجله وَهُوَ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة المسندة دون المعلقات والْآثَار الْمَوْقُوفَة على الصَّحَابَة فَمن بعدهمْ وَالْأَحَادِيث المترجم بهَا وَنَحْو ذَلِك فَإِن فِيهَا مَا لَا يجْزم بِصِحَّتِهِ فيستثنى مِمَّا يحكم بإفادته الْعلم وَإِن كَانَ إِيرَاده لَهَا فِي أثْنَاء الصَّحِيح مشعرا بِصِحَّة أَصله وَأَن قَول الْحميدِي فِي كتاب الْجمع بَين الصَّحِيحَيْنِ لم نجد من الْأَئِمَّة الماضين رضي الله عنهم من أفْصح لنا فِي جَمِيع مَا جمعه بِالصِّحَّةِ إِلَّا هذَيْن الْإِمَامَيْنِ مَحْمُول على مَا وضع الْكتاب لأَجله وَلذَا لم يرد مثل قَول البُخَارِيّ وَقَالَ بهز بن حَكِيم عَن أَبِيه عَن جده عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم الله أَحَق أَن يستحيا مِنْهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ من شَرطه وَهَذَا مُهِمّ خافي
وَقد خَالف الْعَلامَة النَّوَوِيّ الْحَافِظ ابْن الصّلاح فِيمَا ذهب إِلَيْهِ فَقَالَ فِي التَّقْرِيب وَهُوَ كتاب اخْتَصَرَهُ من الْإِرْشَاد الَّذِي اخْتَصَرَهُ من كتاب عُلُوم الحَدِيث لِلْحَافِظِ الْمَذْكُور وَإِذا قَالُوا صَحِيح مُتَّفق عَلَيْهِ أَو على صِحَّته فمرادهم اتِّفَاق الشَّيْخَيْنِ وَذكر الشَّيْخ أَن مَا روياه أَو أَحدهمَا فَهُوَ مَقْطُوع بِصِحَّتِهِ وَالْعلم الْقطعِي حَاصِل فِيهِ وَخَالفهُ الْمُحَقِّقُونَ وَالْأَكْثَرُونَ فَقَالُوا يُفِيد الظَّن مَا لم يتواتر
وَقَالَ فِي شَرحه على مُسلم هَذَا الَّذِي ذكره الشَّيْخ فِي هَذِه الْمَوَاضِع
خلاف مَا قَالَه الْمُحَقِّقُونَ وَالْأَكْثَرُونَ فَإِنَّهُم قَالُوا أَحَادِيث الصَّحِيحَيْنِ الَّتِي لَيست بمتواترة إِنَّمَا تفِيد الظَّن فَإِنَّهَا آحَاد إِنَّمَا تفِيد الظَّن على مَا تقرر وَلَا فرق بَين البُخَارِيّ وَمُسلم وَغَيرهمَا فِي ذَلِك
وتلقي الْأمة بِالْقبُولِ إِنَّمَا أفادنا وجوب الْعَمَل بِمَا فيهمَا وَهَذَا مُتَّفق عَلَيْهِ فَإِن أَخْبَار الْآحَاد الَّتِي فِي غَيرهمَا يجب الْعَمَل بهَا إِذا صحت أسانيدها وَلَا تفِيد إِلَّا الظَّن فَكَذَا الصحيحان وَغنما يفْتَرق الصحيحان وَغَيرهمَا من الْكتب فِي كَون مَا فيهمَا صَحِيحا لَا يحْتَاج إِلَى النّظر فِيهِ بل يجب الْعَمَل بِهِ مُطلقًا وَمَا كَانَ فِي غَيرهمَا لَا يعْمل بِهِ حَتَّى ينظر وتوجد فِيهِ شُرُوط الصَّحِيح وَلَا يلْزم من إِجْمَاع الْأمة على الْعَمَل بِمَا فيهمَا إِجْمَاعهم على انه مَقْطُوع بِأَنَّهُ كَلَام النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَقد أنكر ابْن برهَان الإِمَام على من قَالَ بِمَا قَالَه الشَّيْخ وَبَالغ فِي تغليطه اهـ
وَقد أنكر الْعِزّ عبد السَّلَام على ابْن الصّلاح ذَلِك وَقَالَ إِن الْمُعْتَزلَة يرَوْنَ أَن الْأمة إِذا علمت بِحَدِيث اقْتضى ذَلِك الْقطع بِصِحَّتِهِ قَالَ وَهَذَا مَذْهَب رَدِيء اهـ
وَقد ذكر هَذِه الْمَسْأَلَة مَعَ الرَّد عَلَيْهَا صَاحب الْمَحْصُول فَقَالَ زعم أَبُو هَاشم والكرخي وتلميذهما أَبُو عبد الله الْبَصْرِيّ أَن الْإِجْمَاع على الْعَمَل بِمُوجب الْخَبَر يدل على صِحَة الْخَبَر وَهَذَا بَاطِل لوَجْهَيْنِ
أَحدهمَا أَن عمل كل الْأمة بِمُوجب الْخَبَر لَا يتَوَقَّف على قطعهم بِصِحَّة ذَلِك الْخَبَر فَوَجَبَ أَن لَا يدل على صِحَة الْخَبَر أما الأول فَلِأَن الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد وَاجِب فِي حق الْكل فَلَا يكون عَمَلهم بِهِ متوقفا على الْقطع بِهِ وَأما الثَّانِي فَلِأَنَّهُ لما لم يتَوَقَّف عَلَيْهِ لم يلْزم من ثُبُوته صِحَّته
وَالثَّانِي أَن عَمَلهم بِمُقْتَضى ذَلِك الْخَبَر يجوز أَن يكون لدَلِيل آخر لاحْتِمَال قيام الْأَدِلَّة الْكَثِيرَة على الْمَدْلُول الْوَاحِد
احْتَجُّوا بِأَن الْمَعْلُوم من عَادَة السّلف فِيمَا لم يقطعوا بِصِحَّتِهِ أَن يرد مَدْلُوله بَعضهم ويقبله الْآخرُونَ
وَالْجَوَاب أَن هَذِه الْعَادة مَمْنُوعَة بِدَلِيل اتِّفَاقهم على حكم الْمَجُوس بِخَبَر عبد الرَّحْمَن
وَقد أَشَارَ إِلَيْهَا الْغَزالِيّ فِي الْمُسْتَصْفى فَقَالَ فَإِن قيل خبر الْوَاحِد الَّذِي عملت بِهِ الْأمة هَل يجب تَصْدِيقه قُلْنَا إِن عمِلُوا على وَفقه فلعلهم عمِلُوا عَن دَلِيل آخر وَإِن عمِلُوا بِهِ أَيْضا فقد أمروا بِالْعَمَلِ بِخَبَر الْوَاحِد وَإِن لم يعرفوا صدقه فَلَا يلْزم الحكم بصدقه
فَإِن قيل لَو قدر الرَّاوِي كَاذِبًا لَكَانَ عمل الْأمة بِالْبَاطِلِ وَهُوَ خطأ وَلَا يجوز ذَلِك على الْأمة
قُلْنَا الْأمة مَا تعبدوا إِلَّا بِخَبَر يغلب على الظَّن صدقه وَقد غلب على ظنهم ذَلِك كَالْقَاضِي إِذا قضى بِشَهَادَة عَدْلَيْنِ فَلَا يكون مخطئا وَإِن كَانَ شَاهدا كَاذِبًا بل يكون محقا لِأَنَّهُ لم يُؤمر إِلَّا بِهِ اهـ
وَقَالَ بعض عُلَمَاء الْأُصُول إِذا حصل الْإِجْمَاع على وفْق خبر فإمَّا أَن يتَبَيَّن استنادهم إِلَيْهِ أَولا فَإِن تبين استنادهم إِلَيْهِ حكم بِصِحَّة ذَلِك الْخَبَر وَقد وهم من قَالَ بِغَيْر ذَلِك وَإِن لم يتَبَيَّن استنادهم إِلَيْهِ لم يحكم بِصِحَّتِهِ لاحْتِمَال استنادهم إِلَى دَلِيل آخر وَغَايَة مَا يُقَال أَنه لم ينْقل إِلَيْنَا وَذَلِكَ لَا يدل على عَدمه
وَقَالَ بَعضهم يحكم بِصِحَّتِهِ بِنَاء على أَنهم لَو استندوا إِلَى غَيره لم يخف علينا
وَأَشَارَ بقوله وَقد وهم من قَالَ بِغَيْر ذَلِك إِلَى من يحكم بِصِحَّة الْخَبَر مَعَ استناد المجمعين إِلَيْهِ وَجوز أَن يكون غير ثَابت فِي الْوَاقِع وَزعم أَن المجمعين لَا ينْسب لَهُم الْخَطَأ وَلَو استندوا إِلَى خبر غير ثَابت أَنهم إِنَّمَا أمروا بالاستناد إِلَى مَا ظنُّوا صِحَّته وهم قد فعلوا ذَلِك وَلَا يلْزم من ظنهم صِحَّته صِحَّته فِي نفس الْأَمر
وَقَالَ فِي حَدِيث لَا تَجْتَمِع أمتِي على ضَلَالَة الضَّلَالَة الْخَطَأ الَّذِي يُؤَاخذ عَلَيْهِ صَاحبه وَقد جرى على شاكله هَذَا من قَالَ إِنَّه لَا يلْزم من الْإِجْمَاع على حكم مطابقته لحكم الله فِي نفس الْأَمر وَحِينَئِذٍ فَيكون المُرَاد بالضلالة المنفية عَنْهُم مَا خَالف حكم الله وَلَو بِاعْتِبَار ظنهم لَا مَا خَالف حكم الله فِي نفس الْأَمر وَلَا يخفى أَن هَذَا القَوْل يَجْعَل الْأمة فِي حكم الْوَاحِد مِنْهَا فِي جَوَاز وُقُوع الْخَطَأ مِنْهَا بِالنّظرِ إِلَى الْوَاقِع وَنَفس الْأَمر اهـ
