الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[مُقَدِّمَة الْكتاب]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَبَعْدُ فَيَقُولُ الْعَبْدُ الْفَقِيرُ لِرَحْمَةِ رَبِّهِ الْقَدِيرِ عَلِيٌّ أَبُو الْحَسَنِ الْمَالِكِيُّ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَلِوَالِدَيْهِ وَمَشَايِخِهِ وَأَوْلَادِهِ
ــ
[حاشية العدوي]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الْكَرِيمِ السَّتَّارِ، الْمُنْعِمِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْغَفَّارِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ نَرْجُو مِنْ الْمَوْلَى الْكَرِيمِ صُحْبَتَهُ فِي دَارِ الْقَرَارِ، مُحَمَّدٍ وَآلِهِ السَّادَةِ الْأَبْرَارِ.
(وَبَعْدُ) فَيَقُولُ الْفَقِيرُ لِرَحْمَةِ مَوْلَاهُ عَلِيٌّ الصَّعِيدِيُّ الْعَدَوِيُّ الْمَالِكِيُّ: لَمَّا أَرَادَ الْمَوْلَى جل جلاله وَعَظُمَ شَأْنُهُ بِالْمُذَاكَرَةِ مَعَ الْإِخْوَانِ فِي كِفَايَةِ الطَّالِبِ الرَّبَّانِيِّ عَلَى رِسَالَةِ ابْنِ أَبِي زَيْدٍ الْقَيْرَوَانِيِّ، وَظَهَرَ بَعْضُ تَقَايِيدَ أَرَدْت أَنْ أَجْمَعَهَا لِنَفْسِي، وَمَنْ هُوَ قَاصِرٌ مِثْلِي، جَعَلَهَا اللَّهُ خَالِصَةً لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَسَبَبًا لِلْفَوْزِ بِجِنَانِ النَّعِيمِ، فَأَقُولُ وَهُوَ حَسْبِي وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
[قَوْلُهُ: وَبَعْدُ] قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْوَاوَ نَائِبَةٌ عَنْ أَمَّا، وَأَمَّا نَائِبَةٌ عَنْ مَهْمَا، فَالْوَاوُ نَائِبَةُ النَّائِبِ، بِدَلِيلِ الْفَاءِ فِي حَيِّزِهَا كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ زَائِدَةً، وَالظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ يَقُولُ قُدِّمَ لِلْحَصْرِ وَالْوَاوُ إمَّا عَاطِفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ الْبَسْمَلَةِ أَوْ لِلِاسْتِئْنَافِ، أَيْ وَبَعْدَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْبَسْمَلَةِ، فَإِنْ قُلْت كَمَا تُطْلَبُ الْبُدَاءَةُ بِالْبَسْمَلَةِ. تُطْلَبُ الْبُدَاءَةُ بِالْحَمْدَلَةِ. وَلَمْ يَبْتَدِئْ ذَلِكَ الشَّرْحَ بِهَا، فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: يَدَّعِي أَنَّهُ حَمِدَ لَفْظًا فَالْمَعْنَى وَبَعْدَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْبَسْمَلَةِ وَالْحَمْدَلَةِ أَوْ أَنَّ الْعَمَلَ عَلَى رِوَايَةِ ذِكْرِ اللَّهِ وَهُوَ قَدْ حَصَلَ بِالْبَسْمَلَةِ؛ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ إذَا وَرَدَ مُطْلَقٌ وَهُوَ فِي الْمَقَامِ رِوَايَةُ ذِكْرِ اللَّهِ وَمُقَيَّدَانِ وَهُوَ رِوَايَةُ الْبَسْمَلَةِ وَرِوَايَةُ الْحَمْدَلَةِ فَالْعَمَلُ عَلَى الْمُطْلَقِ، وَمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّهُ يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا اتَّحَدَ الْمُقَيَّدُ وَمَا هُنَا قَدْ تَعَدَّدَ.
[قَوْلُهُ: فَيَقُولُ إلَخْ] أَصْلُهُ يَقُولُ عَلَى وَزْنِ يَنْصُرُ بِضَمِّ الْوَاوِ فَاسْتُثْقِلَتْ الضَّمَّةُ عَلَيْهَا فَنُقِلَتْ إلَى السَّاكِنِ قَبْلَهَا، وَلَا يُقَالُ: إنَّ الضَّمَّةَ عَلَى الْوَاوِ وَكَذَا الْيَاءُ إنَّمَا تَكُونُ ثَقِيلَةً إذَا تَحَرَّكَ مَا قَبْلَهَا، وَأَمَّا عِنْدَ التَّسْكِينِ فَلَا وَلِذَلِكَ أُعْرِبَ دَلْوٌ وَظَبْيٌ بِالْحَرَكَاتِ الظَّاهِرَةِ لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّمَا ظَهَرَتْ فِي الِاسْمِ لِخِفَّتِهِ، وَأَمَّا الْفِعْلُ فَثَقِيلٌ وَالثَّقِيلُ لَا يَتَحَمَّلُ مَا فِيهِ ثِقَلٌ، أَوْ أَنَّ عِلَّةَ الثِّقَلِ الْمُشَارَكَةُ بَيْنَ الْمَاضِي وَالْمُضَارِعِ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا سَكَنَتْ فِي الْمَاضِي سَكَنَتْ فِي الْمُضَارِعِ لَكِنْ فِي الْمَاضِي بَعْدَ قَلْبِهَا أَلِفًا فِي الْمُضَارِعِ مَعَ بَقَائِهَا بِدُونِ قَلْبٍ [قَوْلُهُ: الْعَبْدُ] أَيْ الْمَمْلُوكُ لِمَوْلَاهُ بِسَبَبِ الْإِيجَادِ، فَهُوَ اعْتِرَافٌ بِعَدَمِ اسْتِقْلَالِهِ بِأَمْرِهِ، وَتَوْطِئَةٌ لِلْوَصْفِ بِالْفَقِيرِ هَذَا هُوَ الْمُنَاسِبُ مِنْ مَعَانِي الْعَبْدِ فِيمَا يَظْهَرُ [قَوْلُهُ: الْفَقِيرُ] أَيْ دَائِمُ الْحَاجَةِ، فَهُوَ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ، أَوْ كَثِيرُ الِاحْتِيَاجِ فَهُوَ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ لَكِنْ فِي الثَّانِي شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّ الشَّيْخَ وَغَيْرَهُ دَائِمُ الِاحْتِيَاجِ لِإِنْعَامِ رَبِّهِ لَا كَثِيرُهُ الْمُفِيدُ أَنَّهُ قَدْ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: لِرَحْمَةِ] الرَّحْمَةُ رِقَّةٌ فِي الْقَلْبِ وَانْعِطَافٌ وَهِيَ مُسْتَحِيلَةٌ عَلَى الْمَوْلَى، فَأُطْلِقَ اللَّفْظُ وَأُرِيدَ لَازِمُ مَعْنَاهُ الْبَعِيدُ بِمَرْتَبَةٍ وَهُوَ نَفْسُ الْإِنْعَامِ أَوْ بِمَرْتَبَتَيْنِ وَهُوَ نَفْسُ الْمُنْعَمِ بِهِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ فَهِيَ أَيْ الرَّحْمَةُ صِفَةُ فِعْلٍ أَوْ لَازِمُهُ الْقَرِيبُ وَهُوَ إرَادَةُ الْإِنْعَامِ فَتَكُونُ صِفَةَ ذَاتٍ، وَاللَّامُ بِمَعْنَى إلَى وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّعْلِيلِ لِفَسَادِ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ عِلَّةٌ لِلْغِنَى لَا لِلْفَقْرِ؛ لِأَنَّ رَحْمَتَهُ صِفَةُ جَمَالٍ لَا يَصْدُرُ عَنْهَا الْفَقْرُ، وَآثَرَ اللَّامَ عَلَى إلَى مَعَ أَنَّ الْفَقْرَ يَتَعَدَّى بِإِلَى لِلِاخْتِصَارِ.
