الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول
فِي الحَدِيث الصَّحِيح
الحَدِيث الصَّحِيح هُوَ الحَدِيث الَّذِي يكون مُتَّصِل الْإِسْنَاد من أَوله إِلَى منتهاه بِنَقْل الْعدْل الضَّابِط عَن مثله وَلَا يكون فِيهِ شذوذ وَلَا عِلّة
فَخرج بقَوْلهمْ الَّذِي يكون مُتَّصِل الْإِسْنَاد مَا لم يتَّصل إِسْنَاده وَهُوَ الْمُنْقَطع والمرسل والمعضل وبقولهم بِنَقْل الْعدْل مَا فِي سَنَده من لم تعرف عَدَالَته وَهُوَ من عرف بِعَدَمِ الْعَدَالَة أَو من جهلت حَاله أَو لم يعرف من هُوَ وبالضابط غير الضَّابِط وَهُوَ كثير الْخَطَأ فَإِن مَا يرويهِ لَا يدْخل فِي حد الصَّحِيح وَإِن عرف هُوَ بِالصّدقِ وَالْعَدَالَة وبقولهم وَلَا يكون فِيهِ شذوذ مَا يكون فِيهِ شذوذ والشذوذ مُخَالفَة الثِّقَة فِي رِوَايَته من هُوَ أرجح مِنْهُ عِنْد تعسر الْجمع بَين الرِّوَايَتَيْنِ وبقولهم وَلَا عِلّة مَا يكون فِيهِ عِلّة
وَالْمرَاد بِالْعِلَّةِ هُنَا أَمر يقْدَح فِي صِحَة الحَدِيث وَلما كَانَ من الْعِلَل مَا لَا يقْدَح فِي ذَلِك قيد بَعضهم الْعلَّة بالقادحة فَقَالَ وَلَا عِلّة قادحة وَمن أطلق الْعبارَة اكْتفى بِدلَالَة الْحَال على ذَلِك وَلكُل وجهة وَقد زَاد بَعضهم فِي تَقْيِيد العل فَقَالَ وَلَا عِلّة خُفْيَة قادحة وَالْأولَى ترك هَذِه الزِّيَادَة لِأَنَّهَا توهم أَن الْعلَّة الظَّاهِرَة لَا تُؤثر مَعَ أَنَّهَا أولى بالتأثير من الْعلَّة الْخفية وَالْعلَّة الظَّاهِرَة مثل ضعف الرَّاوِي أَو عدم اتِّصَال السَّنَد
وَقد اعتذر بَعضهم عَن ذَلِك فَقَالَ إِنَّمَا قيد الْعلَّة بالخفية لِأَن الظَّاهِرَة قد وَقع الِاحْتِرَاز عَنْهَا فِي أول التَّعْرِيف وَهُوَ مِمَّا لَا يجدي نفعا
وَاخْتصرَ بَعضهم هَذَا التَّعْرِيف فَقَالَ الحَدِيث الصَّحِيح مَا اتَّصل سَنَده
بِنَقْل عدل ضَابِط عَن مثله وَسلم من شذوذ وَعلة فأورد عَلَيْهِ بِأَن الِاخْتِصَار يَقْتَضِي أَن يُقَال بِنَقْل ثِقَة عَن مثله فَإِن الثِّقَة هُوَ الْجَامِع بَين وصف الْعَدَالَة والضبط وَأجِيب عَن ذَلِك بِأَن الثِّقَة قد يُطلق على من كَانَ مَقْبُولًا وَإِن لم يكن تَامّ الضَّبْط وَالْمُعْتَبر فِي حد الصَّحِيح إِنَّمَا هُوَ تَامّ الضَّبْط وَلذَا فسروا الضَّابِط فِي تَعْرِيفه بتام الضَّبْط
وَمَا ذكر هُوَ حد الحَدِيث الَّذِي يحكم لَهُ بِالصِّحَّةِ أهل الحَدِيث بِلَا خلاف بَينهم وَأما اخْتلَافهمْ فِي صِحَة بعض الْأَحَادِيث فَهُوَ إِمَّا لاختلافهم فِي وجود هَذِه الْأَوْصَاف فِيهِ وَإِمَّا لاختلافهم فِي اشْتِرَاط هَذِه الوصاف كَمَا فِي الْمُرْسل
وَإِنَّمَا قيد نفي الْخلاف بِأَهْل الحَدِيث لِأَنَّهُ قد نقل عَن أنَاس من غَيرهم أَنهم لم يكتفوا بِمَا ذكر فِي صِحَة الحَدِيث 3 فقد نقل عَن إِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل بن علية أَنه جعل الرِّوَايَة مثل الشَّهَادَة فَلم يقبل مَا ينْفَرد بِهِ الرَّاوِي الْعدْل الضَّابِط وَشرط فِي قبُول الحَدِيث أَن يرويهِ اثْنَان عَن اثْنَيْنِ وَهُوَ من الْفُقَهَاء الْمُحدثين إِلَّا أَنه غير مَقْبُول القَوْل عِنْد الْأَئِمَّة لميله إِلَى الاعتزال وَقد كَانَ الشَّافِعِي يرد عَلَيْهِ ويحذر مِنْهُ
وَنقل عَن أبي عَليّ الجبائي من الْمُعْتَزلَة انه قَالَ لَا يقبل الْخَبَر إِذا رَوَاهُ الْعدْل إِلَى إِذا انْضَمَّ إِلَيْهِ خبر عدل آخر أَو عضده مُوَافقَة ظَاهر الْكتاب اَوْ ظَاهر خبر آخر أَو يكون منتشرا بَين الصَّحَابَة أَو عمل بِهِ بَعضهم كى ذَلِك أَبُو الْحُسَيْن البوصيري فِي الْمُعْتَمد
قَالَ الْغَزالِيّ إِن رِوَايَة الْوَاحِد تقبل وَإِن لم تقبل شَهَادَته خلافًا للجبائي وَجَمَاعَة حَيْثُ شرطُوا الْعدَد وَلم يقبلُوا إِلَّا قَول رجلَيْنِ ثمَّ لَا تثبت رِوَايَة كل وَاحِد
إِلَّا من رجلَيْنِ آخَرين وَإِلَى مَا يَنْتَهِي إِلَى زَمَاننَا يكثر كَثْرَة عَظِيمَة لَا يقدر مَعهَا على إِثْبَات حَدِيث أصلا
وَقَالَ الْفَخر الرَّازِيّ رِوَايَة الْعدْل الْوَاحِد مَقْبُولَة خلافًا للجبائي فَإِنَّهُ قَالَ رِوَايَة العدلين مَقْبُولَة وَأما خبر الْعدْل الْوَاحِد فَلَا يكون مَقْبُولًا إِلَّا إِذا عضده ظَاهر أَو عمل بعض أَصْحَابه أَو اجْتِهَاد أَو يكون منتشرا فيهم