وَقد ذكر الْفَخر فِي الْمَحْصُول مَسْأَلَة تقرب من هَذِه الْمَسْأَلَة فَقَالَ اعْتمد كثير من الْفُقَهَاء والمتكلمين فِي تَصْحِيح خبر الْإِجْمَاع وَأَمْثَاله بِأَن الْأمة فِيهِ على قَوْلَيْنِ مِنْهُم من احْتج بِهِ وَمِنْهُم من اشْتغل بتأويله وَذَلِكَ يدل على اتِّفَاقهم على قبُوله وَهُوَ ضَعِيف لاحْتِمَال أَن يُقَال إِنَّهُم قبلوه كَمَا يقبل خبر الْوَاحِد وَيُمكن أَن يُجَاب عَنهُ بِأَن خبر الْوَاحِد إِنَّمَا يقبل فِي العمليات لَا فِي العمليات وَهَذِه الْمَسْأَلَة علمية فَلَمَّا قبلوا هَذَا الْخَبَر فِيهَا دلّ ذَلِك على اعْتِقَادهم صِحَّته
وَالْجَوَاب أَنا لَا نسلم أَن كل الْأمة قبلوه بل كَانَ من لم يحْتَج بِهِ فِي الْإِجْمَاع طعن فِيهِ بِأَنَّهُ من بَاب الْآحَاد فَلَا يجوز التَّمَسُّك بِهِ فِي مَسْأَلَة علمية وهب انهم لم يطعنوا فِيهِ على التَّفْصِيل لَكِن لَا يلْزم من عدم الطعْن من جِهَة وَاحِدَة عدم الطعْن مُطلقًا اهـ
وَأَرَادَ بِخَبَر الْإِجْمَاع حَدِيث لَا تَجْتَمِع أمتِي على ضَلَالَة رَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده وروى التِّرْمِذِيّ بِسَنَدِهِ إِلَى رول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ إِن الله لَا يجمع أمتِي أَو قَالَ أمة مُحَمَّد على ضَلَالَة وَيَد الله مَعَ الْجَمَاعَة وَمن شَذَّ
شَذَّ إِلَى النَّار وَقَالَ غَرِيب من هَذَا الْوَجْه وَرَوَاهُ الْحَاكِم بِلَفْظ لَا جمع الله هَذِه الْأمة على ضَلَالَة وَيَد الله مَعَ الْجَمَاعَة
وَقَالَ ابْن حزم فِي كتاب الإحكام فِي فصل الرَّد على من قَالَ إِن الْجُمْهُور إِذا اجْتَمعُوا على قَول وَخَالفهُم وَاحِد فَإِنَّهُ لَا يلْتَفت إِلَى خلَافَة وَقد رُوِيَ أَيْضا فِي هَذَا من طَرِيق الْخُشَنِي عَن الْمسيب بن وَاضح عَن مُعْتَمر بن سُلَيْمَان عَن عبد الله بن دِينَار عَن ابْن عمر أَنه قَالَ قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لَا تَجْتَمِع أمتِي على ضَلَالَة أبدا وَعَلَيْكُم بِالسَّوَادِ الْعظم فغن من شَذَّ شَذَّ عَن النَّاس قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَالْمُسَيب بن وَاضح قد رَأينَا لَهُ أَحَادِيث مُنكرَة جدا مِنْهَا عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم من ضرب أَبَاهُ فَاقْتُلُوهُ وَلَو صَحَّ لما كَانَ إِلَّا من شَذَّ عَن الْحق
وَيُقَال لَهُم لَا يجوز أَن يكون رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَأْمُرنَا بالمحال وَقد رَأينَا القولة يكثر الْقَائِلُونَ بهَا ويغلبون على الأَرْض ثمَّ يقلون ويغلب أهل مقَالَة أُخْرَى فليلزم على هَذَا الَّذِي ذكرْتُمْ أَن الْحق كَانَ فِي الْمقَالة الَّتِي كثر أَهلهَا ثمَّ لما قل أَهلهَا بَطل فَصَارَ الْحق فِي غَيرهَا وَهَذَا خطأ مِمَّن أجَازه وَصَحَّ أَن ذَلِك الحَدِيث مولد
ولنرجع إِلَى الْمَسْأَلَة الَّتِي وَقع الْخلاف فِيهَا بَين ابْن الصّلاح وَالنَّوَوِيّ فَنَقُول قَالَ الْحَافِظ ابْن حجر مَا ذكره النَّوَوِيّ مُسلم من جِهَة الْأَكْثَرين أما الْمُحَقِّقُونَ فَلَا فقد وَافق ابْن الصّلاح أَيْضا محققون وَقَالَ البُلْقِينِيّ مَا قَالَه النَّوَوِيّ وَابْن
عبد السَّلَام وَمن تبعهما مَمْنُوع فقد نقل بعض الْحفاظ الْمُتَأَخِّرين مثل قَول ابْن الصّلاح عَن جمَاعَة من الشَّافِعِيَّة كَأبي إِسْحَاق وَأبي حَامِد الإسفرائيني وَالْقَاضِي أبي الطّيب وَالشَّيْخ أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَعَن السَّرخسِيّ من الْحَنَفِيَّة وَالْقَاضِي أبي الطّيب وَالشَّيْخ أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَعَن السَّرخسِيّ من الْحَنَفِيَّة وَالْقَاضِي عبد الْوَهَّاب من الْمَالِكِيَّة وَأبي يعلى وَأبي الْخطاب وَابْن الزَّاغُونِيّ من الْحَنَابِلَة وَابْن فورك وَأكْثر أهل الْكَلَام من الأشعرية وَأهل الحَدِيث قاطبة وَمذهب السّلف عَامَّة بل بَالغ ابْن طَاهِر الْمَقْدِسِي فِي صفوة التصوف فَألْحق بِهِ مَا كَانَ على شَرطهمَا وَإِن لم يخرجَاهُ
وَقد كثر الرادون على ابْن الصّلاح والمنتصرون لَهُ أما الرادون عَلَيْهِ فقد اخْتلفت عباراتهم والاعتراض عَلَيْهِ عِنْد الْمُحَقِّقين وَارِد من ثَلَاثَة أوجه
الْوَجْه الأول انه خَالف جُمْهُور أَرْبَاب الْكَلَام وَالْأُصُول فَإِنَّهُم ذَهَبُوا إِلَى أَن أَخْبَار الْآحَاد لَا تفِيد الْعلم وَإِنَّمَا تفِيد الظَّن وَذهب هُوَ إِلَى إِخْبَار الْآحَاد الَّتِي فِي الصَّحِيحَيْنِ سوى مَا اسْتثْنِي مِنْهَا تفِيد الْعلم وَلَو اكْتفى بذلك لأمكن أَن يُقَال لَعَلَّه يُرِيد بِالْعلمِ الظَّن الْقوي فَلَا يكون الْخلاف بَينه وَبينهمْ شَدِيدا لكنه زَاد فوصف الْعلم بِكَوْنِهِ يقينيا فَلم يبْق وَجه للصلح بَينه وَبينهمْ وَلَا يخفى أَن مُخَالفَة أهل الْكَلَام وَالْأُصُول لَيست بِالْأَمر السهل
وَهنا شَيْء وَهُوَ أَن بعض الْمُحَقِّقين مِنْهُم ذهب إِلَى أَن أَخْبَار الْآحَاد قد تفِيد الْعلم مَعَ الْقَرَائِن قَالَ فِي الْمَحْصُول اخْتلفُوا فِي أَن الْقَرَائِن هَل تدل على صدق الْخَبَر أم لَا فَذهب النظام وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزالِيّ إِلَيْهِ وَأنْكرهُ الْبَاقُونَ ثمَّ ذكر أَدِلَّة الْفَرِيقَيْنِ
وَقَالَ بعد ذَلِك وَالْمُخْتَار أَن الْقَرِيبَة قد تفِيد الْعلم إِلَّا أَن الْقَرَائِن لَا تفي الْعبارَات بوصفها فقد تحصل أُمُور نعلم بِالضَّرُورَةِ عِنْد الْعلم بهَا كَون الشَّخْص خجلا أَو وجلا مَعَ أَنا لَو حاولنا التَّعْبِير عَن جَمِيع تِلْكَ الْأُمُور لعجزنا عَنهُ وَالْإِنْسَان إِذا أخبر عَن كَونه عطشان فقد يظْهر على وَجهه وَلسَانه من أَمَارَات الْعَطش مَا يُفِيد
الْعلم بِكَوْنِهِ صَادِقا وَالْمَرِيض إِذا أخبر عَن ألم فِي بعض أَعْضَائِهِ مَعَ أَنه يَصِيح وَترى عَلَيْهِ عَلَامَات ذَلِك الْأَلَم ثمَّ إِن الطَّبِيب يعالجه بعلاج لَو لم يكن الْمَرِيض صَادِقا فِي قَوْله لَكَانَ ذَلِك العلاج قَاتلا لَهُ فها هُنَا يحصل الْعلم بصدقه
وَبِالْجُمْلَةِ فَكل من استقرأ الْعرف عرف أَن مُسْتَند الْيَقِين فِي الْأَخْبَار لَيْسَ إِلَى الْقَرَائِن فَثَبت أَن الَّذِي قَالَه النظام حق اهـ