[قَوْلُهُ: رَبِّهِ] الرَّبُّ قِيلَ: مَصْدَرٌ
وَإِخْوَانِهِ وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، هَذَا تَعْلِيقٌ لَطِيفٌ لَخَّصْتُهُ مِنْ شَرْحَيْ الْوَسَطِ وَالْكَبِيرِ عَلَى رِسَالَةِ ابْنِ أَبِي زَيْدٍ الْقَيْرَوَانِيِّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
ــ
[حاشية العدوي]
بِمَعْنَى التَّرْبِيَةِ وَهِيَ تَبْلِيغُ الشَّيْءِ شَيْئًا فَشَيْئًا إلَى الْحَدِّ الَّذِي أَرَادَهُ الْمُرَبِّي، ثُمَّ وَصَفَ بِهِ الْمَوْلَى جَلَّ وَعَزَّ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ فِي حَوْزِ مَوْلَاهُ يُرَبِّيهِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وَقِيلَ: وَصْفٌ مَقْصُورٌ مِنْ رَابَبَ، فَيَكُونُ اسْمَ فَاعِلٍ، وَحُذِفَتْ أَلِفُهُ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ. وَقِيلَ: إنَّهُ عَلَى وَزْنِ فَعَلَ فَأَصْلُهُ رَبَبَ فَيَكُونُ صِفَةً مُشَبَّهَةً [قَوْلُهُ: الْقَدِيرِ] أَيْ ذِي الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِكُلِّ مُمْكِنٍ.
وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ فَقِيرٍ وَقَدِيرٍ مِنْ الْمُحَسِّنَاتِ الْبَدِيعِيَّةِ: الطِّبَاقُ وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ مُتَقَابِلَيْنِ فِي الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّ الْفَقْرَ يَلْزَمُهُ الْعَجْزُ [قَوْلُهُ: عَلِيٌّ] بَدَلٌ مِنْ الْعَبْدِ أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هُوَ عَلِيٌّ [قَوْلُهُ: أَبُو الْحَسَنِ] بَدَلٌ مِنْ عَلِيٍّ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، وَقَدَّمَ الِاسْمَ عَلَى الْكُنْيَةِ وَيَجُوزُ الْعَكْسُ.
[قَوْلُهُ: الْمَالِكِيُّ] نَعْتٌ لِأَبِي الْحَسَنِ لَا نَعْتٌ لِعَلِيٍّ وَإِلَّا لَزِمَ تَقْدِيمُ الْبَدَلِ أَوْ عَطْفُ الْبَيَانِ عَلَى النَّعْتِ مَعَ أَنَّهُمَا يُؤَخَّرَانِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ التَّوَابِعَ إذَا اجْتَمَعَتْ يُقَدَّمُ النَّعْتُ فَالْبَيَانُ فَالتَّأْكِيدُ فَالْبَدَلُ فَعَطْفُ النَّسَقِ.
وَهَذَا الشَّارِحُ هُوَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ ثَلَاثًا ابْنِ خَلَفٍ، الْمَنُوفِيُّ بَلَدًا الْمِصْرِيُّ مَوْلِدًا، وُلِدَ بِالْقَاهِرَةِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ ثَالِثَ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ، أَخَذَ الْفِقْهَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ الْعَامِلُ الشَّيْخُ عَلِيٌّ السَّنْهُورِيُّ، وَأَخَذَ النَّحْوَ وَغَيْرَهُ عَنْ الْكَمَالِ بْنِ أَبِي شَرِيفٍ وَغَيْرِهِ، وَلَازَمَ الْجَلَالَ السُّيُوطِيَّ وَأَخَذَ عَنْهُ.
تُوُفِّيَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ رَابِعَ عَشَرَ صَفَرٍ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَتِسْعِمِائَةٍ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِالْجَامِعِ الْأَزْهَرِ وَدُفِنَ بِالْقُرْبِ مِنْ بَابِ الْوَزِيرِ كَمَا ذَكَرَهُ الْفِيشِيُّ.
[قَوْلُهُ: غَفَرَ اللَّهُ لَهُ] أَيْ سَتَرَهُ اللَّهُ بِمَحْوِ ذَنْبِهِ مِنْ الصُّحُفِ أَوْ لَا يُؤَاخِذُهُ بِهَا وَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي الصُّحُفِ إظْهَارًا لِفَضْلِ اللَّهِ سبحانه وتعالى، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، وَقَدَّمَ الدُّعَاءَ لِنَفْسِهِ لِحَدِيثِ:" كَانَ صلى الله عليه وسلم إذَا دَعَا بَدَأَ بِنَفْسِهِ " وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ {رَبِّ اغْفِرْ لِي} [نوح: 28][قَوْلُهُ: وَلِوَالِدِيهِ] أَعَادَ الْجَارَ لِقَوْلِ ابْنِ مَالِكٍ: وَعَوْدُ خَافِضٍ لَدَى عَطْفٍ عَلَى. إلَخْ وَتَرَكَهُ فِيمَا بَعْدُ إشَارَةً إلَى أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ لِقَوْلِ ابْنِ مَالِكٍ: وَلَيْسَ عِنْدِي لَازِمًا.
وَالْأَنْسَبُ أَنْ يُقْرَأَ بِكَسْرِ الدَّالِ جَمْعًا لِيَشْمَلَ الْأَجْدَادَ وَالْجَدَّاتِ، فَالْجَدُّ وَالِدٌ وَالْجَدَّةُ وَالِدَةٌ، فَفِيهِ تَغْلِيبُ الْوَالِدِينَ عَلَى الْوَالِدَاتِ. [قَوْلُهُ: وَمَشَايِخِهِ] جَمْعُ شَيْخٍ وَيُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى شُيُوخٍ وَأَشْيَاخٍ، وَالشَّيْخُ فِي الْأَصْلِ عِبَارَةٌ عَمَّنْ طَعْنٍ فِي السِّنِّ ثُمَّ صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً فِيمَنْ بَلَغَ رُتْبَةَ أَهْلِ الْفَضْلِ وَلَوْ صَبِيًّا، وَأَرَادَ مَشَايِخَ عِلْمٍ أَوْ طَرِيقَةٍ وَقَدَّمَ الدُّعَاءَ لِوَالِدَيْهِ عَلَى الدُّعَاءِ لِمَشَايِخِهِ؛ لِأَنَّ تَرْبِيَةَ وَالِدَيْهِ سَابِقَةٌ وَإِنْ كَانَتْ تَرْبِيَةَ الْمَشَايِخِ أَقْوَى؛ لِأَنَّ تَرْبِيَةَ الْوَالِدَيْنِ لِحِفْظِ جِسْمٍ فَانٍ، وَتَرْبِيَةَ الْمَشَايِخِ لِحِفْظِ رُوحٍ بَاقِيَةٍ. [قَوْلُهُ: وَأَوْلَادِهِ] أَرَادَ بِهِمْ مَا يَشْمَلُ التَّلَامِذَةَ إنْ كَانَ لِلشَّيْخِ أَوْلَادُ نَسَبٍ وَإِلَّا فَهُمْ التَّلَامِذَةُ. [قَوْلُهُ: وَإِخْوَانِهِ] جَمْعُ أَخٍ.
قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ: لَامَهُ مَحْذُوفَةٌ وَهِيَ وَاوٌ وَتُرَدُّ فِي التَّثْنِيَةِ عَلَى الْأَشْهَرِ، فَيُقَالُ: أَخَوَانِ، وَفِي لُغَةٍ يُسْتَعْمَلُ مَنْقُوصًا فَيُقَالُ: أَخَانِ وَجَمْعُهُ إخْوَةٌ وَإِخْوَانٌ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ فِيهِمَا وَضَمُّهَا لُغَةٌ اهـ.
وَأَرَادَ بِهِمْ مَا يُشَارِكُهُ فِي أَبٍ أَوْ أُمٍّ أَوْ فِيهِمَا عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ مُشَارِكٌ فِيمَا ذُكِرَ أَوْ الْأَصْحَابُ أَوْ مَا يَشْمَلُ الْمُشَارِكَ فِيمَا ذُكِرَ، وَالْأَصْحَابُ عَلَى التَّقْدِيرِ الْمَذْكُورِ وَإِنْ غَلَبَ فِي الْأَصْحَابِ كَمَا فِي الْفَتْوَى.
[قَوْلُهُ: وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ. . . إلَخْ] قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ نُفُوذِ الْوَعِيدِ فِي طَائِفَةٍ مِنْ الْعُصَاةِ فَيَكُونُ لَفْظُ جَمِيعٍ إمَّا مِنْ بَابِ الْكُلِّ الْمَجْمُوعِيِّ أَيْ بَعْضُهُمْ عَلَى التَّجَوُّزِ كَمَا أَفَادَهُ بَعْضُ شُيُوخِنَا أَوْ الْجَمِيعِيُّ، وَيُخَصَّصُ بِمَنْ عَدَا مَنْ يُرِيدُ اللَّهُ نُفُوذَ الْوَعِيدِ فِيهِ أَوْ لَا يُخَصَّصُ بِأَنْ يُرَادَ تَعَلُّقُ الْغُفْرَانِ بِكُلِّ فَرْدٍ مِنْهُمْ وَلَوْ بِاعْتِبَارِ بَعْضِ الذُّنُوبِ، وَخُلَاصَتُهُ أَنَّ الْمُمْتَنِعَ إنَّمَا هُوَ الدُّعَاءُ بِغُفْرَانِ جَمِيعِ الذُّنُوبِ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْعُمُومِ.
