الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بعدمه كما يقول العلماء، ففي مثل هذا يكفي لإثبات مشروعيته الأدلة العامة مادام أنه لا يثبت ما يعارضها فيما نحن فيه.
على أن شيخ الاسلام قد ذكر في «القاعدة الجليلة» «ص 80 طبع المنار» عن نافع أنه قال: كان ابن عمر يسلم على القبر، رأيته مائة مرة أو أكثر يجيئ إلى القبر فيقول: السلام على النبي صلى الله عليه وسلم، السلام على أبي بكر، السلام على أبي، ثم ينصرف فان ظاهره أنه كان يفعل ذلك في حالة الإقامة لا السفر، لان قوله «مائة مرة» ، مما يبعد حمل هذا الأثر على حالة السفر.
أحكام الجنائز [280]
حرمة شد الرحال إلى القبور
[من محرمات القبور]: السفر إليها:
وفيه أحاديث:
الأول: عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ومسجد الاقصى» .
وفي رواية عنه بلفظ: «إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد: مسجد الكعبة، ومسجدي، ومسجد إيلياء» .
الثاني: عن أبي سعيد الخدري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تشد «وفي لفظ: لا تشدوا» الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الاقصى».
الثالث: عن أبي بصرة الغفاري أنه لقي أبا هريرة وهو جاء، فقال: من أين أقبلت؟ قال: أقبلت من الطور، صليت فيه، قال: أما إني لو أدركتك لم تذهب، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الاقصى» .
الرابع: عن قزعة قال: «أردت الخروج إلى الطور فسألت ابن عمر، فقال: أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم والمسجد الاقصى، ودع عنك الطور فلا تأته» .
وفي هذه الاحاديث تحريم السفر إلي موضع من المواضع المباركة، مثل مقابر الأنبياء والصالحين، وهي وإن كانت بلفظ النفي «لا تشد» ، فالمراد النهي كما قال الحافظ، على وزن قوله تعالى:{فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} ، وهو كما قال الطيبي:«هو أبلغ من صريح النهي، كأنه قال: لا يستقيم أن يقصد بالزيارة إلا هذه البقاع لاختصاصها بما اختصت به» .
قلت: ومما يشهد لكون النفي هنا بمعنى النهي رواية لمسلم في الحديث الثاني: «لا تشدوا» .
ثم قال الحافظ: «قوله: «إلا إلى ثلاثة مساجد» ، الاستثناء مفرغ، والتقدير لا تشد الرحال إلى موضع، ولازمه منع السفر إلى كل موضع غيرها، لان المستثنى منه في المفرغ مقدر بأعم العام، ولكن يمكن أن يكون المراد بالعموم هنا المخصوص، وهو المسجد».
قلت: وهذا الاحتمال ضعيف، والصواب التقدير الأول.
لما تقدم في حديث أبي بصرة وابن عمر من أنكار السفر إلى الطور.
ويأتى بيانه، ثم قال الحافظ:«وفي هذا الحديث فضيلة هذه المساجد، ومزيتها على غيرها لكونها مساجد الانبياء، ولان الأول، قبلة الناس، وإليه حجهم، والثاني كان قبلة الامم السالفة، والثالث أسس على التقوى. «قال: »
واختلف في شد الرحال إلى غيرها كالذهاب إلى زيارة الصالحين أحياء وأمواتا، وإلى المواضع الفاضلة، لقصد التبرك بها، والصلاة فيها، فقال الشيخ أبو محمد الجويني «يحرم شد الرحال إلى غيرها عملا بظاهر الحديث» ، وأشار القاضي حسين إلى اختياره، وبه قال عياض وطائفة، ويدل عليه ما رواه أصحاب السنن من إنكار
أبي بصرة الغفاري على أبي هريرة خروجه إلى الطور، وقال له:«لو أدركتك قبل أن تخرج ما خرجت» ، واستدل بهذا الحديث، فدل على أنه يرى حمل الحديث على عمومه، ووافقه أبو هريرة. والصحيح عند إمام الحرمين وغيره من الشافعية أنه لا يحرم، وأجابوا عن الحديث بأجوبة:
1 -
منها أن المراد أن الفضيلة التامة إنما هي شد الرحال إلى هذه المساجد بخلاف غيرها فإنه جائز، وقد وقع في رواية لاحمد سيأتي ذكرها بلفظ:«لا ينبغي للمطي أن تعمل» وهو لفظ ظاهر في غير التحريم.