وَلَا ريب أَن أَكثر أَخْبَار الصَّحِيحَيْنِ قد اقترنت بهَا قَرَائِن تدل على صِحَّتهَا فَتكون مفيدة للْعلم فَيبقى الِاعْتِرَاض على ابْن الصّلاح من جِهَة وَاحِدَة وَهُوَ انه أطلق الحكم وَلم يُقَيِّدهُ بِهَذَا النَّوْع وَلَو قَيده بِهَذَا النَّوْع لسلم من الِاعْتِرَاض على هَذَا القَوْل فَإِنَّهُ وَإِن قل الْقَائِلُونَ فِي غَايَة الْقُوَّة
على ان هَذَا الحكم مَعَ صِحَّته لَا تحصل مِنْهُ فَائِدَة تَامَّة وَغنما تحصل الْفَائِدَة التَّامَّة فِيمَا لَو ميز هَذَا النَّوْع من غَيره بِالْفِعْلِ لَا سِيمَا إِذا بَين مَا يُمكن بَيَانه من الْقَرَائِن وَأما مَا لَا يُمكن بَيَانه وَإِن كَانَ بِهِ تَمام الإفادة فَإِن الْأَدْنَى فِي فن التَّمْيِيز والنقد يُسلمهُ للأعلى فِيهِ على هُوَ الْجَارِي فِي كل فن
وَلذَا قَالَ بعض أنصار ابْن الصّلاح بعد أَن ذكر أَن الْخَبَر المحتف بالقرائن ثَلَاثَة أَنْوَاع أَحدهَا مَا أخرجه الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحهمَا مِمَّا لم يبلغ حد التَّوَاتُر وَثَانِيها الْمَشْهُور إِذا كَانَت لَهُ طرق متباينة سَالِمَة من ضعف الروَاة والعلل وَثَالِثهَا لَا يحصل الْعلم بِصدق الْخَبَر مِنْهَا إِلَّا للْعَالم بِالْحَدِيثِ المتبحر فِيهِ الْعَارِف بأحوال الروَاة المطلع على الْعِلَل
وَكَون غَيره لَا يحصل لَهُ الْعلم بِصدق ذَلِك لقصوره عَن الوصاف الْمَذْكُورَة لَا يَنْفِي حُصُول الْعلم للمتبحر الْمَذْكُور ومحصل الْأَنْوَاع الثَّلَاثَة الَّتِي ذَكرنَاهَا أَن الأول يخْتَص بالصحيحين وَالثَّانِي بِمَا لَهُ طرق مُتعَدِّدَة وَالثَّالِث بِمَا رَوَاهُ الْأَئِمَّة وَيُمكن اجْتِمَاع الثَّلَاثَة فِي حَدِيث وَاحِد فَلَا يبعد حِينَئِذٍ الْقطع بصدقه اهـ
وَاعْترض بَعضهم على قَوْله وَكَون غَيره لَا يحصل لَهُ الْعلم لَا يَنْفِي حُصُوله
للمتبحر الْمَذْكُور فَقَالَ حُصُول مَا ذكر لَيْسَ مَحل النزاع إِذْ الْكَلَام فِيمَا هُوَ سَبَب الْعلم لِلْخلقِ وَلَا يخفى أَن الْكَلَام إِنَّمَا هُوَ فِي حُصُول الْعلم لمن تشبث بأسبابه وسلك طَرِيقه وَأما غَيره فإمَّا أَن يسلم ذَلِك لأربابه وَأما أَن يتشبث بأسبابه
الْوَجْه الثَّانِي أَنه لم يقْتَصر على مَا ذهب إِلَيْهِ بعض الْمُعْتَزلَة الَّذِي أَشَارَ قرينه الْعَلامَة ابْن عبد السَّلَام إِلَى انه سرى على أَثَرهم فِيهِ بل زَاد على ذَلِك فَإِنَّهُم قَالُوا إِن عمل الْأمة بِمُوجب خبر يَقْتَضِي الحكم بِصِحَّتِهِ
وَأما هُوَ فَقَالَ إِن تلقي الْأمة لِلصَّحِيحَيْنِ بِالْقبُولِ يَقْتَضِي الحكم بِصِحَّة جَمِيع مَا فيهمَا من الْأَحَادِيث سوى مَا اسْتثْنى من ذَلِك فَحكم على مَا لَا يُحْصى من الْأَحَادِيث الْمُخْتَلفَة الْمَرَاتِب بِحكم وَاحِد وَهُوَ الْقطع بِصِحَّتِهَا لوجودها فِي كتابين تلقتهما الْأمة بِالْقبُولِ
وَأما هم فَإِنَّهُم حكمُوا على أَحَادِيث مَخْصُوصَة قد وصفت بِوَصْف خَاص وَهُوَ عمل الْأمة بموجبها نَحْو لَا وَصِيَّة لوَارث بِحكم خَاص يلائمه وَهُوَ الحكم بِصِحَّتِهَا وَمَعَ هَذَا فقد خالفهم الْجُمْهُور منا وَمِنْهُم لما ذكرُوا وشتان مَا بَين قَوْلهم وَقَول ابْن الصّلاح
هَذَا وَقد ذكرنَا سَابِقًا قَول ابْن حزم وَهُوَ قد يرد خبر مُرْسل إِلَّا أَن الْإِجْمَاع قد صَحَّ بِمَا فِيهِ متيقنا مَنْقُولًا جيلا فجيلا فَإِن كَانَ هَذَا علمنَا أَنه مَنْقُول نقل كَافَّة كنقل الْقُرْآن فاستغنى عَن ذكر السَّنَد فِيهِ وَكَانَ وُرُود ذَلِك الْمُرْسل وَعدم وُرُوده سَوَاء وَلَا فرق وَذَلِكَ نَحْو لَا وَصِيَّة لوَارث اهـ
وَقد اسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث من يَقُول بِجَوَاز نسخ الْقُرْآن بِالسنةِ قَالَ الْفَخر فِي الْمَحْصُول نسخ الْقُرْآن بِالسنةِ المتواترة جَائِز وَاقع وَقَالَ الشَّافِعِي لم يَقع ثمَّ ذكر أَن الَّذين قَالُوا إِنَّه جَائِز وَاقع استدلوا بقوله عليه الصلاة والسلام لَا وَصِيَّة
لوَارث فَإِنَّهُ نسخ الْوَصِيَّة للأقربين وَأما آيَة الْمِيرَاث فَإِنَّهَا لَا تمنع الْمِيرَاث لِإِمْكَان الْجمع
ثمَّ قَالَ وَهَذَا ضَعِيف لِأَن كَون الْمِيرَاث حَقًا للْوَارِث يمْنَع من صرفه إِلَى الْوَصِيَّة فَثَبت أَن آيَة الْمِيرَاث مَانِعَة من الْوَصِيَّة على أَن قَوْله عليه الصلاة والسلام لَا وَصِيَّة لوَارث خبر وَاحِد وَلَو كَانَ متواترا لوَجَبَ أَن يكون الْآن متواترا لِأَنَّهُ خبر فِي وَاقعَة مهمة تتوفر الدَّوَاعِي على نَقله وَمَا كَانَ كَذَلِك وَجب بَقَاؤُهُ متواترا وَحَيْثُ لم يبْق الْآن متواترا علمنَا أَنه مَا كَانَ تواترا فِي الأَصْل فَالْقَوْل بِأَن الْآيَة صَارَت مَنْسُوخَة بِهِ يَقْتَضِي نسخ الْقُرْآن بِخَبَر الْوَاحِد وَإنَّهُ غير جَائِز بِالْإِجْمَاع
وَقَالَ بعض الْمُحَقِّقين ن نسخ الْقُرْآن بِالسنةِ لم يجوزه الشَّافِعِي وَلَا أَحْمد فِي الْمَشْهُور عَنهُ وَجوزهُ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى وَهُوَ قَول أَصْحَاب أبي حنيفَة وَغَيرهم وَقد احْتَجُّوا على ذَلِك بِأَن الْوَصِيَّة للْوَالِدين والأقربين نسخهَا قَوْله إِن الله قد أعْطى كل ذِي حق حَقه فَلَا وَصِيَّة لوَارث
وَلَيْسَ المر كَذَلِك فَإِن الْوَصِيَّة للْوَالِدين والأقربين إِنَّمَا نسختها آيَة الْمَوَارِيث كَمَا اتّفق على ذَلِك السّلف فَإِنَّهُ قَالَ بعد ذكر الْفَرَائِض {تِلْكَ حُدُود الله} الْآيَة فأبان أَنه لَا يجوز أَن يُزَاد أحد على مَا فرض الله لَهُ وَهَذَا معنى قَول النَّبِي عليه الصلاة والسلام إِن الله قد أعْطى كل ذِي حق حَقه فَلَا وَصِيَّة لوَارث وَإِلَّا فَهَذَا الحَدِيث إِنَّمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَنَحْوه من أَصْحَاب السّنَن وَلَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَإِذا كَانَ من أَخْبَار الْآحَاد فَلَا يجوز أَن يَجْعَل نَاسِخا لِلْقُرْآنِ وَبِالْجُمْلَةِ فَلم يثبت أَن شَيْئا من الْقُرْآن نسخ بِسنة بِلَا قُرْآن
الْوَجْه الثَّالِث أَنه بنى الحكم على تلقي الْأمة لَهما بِالْقبُولِ وَلم يبين مَاذَا أَرَادَ بالأمة وَلَا مَاذَا أَرَادَ بتلقيها لَهما بِالْقبُولِ وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ غير بينين هُنَا فِي أَنفسهمَا
فَكَانَ حَقه أَن يبين مَا أَرَادَ بهما لِئَلَّا يذهب الذِّهْن كل مَذْهَب وَلِئَلَّا يظنّ بِهِ أَنه يقْصد بالإبهام وَالْإِيهَام وَإِن كَانَ مَا علم من حَاله يدل على أَنه بَرِيء من ذَلِك