[قَوْلُهُ: هَذَا إلَخْ] مَقُولُ الْقَوْلِ وَالْإِشَارَةُ رَاجِعَةٌ لِمَا فِي الذِّهْنِ بِنَاءً عَلَى التَّحْقِيقِ، أَنَّ مُسَمَّى الْكِتَابِ الْأَلْفَاظُ
وَأَعَادَ عَلَيْنَا وَعَلَى أَحْبَابِنَا مِنْ بَرَكَاتِهِ وَنَفَعَنَا بِعُلُومِهِ وَجَعَلَنَا مِنْ الْمُتَّبِعِينَ لَهُ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَعِتْرَتِهِ آمِينَ تَلْخِيصًا حَسَنًا مُجْتَنِبًا فِيهِ التَّطْوِيلَ الْمُمِلَّ وَالِاخْتِصَارَ الْمُخِلَّ لِيَنْتَفِعَ
ــ
[حاشية العدوي]
الْمَخْصُوصَةُ بِاعْتِبَارِ دَلَالَتِهَا عَلَى الْمَعَانِي الْمَخْصُوصَةِ كَانَتْ الْخُطْبَةُ مُتَقَدِّمَةً عَلَى التَّأْلِيفِ أَمْ لَا؛ لِأَنَّ الْأَلْفَاظَ أَعْرَاضٌ تَنْقَضِي بِمُجَرَّدِ النُّطْقِ بِهَا فَشَبَّهَهَا بِمَحْسُوسٍ بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ حَاضِرٍ بِجَامِعِ التَّعَيُّنِ، وَاسْتَعَارَ لَهَا لَفْظَ هَذَا، الْمَوْضُوعُ لِلْمُشَاهِدِ الْمَحْسُوسُ عَلَى مَا هُوَ مُبَيَّنٌ اسْتِعَارَةً تَصْرِيحِيَّةً.
[قَوْلُهُ: تَعْلِيقٌ] أَيْ مُعَلَّقٌ أَيْ مَوْضُوعٌ، فَالْمَصْدَرُ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ أَوْ أَنَّ تَعْلِيقَ صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً فِي الْمُؤَلَّفِ. [قَوْلُهُ: لَطِيفٌ] قَالَ النَّاصِرُ اللَّقَانِيُّ: اللَّطِيفُ رَقِيقُ الْقَوَامِ أَوْ كَوْنُهُ شَفَّافًا لَا يَحْجُبُ الْبَصَرَ عَنْ إدْرَاكِ مَا وَرَاءَهُ اهـ.
فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي قَلِيلِ الْأَلْفَاظِ عَلَى الْأَوَّلِ أَوْ سَهْلِ الْمَأْخَذِ عَلَى الثَّانِي عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ التَّصْرِيحِيَّةِ التَّبَعِيَّةِ، أَوْ أَنَّهُ عَلَى حَذْفِ الْكَافِ أَيْ كَاللَّطِيفِ، فَقَدْ شَبَّهَ قِلَّةَ الْأَلْفَاظِ أَوْ سُهُولَةَ الْمَأْخَذِ بِرِقَّةِ الْقَوَامِ أَوْ الشَّفَّافِيَّةِ، وَاسْتُعِيرَ اللُّطْفُ الَّذِي هُوَ اسْمُ الْمُشَبَّهِ بِهِ لِلْمُشَبَّهِ، وَاشْتُقَّ مِنْ اللُّطْفِ بِمَعْنَى قِلَّةِ الْأَلْفَاظِ أَوْ سُهُولَةِ الْمَأْخَذِ لَطِيفٌ بِمَعْنَى قَلِيلِ الْأَلْفَاظِ أَوْ سَهْلِ الْمَأْخَذِ هَذَا عَلَى الِاسْتِعَارَةِ. وَأَمَّا عَلَى التَّشْبِيهِ فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ.
[قَوْلُهُ: لَخَّصْتُهُ] أَيْ جَمَعْتُهُ أَيْ أُلَخِّصُهُ عَلَى أَنَّ الْخُطْبَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى التَّأْلِيفِ أَوْ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ عَلَى أَنَّهَا مُتَأَخِّرَةٌ عَنْهُ، وَيُعَيِّنُ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ بَعْدُ، وَاَللَّهَ أَسْأَلُهُ الْمَعُونَةَ عَلَى ذَلِكَ. [قَوْلُهُ: مِنْ شَرْحَيْ الْوَسَطِ وَالْكَبِيرِ] اعْلَمْ أَنَّ لِلشَّارِحِ شُرُوحًا سِتَّةً عَلَى هَذَا الْكِتَابِ بَيَّنَهَا الْفِيشِيُّ بِقَوْلِهِ: الْأَوَّلُ غَايَةُ الْأَمَانِيِّ.
وَالثَّانِي تَحْقِيقُ الْمَبَانِي.
وَالثَّالِثُ تَوْضِيحُ الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي.
وَالرَّابِعُ تَلْخِيصُ التَّحْقِيقِ.
وَالْخَامِسُ الْفَيْضُ الرَّحْمَانِيُّ.
وَالسَّادِسُ كِفَايَةُ الطَّالِبِ الرَّبَّانِيِّ وَالْكَبِيرُ هُوَ غَايَةُ الْأَمَانِيِّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْوَسَطِ تَحْقِيقَ الْمَبَانِي كَمَا وَجَدَتْ تَقْيِيدًا يُقَيِّدُهُ بِحَسَبِ مَا ظَهَرَ لِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَهُ تَأْلِيفٌ عَلَى الْعَقِيدَةِ مُسْتَقِلٌّ وَتَآلِيفُ شَتَّى، وَقَوْلُهُ: عَلَى رِسَالَةِ حَالٌ إمَّا مِنْ شَرْحَيْ أَوْ مِنْ الْوَسَطِ وَالْكَبِيرِ.
قَالَ (عج) : وَسُمِّيَتْ رِسَالَةً لِلسُّلُوكِ بِهَا مَسْلَكَ الرَّسَائِلِ الْجَارِيَةِ بَيْنَ النَّاسِ عَادَةً. [قَوْلُهُ: رحمه الله إلَخْ] جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ لَفْظًا إنْشَائِيَّةٌ مَعْنًى أَيْ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ أَيْ أَنْعِمْ عَلَيْهِ. [قَوْلُهُ: وَأَعَادَ] أَيْ أَوْصَلَ. [قَوْلُهُ: وَعَلَى أَحْبَابِنَا] جَمْعُ حِبٍّ بِمَعْنَى مَحْبُوبٍ كَمَا فِي الْقَامُوسِ فَلَا يَشْمَلُ مَنْ يُحِبُّ الشَّارِحُ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ مَحْبُوبًا لَهُ لِكَوْنِهِ أَتَى بَعْدَهُ مَثَلًا.
[قَوْلُهُ: مِنْ بَرَكَاتِهِ] أَيْ شَيْءٌ مِنْ بَرَكَاتِهِ فَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ أَوْ بَعْضُ بَرَكَاتِهِ فَالْمَفْعُولُ مِنْ بِمَعْنَى بَعْضٍ، ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِهَا أَسْرَارَهُ وَمَعَارِفَهُ، فَالْعِبَارَةُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ مِنْ مُمَاثِلِ أَسْرَارِهِ وَمَعَارِفِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِهَا خَيْرَاتٍ تَصِلُ لِلشَّارِحِ وَأَحْبَابِهِ يَكُونُ الْمُصَنِّفُ وَاسِطَةً فِيهَا، أَوْ أَنَّ الْمَعْنَى وَأَعَادَ عَلَيْنَا شَيْئًا نَافِعًا أَجْلِ بَرَكَاتِهِ أَيْ أَسْرَارِهِ وَمَعَارِفِهِ، أَيْ مِنْ أَجْلِ التَّوَسُّلِ بِهَا فَمِنْ لِلتَّعْلِيلِ وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ كَمَا قُلْنَا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: بِعُلُومِهِ] مُتَعَلِّقٌ بِنَفَعَ وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، وَالْمُرَادُ الْعُلُومُ الَّتِي اسْتَفَادَهَا الشَّارِحُ مِنْ كُتُبِهِ لَا مُطْلَقُ الْعُلُومِ، فَيَكُونُ سَأَلَ اللَّهَ أَنْ يَنْفَعَهُ بِتِلْكَ الْعُلُومِ بِأَنْ يَعْمَلَ بِهَا وَتَكُونَ سَبَبًا لِلظَّفَرِ بِالْجِنَانِ، أَوْ أَنَّ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالتَّقْدِيرُ نَفَعَنَا بِمَا عَلَّمْنَاهُ حَالَةَ كَوْنِنَا مُتَوَسِّلِينَ لَهُ بِعُلُومِهِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ عُلُومِهِ مُطْلَقًا. [قَوْلُهُ: فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ] أَيْ بِأَنْ نَقُولَ مِثْلَ مَا يَقُولُ وَنَفْعَلَ مِثْلَ مَا يَفْعَلُ، أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاتِّبَاعِ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ أَنْ نَعْمَلَ بِمُقْتَضَى أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ.