وَقد نقل عَن بعض أَصْحَاب الحَدِيث أَيْضا أَنهم اشترطوا التَّعَدُّد فِي الرَّاوِي وَكَأن النَّاقِل أَخذ ذَلِك من كَلَام الْحَاكِم
فقد قَالَ فِي كتاب عُلُوم الحَدِيث وصف الحَدِيث الصَّحِيح أَن يرويهِ الصَّحَابِيّ الْمَشْهُور بالرواية عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَله راويان ثقتان ثمَّ يرويهِ من أَتبَاع التَّابِعين الْحَافِظ المتقن الْمَشْهُور بالرواية وَله رُوَاة ثِقَات وَقَالَ فِي كتاب الْمدْخل إِلَى كتاب الإكليل الصَّحِيح من الحَدِيث عشرَة أَقسَام خَمْسَة مُتَّفق عَلَيْهَا وَخَمْسَة مُخْتَلف عَلَيْهَا
فَالْأول من الْمُتَّفق عَلَيْهِ اخْتِيَار البُخَارِيّ وَمُسلم وَهُوَ الدرجَة الأولى من الصَّحِيح وَهُوَ أَن لَا يذكر إِلَّا مَا رَوَاهُ صَحَابِيّ مَشْهُور عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَهُ راويان ثقتان فَأكْثر يم يرويهِ عَنهُ تَابِعِيّ مَشْهُور بالرواية عَن الصَّحَابَة لَهُ أَيْضا راويان ثقتان فَأكْثر ثمَّ يرويهِ عَنهُ من اتِّبَاع الأتباع الْحَافِظ المتقن الْمَشْهُور على ذَلِك الشَّرْط ثمَّ كَذَلِك قَالَ الْحَاكِم وَالْأَحَادِيث المروية بِهَذِهِ الشريطة لَا يبلغ عَددهَا عشرَة آلَاف حَدِيث
الْقسم الثَّانِي مثل الأول إِلَّا أَن رُوَاته من الصَّحَابَة لَيْسَ لَهُ إِلَّا راو وَاحِد
الْقسم الثَّالِث مثل الأول إِلَّا أَن رُوَاته من التَّابِعين لَيْسَ لَهُ إِلَّا راو وَاحِد
الْقسم الرَّابِع الْأَحَادِيث الْأَفْرَاد الغرائب الَّتِي رَوَاهَا الثِّقَات الْعُدُول
الْقسم الْخَامِس أَحَادِيث جمَاعَة من الْأَئِمَّة عَن آبَائِهِم عَن أجدادهم وَلم تتواتر الرِّوَايَة عَن آبَائِهِم عَن أجدادهم بهَا إِلَّا عَنْهُم كصحيفة عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده وبهز بن حَكِيم عَن أَبِيه عَن جده وَإيَاس بن مُعَاوِيَة عَن أَبِيه عَن جده وأجدادهم صحابة وأحفادهم ثِقَات
قَالَ الْحَاكِم فَهَذِهِ الْأَقْسَام الْخَمْسَة مخرجة فِي كتب الْأَئِمَّة فيحتج بهَا وَإِن لم يخرج مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيث يَعْنِي غير الْقسم الول قَالَ والخمسة الْمُخْتَلف فِيهَا الْمُرْسل وَأَحَادِيث المدلسين إِذْ لم يذكرُوا سماعهم وَمَا أسْندهُ ثِقَة وأرسله جمَاعَة من الثِّقَات وَرِوَايَات الثِّقَات غير الْحفاظ العارفين وَرِوَايَات المبتدعة إِذا كَانُوا صَادِقين انْتهى كَلَام الْحَاكِم
فقد جعل مَا ذكره فِي عُلُوم الحَدِيث شرطا للصحيح مُطلقًا وَجعل ذَلِك فِي الْمدْخل شرطا للصحيح عِنْد الشَّيْخَيْنِ
وَقد نقض عَلَيْهِ الْحَازِمِي مَا ادّعى من أَنه شَرط الشَّيْخَيْنِ بِمَا فِي الصَّحِيح من الغرائب الَّتِي تفرد بهَا بعض الروَاة وَأجِيب بِأَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ أَن كل راو فِي الْكِتَابَيْنِ يشْتَرط أَن يكون لَهُ راويان لَا أَنه يشْتَرط أَن يتَّفقَا فِي رِوَايَة ذَلِك الحَدِيث بِعَيْنِه
وَقَالَ أَبُو عَليّ الغساني وَنَقله عَنهُ القَاضِي عِيَاض لَيْسَ المُرَاد أَن يكون كل خبر روياه يجْتَمع فِيهِ راويان عَن صحابيه ثمَّ عَن تابعيه فَمن بعده فغن ذَلِك يعز وجوده وَإِنَّمَا المُرَاد أَن هَذَا الصَّحَابِيّ وَهَذَا التَّابِعِيّ قد روى عَنهُ رجلَانِ خرج بهما عَن حد الْجَهَالَة
قَالَ أَبُو عبد الله بن الْمواق مت حمل الغساني عَلَيْهِ كَلَام الْحَاكِم وَتَبعهُ عَلَيْهِ عِيَاض وَغَيره لَيْسَ بالبين وَلَا أعلم أحدا روى عَنْهُمَا انهما صرحا بذلك وَلَا وجود لَهُ فِي كِتَابَيْهِمَا وَلَا خَارِجا عَنْهُمَا
فَإِن كَانَ قَائِل ذَلِك عرفه من مَذْهَبهمَا بالتصفح لتصرفهما فِي كِتَابَيْهِمَا فَلم يصب لِأَن الْأَمريْنِ مَعًا فِي كِتَابَيْهِمَا وَإِن كَانَ أَخذه من كَون ذَلِك أكثريا فِي كِتَابَيْهِمَا فَلَا دَلِيل فِيهِ على كَونهمَا اشترطاه وَلَعَلَّ وجود ذَلِك أكثريا إِنَّمَا هُوَ لن من روى عَنهُ أَكثر من وَاحِد أَكثر مِمَّن لم يرو عَنهُ إِلَّا وَاحِد فِي الروَاة مُطلقًا لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى من خرج لَهُم فِي الصَّحِيحَيْنِ
وَلَيْسَ من الْإِنْصَاف إلزامهما هَذَا الشَّرْط من غير أَن يثبت عَنْهُمَا ذَلِك مَعَ وجود إخلالهما بِهِ أَنَّهُمَا إِذا صَحَّ عَنْهُمَا اشْتِرَاط ذَلِك كَانَ فِي إخلالهما بِهِ دَرك عَلَيْهِمَا
وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر ابْن الْعَرَبِيّ فِي شرح الْمُوَطَّأ كَانَ مَذْهَب الشَّيْخَيْنِ أَن الحَدِيث لَا يثبت حَتَّى يرويهِ اثْنَان وَهُوَ مَذْهَب بَاطِل بل رِوَايَة الْوَاحِد عَن الْوَاحِد صَحِيحه إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَقَالَ فِي شرح البُخَارِيّ عِنْد حَدِيث إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ انْفَرد بِهِ عمر وَقد جَاءَ من طَرِيق أبي سعيد رَوَاهُ الْبَزَّار بِإِسْنَاد ضَعِيف
قَالَ وَحَدِيث عمر وَإِن كَانَت طَريقَة وَاحِدَة فَإِنَّمَا بنى البُخَارِيّ كِتَابه على حَدِيث يرويهِ أَكثر من وَاحِد فَهَذَا الحَدِيث لَيْسَ من ذَلِك الْفَنّ لِأَن عمر قَالَه على الْمِنْبَر بِمحضر الْأَعْيَان من الصَّحَابَة فَصَارَ كالمجمع عَلَيْهِ فَكَأَن عمر ذكرهم لَا أخْبرهُم
ال ابْن رشيد الْعجب مِنْهُ كَيفَ يَدعِي عَلَيْهِمَا ذَلِك ثمَّ يزْعم انه مَذْهَب بَاطِل فليت شعري من اعلمه بِأَنَّهُمَا اشْترطَا ذَلِك إِن كَانَ مَنْقُولًا فليبين طَريقَة لنَنْظُر فِيهَا وغن كَانَ عرفه بالاستقراء فقد وهم فِي ذَلِك وَلَقَد كَانَ يَكْفِيهِ فِي فِي ذَلِك أول حَدِيث فِي البُخَارِيّ
وَمَا اعتذر بِهِ عَنهُ فِيهِ تَقْصِير لِأَن عمر لم ينْفَرد بِهِ وَحده بل انْفَرد بِهِ عَلْقَمَة عَنهُ وَانْفَرَدَ بِهِ مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة وَانْفَرَدَ بِهِ يحيى بن سعيد بن مُحَمَّد وَعَن يحيى تعدّدت رُوَاته وَأَيْضًا فكون عمر قَالَه على الْمِنْبَر لَا يسْتَلْزم أَن يكون كرّ السامعين بِمَا عِنْدهم بل هُوَ مُحْتَمل للأمرين وَإِنَّمَا لم ينكروه أَنه عِنْدهم ثِقَة فَلَو حَدثهمْ بِمَا لم يسمعوه قطّ لم ينكروا عَلَيْهِ
وَقد ادّعى الْحَافِظ ابْن حبَان أَن رُوَاته اثْنَيْنِ عَن اثْنَيْنِ إِلَى ان يَنْتَهِي السَّنَد لَا تُوجد أصلا قَالَ بعض الْمُحَقِّقين إِن أَرَادَ أَو رِوَايَة اثْنَيْنِ فَقَط عَن اثْنَيْنِ فَقَط لَا تُوجد أصلا فَيمكن أَن يسلم وَأما صُورَة الْعَزِيز فموجودة والعزيز عِنْدهم هُوَ الَّذِي يكون فِي طبقَة من طبقاته اثْنَان من الروَاة فَقَط وَتَكون الروَاة فِي سَائِر طبقاته لَيست أقل من اثْنَيْنِ فَيشْمَل مَا كَانَ فِي سَائِر طبقاته اثْنَان أَو أَكثر
وَالَّذِي أنكرهُ ابْن حبَان هُوَ رِوَايَة اثْنَيْنِ عَن اثْنَيْنِ إِلَى أَن يَنْتَهِي السَّنَد فإنكاره ذَلِك لَا يسْتَلْزم إِنْكَار الحَدِيث الْعَزِيز الَّذِي قَرَّرَهُ المحدثون وَإِنَّمَا أنكر نوعا مِنْهُ وَعبارَته لَا تحْتَمل غير ذَلِك
وَهَا هُنَا أَمر يَنْبَغِي الانتباه لَهُ وَهُوَ أَن ظَاهر عبارَة ابْن الْعَرَبِيّ تشعر بِأَن الشَّيْخَيْنِ يشترطان التَّعَدُّد حَتَّى فِي الصَّحَابَة وَظَاهر عبارَة الْحَاكِم تشعر بِخِلَاف ذَلِك
وَالْمَشْهُور عِنْد الْمُحدثين أَنهم لم يشترطوا فِي الْمَشْهُور فضلا على الْعَزِيز التَّعَدُّد فِي الصَّحَابَة نعم قد اشْترط ذَلِك أَبُو عَليّ الجبائي وَمن نحا نَحوه وَقد توهم بَعضهم أَن الْحَاكِم قد نحا فِي كِتَابه عُلُوم الحَدِيث منحى أبي عَليّ
على أَن كثيرا من الْعلمَاء قَالَ إِن عِبَارَته الْمَذْكُورَة لَا تدل على أَن الحَدِيث الْمَرْوِيّ يجب أَن يجْتَمع فِي راويان عَن الصَّحَابِيّ الَّذِي رَوَاهُ ثمَّ عَن تابعيه فمنة بعده وَإِنَّمَا تدل على ان كلا من الصَّحَابِيّ والتابعي وَمن بعده قد روى عَنهُ رجلَانِ
خرج بهما عَن حد الْجَهَالَة ليعلم أَن الحَدِيث قد رَوَاهُ الْمَشْهُورين بالرواية
وَأغْرب مِمَّا قَالَه ابْن الْعَرَبِيّ وَإِن كَانَ لَا يستغرب مِنْهُ ذَلِك لجريه على عَادَته فِي عدم التثبت وإقدامه على مَا لَا قدم لَهُ فِيهِ وتهويله على مخالفيه قَول أبي حَفْص عمر الميانجي فِي كتاب مَا لَا يسع الْمُحدث جهلة شَرط الشَّيْخَيْنِ فِي صَحِيحهمَا أَن لَا يدخلا فِيهِ إِلَّا مَا صَحَّ عِنْدهمَا وَذَلِكَ مَا رَوَاهُ عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم اثْنَان فَصَاعِدا وَمَا نَقله عَن كل وَاحِد من الصَّحَابَة أَرْبَعَة من التَّابِعين فَأكْثر وان يكون عَن كل وَاحِد من التَّابِعين أَكثر من أَرْبَعَة