فَإِن أَرَادَ بالأمة علماءها وَهُوَ الظَّاهِر فعلماء الْأمة فِي هَذَا الْمقَام ثَلَاثَة أَقسَام المتكلمون وَالْفُقَهَاء والمحدثون أما المتكلمون فقد عرف من حَالهم أَنهم يردون كل حَدِيث يُخَالف مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ وَلَو كَانَ من الْأُمُور الظنية فَإِذا لأورد عَلَيْهِم من ذَلِك حَدِيث صَحِيح عِنْد الْمُحدثين أولوه إِن وجدوا تَأْوِيله قريب المأخذ أَو ردُّوهُ مكتفين بقَوْلهمْ هَذَا من أَخْبَار الْآحَاد وَهِي لَا تفِيد غير الظَّن وَلَا يجوز الْبناء على الظَّن فِي المطالب الكلامية
فَمن ذَلِك حَدِيث تحاجب الْجنَّة وَالنَّار فَقَالَت النَّار أُوثِرت بِالْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ وَقَالَت الْجنَّة مَا لي لَا يدخلني إِلَّا ضعفاء النَّاس وَسَقَطهمْ قَالَ الله تبارك وتعالى للجنة أَنْت رَحْمَتي أرْحم بك من أَشَاء من عبَادي وَقَالَ للنار إِنَّمَا أَنْت عَذَاب أعذب بك من أَشَاء من عبَادي وَلكُل وَاحِدَة مِنْهُمَا ملؤُهَا فَأَما النَّار فَلَا تمتلئ حَتَّى يضع رجله فَتَقول قطّ قطّ قطّ فهنالك تمتلئ ويزوي بَعْضهَا إِلَى بعض وَلَا يظلم الله عز وجل من خلقه أحدا وَأما الْجنَّة فَإِن الله عز وجل ينشئ لَهَا خلقا اهـ
وَهَذَا الحَدِيث مُتَّفق عَلَيْهِ أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أما مُسلم فَأخْرجهُ فِي كتاب الْجنَّة وَصفَة نعيمها وَأما البُخَارِيّ فَأخْرجهُ فِي تَفْسِير سُورَة ق بِهَذَا اللَّفْظ من طَرِيق عبد لارزاق عَن
همام عَن أبي هُرَيْرَة وَأخرجه فِي مَوضِع آخر من طَرِيق صَالح بن كيسَان عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ اختصمت الْجنَّة وَالنَّار إِلَى ربهما الحَدِيث وَفِيه أَنه ينشئ للنار خلقا
وَقد ذهب الْمُحَقِّقُونَ إِلَى أَن الرَّاوِي أَرَادَ أَن يذكر الْجنَّة فذهل فَسبق لِسَانه إِلَى النَّار قَالَ فِي شرح البُخَارِيّ عِنْد قَوْله فَلَا تمتلئ حَتَّى يضع رجله فِي مُسلم حَتَّى يضع الله رجله وَأنكر ابْن فورك لفظ رجله وَقَالَ إِنَّهَا ثَابِتَة وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ هِيَ تَحْرِيف من بعض الروَاة ورد عَلَيْهِمَا بِرِوَايَة الصَّحِيحَيْنِ بهَا وأولت بِالْجَمَاعَة كَرجل من جَراد أَي يضع فِيهَا جمَاعَة وأضافهم إِلَيْهِ إِضَافَة اخْتِصَاص
وَقَالَ محيي السّنة الْقدَم وَالرجل فِي هَذَا الحَدِيث من صِفَات الله تَعَالَى المنزهة عَن التكييف والتشبيه فالإيمان بهَا فرض الِامْتِنَاع عَن الْخَوْض فِيهَا وَاجِب فالمهتدي من سلك فِيهَا طَرِيق التَّسْلِيم والخائض فِيهَا زائغ وَالْمُنكر معطل والمكيف مشبه {لَيْسَ كمثله شَيْء}
وَقَالَ فِي شرح مُسلم هَذَا الحَدِيث من مشاهير أَحَادِيث الصِّفَات وَقد مر بَيَان اخْتِلَاف الْعلمَاء فِيهَا على مذهبين
أَحدهمَا وَهُوَ قَول جُمْهُور السّلف وَطَائِفَة من الْمُتَكَلِّمين انه لَا نتكلم فِي تَأْوِيلهَا بل نؤمن أَنَّهَا حق على مَا أَرَادَ الله وَلها معنى يَلِيق بهَا وظاهرها غير مُرَاد
وَالثَّانِي وَهُوَ قَول جُمْهُور الْمُتَكَلِّمين أَنَّهَا تتأول بِحَسب مَا يَلِيق بهَا فعلى هَذَا اخْتلفُوا فِي تَأْوِيل هَذَا الحَدِيث
فَهَذَا الحَدِيث ونظائره وَهِي كَثِيرَة يبعد على الْمُتَكَلّم أَن يَقُول بِصِحَّتِهَا فضلا عَن أَن يجْزم بذلك وَإِذا ألجئ إِلَى القَوْل بِصِحَّتِهَا لم يأل هدا فِي تَأْوِيلهَا وَلَو على وَجه لَا يساعد اللَّفْظ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يعلم السَّامع ان الْمُتَكَلّم لَا يَقُول بِجَوَازِهِ فِي الْبَاطِن
وَقد نشأت بِسَبَب ذَلِك عَدَاوَة شَدِيدَة بَين الْمُتَكَلِّمين والمحدثين يعرفهَا من نظر فِي كتب التَّارِيخ حَتَّى إِن الْمُتَكَلِّمين سموا جُمْهُور الْمُحدثين بالمشبهة والمحدثين سموهم بالمعطلة
وَأما الْفُقَهَاء فقد عرف من حَالهم أَنهم يؤولون كل حَدِيث يُخَالف مَا ذهب إِلَيْهِ عُلَمَاء مَذْهَبهم وَلَو كَانَ من الْمُتَأَخِّرين أَو يعارضون الحَدِيث بِحَدِيث آخر وَلَو كَانَ غير مَعْرُوف عِنْد أَئِمَّة الحَدِيث والْحَدِيث الَّذِي عارضوه ثَابت فِي الصَّحِيحَيْنِ بل مِمَّا أخرجه السِّتَّة وَمن نظر فِي شُرُوح الصَّحِيحَيْنِ اتَّضَح لَهُ المر
وَقد ترك بَعضهم المجاملة للمحدثين فَصرحَ بَان تَرْجِيح الصَّحِيحَيْنِ على غَيرهمَا تَرْجِيح من غير مُرَجّح وَالَّذين جاملوا اكتفوا بِدلَالَة الْحَال وَقد أَشَارَ إِلَى ذَلِك الْعِزّ بن عبد السَّلَام فِي كتاب الْقَوَاعِد فَقَالَ وَمن الْعجب العجيب أَن الْفُقَهَاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف مَأْخَذ إِمَامه بِحَيْثُ لَا يجد لضَعْفه مدفعا وَهُوَ مَعَ ذَلِك يقلده فِيهِ وَيتْرك من شهد الْكتاب وَالسّنة والأقيسة الصَّحِيحَة لمذهبه جمودا على تَقْلِيد إِمَامه بل يتحيل لدفع ظواهر الْكتاب وَالسّنة ويتأولها بالتأويلات الْبَعِيدَة الْبَاطِلَة نضالا عَن مقلده
وَقد رَأينَا يَجْتَمعُونَ فِي الْمجَالِس فَإِذا ذكر لأَحَدهم خلاف مَا وَطن نَفسه عَلَيْهِ تعجب مِنْهُ غَايَة الْعجب من غير استرواح إِلَى دَلِيل بل لما أَلفه من تَقْلِيد
إِمَامه وتعجبه من مَذْهَب إِمَامه أولى من تعجبه من مَذْهَب غَيره فالبحث مَعَ هَؤُلَاءِ ضائع مفض إِلَى التقاطع والتدابر من غير فَائِدَة يجديها وَمَا رَأَيْت أحدا رَجَعَ عَن مَذْهَب إِمَامه إِذا ظهر لَهُ الْحق فِي غَيره بل يصر عَلَيْهِ مَعَ علمه بضعفه وَبعده
فَالْأولى ترك الْبَحْث مَعَ هَؤُلَاءِ الَّذين إِذا عجز أحدهم عَن تمشية مَذْهَب إِمَامه قَالَ لَعَلَّ إمامي وقف على دَلِيل لم أَقف عَلَيْهِ وَلم أهتد إِلَيْهِ وَلَا يعلم الْمِسْكِين أَن هَذَا مُقَابل بِمثلِهِ ويفضل لخصمه مَا ذكره من الدَّلِيل الْوَاضِح والبرهان اللائح فسبحان الله مَا اكثر من أعمى التَّقْلِيد بَصَره حَتَّى حمله على مثل مَا ذكرته وفقنا الله لاتباع الْحق أَيْن كَانَ وعَلى لِسَان من ظهر اهـ
وَقد أَكْثرُوا من الِاعْتِرَاض على قَول ابْن الصّلاح عَن الْأَئِمَّة تلقت الصَّحِيحَيْنِ بِالْقبُولِ فَقَالَ بَعضهم إِن مَا ذكره من تلقي الْأمة لِلصَّحِيحَيْنِ بِالْقبُولِ مُسلم وَلكنه لَا يخْتَص بهما فقد تلقت الْأمة سنَن أبي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَغَيرهَا بِالْقبُولِ وَمَعَ ذَلِك فَلم يذهب أحد إِلَى الحكم بِصِحَّة مَا فِيهَا بِمُجَرَّد ذَلِك