1 -
[قَوْلُهُ: بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ] مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ حَالٌ تَنَازَعَ فِيهَا الْأَفْعَالُ الْمُتَقَدِّمَةُ أَيْ رحمه الله إلَخْ فِي حَالِ كَوْنِنَا مُتَوَسِّلِينَ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ. [قَوْلُهُ: وَآلِهِ] ظَاهِرُهُ وَلَوْ عُصَاةً، وَلَا مَانِعَ مِنْ التَّوَسُّلِ بِآلِهِ وَلَوْ عُصَاةً؛ لِأَنَّهُمْ بَضْعَةٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ أَقَارِبُهُ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، وَبَيْنَ الْآلِ بِذَلِكَ الْمَعْنَى وَالصَّحْبِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ. مِنْ وَجْهٍ يَجْتَمِعَانِ فِي سَيِّدِنَا عَلِيٍّ مَثَلًا، وَيَنْفَرِدُ الْآلُ فِي أَقَارِبِهِ الَّذِينَ لَمْ يَرَوْهُ وَالصَّحْبُ فِي أَبِي بَكْرٍ مَثَلًا.
[قَوْلُهُ: وَصَحْبِهِ] جَمْعٌ لِصَاحِبٍ بِمَعْنَى الصَّحَابِيِّ أَوْ اسْمُ جَمْعٍ لَهُ قَوْلَانِ،
بِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُبْتَدِي لِقِرَاءَتِهَا وَالْمُنْتَهِي لِمُطَالَعَتِهَا، اقْتَصَرَتْ فِيهِ عَلَى حَلِّ أَلْفَاظِهَا وَذِكْرِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ
ــ
[حاشية العدوي]
وَالصَّحَابِيُّ مَنْ اجْتَمَعَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُؤْمِنًا وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ، سَوَاءٌ طَالَ اجْتِمَاعُهُ بِهِ أَوْ لَمْ يَطُلْ، بِخِلَافِ التَّابِعِيِّ مَعَ الصَّحَابِيِّ فَلَا بُدَّ مِنْ طُولِ اجْتِمَاعِهِ بِالصَّحَابِيِّ حَتَّى يُسَمَّى تَابِعِيًّا. [قَوْلُهُ: وَعِتْرَتِهِ] قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: رَوَى ثَعْلَبٌ عَنْ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّ الْعِتْرَةَ وَلَدُ الرَّجُلِ وَذُرِّيَّتُهُ وَعَقِبُهُ مِنْ صُلْبِهِ، وَلَا تَعْرِفُ الْعَرَبُ مِنْ الْعِتْرَةِ غَيْرَ ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: الْعِتْرَةُ وَالرَّهْطُ بِمَعْنًى، وَرَهْطُ الرَّجُلِ قَوْمُهُ وَقَبِيلَتُهُ الْأَقْرَبُونَ، فَعَلَى الْأَوَّلِ تَكُونُ الْعِتْرَةُ أَخَصَّ مِنْ الْآلِ، فَالْأَنْسَبُ ذِكْرُهُ بِلَصْقِهِ وَعَلَى الثَّانِي أَعَمُّ مِنْهُ. [قَوْلُهُ: آمِينَ] كَذَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ، اسْمُ فِعْلٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَتْحِ بِمَعْنَى اسْتَجِبْ مُتَعَلِّقٌ بِالْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ. [قَوْلُهُ: تَلْخِيصًا] مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِقَوْلِهِ لَخَّصْته. [قَوْلُهُ: مُجْتَنِبًا] حَالٌ مِنْ فَاعِلِ لَخَّصْته، وَهُوَ فِي الْمَعْنَى عِلَّةٌ لِقَوْلِهِ حَسَنًا، أَوْ أَنَّ الْحُسْنَ مِنْ جِهَةِ بَلَاغَةِ نَظْمِهِ.
[قَوْلُهُ: التَّطْوِيلُ إلَخْ] التَّطْوِيلُ كَمَا أَفَادَهُ أَهْلُ الْمَعَانِي الزِّيَادَةُ عَلَى أَصْلِ الْمَعْنَى لَا لِفَائِدَةٍ، وَلَا يَكُونُ الزَّائِدُ مُتَعَيِّنًا كَقَوْلِهِ:
وَأَلْفَى قَوْلَهَا
…
كَذِبًا وَمَيْنًا
فَإِنَّ الْمَيْنَ هُوَ الْكَذِبُ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الزَّائِدُ مُتَعَيِّنًا فَهُوَ الْحَشْوُ كَقَوْلِهِ:
وَأَعْلَمُ عِلْمَ
…
الْيَوْمِ وَالْأَمْسِ قَبْلَهُ
فَإِنَّ قَوْلَهُ قَبْلَهُ مُتَعَيِّنٌ لِلزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّهُ يُعْلَمُ مِنْ كَوْنِهِ أَمْسِ أَنْ يَكُونَ قَبْلَهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ التَّطْوِيلَ لُغَةً وَهُوَ كَثْرَةُ الْعِبَارَاتِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا فَائِدَةٌ. [قَوْلُهُ: الْمُمِلَّ] أَيْ الْمُورِثَ لِلْمَلَلِ وَالسَّآمَةِ.
[قَوْلُهُ: وَالِاخْتِصَارَ] هُوَ تَقْلِيلُ الْأَلْفَاظِ، [وَقَوْلُهُ: الْمُخِلَّ] أَيْ الَّذِي يَتَعَذَّرُ مَعَهُ فَهْمُ الْمَعْنَى أَوْ يَتَعَسَّرُ، وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ الْكَلَامَ الْمَنْفِيَّ الْمُقَيَّدَ بِقَيْدٍ يَتَسَلَّطُ النَّفْيُ عَلَى ذَلِكَ الْقَيْدِ، وَالنَّفْيُ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ لَفْظُ مُجْتَنِبًا أَيْ فَالْمَنْفِيُّ هُنَا الْإِمْلَالُ وَالْخَلَلُ، فَيُفِيدُ ثُبُوتَ أَصْلِ التَّطْوِيلِ وَأَصْلِ الِاخْتِصَارِ، وَذَلِكَ جَمْعٌ بَيْنَ مُتَنَافِيَيْنِ، وَيُجَابُ بِأَنَّ ذَاكَ عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَحَلِّ، وَأَمَّا عِنْدَ تَعَدُّدِهِ كَأَنْ يَكُونَ التَّطْوِيلُ فِي مَوْضِعٍ وَالِاخْتِصَارُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَلَا تَنَافِي فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: لِيَنْتَفِعَ] عِلَّةٌ لِقَوْلِهِ حَسَنًا أَوْ مُجْتَنِبًا. [قَوْلُهُ: إنْ شَاءَ اللَّهُ] أَتَى بِهِ امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} [الكهف: 23][قَوْلُهُ: الْمُبْتَدِي إلَخْ] هُوَ مَنْ حَصَّلَ شَيْئًا مَا مِنْ الْفَنِّ وَالْمُنْتَهِي مَنْ حَصَّلَ أَكْثَرَهُ وَصَلُحَ لِإِفَادَتِهِ.
قَالَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ زَكَرِيَّا: وَمُفَادُهُ أَنَّ الَّذِي لَمْ يَشْرَعْ وَالْحَالُ أَنَّهُ مُتَوَجِّهٌ لِلشُّرُوعِ أَوْ لَمْ يُحَصِّلْ لَا يُقَالُ فِيهِ مُبْتَدِئٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُبْتَدِئَ صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً فِي هَذَيْنِ، وَاَلَّذِي حَصَّلَ شَيْئًا أَيْ قَلِيلًا وَقَصَرَ النَّفْعَ عَلَى الْمُبْتَدِئِ وَالْمُنْتَهِي مَعَ أَنَّ الْمُتَوَسِّطَ كَذَلِكَ، وَيُجَابُ بِأَنَّهُ مَفْهُومٌ مِنْ الْمُنْتَهِي بِالْأَوْلَى، وَيُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْمُتَوَسِّطَ مَنْ حَصَّلَ نِصْفَهُ أَوْ أَكْثَرَهُ وَلَمْ يَصْلُحْ لِإِفَادَتِهِ، وَإِذَا كَانَ مَنْ حَصَّلَ أَكْثَرَهُ وَصَلُحَ لِإِفَادَتِهِ مُنْتَهِيًا فَلْيَكُنْ مَنْ حَصَّلَ كُلَّهُ وَصَلُحَ لِإِفَادَتِهِ مُنْتَهِيًا بِالْأَوْلَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ حَصَّلَ كُلَّهُ وَلَمْ يَصْلُحْ لِإِفَادَتِهِ يُقَالُ لَهُ مُتَوَسِّطٌ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ إنَّمَا يَتِمُّ إذَا سُلِّمَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَحْصِيلِ الشَّيْءِ الصَّلَاحِيَّةُ لِلْإِفَادَةِ وَفِيهِ مَا فِيهِ.