2 -
ومنها أن النهي مخصوص بمن نذر على نفسه الصلاة في مسجد من سائر المساجد غير الثلاثة، فإنه لا يجب الوفاء به.
قاله ابن بطال.
3 -
ومنها أن المراد حكم المساجد فقط، وأنه لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد للصلاة فيه غير هذه الثلاثة، وأما قصد غير المساجد لزيارة صالح أو قريب أو صاحب، أو طلب عالم أو تجارة أو نزهة، فلا يدخل في النهي، ويؤيده ما روى أحمد من طريق شهر بن حوشب قال: سمعت أبا سعيد - وذكرت عنده الصلاة في الطور - فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينبغي للمطي أن تشد رحاله إلى مسجد تبتغى فيه الصلاة غير المسجد الحرام، والمسجد الاقصى، ومسجدي» .
وشهر حسن الحديث، وإن كان فيه بعض الضعف».
قلت: لقد تساهل الحافظ رحمه الله تعالى في قوله في شهر أنه حسن الحديث.
مع أنه قال فيه في «التقريب» : «كثير الاوهام» كما سبق، ومن المعلوم أن من كان كذلك فحديثه ضعيف لا يحتج به، كما قرره الحافظ نفسه في «شرح النخبة» ثم هب أنه حسن الحديث، فإنما يكون كذلك عند عدم المخالفة، أما وهو قدخالف جميع الرواة الذين رووا الحديث عن أبي سعيد، والاخرين الذين رووه عن غيره من الصحابة كما تقدم بيانه، فكيف يكون حسن الحديث مع هذه المخالفة! ؟ بل هو
منكر الحديث في مثل هذه الحالة، دون أي شك أو ريب.
أضف إلى ذلك أن قوله في الحديث «إلى مسجد» مما لم يثبت عن شهر نفسه فقد ذكرها عنه عبد الحميد ولم يذكرها عنه ليث بن أبي سليم، وهذه الرواية عنه أرجح لموافقتها لروايات الثقات كما عرفت.
وأيضا فإن المتأمل في حديثه يجد فيه دليلا آخر على بطلان ذكر هذه الزيادة فيه، وهو قوله: أن أبا سعيد الخدري احتج بالحديث على شهر لذهابه إلى الطور.
فلو كان فيه هذه الزيادة التي تخص حكمه بالمساجد دون سائر المواضع الفاضلة، لما جاز لابي سعيد رضي الله عنه أن يحتج به عليه، لان الطور ليس مسجدا.
وإنما هو الجبل المقدس الذي كلم الله تعالى موسى عليه، فلا يشمله الحديث لو كانت الزيادة ثابتة فيه.
ولكان استدلال أبي سعيد به والحالة هذه وهما، لا يعقل أن يسكت عنه شهر ومن كان معه.
فكل هذا يؤكد بطلان هذه الزيادة وأنها لا أصل لها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
فثبت مما تقدم أنه لا دليل يخصص الحديث بالمساجد، فالواجب البقاء على عمومه الذي ذهب إليه أبو محمد الجويني ومن ذكر معه.
وهو الحق.
بقي علينا الجواب على جوابهم الأول والثاني، فأقول:
1 -
إن هذا الجواب ساقط من وجهين:
الأول: أن اللفظ الذي احتجوا به «لا ينبغي .. » غير ثابث في الحديث لأنه تفرد به شهر وهو ضعيف كما سبق بيانه.
الثاني: هب أنه لفظ ثابت، فلا نسلم أنه ظاهر في غير التحريم، بل العكس هو
الصواب، والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة كثيرة، أجتزئ ببعضها:
أ - قوله تعالى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء} [الفرقان: 18]
ب - قوله صلى الله عليه وسلم: «لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار» .
