الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يحرم المشي بين القبور بالنعال السبتية دون غيرها! وهو جمود شديد. وأما قول الخطابي يشبه أن يكون النهي عنهما لما فيهما من الخيلاء، فإنه متعقب بأن ابن عمر كان يلبس النعال السبتية، ويقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبسها. وهو حديث صحيح. وقال الطحاوي: «يحمل نهي الرجل المذكور على أنه كان في نعليه قذر، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في نعليه ما لم ير فيهما أذى» .
قلت: وهذا الاحتمال بعيد، بل جزم ابن حزم «5/ 137» ببطلانه، وأنه من التقول على الله! والاقرب أن النهي من باب احترام الموتى، فهو كالنهي عن الجلوس على القبر الاتي في المسألة «128 فقرة 6» ، وعليه فلا فرق بين النعلين السبتيتين وغيرهما من النعال التي عليها شعر، إذ الكل في مثابة واحدة في المشي فيها بين القبور ومنافاتها لاحترامها، وقد شرح ذلك ابن القيم في «تهذيب السنن» «4/ 343 - 345» ونقل عن الامأم أحمد أنه قال:«حديث بشير إسناده جيد، أذهب إليه إلا من علة» .
وقد ثبت أن الإمام أحمد كان يعمل بهذا الحديث، فقال أبو داود في مسائله «ص 158»:«رأيت أحمد إذا تبع الجنازة فقرب من المقابر خلع نعليه» .
فرحمه الله، ما كان أتبعه للسنة.
أحكام الجنائز [252]
لا يشرع وضع الورود على القبور
ولا يشرع وضع الآس ونحوها من الرياحين والورود على القبور، لأنه لم يكن من فعل السلف، ولو كان خيرا لسبقونا إليه وقد قال ابن عمر رضي الله عنهما:«كل بدعة ضلالة، وإن رآها الناس حسنة» .
ولا يعارض ما ذكرنا حديث ابن عباس في وضع النبي صلى الله عليه وسلم شِقَّي جريدة النخل على القبرين وقوله: «لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا» . متفق عليه وقد خرجته في
«صحيح أبي داود» «15» .
فإنه خاص به صلى الله عليه وسلم بدليل أنه لم يجر العمل به عند السلف ولأمور أخرى يأتي بيانها. قال الخطابي رحمه الله تعالى في «معالم السنن» «1/ 27» تعليقا على الحديث: «إنه من التبرك بأثر النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه بالتخفيف عنهما، وكأنه جعل مدة بقاء النداوة فيهما حدا لما وقعت به المسألة من تخفيف العذاب عنهما، وليس ذلك من أجل أن في الجريد الرطب معنى ليس في اليابس، والعامة في كثير من البلدان تغرس الخوص في قبور موتاهم، وأراهم ذهبوا إلى هذا، وليس لما تعاطوه من ذلك وجه» .
قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي «1/ 103» عقب هذا:
«وصدق الخطابي، وقد ازداد العامة إصرارا على هذا العمل الذي لا أصل له، وغلوا فيه، خصوصا في بلاد مصر، تقليدا للنصارى، حتى صاروا يضعون الزهور على القبور، ويتهادونها بينهم، فيضعها الناس على قبور أقاربهم ومعارفهم تحية لهم، ومجاملة للاحياء، وحتى صارت عادة شبيهة بالرسمية في المجاملات الدولية، فتجد الكبراء من المسلمين إذا نزلوا بلدة من بلاد أوربا ذهبوا إلى قبور عظمائها أو إلى قبر من يسمونه «الجندي المجهول» ووضعوا عليها الزهور، وبعضهم يضع الزهور الصناعية التي لا نداوة فيها تقليدا للافرنج، واتباعا لسنن من قبلهم، ولا ينكر ذلك عليهم العلماء أشباه العامة، بل تراهم أنفسهم يضعون ذلك في قبور موتاهم، ولقد علمت أن أكثر الاوقاف التي تسمى أوقافا خيرية موقوف ريعها على الخوص والريحان الذي يوضع على القبور وكل هذه بدع ومنكرات لا أصل لها في الدين، ولا سند لها من الكتاب والسنة، ويجب على أهل العلم أن ينكررها وأن يبطلوا هذه العادات ما استطاعوا» .. قلت: ويؤيد كون وضع الجريد على القبر خاص به، وأن التخفيف لم يكن من أجل نداوة شقها أمور:
أ - حديث جابر رضي الله عنه الطويل في «صحيح مسلم» «8/ 231 - 236» وفية قال صلى الله عليه وسلم: «إني مررت بقبرين يعذبان، فأحببت بشفاعتي أن يرد عنهما ما دام الغصنان رطبين» .