[قَوْلُهُ: لِقِرَاءَتِهَا] اللَّامُ بِمَعْنَى فِي أَيْ فِي حَالِ قِرَاءَتِهَا، وَالْمَانِعُ مِنْ إبْقَائِهَا عَلَى أَصْلِهَا صِدْقُهُ بِاَلَّذِي حَصَّلَ الْعِلْمَ مِنْ غَيْرِهَا، وَأَرَادَ أَنْ يَبْتَدِئَ قِرَاءَتَهَا مَعَ أَنَّهُ لَا يُقَالُ لَهُ مُبْتَدِئٌ. [قَوْلُهُ: لِمُطَالَعَتِهَا] أَيْ فِي حَالِ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهَا، فَقَدْ قَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ: طَالَعَهُ طِلَاعًا وَمُطَالَعَةً اطَّلَعَ عَلَيْهِ اهـ.
[قَوْلُهُ: اقْتَصَرْت فِيهِ عَلَى حَلِّ أَلْفَاظِهَا] أَرَادَ بِهِ مَا يَشْمَلُ بَيَانَ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ وَبَيَانَ الْمَعْنَى، وَفِي الْعِبَارَةُ اسْتِعَارَةٌ بِالْكِنَايَةِ وَتَخْيِيلٌ، فَشَبَّهَ الْأَلْفَاظَ مِنْ حَيْثُ عَدَمُ
مِنْ الْقُيُودِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى مَا فِيهَا مِنْ غَيْرِ الْمَشْهُورِ وَمَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ الرُّمُوزِ: بِمَا صُورَتُهُ: (ك) فَلِلْفَاكِهَانِيِّ وَبِمَا صُورَتُهُ (ق) فَلِلْأَقْفَهْسِيِّ وَبِمَا صُورَتُهُ (ع) فَلِابْنِ عُمَرَ وَبِمَا صُورَتُهُ (ج) فَلِابْنِ نَاجِي وَبِمَا صُورَتُهُ (د) فَلِلشَّيْخِ أَحْمَدَ زَرُّوقٍ، وَسَمَّيْته: كِفَايَةُ الطَّالِبِ الرَّبَّانِيِّ لِرِسَالَةِ ابْنِ أَبِي زَيْدٍ الْقَيْرَوَانِيِّ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَلِمَنْ رَأَى فِيهِ غَيْرَ الصَّوَابِ وَأَصْلَحَهُ وَمَنْ نَظَرَ فِيهِ وَدَعَا لِمُؤَلِّفِهِ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَاَللَّهَ أَسْأَلُ الْمَعُونَةَ عَلَى ذَلِكَ الَّذِي أَمَّلْنَاهُ بِمَنِّهِ
ــ
[حاشية العدوي]
حُصُولِ الْمُرَادِ مِنْهَا بِشَيْءٍ مَعْقُودٍ عَلَى مَطْلُوبٍ، وَاسْتُعِيرَ اسْمُ الْمُشَبَّهِ بِهِ لِلْمُشَبَّهِ فِي النَّفْسِ وَالْحَلُّ قَرِينَةٌ، وَإِضَافَةُ الْأَلْفَاظِ إلَيْهَا لِلْبَيَانِ أَيْ أَلْفَاظُ هِيَ الرِّسَالَةِ إذْ يَجُوزُ إضَافَةِ الشَّيْءِ إلَى نَفْسِهِ، إذَا اخْتَلَفَ اللَّفْظُ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ الَّذِي هُوَ الْمُعْتَمَدُ. [قَوْلُهُ: وَذِكْرِ] مَعْطُوفٌ عَلَى حَلِّ. [قَوْلُهُ: مِنْ الْقُيُودِ] بَيَانٌ لِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَأَلْ الْجِنْسِيَّةُ إذَا دَخَلَتْ عَلَى جَمْعٍ أَبْطَلَتْ جَمْعِيَّتَهُ، فَالْمُرَادُ جِنْسُ الْقُيُودِ فَيَصْدُقُ بِقَيْدٍ وَاحِدٍ أَوْ أَنَّ الْجَمْعَ بِاعْتِبَارِ مَجْمُوعِ الْكِتَابِ فَتَدَبَّرْ.
تَنْبِيهٌ: أَطْلَقَ الْمَاضِي أَعْنِي اقْتَصَرْت وَذَكَرْت وَمَا وَقَعَ إلَخْ وَأَرَادَ الْمُضَارِعَ. [قَوْلُهُ: وَالتَّنْبِيهِ] يَجُوزُ عَطْفُهُ عَلَى الْقُيُودِ وَعَلَى حَلِّ. [قَوْلُهُ: وَمَا وَقَعَ] مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ قَوْلُهُ فَلِلْفَاكِهَانِيِّ إلَخْ.
[قَوْلُهُ: مِنْ الرُّمُوزِ] الرُّمُوزُ جَمْعُ رَمْزٍ، وَهُوَ الْإِشَارَةُ بِعَيْنٍ أَوْ حَاجِبٍ أَوْ شَفَةٍ كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ، وَأَرَادَ بِالرَّمْزِ هُنَا الْإِشَارَةَ إلَى هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخِ بِأَحْرُفٍ مَخْصُوصَةٍ مُقْتَطِعَةٍ مِنْ أَسْمَائِهَا. [قَوْلُهُ: ك] أَيْ الَّذِي هُوَ مُسَمًّى كَافٍ، وَهَكَذَا فِيمَا سَيَأْتِي. [قَوْلُهُ: فَلِلْفَاكِهَانِيِّ] هُوَ عُمَرُ بْنُ أَبِي الْيَمَنِ عَلِيُّ بْنُ سَالِمِ بْنِ صَدَقَةَ اللَّخْمِيُّ الْمَالِكِيُّ الشَّهِيرُ بِتَاجِ الدِّينِ الْفَاكِهَانِيِّ يُكَنَّى أَبَا حَفْصٍ الْإِسْكَنْدَرِيَّ، تُوُفِّيَ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ وَمَوْلِدُهُ بِهَا.
[قَوْلُهُ: فَلِلْأَقْفَهْسِيِّ] هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مِقْدَادٍ الْأَقْفَهْسِيُّ الْقَاضِي جَمَالُ الدِّينِ، تَفَقَّهَ بِالشَّيْخِ خَلِيلٍ وَشَرَحَ مُخْتَصَرِ الشَّيْخِ خَلِيلٍ فِي ثَلَاثِ مُجَلَّدَاتٍ، تُوُفِّيَ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ، ذَكَرَهُ فِي الدُّرَرِ الْكَامِنَةِ. [قَوْلُهُ: فَلِابْنِ عُمَرَ] هُوَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ الْفَاسِيُّ كَانَ شَيْخًا صَالِحًا عَالِمًا مُحَقِّقًا عَابِدًا، تُوُفِّيَ سَنَةَ إحْدَى وَسِتِّينَ وَسَبْعِمِائَةٍ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ.
قَالَ الشَّيْخُ زَرُّوقٌ: إنَّ تَقْيِيدَهُ وَتَقْيِيدَ الْجُزُولِيِّ وَمَنْ فِي مَعْنَاهُمَا لَا يُنْسَبُ إلَيْهِمْ تَأْلِيفًا، وَإِنَّمَا هِيَ تَقَالِيدُ الطَّلَبَةِ. [قَوْلُهُ: فَلِابْنِ نَاجِي] هُوَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عِيسَى بْنُ نَاجِي أَبُو الْفَضْلِ، وَأَبُو الْقَاسِمِ شَرَحَ الْمُدَوَّنَةِ وَالرِّسَالَةِ، أَخَذَ عَنْ الشَّبِيبِيِّ وَابْنِ عَرَفَةَ وَأَصْحَابِهِ.
فَائِدَةٌ: مَتَى قَالَ ابْنُ نَاجِي شَيْخُنَا وَأَطْلَقَهُ فَالْمُرَادُ بِهِ الْبُرْزُلِيُّ وَإِنْ قَيَّدَهُ فَأَبُو مَهْدِيٍّ، وَإِنْ قَالَ بَعْضُ شُيُوخِنَا فَهُوَ ابْنُ عَرَفَةَ.