رواه أبو داود «2675» من حديث ابن مسعود، والدارمي «2/ 222» من حديث أبي هريرة.
ج - «لا ينبغي لصديق أن يكون لعانا» .
رواه مسلم.
د - «إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد .. » .
رواه مسلم.
هـ - «لا ينبغي لعبد أن يقول: إنه خير من يونس بن متى» .
رواه البخاري.
الثالث: هب أنه ظاهر في غير التحريم، فهو يدل على الكراهة، وهم لا يقولون بها، ففي «شرح مسلم» للنووي:«الصحيح عند أصحابنا أنه لا يحرم ولا يكره» .!
فالحديث حجة عليهم على كل حال.
2 -
إن هذا الجواب كالذي قبله ساقط الاعتبار، لأنه لا دليل على التخصيص، فالواجب البقاء على العموم لا سيما وقد تأيد بفهم الصحابة الذين رووا حديث أبي بصرة، وأبي هريرة، وابي عمر، وأبي سعيد إن صح عنه - فقد استدلوا جميعا به على المنع من السفر إلى الطور، وهم أدرى بالمراد منه من غيرهم، ولذلك قال الصنعاني في «سبل السلام» «2/ 251»:«وذهب الجمهور إلى أن ذلك غير محرم، واستدلوا بما لا ينهض، وتأولوا أحاديث الباب بتأويل بعيدة، ولا ينبغي التأويل إلا بعد أن ينهض على خلاف ما أولوا الدليل» زاد عقبه «فتح العلام» «1/ 310» : «ولا دليل،
والأحاديث الواردة في الحث على الزيارة النبوية وفضيلتها ليس فيها الأمر بشد الرحل إليها، مع أنها كلها ضعاف أو موضوعات، لا يصلح شئ منها للاستدلال، ولم يتفطن أكثر الناس للفرق بين مسألة الزيارة وبين مسألة السفر إليها، فصرفوا حديث الباب عن منطوقه الواضح بلا دليل يدعو إليه».
قلت: وللغفلة المشار إليها اتهم الشيخ السبكي عفا الله عنا وعنه شيخ الاسلام ابن تيمية بأنه ينكر زيارة القبر النبوي ولو بدون شد رحل، مع أنه كان من القائلين بها، والذاكرين لفضلها وآدابها، وقد أورد ذلك في غير ما كتاب من كتبه الطيبة وقد تولى بيان هذه الحقيقة، ورد تهمة السبكي العلامة الحافظ محمد بن عبد الهادي في مؤلف كبير أسماه «الصارم المنكى في الرد على السبكي»: نقل فيه عن ابن تيمية النصوص الكثيرة في جواز الزيارة بدون السفر إليها.
وأورد فيه الاحاديث الواردة في فضلها، وتكلم عليها مفصلا، وبين ما فيها من ضعف ووضع، وفيه فوائد أخرى كثيرة، فقهية وحديثية وتاريخية، حري بكل طالب علم أن يسعى إلى الاطلاع عليها.
ثم إن النظر السليم يحكم بصحة قول من ذهب إلى أن الحديث على عمومه، لأنه إذا كان بمنطوقه يمنع من السفر إلى مسجد غير المساجد الثلاثة، مع العلم بأن العبادة في أي مسجد أفضل منها في غير المسجد، وقال صلى الله عليه وسلم:«أحب البقاع إلى الله المساجد» حتى ولو كان ذلك المسجد هو المسجد الذي أسس على التقوى ألا وهو مسجد قباء الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلاة في مسجد قباء كعمرة» ، إذا كان الأمر كذلك فلان يمنع الحديث من السفر إلى غيرها من المواطن أولى وأحرى، لا سيما إذا كان المقصود إنما هو مسجد بني على قبر نبي أو صالح، من أجل الصلاة فيه والتعبد عنده.
وقد علمت لعن من فعل ذلك، فهل يعقل أن يسمح الشارع الحكيم بالسفر إلى مثل ذلك ويمنع من السفر إلى مسجد قباء؟ !
والخلاصة: إن ما ذهب إليه أبو محمد الجويني الشافعي وغيره من تحريم السفر