وَقَالَ بَعضهم إِن أَرَادَ بالأمة كل الْأمة فَلَا يخفى فَسَاده لِأَن الْكِتَابَيْنِ إِنَّمَا حسنا فِي المئة الثَّالِثَة بعد عصر البُخَارِيّ وأئمة الْمذَاهب المتبعة وَإِن أَرَادَ بالأمة بَعْضهَا وهم من وجد بعد الْكِتَابَيْنِ فهم بعض الْأمة فَلَا يستقين دَلِيله الَّذِي قواه بتلقي الْأمة وَثُبُوت الْعِصْمَة لَهُم
وَهَذَا القَوْل عَجِيب وَكَأن قَائِله لم ينظر فِي أصُول الْفِقْه فِي كتاب الْإِجْمَاع ولنذكر عبارَة تنبه على مَا فِي قَوْله من الْخَطَأ ولنقتصر عَلَيْهَا فقد كثر الاستطراد فِي هَذَا الْكتاب وَهُوَ مِمَّا يخْشَى مِنْهُ الإملال أَو تشتيت البال
قَالَ الْغَزالِيّ فِي الْمُسْتَصْفى ذهب دَاوُد وشيعته من أهل الظَّاهِر إِلَى أَنه لَا حجَّة فِي إِجْمَاع من بعد الصَّحَابَة وَهُوَ فَاسد لِأَن الْأَدِلَّة الثَّلَاثَة على كَون الْإِجْمَاع
حجَّة أَعنِي الْكتاب وَالسّنة وَالْعقل لَا تفرق بَين عصر وعصر فالتابعون إِذا أَجمعُوا فَهُوَ إِجْمَاع من جَمِيع الْأمة وَمن خالفهم فَهُوَ سالك غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ اهـ
وَقَالَ بَعضهم إِن تلقي الْأمة لَهما بِالْقبُولِ من جِهَة كَون مَا فيهمَا من الْأَحَادِيث أصح مِمَّا فِي سواهُمَا من الْكتب الحديثية لجلالة مؤلفيها فِي هَذَا المر وتقدمهما على من سواهُمَا فِي ذَلِك والتزامهما فِي كِتَابَيْهِمَا أَن لَا يوردا فيهمَا غير الصَّحِيح
وَهَذَا يدل على أَنَّهُمَا أرجح مِمَّا سواهُمَا على طَرِيق الْإِجْمَال وَلَا يدل ذَلِك على ان مَا فيهمَا مجزوم بِصِحَّة نسبته إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَلذَلِك أقدم الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيره على الانتقاد عَلَيْهِمَا مَعَ ان انتقادهم عَلَيْهِمَا كَانَ قاصرا على مَا يتَعَلَّق بِالْأَسَانِيدِ وَأما الانتقاد عَلَيْهِمَا من جِهَة مَا يتَعَلَّق بالمتون من جِهَة مخالفتهما للْكتاب أَو للسّنة المتواترة وَنَحْو ذَلِك فَلم يتصدوا لَهُ لِأَن ذَلِك من متعلقات عُلَمَاء الْكَلَام وَالْأُصُول
وَقد حمل انتقاد الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيره ابْن الصّلاح على ان يسْتَثْنى مَا انتقدوه من إِفَادَة الْعلم مَعَ أَن فِيمَا انتقدوه مَا الْجَواب عَنهُ بَين وَفِيمَا لم ينتقدوه مَا هُوَ دون مَا انتقدوه
وَلَا يخفى ان هَذَا الِاسْتِثْنَاء قد أَضْعَف قُوَّة الحكم فِي غَيره وَلذَا أقدم بعض أنصاره على أَن يسْتَثْنى شَيْئا آخر وَهُوَ مَا وَقع التَّعَارُض فِيهِ من الْأَحَادِيث بِحَيْثُ لَا يُمكن الْجمع وَلَا وُقُوع النّسخ مَعَ عدم ظُهُور الرجحان فِي جِهَته وَذَلِكَ لاستحالته إِفَادَة المتعارضين من كل وَجه الْعم وَمَعَ ذَلِك فقد حاول أَن يَجْعَل الْخلاف لفظيا بِأَن يُقَال من قَالَ إِنَّه لَا يُفِيد الْعلم أَرَادَ الْعلم اليقيني وَمن قَالَ إِنَّه يُفِيد الْعلم أَرَادَ الْعلم الَّذِي لم يصل إِلَى دَرَجَة الْيَقِين
وَأما المنتصرون لِابْنِ الصّلاح فَالسَّابِق مِنْهُم إِلَى ذَلِك هُوَ الْعَلامَة ابْن تَيْمِية وَقد وقفت لَهُ على مقالتين تصدى فيهمَا إِلَى هَذِه الْمَسْأَلَة الجليلة الشَّأْن محاولا تقريبها من الْقَوَاعِد الكلامية لتَكون أقرب إِلَى قبُول الْمُتَكَلِّمين وَمن نحا نحوهم فَصَارَت
سهلة الْحل لَا سِيمَا إِذا تزحزح كل من الْفَرِيقَيْنِ عَن مَكَانَهُ قَلِيلا وسعى نَحْو الآخر
أما الْمقَالة الأولى فقد كَانَت جَوَابا لسائل لَهُ هَل أَحَادِيث الصَّحِيحَيْنِ تفِيد الْيَقِين وَهل فيهمَا حَدِيث متواتر وَقد أوردتها هُنَا على طَرِيق الِاخْتِصَار
قَالَ لفظ الْمُتَوَاتر يُرَاد بِهِ معَان إِذْ الْمَقْصُود من الْمُتَوَاتر مَا يُفِيد الْعلم لَكِن من النَّاس من لَا يُسَمِّي متواترا إِلَّا مَا رَوَاهُ عدد كثير يكون الْعلم حَاصِلا بِكَثْرَة عَددهمْ فَقَط وَيَقُولُونَ إِن كل عدد أَفَادَ الْعلم فِي قَضِيَّة أَفَادَ مثل ذَلِك الْعدَد الْعلم فِي كل قَضِيَّة
وَهَذَا قَول ضَعِيف وَالصَّحِيح مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَن الْعلم يحصل بِكَثْرَة المخبرين تَارَة وَقد يحصل بصفاتهم لدينهم وضبطهم وَقد يحصل بقرائن تحتف بالْخبر يحصل بِمَجْمُوع ذَلِك وَقد يحصل بطَائفَة دون طَائِفَة
وَأَيْضًا فَالْخَبَر الَّذِي تَلَقَّتْهُ الْأمة بِالْقبُولِ تَصْدِيقًا لَهُ أَو عملا بِمُوجبِه يُفِيد الْعلم عِنْد جَمَاهِير السّلف وَالْخلف وَهَذَا فِي معنى الْمُتَوَاتر لَكِن من النَّاس من يُسَمِّيه الْمَشْهُور والمستفيض ويقسمون الْخَبَر متواتر ومشهور وَخبر وَاحِد
وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَأكْثر متون الصَّحِيحَيْنِ مَعْلُومَة متيقنة تلقاها أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ بِالْقبُولِ والتصديق وَأَجْمعُوا على صِحَّتهَا وإجماعهم مَعْصُوم من الْخَطَأ كَمَا أَن إِجْمَاع الْفُقَهَاء على الْأَحْكَام مَعْصُوم من الْخَطَأ وَلَو أجمع الْفُقَهَاء على حكم كَانَ إِجْمَاعهم حجَّة وَإِن كَانَ مستندهم خبر وَاحِد أَو قِيَاسا أَو عُمُوما فَكَذَلِك أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ إِذا أَجمعُوا على صِحَة خبر أَفَادَ الْعلم وَإِن كَانَ الْوَاحِد مِنْهُم يجوز عَلَيْهِ الْخَطَأ لَكِن إِجْمَاعهم مَعْصُوم عَن الْخَطَأ
ثمَّ هَذِه الْأَحَادِيث الَّتِي أَجمعُوا على صِحَّتهَا قد تتواتر أَو تستفيض عِنْد بعض
دون بعض وَقد يحصل بصدقها لبَعْضهِم لعلمه بِصِفَات المخبرين وَمَا اقْترن بالْخبر من الْقَرَائِن والضمائم الَّتِي تفِيد الْعلم
وَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور أَن التَّوَاتُر لَيْسَ لَهُ عدد مَحْصُور وَالْعلم عقب الْإِخْبَار يحصل فِي الْقلب ضَرُورَة كَمَا يحصل فِي الْقلب ضَرُورَة كَمَا يحصل فِي الْقلب ضَرُورَة كَمَا يحصل الشِّبَع عقب الْكل والري عقب الشّرْب وَلَيْسَ لما يشْبع كل وَاحِد أَو يرويهِ قدر معِين بل قد يكون الشِّبَع لِكَثْرَة الطَّعَام وَقد يكون لجودته كَاللَّحْمِ وَقد يكون لاستغناء الْآكِل بقليله وَقد يكون لاشتغال نَفسه بفرح أَو غضب أَو حزن أَو نَحْو ذَلِك