[قَوْلُهُ: لِلشَّيْخِ أَحْمَدَ زَرُّوقٍ] جَمَعَ بَيْنَ الشَّرِيعَةِ وَالْحَقِيقَةِ، وَلِذَا وَصَفَهُ الشَّارِحُ بِالشَّيْخِ، أَخَذَ عَنْ الْعَلَّامَةِ شَيْخِ عَصْرِهِ الشَّيْخِ عَلِيٍّ السَّنْهُورِيِّ.
قَالَ الشَّيْخُ زَرُّوقٌ: وَإِنَّمَا جَاءَنِي زَرُّوقٌ مِنْ جِهَةِ الْجَدِّ رحمه الله كَانَ أَزْرَقَ الْعَيْنَيْنِ وَاكْتَسَبَ ذَلِكَ مِنْ أُمِّهِ، لَهُ تَآلِيفُ كَثِيرَةٌ كَشَرْحِ الْإِرْشَادِ وَشَرْحِ الرِّسَالَةِ وَقِطْعَةٌ عَلَى مُخْتَصَرِ الشَّيْخِ خَلِيلٍ وَغَيْرُ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرَهُ الْبَدْرُ الْقَرَافِيُّ، تُوُفِّيَ بِبِلَادِ طَرَابُلُسَ فِي صَفَرٍ عَامَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ. [قَوْلُهُ: وَسَمَّيْته] مَعْطُوفٌ عَلَى لَخَّصْته أَيْ سَمَّيْت ذَلِكَ التَّعْلِيقَ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلِاسْتِئْنَافِ [قَوْلُهُ: الرَّبَّانِيُّ] نِسْبَةً لِلرَّبِّ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ بِزِيَادَةِ الْأَلْفِ وَالنُّونِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى كَمَالِ الصِّفَةِ كَمَا يُقَالُ لِكَثِيرِ الشَّعْرِ شَعْرَانِيٌّ وَالرَّبَّانِيُّ هُوَ شَدِيدُ التَّمَسُّكِ بِدِينِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ.
قَالَهُ فِي الْكَشَّافِ، وَأَرَادَ بِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ فِيمَا يَظْهَرُ، الْقَاصِدَ بِطَلَبِهِ الْعِلْمَ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى فَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ يَكْفِي مَنْ كَانَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ. [قَوْلُهُ: لِرِسَالَةِ] مُتَعَلِّقٌ بِالطَّالِبِ أَيْ الطَّالِبِ لِفَهْمِ رِسَالَةِ ابْنِ أَبِي زَيْدٍ [قَوْلُهُ: غَيْرَ الصَّوَابِ] وَهُوَ الْخَطَأُ [قَوْلُهُ: وَأَصْلَحَهُ] أَيْ بِالْكِتَابَةِ فِي أَوْرَاقٍ أَوْ عَلَى الطُّرَّةِ لَا يَمْحُوهُ مِنْ أَصْلِهِ، وَيُثْبِتُ ذَلِكَ الصَّوَابَ بَدَلَهُ لِاحْتِمَالِ
وَكَرَمِهِ إنَّهُ عَلَى مَا يَشَاءُ قَدِيرٌ وَبِالْإِجَابَةِ جَدِيرٌ.
فَأَقُولُ: وَهُوَ حَسْبِي وَنِعْمَ الْوَكِيلُ: افْتَتَحَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله كَغَيْرِهِ مِنْ الْمُؤَلِّفِينَ: بِ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) اقْتِدَاءً بِكِتَابِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْوَارِدِ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ وَعَمَلًا بِقَوْلِ
ــ
[حاشية العدوي]
أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَمْحُوُّ صَوَابًا. [قَوْلُهُ: وَمَنْ نَظَرَ فِيهِ] أَيْ بِعَيْنِ الرِّضَا لَا بِعَيْنِ السُّخْطِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُ وَدَعَا إلَخْ.
[قَوْلُهُ: لِمُؤَلِّفِهِ إلَخْ] كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ وَدَعَا لِي؛ لِأَنَّ الْمَقَامَ يَقْتَضِيهِ، وَيُجَابُ بِأَنَّ الْإِظْهَارَ لِنُكْتَةِ أَنَّ عِلَّةَ الدُّعَاءِ التَّأْلِيفُ؛ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الْحُكْمِ بِمُشْتَقٍّ يُؤْذِنُ بِعِلِّيَّةِ الْمَأْخَذِ، وَهُوَ الْمَصْدَرُ.
[قَوْلُهُ: بِالْمَغْفِرَةِ] هِيَ سَتْرُ الذَّنْبِ. [قَوْلُهُ: وَالرَّحْمَةِ] هِيَ الْإِنْعَامُ، وَالْوَاوُ بِمَعْنَى أَوْ لِيُفِيدَ أَنَّ مَنْ دَعَا بِأَحَدِهِمَا يَدْخُلُ فِي الدُّعَاءِ مِنْ الْمُؤَلِّفِ بِخِلَافِ مَا لَوْ بَقِيَتْ عَلَى حَالِهَا، فَتُفِيدُ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ إلَّا مَنْ دَعَا بِهِمَا مَعًا. [قَوْلُهُ: وَاَللَّهَ أَسْأَلُ إلَخْ] يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْجَلَالَةِ مُبْتَدَأً وَأَسْأَلُ خَبَرًا وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ أَسْأَلُهُ، وَفِي نُسْخَةٍ إثْبَاتُهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مُقَدَّمًا لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ. [قَوْلُهُ: الْمَعُونَةَ] اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى الْإِعَانَةِ، وَهَلْ الْمِيمُ زَائِدَةٌ فَوَزْنُهَا مَفْعَلَةٌ بِضَمِّ الْعَيْنِ أَوْ أَصْلِيَّةٌ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْمَاعُونِ فَوَزْنُهَا فَعُولَةٌ؟ قَوْلَانِ أَفَادَهُمَا صَاحِبُ الْمِصْبَاحِ.
[قَوْلُهُ: الَّذِي أَمَّلْنَاهُ] أَيْ رَجَوْنَاهُ مِنْ كَوْنِ ذَلِكَ التَّعْلِيقِ مُلَخَّصًا تَلْخِيصًا حَسَنًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ. [قَوْلُهُ: بِمَنِّهِ إلَخْ] الْمَنُّ يُطْلَقُ عَلَى أَرْبَعَةِ مَعَانٍ كَمَا أَفَادَهُ بَعْضُهُمْ: الْإِنْعَامُ، وَالِامْتِنَانُ، وَالْقَطْعُ، وَإِذْهَابُ الْقُوَّةِ. وَالْمُرَادُ مِنْهُ هُنَا الْأَوَّلُ وَعَطْفُ الْكَرَمِ عَلَيْهِ عَطْفُ تَفْسِيرٍ، فَأَرَادَ بِالْكَرَمِ صِفَةَ الْفِعْلِ الَّتِي هِيَ الْإِنْعَامُ، وَالْبَاءُ بِمَعْنَى مِنْ حَالٌ مِنْ الْمَعُونَةِ أَيْ أَسْأَلُهُ الْإِعَانَةَ حَالَةَ كَوْنِ تِلْكَ الْإِعَانَةِ مِنْ إنْعَامِهِ وَكَرَمِهِ، أَيْ مِنْ أَفْرَادِهِ، فَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ يُوجِبُونَ عَلَى اللَّهِ فِعْلَ الصَّلَاحِ وَالْأَصْلَحِ.
[قَوْلُهُ: إنَّهُ إلَخْ] بِالْكَسْرِ اسْتِئْنَافًا لَفْظًا تَعْلِيلًا مَعْنًى وَبِالْفَتْحِ عَلَى حَذْفِ اللَّامِ أَيْ؛ لِأَنَّهُ. [قَوْلُهُ: عَلَى مَا يَشَاءُ] يَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ مَا مَوْصُولَةً أَيْ الَّذِي يَشَاؤُهُ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ مَشِيئَتَهُ، مُتَعَلِّقُ قُدْرَتِهِ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهَا قَدِيمَةٌ لَا تَتَعَلَّقُ بِهَا الْقُدْرَةُ. [قَوْلُهُ: عَلَى مَا يَشَاءُ] مُتَعَلِّقٌ بِقَدِيرٍ، وَقَوْلُهُ: وَبِالْإِجَابَةِ مُتَعَلِّقٌ بِجَدِيرٍ، أَيْ حَقِيقٍ. وَلَمَّا كَانَ اللَّهُ سبحانه وتعالى مُتَّصِفًا بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ نَاسَبَ أَنْ يُسْأَلَ إذْ مَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهِمَا مَعًا لَا يُسْأَلُ، وَقَدَّمَ الْأُولَى عَلَى الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ مُتَفَرِّعَةٌ مَعْنًى عَلَى الْأُولَى إذْ الْإِجَابَةُ فَرْعُ الْقُدْرَةِ. [قَوْلُهُ: فَأَقُولُ] مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَاَللَّهَ أَسْأَلُ إلَخْ.