هَذَا وَقد اعْترض بعض الْمُحَقِّقين من أهل الْأَثر على مَا ذكره الْحَاكِم فِي الْمدْخل من أَن الشَّيْخَيْنِ إِنَّمَا خرجا من الْأَقْسَام الْخَمْسَة الْمُتَّفق عَلَيْهَا عِنْد أَئِمَّة الحَدِيث الْقسم الأول الَّذِي هُوَ الدرجَة الأولى من الصَّحِيح وَأما الْأَقْسَام الْأَرْبَعَة الْبَاقِيَة فَإِنَّهُمَا لم يخرجَا مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيثا فَإِن الْبَحْث والتتبع أدياه إِلَى أَن فيهمَا شَيْئا من كل وَاحِد مِنْهَا
أما الْقسم الثَّانِي وَهُوَ مَا لَيْسَ لراويه من الصَّحَابَة غير راو وَاحِد مثل حَدِيث عُرْوَة بن مُضرس الَّذِي لَيْسَ لَهُ غير الشّعبِيّ ففيهما مِنْهُ جملَة من الْأَحَادِيث
وَأما الْقسم الثَّالِث وَهُوَ مَا لَيْسَ لراويه من التَّابِعين إِلَّا راو وَاحِد مثل مُحَمَّد بن جُبَير وَعبد الرَّحْمَن بن فروخ ففيهما قَلِيل من ذَلِك كَعبد الله بن وَدِيعَة وَعمر بن مُحَمَّد بن جُبَير بن مطعم
وَأما الْقسم الرَّابِع وَهُوَ الْأَحَادِيث الْأَفْرَاد الغرائب الَّتِي ينْفَرد بهَا ثِقَة من الثِّقَات ففيهما كثير مِنْهُ لَعَلَّه يزِيد على مئتي حَدِيث وَقد أفردها الْحَافِظ ضِيَاء الدّين الْمَقْدِسِي وَهِي الْمَعْرُوفَة بِغَرَائِب الصَّحِيح
وَأما الْقسم الْخَامِس وَهُوَ أَحَادِيث جمَاعَة من الْأَئِمَّة عَن آبَائِهِم عَن أجدادهم وَلم تتواتر الرِّوَايَة عَن آبَائِهِم عَن أجدادهم بهَا إِلَّا عَنْهُم كعمرو بن
شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده وبهز بن حَكِيم عَن أَبِيه عَن جده وَإيَاس بن مُعَاوِيَة بن مرّة عَن أَبِيه عَن جده وأجدادهم صحابة وأحفادهم ثِقَات فَلَيْسَ الْمَانِع من إخراجهما هَذَا الْقسم فِي صَحِيحهمَا كَون الرِّوَايَة وَقعت عَن الْأَب عَن الْجد بل لكَون الرَّاوِي أَو أَبِيه لَيْسَ على شَرطهمَا وَإِلَّا ففيهما أَو فِي أَحدهمَا من ذَلِك رِوَايَة عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ عَن أَبِيه عَن جده وَرِوَايَة مُحَمَّد بن زيد بن عبد الله بن عمر عَن أَبِيه عَن جده وَرِوَايَة أبي بن عَبَّاس بن سهل عَن أَبِيه عَن جده وَرِوَايَة الْحسن وَعبد الله ابْني مُحَمَّد بن عَليّ بن أبي طَالب عَن أَبِيهِمَا عَن جدهما وَغير ذَلِك
وَأما الْخَمْسَة الْمُخْتَلف فِيهَا فيظن فِي بادئ الرَّأْي أَنه لَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْهَا شَيْء وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك
أما الْقسم الأول مِنْهَا وَهُوَ مُرْسل وَالْقسم الثَّانِي وَهُوَ أَحَادِيث المدلسين إِذا لم يذكرُوا سماعهم فَلَيْسَ فيهمَا من ذَلِك شَيْء
وَأما الْقسم الثَّالِث وَهُوَ مَا أسْندهُ ثِقَة وأرسله جمَاعَة من الثِّقَات فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عدَّة أَحَادِيث اخْتلف فِي وَصلهَا وإرسالها
وَأما الْقسم الرَّابِع وَهُوَ رِوَايَات الثِّقَات غير الْحفاظ العارفين فَهُوَ مُتَّفق على قبُوله والاحتجاج بِهِ إِذا وجدت شَرَائِط الْقبُول وَلَيْسَ هُوَ من قبيل الْمُخْتَلف فِيهِ وَلَا يبلغ الْحفاظ العارفون نصف رُوَاة الصَّحِيحَيْنِ وَلَيْسَ يشْتَرط فِي الرَّاوِي أَن يكون حَافِظًا
وَأما الْقسم الْخَامِس وَهُوَ رِوَايَات المبتدعة إِذا كَانُوا صَادِقين فَهُوَ كَمَا ذكر من الِاخْتِلَاف فِيهِ وَقد وَقعت فيهمَا أَحَادِيث عَن جمَاعَة من المبتدعة عرف صدقهم واشتهرت معرفتهم بِالْحَدِيثِ فَلم يطرحوه للبدعة
وَمن الْأَقْسَام الْمُخْتَلف فِيهَا رِوَايَة الْمَجْهُول فقد قبلهَا قوم وردهَا آخَرُونَ
وَقد بَقِي للصحيح شُرُوط قد اخْتلف فِيهَا
فَمِنْهَا مَا ذكره الْحَاكِم فِي عُلُوم الحَدِيث من كَون الرَّاوِي مَشْهُورا بِالطَّلَبِ
وَلَيْسَ مُرَاده الشُّهْرَة المخرجة عَن الْجَهَالَة بل قدر زَائِد على ذَلِك قَالَ عبد الرَّحْمَن بن عون لَا يُؤْخَذ الْعلم إِلَّا عَمَّن شهد لَهُ بِالطَّلَبِ وَعَن مَالك نَحوه وَفِي مُقَدّمَة صَحِيح مُسلم عَن أبي الزِّنَاد قَالَ أدْركْت بِالْمَدِينَةِ مئة كلهم مَأْمُون مَا يُؤْخَذ عَنْهُم الحَدِيث يُقَال لَيْسَ من أَهله
قَالَ الْحَافِظ ابْن حجر وَالظَّاهِر من تصرف صَاحِبي الصَّحِيح اعْتِبَار ذَلِك إِلَّا إِذا كثرت مخارج الحَدِيث فيستغنيان عَن اعْتِبَار ذَلِك كَمَا يسْتَغْنى بِكَثْرَة الطّرق عَن اعْتِبَار الضَّبْط التَّام قَالَ وَيُمكن أَن يُقَال إِن اشْتِرَاط الضَّبْط يُغني عَن ذَلِك إِذْ الْمَقْصُود بالشهرة بِالطَّلَبِ أَن يكون لَهُ مزِيد اعتناء بالرواية لتركن النَّفس إِلَى كَونه ضبط مَا روى