فهذا صريح في أن رفع العذاب إنما هو بسبب شفاعته صلى الله عليه وسلم ودعائه لا بسبب النداوة، وسواء كانت قصة جابر هذه هي عين قصة ابن عباس المتقدمة كما رجحه العيني وغيره، أو غيرها كما رجحه الحافظ في «الفتح» ، أما على الاحتمال الأول فظاهر، وأما على الاحتمال الآخر، فلأن النظر الصحيح يقتضي أن تكون العلة واحدة في القصتين للتشابه الموجود بينهما، ولأن كون النداوة سببا لتخفيف العذاب عن الميت مما لا يعرف شرعا ولا عقلا، ولو كان الأمر كذلك لكان أخف الناس عذابا إنما هم الكفار الذين يدفنون في مقابر أشبه ما تكون بالجنان لكثرة ما يزرع فيها من النباتات والأشجار التي تظل مخضرة صيفا وشتاء! يضاف إلى ما سبق أن بعض العلماء كالسيوطي قد ذكروا أن سبب تأثير النداوة في التخفيف كونها تسبح الله تعالى، قالوا: فإذا ذهبت من العود ويبس انقطع، تسبيحه! فإن هذا التعليل مخالف لعموم قوله تبارك وتعالى:{وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لَاّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} .
ب - في حديث ابن عباس نفسه ما يشير إلى أن السر ليس في النداوة، أو بالأحرى ليست هي السبب في تخفيف العذاب، وذلك قوله «ثم دعا بعسيب فشقه اثنين» يعني طولا، فإن من المعلوم أن شقه سبب لذهاب النداوة من الشق ويبسه بسرعة، فتكون مدة التخفيف أقل مما لو لم يشق، فلو كانت هي العلة لأبقاه صلى الله عليه وسلم بدون شق ولوضع على كل قبر عسيبا أو نصفه على الاقل، فإذا لم يفعل دل على أن النداوة ليست هي السبب، وتعين أنها علامة على مدة التخفيف الذي أذن الله به استجابة لشفاعة نبيه صلى الله عليه وسلم كما هو مصرح به في حديث جابر، وبذلك يتفق الحديثان في تعيين السبب، وإن احتمل اختلافهما في الواقعة وتعددها.
فتأمل هذا، فإنما هو شئ انقدح في نفسي، ولم أجد من نص عليه أو أشار إليه من العلماء، فإن كان صوابا فمن الله تعالى وإن كان خطأ فهو مني، واستغفره من كل ما لا يرضيه.
ج - لو كانت النداوة مقصودة بالذات، لفهم ذلك السلف الصالح ولعملوا
بمقتضاه، ولوضعوا الجريد والآس ونحو ذلك على القبور عند زيارتها، ولو فعلوا لاشهر ذلك عنهم، ثم نقله الثقات إلينا، لأنه من الأمور التي تلفت النظر، وتستدعي الدواعي نقله، فإذ لم ينقل دل على أنه لم يقع، وأن التقرب به إلى الله بدعة، فثبت المراد. وإذا تبين هذا، سهل حينئذ فهم بطلان ذلك القياس الهزيل الذى نقله السيوطي في «شرح الصدور» عمن لم يسمه:
قلت: فيقال له: «أثبت العرش ثم انقش» ، «وهل يستقيم الظل والعود أعوج» ؟ فلو كان هذا القياس صحيحا لبادر إليه السلف لأنهم أحرص على الخير منا.