[قَوْلُهُ: وَهُوَ حَسْبِي] : أَيْ مُحْتَسَبِي أَيْ كَافِيَّ وَهِيَ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ أَقْوَالٍ، وَمَعْمُولُهُ الَّذِي هُوَ افْتَتَحَ إلَخْ. [قَوْلُهُ: وَنِعْمَ الْوَكِيلُ] الْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ مَحْذُوفٌ أَيْ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ هُوَ، وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ نِعْمَ الْوَكِيلُ جُمْلَةٌ إنْشَائِيَّةٌ وَهِيَ لَا تُعْطَفُ عَلَى الْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ: وَهُوَ حَسْبِي، فَيُقَدَّرُ مُبْتَدَأٌ لِلْخُلُوصِ مِنْ ذَلِكَ، وَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ عَلَى مِثْلِهَا أَيْ وَهُوَ نِعْمَ الْوَكِيلُ وَمَعْنَاهُ وَهُوَ مَقُولٌ فِي حَقِّهِ نِعْمَ الْوَكِيلُ، فَتَكُونُ جُمْلَةً اسْمِيَّةً مُتَعَلِّقُ خَبَرِهَا جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ إنْشَائِيَّةٌ، وَإِنْ أَرَدْت تَمَامَ مَا فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ فَرَاجِعْ حَفِيدَ السَّعْدِ.
1 -
[قَوْلُهُ: افْتَتَحَ إلَخْ] مَقُولُ الْقَوْلِ أَيْ خَطًّا وَيَحْتَمِلُ وَلَفْظًا أَيْضًا. [قَوْلُهُ: كَغَيْرِهِ] حَالٌ مِنْ فَاعِلِ افْتَتَحَ أَيْ افْتَتَحَ الْمُصَنِّفُ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي حَالِ كَوْنِهِ مُمَاثِلًا لِغَيْرِهِ مِنْ الْمُؤَلِّفِينَ، وَلَعَلَّ فَائِدَةَ هَذِهِ الْحَالِ الْإِشَارَةُ إلَى أَنَّ الِافْتِتَاحَ الْمَذْكُورَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَيْ الْفِعْلِيِّ. [قَوْلُهُ: اقْتِدَاءً] مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ عَامِلُهُ افْتَتَحَ.
تَنْبِيهٌ: قَصَدَ بِقَوْلِهِ: اقْتِدَاءً أَنَّهُ مَبْدُوءٌ بِهَا لَفْظًا وَخَطًّا قَبْلَ الْفَاتِحَةِ، فَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ حَتَّى يَحْتَاجَ لِلْجَوَابِ بِأَنَّهُ مَبْدُوءٌ بِكِتَابَتِهَا فَقَطْ؛ لِأَنَّهَا تُنْدَبُ لَفْظًا أَيْضًا فِي أَوَّلِهِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ اتِّفَاقًا، وَإِنْ قُلْنَا لَيْسَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ كَمَا أَفَادَهُ ح.
[قَوْلُهُ: بِكِتَابِ اللَّهِ] مَصْدَرُ كَتَبَ سَمَاعِيٌّ إلَّا أَنَّهُ هُنَا بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ أَيْ بِمَكْتُوبِ اللَّهِ، أَوْ أَنَّ الْكِتَابَ صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً فِيهِ، وَالْإِضَافَةُ لِلْعَهْدِ أَيْ الْمَعْهُودُ عِنْدَنَا مَعْشَرَ الْأُمَّةِ وَهُوَ الْقُرْآنُ. [قَوْلُهُ: الْعَزِيزِ] أَيْ عَدِيمِ الْمِثَالِ، وَقِيلَ:
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَال لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَهُوَ أَقْطَعُ» . وَثَبَتَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ بَعْدَ الْبَسْمَلَةِ (وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ) لِمَا نَصَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْبُدَاءَةَ بِالصَّلَاةِ عَلَى
ــ
[حاشية العدوي]
هُوَ الَّذِي يَتَعَذَّرُ الْإِحَاطَةُ بِوَصْفِهِ وَيَعْسُرُ الْوُصُولُ إلَيْهِ مَعَ أَنَّ الْحَاجَةَ تَشْتَدُّ إلَيْهِ، وَحَيْثُ جُعِلَتْ الْإِضَافَةُ فِي كِتَابِ اللَّهِ لِلْعَهْدِ فَيَكُونُ لَفْظُ الْعَزِيزِ وَصْفًا مُؤَكِّدًا، وَيَصِحُّ أَنْ تُجْعَلَ إضَافَةُ كِتَابٍ لِلْجِنْسِ فَيَكُونُ الْعَزِيزُ وَصْفًا مُقَيَّدًا إذْ هُوَ وَصْفٌ خَاصٌّ بِالْقُرْآنِ، وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ كِتَابَ اسْمٌ جَامِدٌ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ فَلَا يُنَافِي مَا قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ التُّونُسِيُّ مِنْ إجْمَاعِ عُلَمَاءِ كُلِّ أُمَّةٍ عَلَى أَنَّ اللَّهَ افْتَتَحَ جَمِيعَ كُتُبِهِ بِبَسْمِ اللَّهِ.
وَيَشْهَدُ لَهُ خَبَرُ: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَاتِحَةُ كُلِّ كِتَابٍ " وَحِينَئِذٍ فَنُكْتَةُ التَّخْصِيصِ أَنَّهُ أَشْرَفُ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ. [قَوْلُهُ: الْوَارِدُ إلَخْ] قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ: وَرَدَ زَيْدٌ الْمَاءَ فَهُوَ وَارِدٌ، وَوَرَدَ زَيْدُ عَلَيْنَا وُرُودًا حَضَرَ، وَوَرَدَ الْكِتَابُ عَلَى الِاسْتِعَارَةِ اهـ.
فَإِذَا عَلِمْت ذَلِكَ فَنَقُولُ شَبَّهَ وُصُولَ الْقُرْآنِ إلَيْنَا بِالْوُرُودِ، وَاسْتُعِيرَ اسْمُ الْوُرُودِ لِلْوُصُولِ، وَاشْتُقَّ مِنْ الْوُرُودِ بِمَعْنَى الْوُصُولِ، وَارِدٌ بِمَعْنَى وَاصِلٌ.
[قَوْلُهُ: عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ] أَيْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَمَا فِي الصِّحَاحِ. [قَوْلُهُ: وَعَمَلًا] عَبَّرَ فِي جَانِبِ الْكِتَابِ بِالِاقْتِدَاءِ، وَفِي جَانِبِ الْحَدِيثِ بِالْعَمَلِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَمْرٌ بِالِابْتِدَاءِ بِخِلَافِ الْخَبَرِ، فَفِيهِ أَمْرٌ ضِمْنًا [قَوْلُهُ: بِقَوْلِ] يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِهِ الْمَصْدَرَ، فَقَوْلُهُ: كُلُّ أَمْرٍ إلَخْ مَعْمُولُهُ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَقُولُهُ فَقَوْلُهُ كُلُّ أَمْرٍ إلَخْ بَدَلٌ مِنْهُ. [قَوْلُهُ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم] هُوَ إنْسَانٌ ذَكَرٌ مِنْ بَنِي آدَمَ أُوحِيَ إلَيْهِ بِشَرْعٍ وَإِنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِتَبْلِيغِهِ فَإِنْ أُمِرَ بِذَلِكَ فَرَسُولٌ أَيْضًا فَالنَّبِيُّ أَعَمُّ مِنْ الرَّسُولِ.