كَذَلِك الْعلم الْحَاصِل عقب الْخَبَر تَارَة يكون لِكَثْرَة المخبرين وَإِذا كَثُرُوا فقد يُفِيد خبرهم الْعلم وَإِن كَانُوا كفَّارًا
وَتارَة يكون لدينهم وضبطهم فَرب رجلَيْنِ أَو ثَلَاثَة يحصل من الْعلم بخبرهم مَا لَا يحصل بِعشْرَة وَعشْرين لَا يوثق بدينهم وضبطهم
وَتارَة يحصل الْعلم بِكَوْن كل من المخبرين أخبر بِمثل مَا أخبر بِهِ الآخر مَعَ الْعلم بِأَنَّهُمَا لم يتواطآ فَإِنَّهُ يمْتَنع فِي الْعَادة الِاتِّفَاق فِي مثل ذَلِك مثل مَا يروي حَدِيثا طَويلا فِيهِ فُصُول وَيَرْوِيه آخر كَذَلِك وَلم يكن قد لقِيه
وَتارَة يحصل من الْعلم بالْخبر لمن عِنْده من الفطنة والذكاء وَالْعلم بأحوال المخبرين وَبِمَا اخبروا بِهِ مَا لَا يحصل لمن لَيْسَ مثل ذَلِك
وَتارَة يحصل الْعلم بالْخبر لكَونه رُوِيَ بِحَضْرَة جمَاعَة كَثِيرَة شاركوا الْمخبر فِي الْعلم وَلم يكذبهُ أحد مِنْهُم فَإِن الْجَمَاعَة الْكَثِيرَة قد يمْتَنع تواطؤهم على الكتمان كَمَا يمْتَنع تواطؤهم على الْكَذِب
وَإِذا عرف أَن الْعلم بأخبار المخبرين لَهُ أَسبَاب غير مُجَرّد الْعدَد علم أَن من قيد الْعلم بِعَدَد معِين وَسوى بَين جَمِيع الْأَخْبَار فِي ذَلِك فقد غلط غَلطا عَظِيما وَلِهَذَا كَانَ التَّوَاتُر يَنْقَسِم إِلَى عَام وخاص فَأهل الْعلم بِالْحَدِيثِ وَالْفِقْه قد يتواتر
عِنْدهم فِي السّنة مَا لم يتواتر عَن د الْعَامَّة كوجوب الشُّفْعَة وَحمل الْعَاقِلَة الْعقل وَنَحْو ذَلِك
وَإِذا كَانَ الْخَبَر قد يتواتر عِنْد قوم دون قوم فقد يحصل الْعلم بصدقه لقوم دون قوم فَمن حصل لَهُ الْعلم بِهِ وَجب عَلَيْهِ التَّصْدِيق بِهِ وَالْعَمَل بِمُقْتَضَاهُ كَمَا يجب ذَلِك فِي نَظَائِره وَمن لم يحصل لَهُ الْعلم بذلك فَعَلَيهِ أَن يسلم ذَلِك لأهل الْإِجْمَاع الَّذين أَجمعُوا على صِحَّته كَمَا على النَّاس أَن يسلمُوا الْأَحْكَام الْمجمع عَلَيْهَا إِلَى من أجمع عَلَيْهَا من اهل الْعلم فَإِن الله عصم هَذِه الْأمة أَن تَجْتَمِع على ضَلَالَة
وَإِنَّمَا يكون إجماعها بِأَن يسلم غير الْعَالم للْعَالم إِذْ غير الْعَالم لَا يكون لَهُ قَول وَغنما القَوْل للْعَالم فَكَمَا أَن من لَا يعرف أَدِلَّة الْأَحْكَام لَا يعْتد بقوله كَذَلِك من لَا يعرف طرق الْعلم بِصِحَّة الحَدِيث لَا يعْتد بقوله بل على كل من لَيْسَ بعالم أَن يتبع إِجْمَاع أهل الْعلم اهـ
وخلاصة مَا يتَعَلَّق بِهِ فِي هَذِه الْمقَالة أَن اكثر متون الصَّحِيحَيْنِ مَعْلُومَة متيقنة قد تلقاها أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ بِالْقبُولِ والتصديق وَأَجْمعُوا على صِحَّتهَا قد تتواتر أَو تستفيض عِنْد بعض دون بعض وَقد يحصل الْعلم بِصِحَّتِهَا لبَعض لعلمه بِصِفَات المخبرين وَمَا اقْترن بالْخبر من الْقَرَائِن الَّتِي تفِيد الْعلم دون بعض لعدم علمه بذلك
فعلى من حصل لَهُ الْعلم بذلك أَن يجْرِي على مُقْتَضَاهُ من التَّصْدِيق بهَا وَالْعَمَل بموجبها وَمن لم يحصل بِهِ الْعلم بذلك فَعَلَيهِ أَن يسلم ذَلِك لأهل الْإِجْمَاع الَّذين أَجمعُوا على صِحَّتهَا كَمَا على النَّاس أَن يسلمُوا الْأَحْكَام الْمجمع عَلَيْهَا لمن أجمع عَلَيْهَا من أهل الْعلم إِذْ لَا يتم إِجْمَاع إِلَّا إِذا سلم غير الْعَالم للْعَالم فَإِن لم يسلم لم يعْتد بِعَدَمِ تَسْلِيمه إِذْ لَيْسَ لغير الْعَالم قَول وَإِنَّمَا القَوْل للْعَالم
وَأما الْمقَالة الثَّانِيَة فقد أوردهَا فِي رِسَالَة جعلهَا فِي قَوَاعِد التَّفْسِير وَقد وقف عَلَيْهَا الْعَلامَة البُلْقِينِيّ كَمَا يشْعر بِهِ مَا نَقَلْنَاهُ عَنهُ سَابِقًا من أَن بعض الْحفاظ
الْمُتَأَخِّرين نقل مثل قَول ابْن الصّلاح عَن جمَاعَة فَإِنَّهُ عَنى بِبَعْض الْحفاظ الْمُتَأَخِّرين صَاحب هَذِه الْمقَالة فِيمَا يظْهر
وَقد أوردهَا صَاحبهَا فِي فصل من الرسَالَة الْمَذْكُورَة أورد فِيهِ أَولا ان مَا ينْقل عَن الْمَعْصُوم إِن كَانَ مِمَّا لَا يُمكن معرفَة الصَّحِيح مِنْهُ من غَيره فعامته مِمَّا لَا يحْتَاج إِلَيْهِ وَذَلِكَ كمدار سفينة نوح عليه السلام وَنَوع خشبها الَّذِي صنعت مِنْهُ وَنَحْو ذَلِك وَأما مَا يحْتَاج إِلَيْهِ فَإِن الله تَعَالَى قد نصب على الْحق فيد دَلِيلا
ثمَّ قَالَ وَالْمَقْصُود ان الحَدِيث الطَّوِيل إِذا رُوِيَ مثلا من وَجْهَيْن مُخْتَلفين من غير مواطأة امْتنع عَلَيْهِ أَن يكون غَلطا كَمَا امْتنع تأن يكون كذبا فَإِن الْغَلَط لَا يكون فِي قصَّة طَوِيلَة متنوعة وَإِنَّمَا يكون فِي بَعْضهَا فَإِذا روى هَذَا قصَّة طَوِيلَة متنوعة وَرَوَاهَا الآخر مثل مَا رَوَاهَا الأول من غير مواطأة امْتنع الْغَلَط فِي جَمِيعهَا كَمَا امْتنع الْكَذِب فِي جَمِيعهَا من غير مواطأة
وَلِهَذَا إِنَّمَا يَقع فِي مثل ذَلِك غلط فِي بعض مَا جرى فِي الْقِصَّة مثل حَدِيث اشْتِرَاء النَّبِي صلى الله عليه وسلم الْبَعِير من جَابر فَإِن من تَأمل طرقه علم قطعا أَن الحَدِيث صَحِيح وَإِن كَانُوا قد اخْتلفُوا فِي مِقْدَار الْيمن
وَقد بَين البُخَارِيّ فِي صَحِيحه فَإِن جُمْهُور مَا فِي البُخَارِيّ وَمُسلم مِمَّا يقطع بِأَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَه لِأَن غالبه من هَذَا وَلِأَنَّهُ قد تَلقاهُ أهل الْعلم بِالْقبُولِ والتصديق وَالْأمة لَا تَجْتَمِع على خطأ فَلَو كَانَ الحَدِيث كذبا فِي نفس الْأَمر وَالْأمة مصدقة لَهُ قَابِلَة لَهُ لكانوا قد أَجمعُوا على تَصْدِيق مَا هُوَ فِي نفس الْأَمر كذب وَهَذَا إِجْمَاع على الْخَطَأ وَذَلِكَ مُمْتَنع
وَإِن كُنَّا نَحن بِدُونِ الْإِجْمَاع نجوز الْخَطَأ أَو الْكَذِب على الْخَبَر فَهُوَ كتجويزنا قبل أَن نعلم الْإِجْمَاع على الحكم الَّذِي ثَبت بِظَاهِر أَو قِيَاس ظَنِّي أَن يكون
الْحق فِي الْبَاطِن بِخِلَاف مَا اعتقدناه فَإِذا أَجمعُوا على الحكم جزمنا بِأَن الحكم ثَابت بَاطِنا وظاهرا وَلِهَذَا كَانَ جُمْهُور الْعلم من جَمِيع الطوائف على أَن خبر الْوَاحِد إِذا تَلَقَّتْهُ الْأمة بِالْقبُولِ تَصْدِيقًا لَهُ أَو عملا بِهِ أَنه يُوجب الْعلم
وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذكره المصنفون فِي أصُول الْفِقْه من أَصْحَاب أبي حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد إِلَّا فرقة قَليلَة من الْمُتَأَخِّرين اتبعُوا فِي ذَلِك طَائِفَة من أهل الْكَلَام أَنْكَرُوا ذَلِك وَلَكِن كثير من أهل الْكَلَام أَكْثَرهم يوافقون الْفُقَهَاء وَأهل الحَدِيث وَالسَّلَف على ذَلِك وَهُوَ قَول أَكثر الأشعرية كَأبي إِسْحَاق ابْن فورك