فدل ما تقدم على أن وضع الجريد على القبر خاص به صلى الله عليه وسلم، وأن السر في تخفيف العذاب عن القبرين لم يكن في نداوة العسيب بل في شفاعته صلى الله عليه وسلم ودعائه لهما، وهذا مما لا يمكن وقوعه مرة أخرى بعد انتقاله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الاعلى ولا لغيره من بعده صلى الله عليه وسلم، لان الاطلاع على عذاب القبر من خصوصياته عليه الصلاة والسلام، وهو من الغيب الذي لا يطلع عليه إلا الرسول كما جاء في نص القرآن «عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول» واعلم أنه لا ينافى ما بينا ما أورده السيوطي في «شرح الصدور» «131»:
«وأخرج ابن عساكر من طريق حماد بن سلمة عن قتادة أن أبا برزة الاسلمي رضي الله عنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على قبر وصاحبه يعذب، فأخذ جريدة فغرسها في القبر، وقال: عسى أن يرفه عنه ما دامت رطبة. وكان أبو برزة يوصي: إذا مت فضعوا في قبري معي جريدتين.
قال: فمات في مفازة بين «كرمان» و «قومس» ، فقالوا: كان يوصينا أن تضع في قبره جريدين وهذا موضع لا نصيبها فيه، فينما هم كذلك إذ طلع عليهم ركب من قبل «سجستان» ، فأصابوا معهم سعفا، فأخذوا جريدتين، فوضعوهما معه في قبره.
وأخرج ابن سعد عن مورق قال: أوصى بريدة أن تجعل في قبره جريدتان».
قلت: ووجه عدم المنافاة، أنه ليس في هذين الاثرين - على فرض التسليم بثبوتهما معا - مشروعية وضع الجريد عند زيارة القبور، الذي ادعينا بدعيتة عدم عمل السلف به، وغاية ما فيهما جعل الجريدتين مع الميت في قبره، وهي قضية أخرى، وإن كانت كالتي قبلها في عدم المشروعية لان الحديث الذي رواه أبو برزة كغيره من الصحابة لا يدل على ذلك، لا سيما والحديث فيه وضع جريدة واحدة، وهو أوصى بوضع جريدتين في قبره على أن الاثر لا يصح إسناده، فقد أخرجه الخطيب في تاريخ «بغداد» «1/ 183 - 182» ومن طريقه أخرجه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» في آخر ترجمة نضلة بن عبيد بن أبي برزة الاسلمي عن الشاه بن عمار قال: ثنا أبو صالح سليمان بن صالح الليثي قال: أنبأنا النضر بن المنذز بن ثعلبة العبدي عن حماد بن سلمة به.
قلت: فهذا إسناد ضعيف، وله علتان:
الأولى: جهالة الشاه والنضر فإني لم أجد لهما ترجمة.
والأخرى: عنعنة قتادة فإنهم لم يذكروا له رواية عن أبي برزة، ثم هو مذكور بالتدليس فيخشى من عنعنته في مثل إسناده هذا.
وأما وصية بريدة، فهي ثابتة عنه، قال ابن سعد في «الطبقات» «ج 7 ق 1 ص 4»: أخبرنا عفان بن مسلم قال: ثنا حماد بن سلمة، قال: أخبرنا عاصم الأحول قال: قال مورق: أوصى بريدة الأسلمي أن توضع في قبره جريدتان.
فكان أن مات بأدنى خراسان فلم توجد إلا في جوالق حمار.
وهذا سند صحيح، وعلقه البخاري «3/ 173» مجزوما.
قال الحافظ في شرحه: «وكان بريدة حمل الحديث على عمومه، ولم يره خاصا بذينك الرجلين، قال ابن رشيد: ويظهر من تصرف البخاري أن ذلك خاص بهما، فلذلك عقبه بقول ابن عمر: إنما يظله عمله» .