وَمِنْهَا ثُبُوت التلاقي بَين كل راو وَمن روى عَنهُ وَعدم الِاكْتِفَاء بالمعاصرة وَإِمْكَان التلاقي بَينهمَا وَقد اشْترط ذَلِك البُخَارِيّ قيل إِنَّه لم يذهب أحد إِلَى أَن هَذَا شَرط لكَون الحَدِيث صَحِيحا بل لكَونه أصح وَقد أنكر هَذَا الشَّرْط مُسلم فِي صَحِيحه وشنع على قَائِله
قَالَ الْعَلامَة محيي الدّين يحيى النَّوَوِيّ فِي شَرحه إِن مُسلما ادّعى إِجْمَاع الْعلمَاء قَدِيما وحديثا على ان المعنعن وَهُوَ الَّذِي فِيهِ فلَان مَحْمُول على الِاتِّصَال وَالسَّمَاع إِذا أمكن لِقَاء من أضيفت العنعنة إِلَيْهِم بَعضهم بَعْضًا يَعْنِي مَعَ براءتهم مَعَ التَّدْلِيس
وَنقل مُسلم عَن بعض أهل عصره انه قَالَ لَا تقوم الْحجَّة بهَا وَلَا تحمل على الِاتِّصَال حَتَّى يثبت انهما التقيا فِي عمرهما مرّة فَأكْثر وَلَا يَكْفِي إِمْكَان تلاقيهما قَالَ مُسلم وَهَذَا قَول سَاقِط مخترع مستحدث لم يسْبق قَائِله إِلَيْهِ وَلَا مساعد لَهُ من أهل الْعلم عَلَيْهِ وَإِن القَوْل بِهِ بِدعَة بَاطِلَة وَأَطْنَبَ فِي التشنيع على قَائِله
وَاحْتج مُسلم رحمه الله بِكَلَام مختصرة أَن المعنعن عِنْد أهل الْعلم مَحْمُول على الِاتِّصَال إِذا ثَبت التلاقي مَعَ احْتِمَال الْإِرْسَال وَكَذَا إِذا أمكن التلاقي
وَهَذَا الَّذِي صَار إِلَيْهِ مُسلم قد أنكرهُ الْمُحَقِّقُونَ هَذَا الَّذِي صَار إِلَيْهِ ضَعِيف وَالَّذِي رده هُوَ الْمُخْتَار الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّة هَذَا الْفَنّ عَليّ بن الْمَدِينِيّ وَالْبُخَارِيّ وَغَيرهمَا
وَقد زَاد جمَاعَة من الْمُتَأَخِّرين على هَذَا فَاشْترط الْقَابِسِيّ أَن يكون قد أدْركهُ إدراكا وَزَاد أَبُو المظفر السَّمْعَانِيّ الْفَقِيه الشَّافِعِي فَاشْترط طول الصُّحْبَة بَينهمَا وَزَاد أَبُو عَمْرو الداني الْمُقْرِئ فَاشْترط مَعْرفَته بالرواية عَنهُ
وَدَلِيل هَذَا الْمَذْهَب الْمُخْتَار الَّذِي ذهب إِلَيْهِ ابْن الْمَدِينِيّ وَالْبُخَارِيّ وموافقوهما أَن المعنعن عِنْد ثُبُوت التلاقي إِنَّمَا حمل على الِاتِّصَال لِأَن الظَّاهِر مِمَّن لَيْسَ بمدلس أَنه لَا يُطلق ذَلِك إِلَّا على السماع ثمَّ الاستقراء يدل عَلَيْهِ فَإِن عَادَتهم انهم لَا يطلقون ذَلِك إِلَّا فِيمَا سَمِعُوهُ إِلَّا المدلس وَلِهَذَا رددنا رِوَايَة المدلس فَإِذا ثَبت التلاقي غلب على الظَّن الِاتِّصَال وَالْبَاب مَبْنِيّ على غَلَبَة الظَّن فاكتفينا بِهِ
وَلَيْسَ هَذَا الْمَعْنى مَوْجُودا فِيمَا إِذا أمكن التلاقي وَلم يثبت فَإِنَّهُ لَا يغلب على الظَّن الِاتِّصَال فَلَا يجوز الْحمل على الِاتِّصَال وَيصير كالمجهول فَإِن رِوَايَته مَرْدُودَة لَا للْقطع بكذبه أَو ضعفه بل للشَّكّ فِي حَاله وَالله اعْلَم
هَذَا حكم المعنعن من غير المدلس وَأما المدلس فَتقدم بَيَان حكمه فِي الْفُصُول السَّابِقَة وَهَذَا كُله تَفْرِيع على الْمَذْهَب الصَّحِيح الْمُخْتَار الَّذِي ذهب إِلَيْهِ السّلف وَالْخلف من أَصْحَاب الحَدِيث وَالْفِقْه وَالْأُصُول أَن المعنعن مَحْمُول على الِاتِّصَال بِشَرْطِهِ الَّذِي قدمْنَاهُ على الِاخْتِلَاف فِيهِ
وَذهب بعض أهل الْعلم إِلَى أَنه لَا يحْتَج بالمعنعن مُطلقًا لاحْتِمَال الِانْقِطَاع وَهَذَا الْمَذْهَب مَرْدُود بِإِجْمَاع السّلف ودليلهم مَا أَشَرنَا إِلَيْهِ من حُصُول غَلَبَة الظَّن مَعَ الاستقراء وَالله اعْلَم
هَذَا حكم المعنعن أما إِذا قَالَ حَدثنِي فلَان أَن فلَانا قَالَ كَقَوْلِه حَدثنِي الزُّهْرِيّ أَن سعيد بن الْمسيب قَالَ كَذَا أَو حدث بِكَذَا أَو نَحوه فالجمهور على أَن كعن فَيحمل على الِاتِّصَال بِالشّرطِ الْمُتَقَدّم وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل وَيَعْقُوب بن شيبَة وَأَبُو بكر البرديجي لَا تحمل أَن على الِاتِّصَال وَإِن كَانَت عَن للاتصال وَالصَّحِيح الول وَكَذَا قَالَ وَحدث وَذكر وَشبههَا فكله مَحْمُول على الِاتِّصَال وَالسَّمَاع اهـ
وَمِنْهَا مَا ذكره السَّمْعَانِيّ فِي القواطع وَهُوَ أَن الصَّحِيح لَا يعرف بِرِوَايَة الثِّقَات فَقَط وَغنما يعرف بالفهم والمعرفة وَكثر السماع والمذاكرة قَالَ بَعضهم إِن هَذَا دَاخل فِي اشْتِرَاط كَونه غير مَعْلُول لِأَن الِاطِّلَاع على ذَلِك إِنَّمَا يحصل بِمَا ذكر من الْفَهم والمعرفة وغرهما