وَأما ابْن الباقلاني فَهُوَ الَّذِي أنكر ذَلِك وَاتبعهُ مثل أبي الْمَعَالِي وَأبي حَامِد وَابْن عقيل وَابْن الْجَوْزِيّ وَابْن الْخَطِيب والآمدي وَنَحْو هَؤُلَاءِ
وَالْأول هُوَ الَّذِي ذكره الشَّيْخ أَبُو حَامِد وَأَبُو الطّيب وَأَبُو إِسْحَاق وَأَمْثَاله من أَئِمَّة الشَّافِعِيَّة وَهُوَ الَّذِي ذكره القَاضِي عبد الْوَهَّاب وَأَمْثَاله من الْمَالِكِيَّة وَهُوَ الَّذِي ذكره شمس الدّين السَّرخسِيّ وَأَمْثَاله من الْحَنَفِيَّة وَهُوَ الَّذِي ذكره أَبُو يعلى وَأَبُو الْخطاب وَأَبُو الْحسن بن الزَّاغُونِيّ وأمثالهم من الحنبلية
وَإِذا كَانَ الْإِجْمَاع على تَصْدِيق الْخَبَر مُوجبا للْقطع بِهِ فالاعتبار فِي ذَلِك بِإِجْمَاع أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ كَمَا أَن الِاعْتِبَار فِي الْإِجْمَاع على الْأَحْكَام بِإِجْمَاع أهل الْعلم بِالْأَمر وَالنَّهْي وَالْإِبَاحَة
وَالْمَقْصُود هُنَا أَن تعدد الطّرق مَعَ عدم التشاعر والاتفاق فِي الْعَادة
يُوجب الْعلم بمضمون الْمَنْقُول لَكِن هَذَا ينْتَفع بِهِ كثيرا من علم أَحْوَال الناقلين وَفِي مثل هَذَا ينْتَفع بِرِوَايَة الْمَجْهُول والسيىء الْحِفْظ والْحَدِيث الْمُرْسل وَنَحْو ذَلِك وَلِهَذَا كَانَ أهل الْعلم يَكْتُبُونَ مثل هَذِه الْأَحَادِيث وَيَقُولُونَ إِنَّه يصلح للشواهد وَالِاعْتِبَار مَا لَا يلح لغيره
قَالَ أَحْمد قد أكتب حَدِيث الرجل لأعتبره وَمثل هَذَا بِعَبْد الله بن لَهِيعَة قَاضِي مصر فَإِنَّهُ كَانَ من أَكثر النَّاس حَدِيثا وَمن خِيَار النَّاس لَكِن بِسَبَب احتراق كتبه وَقع فِي حَدِيثه الْمُتَأَخر غلط فَصَارَ يعْتَبر بذلك وَيسْتَشْهد بِهِ وَكَثِيرًا مَا يقْتَرن هُوَ وَاللَّيْث بن سعد وَاللَّيْث حجَّة ثَبت غمام
وكما أَنهم يستشهدون ويعتبرون بِحَدِيث الرذي فِيهِ سوء حفظ فَإِنَّهُم أَيْضا يضعفون من حَدِيث الثِّقَة الصدوق الضَّابِط أَشْيَاء يتَبَيَّن لَهُم غلطه فِيهَا بِأُمُور يستدلون بهَا ويسمون هَذَا علم علل الحَدِيث وَهُوَ من أشرف علومهم بِحَيْثُ يكون الحَدِيث قد رَوَاهُ ثِقَة ضَابِط وَغلط فِيهِ وغلطه فِيهِ عرف إِمَّا بِسَبَب ظَاهر أَو خَفِي
كَمَا عرفُوا أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم تزوج مَيْمُونَة وَهُوَ محرم وَأَنه صلى فِي الْبَيْت رَكْعَتَيْنِ وَجعلُوا رِوَايَة ابْن عَبَّاس لتزوجها حَلَالا ولكونه لم يصل مِمَّا وَقع فِيهِ الْغَلَط وَكَذَلِكَ أَنه اعْتَمر أَربع عمر وَعَلمُوا أَن قَول ابْن عمر إِنَّه اعْتَمر فِي رَجَب مِمَّا وَقع فِيهِ الْغَلَط وَعَلمُوا أَنه تمتّع وَهُوَ آمن فِي حجَّة الْوَدَاع وَأَن قَول عُثْمَان لعَلي كُنَّا يَوْمئِذٍ خَائِفين مِمَّا وَقع فِيهِ الْغَلَط وان مَا وَقع فِي بعض طرق البُخَارِيّ أَن النَّار لَا تمتلئ حَتَّى ينشئ الله لَهَا خلقا آخر مِمَّا وَقع فِيهِ الْغَلَط وَهَذَا كثير
وَالنَّاس فِي هَذَا الْبَاب طرفان
طرف من أهل الْكَلَام وَنَحْوهم مِمَّن هُوَ بعيد عَن معرفَة الحَدِيث وَأَهله لَا يُمَيّز بَين الصَّحِيح والضعيف فيشك فِي صِحَة أَحَادِيث أَو فِي الْقطع بهَا مَعَ كَونهَا مَعْلُومَة مَقْطُوعًا بهَا عِنْد أهل الْعلم بِهِ
وطرف مِمَّن يَدعِي اتِّبَاع الحَدِيث وَالْعَمَل بِهِ كلما وجد لفظا فِي حَدِيث قد رَوَاهُ ثِقَة أَو رأى حَدِيثا بِإِسْنَاد ظَاهره الصِّحَّة يُرِيد أَن يَجْعَل ذَلِك من جنس مَا جزم أهل الْعلم بِصِحَّتِهِ حَتَّى إِذا عَارض الصَّحِيح الْمَعْرُوف أَخذ يتَكَلَّف لَهُ التأويلات الْبَارِدَة أَو يَجعله دَلِيلا فِي مسَائِل الْعلم مَعَ أَن أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ يعْرفُونَ أَن مثل هَذَا غلط
وكما أَن على الحَدِيث أَدِلَّة يعلم بهَا انه صدق وَقد يقطع بذلك فَعَلَيهِ أَدِلَّة يعلم بهَا انه كذب وَيقطع بذلك مثل مَا يقطع بكذب مَا يرويهِ الوضاعون من أهل الْبدع والغلو فِي الْفَضَائِل
وخلاصة مَا يتَعَلَّق بِهِ الْغَرَض فِي هَذِه الْمقَالة أَن جُمْهُور مَا فِي البُخَارِيّ وَمُسلم من الْأَحَادِيث مِمَّا يقطع بِأَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَه لِأَنَّهُ قد رُوِيَ من وَجْهَيْن مُخْتَلفين من غير مواطأة وَمَا كَانَ كَذَلِك فَإِنَّهُ فِي الْعَادة يُوجب الْعلم بِصِحَّة الرِّوَايَة وَلِأَنَّهُ قد تَلقاهُ أهل الْعلم بِالْقبُولِ وَالْمرَاد بِأَهْل الْعلم هُنَا أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ كَمَا ان المُرَاد بِأَهْل الْعلم فِي أَمر الْأَحْكَام أهل الْعلم بِالْأَمر وَالنَّهْي وَأَن أهل الْعلم كَمَا قد يستشهدون بِحَدِيث السَّيئ الْحِفْظ والمجهول ويعتبرون بِهِ لما فِي تعدد الطّرق من تَقْوِيَة الظَّن فِي صِحَة الرِّوَايَة قد يحكمون بِضعْف حَدِيث الثِّقَة الصدوق الضَّابِط بِأَسْبَاب تحملهم على ذَلِك وَيُسمى الْعلم الَّذِي يعرف بِهِ مثل هَذَا بِعلم علل الحَدِيث وَهُوَ من أشرف علومهم وَكَثِيرًا مَا وقفُوا بِسَبَبِهِ على غلط وَقع فِي حَدِيث رَوَاهُ ثِقَة ضَابِط وَمن ذَلِك مَا وَقع فِي بعض طرق البُخَارِيّ أَن النَّار لَا تمتلئ حَتَّى ينشئ الله لَهَا خلقا آخر وَهَذَا مِمَّا وَقع فِيهِ الْغَلَط وَمثل هَذَا كثير
وَالنَّاس فِي هَذَا الْأَمر طرفان طرف يشك فِي صِحَة أَحَادِيث أَو فِي الْقطع بهَا مَعَ كَونهَا مَعْلُومَة عِنْد أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ وَهَؤُلَاء فريق من أهل الْكَلَام وطرف كلما وجد حَدِيثا رُوِيَ بِإِسْنَاد ظَاهره الصِّحَّة جعله من جنس مَا جزم أهل الْعلم بِصِحَّتِهِ فَإِذا عَارض حَدِيثا صَحِيحا مَعْرُوفا أَخذ يتأوله بتأويلات بَارِدَة وَهَؤُلَاء وَهَؤُلَاء فريق مِمَّن ينتمي إِلَى الحَدِيث
وكما أَن على الحَدِيث الصَّحِيح أَدِلَّة يعلم بهَا انه صَحِيح النِّسْبَة وَقد تصل الْأَدِلَّة فِي الْقُوَّة إِلَى أَن توصل إِلَى علم الْيَقِين كَذَلِك عل الحَدِيث الَّذِي لَيْسَ بِصَحِيح أَدِلَّة يعرف بهَا حَاله وَقد أوردنا فِيمَا سبق مقَالَة تتَعَلَّق بتفرق النَّاس فِي أَمر الحَدِيث إِلَى ثَلَاثَة وَبينا حَال كل فرقة مِنْهَا جعلنَا الله من الْفرْقَة الْوُسْطَى بيمنه
