الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكم خلع النعلين في المقابر
مداخلة: ما حكم خلع النعلين في المقابر؟
الشيخ: الجواب كما هو معلوم في كل أمر صدر من النبي صلى الله عليه وسلم، فالأصل فيه أنه للوجوب، إلا إذا وُجِدت قرينة تصرف هذا الأمر من الوجوب إلى الاستحباب، ولا قرينة هنا، وعلى ذلك فينبغي البقاء على الأصل ألا وهو الوجوب.
ولكني أقول: قد يُمكن أن نَتَلَمَّس قرينة تؤكد أن الأمر هاهنا على الوجوب، من ذلك مثلاً قوله عليه الصلاة والسلام:«لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها» ففي هذا الحديث وهو في صحيح مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين أمرين أو شيئين متباينين، فهو من جهةٍ يأمر باحترام الميت وذلك بالنهي عن الجلوس على قبره، ومن جهة أخرى ينهى عن المبالغة في احترام الميت فينهى عن الصلاة إلى القبر، فقال عليه الصلاة والسلام:«لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها» .
والسؤال السابق آنفاً في الأمر فيما يتعلق بالمشي بين القبور: «يا صاحب السبتيتين اخلع نعليك» كذلك هنا يرد السؤال نفسه في قوله عليه السلام: «لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها» هل النهي هنا للتحريم أم للتنزيه؟ الجواب كالجواب السابق بالنسبة للأمر، فكما أن الأصل في الأمر الوجوب، فكذلك الأصل في النهي التحريم، فقد يقول قائل: نهيه عليه السلام عن الجلوس على القبر وعن الصلاة إلى القبر، هل هو للتحريم أم للتنزيه؟ الجواب كما سبق بالنسبة للأمر، الأصل فيه أنه للتحريم.
وحينئذٍ فيُمكننا أن نستنبط من نهيه عليه الصلاة والسلام عن الجلوس على القبر، أنه يلتقي مع أمره لصاحب السبتيتين بخلعهما، وذلك من باب احترام المقبورين، فالتقى هذا الحديث بذاك، وصار هذا الثاني قرينة مؤيدة لكون الأمر في حديث السبتيتين هو على أصله، أي الوجوب.
قد يورد بعض الناس بمثل هذه المناسبة حديث: «إن الميت إذا وُضِع في قبره،
إنه ليسمع قرع نعالهم وهم عنه مدبرين» فيتوهمون أن هذا الحديث يدل على جواز المشي بين القبور في النعال، وليس الأمر كذلك، ذلك؛ لأنه ليس من الضروري أن نتصور أولاً: أن إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن الميت إذا وضع في القبر أنه يسمع قرع النعال، أنه يعني أن المشي بين القبور في النعال جائز، لأنه يمكن أن نتصور الأمر بحيث لا يصطدم مع أمره لصاحب السبتيتين بخلعهما.
يمكن أن نتصور أمرين اثنين دفعاً للتعارض، الأمر الأول: أنه لا تلازم بين سماع الناس عند انصرافهم من دفن الميت، أن يكون الدفن بين القبور، بحيث يستلزم هذا الدفن المشي أيضاً في النعال بين القبور.
يمكن أن يكون هذا السمع من الميت لقرع النعال في وضع خاص، كأن يُدْفن في حافَّة المقبرة في جانب منها.
وحينئذٍ: فلا يستلزم إذا ما استحضرنا هذه الصورة أن يكون الناس قد ساروا بين القبور في نعالهم. هذا الشيء الأول.
والشيء الثاني: أنه يوجد لدينا قاعدة أصولية تساعدنا على التوفيق بين الأحاديث التي قد يبدو التعارض بينها أحياناً.
من هذه القواعد: أنه إذا تعارض حاظر ومبيح قُدِّم الحاظر على المبيح، فحديث السبتيتين يحظر على المسلم أن يمشي بين القبور متنعلاً.
الحديث الثاني في ظاهره إذا لم نحمله المحمل الذي ذكرت آنفاً، في ظاهره يفيد إباحة المشي بين القبور في النعلين، فإذا تعارض حاظر ومبيح قُدِّم الحاظر على المبيح.
وهذه القاعدة بدهية جداً لمن يتتبع تدرج الأحكام الشرعية، وطريقة ورودها ونزولها على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، فنحن نعلم جميعاً أن العرب في الجاهلية كانوا في ضلال مبين، وكانوا لا يعلمون شيئاً مما يعرف بعد الإسلام بأنه حرام أو حلال.
وكذلك نعلم أن أول ما أُنزل على النبي صلى الله عليه وسلم فإنما هو الأمر بعبادة الله وحده
لا شريك له.
ثم بعد ذلك بدأت الأحكام الشرعية تنزل، فحينما أمر عليه السلام بعبادة الله وحده لا شريك له وأمر الناس أن يعبدوه كذلك وحده لا شريك له، يومئذٍ لم يكن شيء اسمه لباس الحرير حرام، شرب الخمر حرام، المشي بين القبور بالنعال حرام،
وإنما كان الناس يمشون على ما كانوا عليه من الضلال، وعلى ذلك فليس من المستبعد إطلاقاً أن يكون المسلمون في العهد الأول من الإسلام يمشون على الإباحة الأصلية، فيدخلون القبور وفيها وعلى أقدامهم النعال، فحينما يأتي حكم جديد يتضمن خلع النعلين بالنسبة للماشي بين القبور، نعرف بداهةً حينذاك بأن هذا النص أتى بحكم جديد ألغى ما كانوا عليه من قبل من عادة السير بين القبور.
من أجل هذا كله، يقول علماء الأصول: إنه إذا تعارض نصَّان أحدهما يُحَرِّم شيئاً والآخر يُبِيحه، حُمِل النص المبيح على الأصل، على البراءة الأصلية، وحُمِل النص المُحَرَّم على التشريع الجديد. بهذا نستطيع أن نفهم حينذاك أن الحكم الذي ينبغي أن نمشي عليه هو أن لا نمشي في النعال بين القبور.
وهذا يتأيد كما ذكرت آنفاً بقوله عليه السلام: «لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها» .
فنهيه عليه السلام عن الجلوس على القبور هو من باب احترامها، كما قال عليه السلام في الحديث الآخر:«كسر عظم الميت ككسره حياً» هذا كله من باب احترام الأموات، لكن هذا الاحترام لا ينبغي أن يرتفع إلى مرتبة التقديس والغلو في التعظيم، هذا والأمر وسط نحترم الأموات ولا نقدسهم، من احترام الأموات أن نمشي حفاة بين القبور، إلا إذا كان هناك عذر فهذا بحث آخر.
(الهدى والنور / 317/ 55: 03: 00)