وَاعْلَم أَن هَذِه الْمَسْأَلَة هِيَ من أهم مسَائِل هَذَا الْفَنّ الْجَلِيل الشَّأْن والناظرون فِي هَذَا الْموضع قد انقسموا إِلَى ثَلَاث فرق
الْفرْقَة الأولى فرقة جعلت جلّ همها النّظر فِي الْإِسْنَاد فَإِذا وجدته مُتَّصِلا لَيْسَ فِي اتِّصَاله شُبْهَة وَوجدت رِجَاله مِمَّن يوثق بهم حكمت بِصِحَّة الحَدِيث قبل إمعان النّظر فِيهِ حَتَّى إِن بَعضهم يحكم بِصِحَّتِهِ وَلَو خَالف حَدِيثا آخر رُوَاته أرجح وَيَقُول كل ذَلِك صَحِيح وَرُبمَا قَالَ هَذَا صَحِيح وَهَذَا أصح وَكَثِيرًا مَا يكون الْجمع بَينهمَا غير مُمكن
وَإِذا توقف توقف فِي ذَلِك نِسْبَة إِلَى خالفة السّنَن وَرُبمَا سعى فِي إِيقَاعه فِي محنة من المحن مَعَ أَن جهابذة هَذَا الْفَنّ قد حكمُوا بَان صِحَة الْإِسْنَاد لَا تَقْتَضِي صِحَة الْمَتْن وَلذَلِك لَا يسوغ لمن رأى حَدِيثا لَهُ إِسْنَاد صَحِيح أَن يحكم
بِصِحَّتِهِ إِلَّا أَن يكون من أهل هَذَا الشَّأْن لاحْتِمَال أَن تكون لَهُ عِلّة قادحة قد خفيت عَلَيْهِ وَقد وصل الغلو بفريق مِنْهُم إِلَى أَن ألزموا النَّاس بِالْأَخْذِ بالأحاديث الضعيفة الْوَاهِيَة فأوقعوا النَّاس فِي داهية وَمَا أَدْرَاك ماهيه وَهَذِه الْفرْقَة هم الغلاة فِي الْإِثْبَات
وَأَكْثَرهم من أهل الْأَثر الَّذين لَيْسَ بهم فِيهِ فضلا عَن غَيره دقة نظر وَقد أَشَارَ مُسلم إِلَى نَاس مِنْهُم يعتدون بِرِوَايَة الْأَحَادِيث الضِّعَاف مَعَ معرفتهم بِحَالِهَا ووصفهم بِمَا هم جديرون بِهِ قَالَ فِي مُقَدّمَة كِتَابه الْمَشْهُور وَأَشْبَاه مَا ذكرنَا من كَلَام أهل الْعلم فِي متهمي رُوَاة الحَدِيث وإخبارهم عَن معايبهم كثير يطول الْكتاب بِذكرِهِ على اسْتِقْصَائِهِ وَفِيمَا ذكرنَا كِفَايَة لمن تفهم عقل مَذْهَب الْقَوْم فِيمَا قَالُوا من ذَلِك وبينوا
وَإِنَّمَا ألزموا أنفسهم الْكَشْف عَن معايب رُوَاة الحَدِيث وناقلي الْأَخْبَار وأفتوا بذلك حِين سئلوا لما فِيهِ من عَظِيم الْخطر إِذْ الْأَخْبَار فِي أَمر الدّين غنما تَأتي بتحليل أَو تَحْرِيم أَو أَمر أَو نهي أَو ترغيب أَو ترهيب فَإِذا كَانَ الرَّاوِي لَهَا لَيْسَ بمعدن للصدق وَالْأَمَانَة ثمَّ أقدم على الرِّوَايَة عَنهُ من قد عرفه وَلم يبين مَا فِيهِ لغيره مِمَّن جهل مَعْرفَته كَانَ آثِما بِفِعْلِهِ ذَلِك غاشا لعوام الْمُسلمين إِذْ لَا يُؤمن على من سمع بعض تِلْكَ الْأَخْبَار أَن يستعملها أَو يسْتَعْمل بَعْضهَا ولعلها أَو أَكْثَرهَا أكاذيب لَا أصل لَهَا مَعَ أَن الْأَخْبَار الصِّحَاح من رُوَاته الثِّقَات وَأهل القناعة أَكثر من أَن يضْطَر إِلَى نقل من لَيْسَ بِثِقَة وَلَا مقنع
وَلَا أَحسب كثيرا مِمَّن يعرج من النَّاس على مَا وَصفنَا من هَذِه الْأَحَادِيث الضِّعَاف والأسانيد المجهولة ويعتد بروايتها بعد مَعْرفَته بِمَا فِيهَا من التوهن
والضعف إِلَّا ان الَّذِي يحملهُ على رِوَايَتهَا والاعتداد بهَا إِرَادَة التكثر بذلك عِنْد الْعَوام وَلِأَن يُقَال مَا أَكثر مَا جمع فلَان من الحَدِيث وَألف من الْعدَد
وَمن ذهب فِي الْعلم هَذَا الْمَذْهَب وسلك هَذَا الطَّرِيق لَا نصيب لَهُ فِيهِ وَكَانَ بِأَن يُسمى جَاهِلا أولى من أَن ينْسب إِلَى علم اهـ
الْفرْقَة الثَّانِيَة فرقة جعلت جلّ همها النّظر فِي نفس الحَدِيث فَإِن راقها أمره حكمت بِصِحَّتِهِ وأسندته إِلَى النَّبِي عليه الصلاة والسلام وَإِن كَانَ فِي إِسْنَاده مقَال مَعَ أَن فِي كثير من الْأَحَادِيث الضعيفة بل الْمَوْضُوعَة مَا هُوَ صَحِيح الْمَعْنى فصيح المبنى غير أَنه لم تصح نسبته إِلَى النَّبِي عليه الصلاة والسلام
وَذكر مُسلم فِي مُقَدّمَة كِتَابه حَدثنَا عُثْمَان بن أبي شيبَة حَدثنَا جرير عَن رَقَبَة أَن أَبَا جَعْفَر الْهَاشِمِي الْمَدِينِيّ كَانَ يضع أَحَادِيث كَلَام حق وَلَيْسَت من أَحَادِيث النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَكَانَ يَرْوِيهَا النَّبِي صلى الله عليه وسلم