وَقد تعرض فِي الْجَواب بطرِيق العر 1 لذكر شَيْء مِمَّا وَقع فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا من الْوَهم فِي الرِّوَايَة حَيْثُ قَالَ وَقد يُقَال إِن مَا بدل من أَلْفَاظ التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل فَفِي نفس التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل مَا يدل على تبديله وَبِهَذَا يحصل الْجَواب عَن شُبْهَة من يَقُول إِنَّه لم يُبدل شَيْء من ألفاظهما فَإِنَّهُم يَقُولُونَ إِذا كَانَ التبديل قد وَقع فِي أَلْفَاظ التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل قبل مبعث مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم لم يعلم الْحق من الْبَاطِل فَسقط الِاحْتِجَاج بهما وَوُجُوب الْعَمَل بهما على أهل الْكتاب فَلَا يذمون حِينَئِذٍ على ترك اتباعهما وَالْقُرْآن قد ذمهم على ترك الحكم بِمَا فيهمَا وَاسْتشْهدَ بِمَا فيهمَا فِي مَوَاضِع
وَجَوَاب ذَلِك أَن مَا وَقع من التبديل قَلِيل وَالْأَكْثَر لم يُبدل وَالَّذِي لم يُبدل فِيهِ أَلْفَاظ صَرِيحَة بَينه فِي الْمَقْصُود تبين غلط مَا خالفها وَلها شَوَاهِد ونظائر مُتعَدِّدَة يصدق بَعْضهَا بَعْضًا بِخِلَاف الْمُبدل فَإِنَّهُ أَلْفَاظ قَليلَة وَسَائِر نُصُوص الْكتب يناقضها
وَصَارَ هَذَا بِمَنْزِلَة كتب الحَدِيث المنقولة عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ إِذا وَقع فِي سنَن أبي دَاوُد أَبُو التِّرْمِذِيّ أَو غَيرهمَا أَحَادِيث قَليلَة ضَعِيفَة كَانَ فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الثَّابِتَة عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم مَا يبين ضعف تِلْكَ بل وَكَذَلِكَ صَحِيح مُسلم فِيهِ أَلْفَاظ قَليلَة علط فِيهَا الرَّاوِي وَفِي نفس الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة مَعَ الْقُرْآن مَا يبين غلطها
مثل مَا رُوِيَ إِن الله خلق التربة يَوْم السبت وَجعل خلق الْمَخْلُوقَات فِي الْأَيَّام السَّبْعَة فَإِن هَذَا الحَدِيث قد بَين أَئِمَّة الحَدِيث كيحيى بن معِين وَعبد الرَّحْمَن بن مهْدي وَالْبُخَارِيّ وَغَيرهم وَأَنه لَيْسَ من كَلَام النَّبِي صلى الله عليه وسلم بل صرح البُخَارِيّ فِي تَارِيخه الْكَبِير أَنه من كَلَام كَعْب الْأَحْبَار كَمَا قد بسط فِي مَوْضِعه وَالْقُرْآن يدل على غلط هَذَا وَبَين أَن الْخلق فِي سِتَّة أَيَّام وَثَبت فِي الصَّحِيح أَن آخر الْخلق كَانَ يَوْم الْجُمُعَة فَيكون أول الْخلق يَوْم الْحَد
وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنه صلى الله عليه وسلم صلى الْكُسُوف بكوعين أَو ثَلَاثَة فَإِن الثَّابِت الْمُتَوَاتر عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا عَن عَائِشَة وَابْن عَبَّاس وَعبد الله بن عَمْرو وَغَيرهم حَدِيث الثَّلَاثَة والأربع فَإِن النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا صلى الْكُسُوف مرّة وَاحِدَة وَفِي حَدِيث الثَّلَاث والأربع انه صلاهَا يَوْم مَاتَ إِبْرَاهِيم ابْنه وَأَحَادِيث الركوعين كَانَت ذَلِك الْيَوْم
فَمثل هَذَا الْغَلَط إِذا وَقع كَانَ فِي نفس الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة مَا يبين أَنه غلط وَالْبُخَارِيّ إِذا روى الحَدِيث بطرق فِي بَعْضهَا غلط فِي بعض الْأَلْفَاظ ذكر مَعهَا الطّرق الَّتِي تبين ذَلِك الْغَلَط كَمَا قد بسطنا عَلَيْهِ فِي مَوْضِعه اهـ
تَنْبِيه مَا ذهب إِلَيْهِ هَذَا الْمُحَقق من أَن مَا وَقع فِي بعض طرق البُخَارِيّ فِي حَدِيث تحاج الْجنَّة وَالنَّار من أَن النَّار لَا تمتلئ حَتَّى حَتَّى ينشئ الله لَهَا خلقا آخر مِمَّا وَقع فِيهِ الْغَلَط قد مَال إِلَيْهِ كثير من الْمُحَقِّقين كالبلقيني وَغَيره
وَمن الْغَرِيب فِي ذَلِك محاولة بعض الأغمار مِمَّن لَيْسَ لَهُ إِلْمَام بِهَذَا الْفَنّ لَا من جِهَة الرِّوَايَة وَلَا من جِهَة الدِّرَايَة لنسبة الْغَلَط إِلَيْهِ كَأَنَّهُ ظن أَن النَّقْد قد سد بَابه على كل أحد أَو ظن أَن النَّقْد من جِهَة الْمَتْن لَا يسوغ لِأَنَّهُ يخْشَى أَن يدْخل مِنْهُ أَرْبَاب الْأَهْوَاء
وَلم يدر أَن النَّقْد إِذا أجري على الْمنْهَج الْمَعْرُوف لم يستنكر وَقد وَقع ذَلِك لكثير من أَئِمَّة الحَدِيث مثل الْإِسْمَاعِيلِيّ فَإِنَّهُ بعد أَن ورد حَدِيث يلقى إِبْرَاهِيم أَبَاهُ آزر يَوْم الْقِيَامَة وعَلى وَجه آزر قترة الحَدِيث قَالَ وَهَذَا خبر فِي صِحَّته نظر من جِهَة أَن إِبْرَاهِيم عَالم بِأَن الله لَا يخلف الميعاد فَكيف يَجْعَل مَا بِأَبِيهِ خزيا لَهُ مَعَ إخْبَاره بِأَن الله قد وعده ان لَا يجْزِيه يَوْم يبعثون وَعلمه بِأَن لَا خلف لوعده فَانْظُر كَيفَ أعل الْمَتْن بِمَا ذكر
فَإِن قلت إِن كثيرا مِمَّا انتقدوه من هَذَا النَّوْع يُمكن تَأْوِيله بِوَجْه يدْفع النَّقْد قلت إِذا أمكن التَّأْوِيل على وَجه يعقل فَلَا كَلَام فِي ذَلِك وَإِن كَانَ على وَجه لَا يعقل لم يلْتَفت إِلَيْهِ وَلَو فتح هَذَا الْبَاب أمكن حمل كل عبارَة على خلاف مَا تدل عَلَيْهِ وَلذَا قَالَ بعض عُلَمَاء الْأُصُول إِن فِي الْأَحَادِيث مَا لَا تجوز نسبته إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَغير ظَاهرهَا بعيد عَن فَصَاحَته صلى الله عليه وسلم
قَالَ الْحَافِظ زين الدّين الْعِرَاقِيّ وروينا عَن مُحَمَّد بن طَاهِر الْمَقْدِسِي وَمن خطه نقلت قَالَ سَمِعت أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن أبي نصر الْحميدِي بِبَغْدَاد يَقُول قَالَ لنا أَبُو مُحَمَّد بن حزم مَا وجدنَا للْبُخَارِيّ وَمُسلم فِي كِتَابَيْهِمَا شَيْئا لَا يحْتَمل مخرجا إِلَّا حديثين لكل وَاحِد مِنْهُمَا حَدِيث تمّ عَلَيْهِ فِي تَخْرِيجه الْوَهم مَعَ إتقانهما وحفظهما وَصِحَّة معرفتهما
فَذكر من عِنْد البُخَارِيّ حَدِيث شريك فِي الْإِسْرَاء وَأَنه قبل أَن يُوحى إِلَيْهِ وَفِيه شقّ صَدره قَالَ ابْن حزم والآفة من شريك
وَذكر الحَدِيث الثَّانِي عِنْد مُسلم حَدِيث عِكْرِمَة بن عمار عَن أبي زميل عَن ابْن عَبَّاس قَالَ كَانَ الْمُسلمُونَ لَا ينظرُونَ إِلَى أبي سُفْيَان وَلَا يُقَاعِدُونَهُ فَقَالَ للنَّبِي صلى الله عليه وسلم يَا نَبِي الله ثَلَاث أعطنيهن قَالَ نعم الحَدِيث قَالَ ابْن حزم هَذَا حَدِيث مَوْضُوع لَا شكّ فِي وَضعه والآفة فِيهِ من عِكْرِمَة بن عمار