قَوْله كرم حق بِنصب كرم على انه بدل من أَحَادِيث يُرِيد بِهِ كلَاما صَحِيح الْمَعْنى وَهُوَ حكمه من الحكم وَقد كذب فِيهِ لنسبته إِلَى النَّبِي عليه الصلاة والسلام وَهُوَ لَيْسَ من كَلَامه وَأَبُو جَعْفَر هَذَا قد ذكره البُخَارِيّ فِي تَارِيخه فَقَالَ هُوَ عبد الله بن مسور بن عون بن جَعْفَر بن أبي طَالب أَبُو جَعْفَر الْقرشِي الْهَاشِمِي وَذكر كَلَام رَقَبَة وَهُوَ هَذَا الْكَلَام الَّذِي هُنَا
وَقَالَ بعض الوضاعين لَا بَأْس إِذا كَانَ الْكَلَام حسنا أَن تضع لَهُ إِسْنَادًا وَحكى الْقُرْطُبِيّ عَن بعض أهل الرَّأْي أَنه قَالَ مَا وَافق الْقيَاس الْجَلِيّ يجوز أَن
يعزى إِلَى النَّبِي عليه الصلاة والسلام
وَإِن راعهم أمره لمُخَالفَته لشَيْء مِمَّا يَقُولُونَ بِهِ وَإِن كَانَ مَبْنِيا على مُجَرّد الظَّن بَادرُوا لرد الحَدِيث وَالْحكم بِوَضْعِهِ وَعدم صِحَة رَفعه وَإِن كَانَ إِسْنَاده خَالِيا عَن كل عِلّة وَإِن ساعدهم الْحَال على تَأْوِيله على وَجه لَا يُخَالف أهواءهم بَادرُوا إِلَى ذَلِك
وَهَذِه الْفرْقَة هم الْمُعْتَزلَة والمتكلمون الَّذين حذوا حذوهم وَقد نحا أنَاس م غَيرهم نحوهم وَقد طعنت الْفرْقَة الأولى فِي هَذِه الْفرْقَة طَعنا شَدِيدا وقابلتهم هَذِه الْفرْقَة بِمثل بِمثل ذَلِك أَو أَشد نسبوا رُوَاة مَا أنكروه من الْأَحَادِيث إِلَى الاختلاق والوضع مَعَ الْجَهْل بمقاصد الشَّرْع وَقد ذكر ابْن قُتَيْبَة شَيْئا من ذَلِك فِي مُقَدّمَة كِتَابه الَّذِي وَضعه فِي تَأْوِيل مُخْتَلف الحَدِيث
والمجاملون مِنْهُم اكتفوا بَان نسبوا إِلَى الروَاة الْوَهم والغلط وَالنِّسْيَان وَهُوَ مِمَّا لَا يَخْلُو عَنهُ إِنْسَان وَقَالُوا إِن الْمُحدثين أنفسهم قد ردوا كثيرا من أَحَادِيث الثِّقَات بِنَاء على ذَلِك
قَالَ الْحَافِظ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ قد تكلم بعض أهل الحَدِيث فِي قوم من أجلة أهل الْعلم وضعفوهم من قبل حفظهم ووثقهم آخَرُونَ من الْأَئِمَّة لجلالتهم وَصدقهمْ وَإِن كَانُوا قد وهموا فِي بعض مَا رووا وَقد تكلم يحيى بن سعيد الْقطَّان فِي مُحَمَّد ين عَمْرو ثمَّ روى عَنهُ وَكَانَ ابْن أبي ليلى يروي الشَّيْء مرّة هَكَذَا وَمرَّة
هَكَذَا بِغَيْر الْإِسْنَاد وَإِنَّمَا جَاءَ هَذَا من قبل حفظه لِأَن أَكثر من مضى من اهل الْعلم كَانُوا لَا يَكْتُبُونَ وَمن كتب مِنْهُم إِنَّمَا كَانَ يكْتب لَهُم بعد السماع
وَكَانَ كثير من الروَاة يروي بِالْمَعْنَى فكثيرا مَا يعبر عَنهُ بِلَفْظ من عِنْده فَيَأْتِي قاصرا عَن أَدَاء الْمَعْنى بِتَمَامِهِ وَكَثِيرًا مَا يكون أدنى تَغْيِير حيلا لَهُ وموجبا لوُقُوع الْإِشْكَال فِيهِ وَقد أجَاز الْجُمْهُور الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى قَالَ وَكِيع إِن لم يكن الْمَعْنى وَاسِعًا فقد هلك النَّاس وَإِنَّمَا تفاضل أحد من الْأَئِمَّة مَعَ حفظهم وَقَالَ مُجَاهِد انقض من الحَدِيث إِن شِئْت وَلَا تزد فِيهِ
وَلَا يدْخل فِي هَذِه الْفرْقَة أنَاس ردوا بعض الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الْإِسْنَاد لشُبْهَة قَوِيَّة عرضت لَهُم أوجبت شكهم فِي صِحَّتهَا إِن كَانَت مِمَّا لَا يدل فِيهِ النّسخ أَو فِي بَقَاء حكمهَا إِن كَانَت مِمَّا يدْخل فِيهِ فقد وَقع التَّوَقُّف فِي الْأَخْذ بِأَحَادِيث صَحِيحَة الْإِسْنَاد فقد وَقع لَك لِأُنَاس من الْعلمَاء الْأَعْلَام المعروفين بنشر السّنَن بل وَقع لِأُنَاس من كبار من الصَّحَابَة
فقد زعم مَحْمُود بن الرّبيع الْأنْصَارِيّ وَكَانَ مِمَّن عقل رَسُول الله وَهُوَ صَغِير أَنه سمع عتْبَان بن مَالك الْأنْصَارِيّ وَكَانَ مِمَّن شهد بَدْرًا أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ إِن الله حرم على النَّار من قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله يَبْتَغِي يذلك وَجه الله وَكَانَ رَسُول الله فِي دَار عتْبَان
وَلِهَذَا الحَدِيث قصَّة قَالَ مَحْمُود فحدثتها قوما فيهم أَبُو أَيُّوب صَاحب رَسُول الله فِي غزوته الَّتِي توفّي فِيهَا بِأَرْض الرّوم فأنكرها عَليّ أَبُو أَيُّوب وَقَالَ وَالله مَا أَظن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ مَا قلت قطّ فَكبر ذَلِك عَليّ فَجعلت لله عَليّ إِن سلمني حَتَّى أقفل من غزوتي أَن أسأَل عَنْهَا عتْبَان بن مَالك إِن وجدته حَيا فِي مَسْجِد قومه فقفلت ذكر ذَلِك البُخَارِيّ فِي بَاب صَلَاة النَّوَافِل جمَاعَة فَارْجِع إِلَيْهِ إِن أَحْبَبْت معرفَة الْقِصَّة وَتَمام الْكَلَام فِي ذَلِك
فَانْظُر إِلَى أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ الَّذِي كَانَ من خَواص النَّبِي عليه الصلاة والسلام كَيفَ غلب على ظَنّه عدم صِحَة هَذَا الحَدِيث وَأقسم على ذَلِك بِنَاء على انه لم يسمع مِنْهُ قطّ عليه السلام مَا يشاكل هَذَا الْكَلَام مِمَّا يُوهم خلاف المرام وَمثل هَذَا كثير فِيمَا يروي وَمَا كَانَ مِنْهُ بأسانيد صَحِيحَة مِمَّا لَا يثبت فِي نفس الْأَمر فأكثره مِمَّا رُوِيَ بِالْمَعْنَى غير أَن الرَّاوِي لم يساعده اللَّفْظ عَن أَدَائِهِ بِتَمَامِهِ
قَالَ الشُّرَّاح قيل إِن الْبَاعِث لَهُ على الْإِنْكَار هُوَ أَن ظَاهر هَذَا الحَدِيث يُوهم أَنه لَا يدْخل أحد من عصاة الْمُوَحِّدين النَّار وَهُوَ مُخَالف لآيَات كَثِيرَة وَأَحَادِيث مَشْهُورَة وَأجِيب بِحمْل التَّحْرِيم على عدم الخلود
وَقد استدلت المرجئة بِهَذَا الحَدِيث وَنَحْوه على مَذْهَبهم والمرجئة فرقة من كبار الْفرق الإسلامية تَقول لَا يضر مَعَ الْإِيمَان مَعْصِيّة كَمَا لَا ينفع مَعَ الْكفْر طَاعَة
والإرجاء من الْبدع الَّتِي يعظم ضررها أَنَّهَا تنزل بالأمة إِلَى الحضيض الْأَسْفَل وَتجْعَل عَاقبَتهَا الدمار وَقد نسب ذَلِك إِلَى كثير من أَعْيَان الْأمة إِلَّا أَن النِّسْبَة غير صَحِيحَة فِي كثير مِنْهُم وَالَّذين صحت نِسْبَة لَك إِلَيْهِم يَقُولُونَ إِن كثيرا مِمَّن ينبزوننا بِهَذَا اللقب لَا فرق بَيْننَا وَبينهمْ فِي الْمَآل وَإِن فرق بَيْننَا وَبينهمْ ظَاهر الْمقَال
وَأما الْمُعْتَزلَة فَإِنَّهُم يُنكرُونَ هَذَا الحَدِيث وَنَحْوه أَشد إِنْكَار وينسبون وَضعه للمرجئة وَمن نحا نحوهم لمُخَالفَته لمذهبهم فَإِنَّهُم هم والخوارج يَقُولُونَ إِن صَاحب الْكَبِيرَة إِذا مَاتَ من غير تَوْبَة نصوح عَنْهَا مخلد فِي النَّار وَلَا يخرج مِنْهَا أبدا وَلَا يحاولون تَأْوِيل هَذَا الحَدِيث وَنَحْوه على وَجه لَا يزعزع مَذْهَبهم لأَنهم يَقُولُونَ إِن فِي ظَاهِرَة إغراء على الْمعاصِي وَذَلِكَ منَاف للحكمة لَا سِيمَا من صَاحب الشَّرْع الَّذِي بعث لزجر النَّاس عَنْهَا وتنفيرهم مِنْهَا
وَكَانَت المرجئة كثيرا مَا ترمي من يُبَالغ فِي الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر
بِالْقدرِ يُرِيدُونَ بذلك أذاهم وَلَا يخفى شدَّة نفره النَّاس لَا سِيمَا الْأُمَرَاء والعامة من الْقَدَرِيَّة وهم الْمُعْتَزلَة
وَقد شاع وذاع أَن مَذْهَب الْمُعْتَزلَة نَشأ عَن التوغل فِي علم الفلسفة وَهُوَ قَول أشاعه إِمَّا جَاهِل أَو متجاهل فَإِن مَذْهَب الاعتزال نَشأ وَاسْتقر فِي آخر عصر الصَّحَابَة وَلم يكن قد ترْجم شَيْء من كتب الفلسفة الَّتِي يَزْعمُونَ أَنَّهَا أغوتهم فانحرفوا بهَا عَن مَذْهَب أهل السّنة وَلذَلِك قَالَ بعض الْعلمَاء قد رويت أَحَادِيث فِي ذمّ الْقَدَرِيَّة روى بَعْضهَا أهل السّنَن وَبَعض النَّاس يثبتها ويقويها وَمن الْعلمَاء من يطعن فِيهَا ويضعفها وَلَكِن الَّذِي ثَبت فِي ذمّ الْقَدَرِيَّة ونوهم هُوَ عَن الصَّحَابَة كَابْن عمر وَابْن عَبَّاس
وَقد وَقع فِي مَذْهَبهم مسَائِل تبعد عَن الْعقل جدا وَذَلِكَ مثل قَوْلهم من أَتَى بكبيرة وَاحِدَة فقد حبطت جَمِيع طاعاته وَمن عمر عمرا مديدا وأتى بِكُل مَا أمكنه من الطَّاعَات واجتنب جَمِيع الْمُنْكَرَات وَكَانَ من الموفقين للبر وَالْإِحْسَان ثمَّ عرض لَهُ أَن تنَاول جرعة خمر فغص بهَا فقضي عَلَيْهِ فَهُوَ مخلد فِي النَّار لَا يخرج مِنْهَا أبدا
نعم هم أَكثر الْفرق اعتناء بالقاعدة الْمَشْهُورَة وَهِي لَا يَأْتِي فِي النَّقْل الصَّحِيح مَا يُخَالف الْعقل الصَّرِيح فَإِن أَتَى فِي النَّقْل الصَّحِيح مَا يُوهم الْمُخَالفَة وَجب الْجمع بَينهمَا وَذَلِكَ بِحمْل النَّقْل على معنى لَا يُخَالف الْعقل وَتجْعَل دلَالَة الْعقل قرينَة على ذَلِك
وَهِي قَاعِدَة مُتَّفق عَلَيْهَا وَلم تنقل الْمُخَالفَة فِيهَا إِلَّا عَن أنَاس من الحشوية وهم فرقة لَا يعبأ بهَا وَلَعَلَّ مخالفتهم مَبْنِيَّة عل كَونهم لم يعرفوا مَا أُرِيد بِالْعقلِ الصَّرِيح وَقد ظن أنَاس أَن هَذِه الْمَسْأَلَة من مسَائِل علم الْكَلَام فَقَط وَلَيْسَ كَذَلِك بل هِيَ من مسَائِل أصُول الفقة أَيْضا فقد ذكرُوا ذَلِك فِي مَبْحَث التَّخْصِيص وَفِي مَبْحَث مَا يرد بِهِ الْخَبَر