[قَوْلُهُ: كُلُّ أَمْرٍ] أَيْ كُلُّ فَرْدٍ مَنْسُوبٍ لِلْأَمْرِ ذِي الْبَالِ مِنْ نِسْبَةِ الْجُزْئِيِّ لِكُلِّيِّهِ فَالْإِضَافَةُ عَلَى مَعْنَى اللَّازِمِ. [قَوْلُهُ: ذِي بَالٍ] أَيْ حَالٍ يُهْتَمُّ بِهِ شَرْعًا فَيَخْرُجُ الْمَكْرُوهُ وَالْمُحَرَّمُ فَتُكْرَهُ فِي الْمَكْرُوهِ وَتَحْرُمُ فِي الْمُحَرَّمِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْبَالِ الْقَلْبُ إمَّا؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ لِشَرَفِهِ وَعَظَمَتِهِ قَدْ مَلَكَ قَلْبَ صَاحِبِهِ لِاشْتِغَالِهِ بِهِ، وَإِمَّا؛ لِأَنَّهُ شُبِّهَ بِذِي قَلْبٍ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ بِالْكِنَايَةِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنْ تَقُولَ: شَبَّهَ الْأَمْرَ ذُو الْبَالِ بِإِنْسَانٍ، وَاسْتُعِيرَ اسْمُ الْمُشَبَّهِ بِهِ لِلْمُشَبَّهِ فِي النَّفْسِ وَأُثْبِتَ لِلْمُشَبَّهِ شَيْءٌ مِنْ لَوَازِمِ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَهُوَ الْقَلْبُ، وَفِي ذَلِكَ الْوَصْفِ فَائِدَةٌ وَهِيَ رِعَايَةُ تَعْظِيمِ اسْمِ اللَّهِ حَيْثُ لَا يُبْدَأُ بِهِ إلَّا فِي الْأُمُورِ الَّتِي لَهَا بَالٌ.
[قَوْلُهُ: لَا يُبْدَأُ فِيهِ] مَعْنَى بَدَأَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ تَصَدَّرَهُ بِذِكْرِهِ، وَنَائِبُ الْفَاعِلِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الظَّرْفُ الْأَوَّلُ أَوْ الثَّانِي وَهُوَ الْأَوْلَى لَا ضَمِيرَ مُسْتَتِرٌ؛ لِأَنَّ مَعْنَى بَدَأَ الشَّيْءَ أَنْشَأَهُ بِخِلَافِ بَدَأَ بِهِ بِمَعْنَى جَعَلَهُ أَوَّلًا كَمَا قَالَهُ الْجَعْبَرِيُّ.
[قَوْلُهُ: فَهُوَ أَقْطَعُ] مِنْ قَبِيلِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، أَيْ فَهُوَ كَالْأَقْطَعِ وَالْأَقْطَعُ هُوَ الَّذِي قُطِعَتْ يَدَاهُ أَوْ إحْدَاهُمَا، أَوْ مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ التَّصْرِيحِيَّةِ كَمَا فِي: زَيْدٌ أَسَدٌ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ سَعْدِ الدِّينِ وَالْمُشَابَهَةُ مِنْ حَيْثُ قِلَّةِ الْبَرَكَةِ أَوْ عَدَمِهَا.
تَنْبِيهٌ: هَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ لِكُبْرَى قِيَاسٍ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى طَلَبِ الِابْتِدَاءِ بِالْبَسْمَلَةِ فِي هَذَا التَّأْلِيفِ، فَنَقُولُ: هَذَا التَّأْلِيفُ أَمْرٌ ذُو بَالٍ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ يُطْلَبُ فِيهِ الْبُدَاءَةُ بِالْبَسْمَلَةِ يُنْتِجُ هَذَا التَّأْلِيفُ تُطْلَبُ فِيهِ الْبُدَاءَةُ بِالْبَسْمَلَةِ، أَمَّا الصُّغْرَى فَظَاهِرَةٌ وَأَمَّا الْكُبْرَى فَدَلِيلُهَا هَذَا الْحَدِيثُ.
[قَوْلُهُ: بَعْدَ الْبَسْمَلَةِ] دَفْعًا لِمَا يُتَوَهَّمُ مِنْ أَنَّ الثُّبُوتَ قَبْلَ الْبَسْمَلَةِ وَإِنْ كَانَ مِثْلَ الْمُصَنِّفِ لَا يَصْدُرُ مِنْهُ ذَلِكَ.
[قَوْلُهُ: وَصَلَّى اللَّهُ إلَخْ] الصَّلَاةُ مِنْ اللَّهِ تَشْرِيفٌ وَزِيَادَةُ تَكْرِمَةٍ كَمَا أَفَادَهُ فِي التَّحْقِيقِ، أَيْ وَأَمَّا مِنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْمَلَكِ فَهِيَ الدُّعَاءُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَالسَّلَامُ مَعْنَاهُ التَّحِيَّةُ وَالْإِكْرَامُ وَالسَّيِّدُ الْكَامِلُ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ.
[قَوْلُهُ: لِمَا نَصَّ إلَخْ] عِلَّةٌ لِثَبَتَ، وَفِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ تَعْلِيلًا لِلثُّبُوتِ الْمَذْكُورِ بَلْ هُوَ تَعْلِيلٌ لِلْإِثْبَاتِ ضَرُورَةَ أَنَّ الْمُعَلَّلَ هُوَ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ الَّذِي هُوَ هُنَا الْإِثْبَاتُ، وَخُلَاصَةُ مَا فِي الْمَقَامِ أَنَّ اسْتِحْبَابَ الْبُدَاءَةِ بِالصَّلَاةِ يَتَحَقَّقُ بِالْكَتْبِ وَبِاللَّفْظِ وَعَلَى مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ يَكُونُ تَحَقَّقَ بِالْكَتْبِ وَلَا مَانِعَ أَيْضًا مِنْ أَنْ يَكُونَ بِاللَّفْظِ، وَأَمَّا عَلَى غَيْرِهِ فَقَدْ تَحَقَّقَ بِاللَّفْظِ فَقَطْ، فَقَدْ قَالَ الشَّارِحُ فِي شَرْحِ الْعَقِيدَةِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُسْتَحَبَّةٌ لِكُلِّ مُصَنِّفٍ وَمُدَرِّسٍ وَخَطِيبٍ، وَبَيْنَ يَدَيْ كُلِّ أَمْرٍ مُهِمٍّ وَثَبَتَ فِي بَعْضِهَا أَيْضًا.
(قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ الْقَيْرَوَانِيُّ) رضي الله عنه وَأَرْضَاهُ وَهِيَ رِوَايَتُنَا وَالرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ عَدَمُ ثُبُوتِهَا وَعَلَى ثُبُوتِهَا سُؤَالَانِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَبَّرَ بِقَالَ وَهُوَ فِعْلٌ مَاضٍ يَحْكِي بِهِ مَا وَقَعَ، وَتَأْلِيفُ الْكِتَابِ مُسْتَقْبَلٌ لَمْ يَقَعْ فَالْمُنَاسِبُ أَنْ يُعَبِّرَ بِيَقُولُ. أُجِيبَ بِأَجْوِبَةٍ مِنْهَا: أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ الْمَاضِيَ مَوْضِعَ الْمُسْتَقْبَلِ تَنْزِيلًا لَهُ
ــ
[حاشية العدوي]
إنَّ الْمُصَنِّفَ صَلَّى وَسَلَّمَ بَلْ وَتَشَهَّدَ لَفْظًا قَائِلًا إذْ حَالُهُ لَا يُحْمَلُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ اهـ.
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. [قَوْلُهُ: بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إلَخْ] لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْبَعْضَ لَا يُخَالِفُهُ غَيْرُهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ تت: قِيلَ: لَمْ تَثْبُتْ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ بَعْدَ الْبَسْمَلَةِ، وَإِنَّمَا أَحْدَثَهَا بَنُو هَاشِمٍ ثُمَّ وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى كِتَابَتِهَا بَعْدَ ذَلِكَ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: يُسْتَحَبُّ إلَخْ. [قَوْلُهُ: أَنَّ الْبُدَاءَةَ بِالصَّلَاةِ] أَيْ كَالْحَمْدِ لِلَّهِ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي التَّحْقِيقِ، ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفِ الْجَارِّ: أَيْ مِنْ أَنَّ بَيَانًا لِمَا نَصَّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ مَا. [قَوْلُهُ: وَبَيْنَ يَدَيْ كُلِّ أَمْرٍ مُهِمٍّ] أَيْ قُدَّامَ كُلِّ أَمْرٍ مُهِمٍّ وَمِنْهُ خَاطِبٌ وَمُتَزَوِّجٌ وَمُزَوِّجٌ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ الْفَاكِهَانِيُّ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ يُسْتَغْنَى عَنْ قَوْلِهِ بِذِي بِذِكْرِ الْبُدَاءَةِ أَوَّلًا، فَكَانَ الْمُنَاسِبُ أَنْ يَقُولَ: وَفِي كُلِّ أَمْرٍ مُهِمٍّ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ لِكُلِّ مُصَنِّفٍ، أَيْ أَنَّ الْبُدَاءَةَ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُسْتَحَبَّةٌ فِي كُلِّ أَمْرٍ مُهِمٍّ.
تَنْبِيهٌ: زَادَ فِي التَّحْقِيقِ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَبَيْنَ يَدَيْ كُلِّ أَمْرٍ مُهِمٍّ مَا نَصُّهُ: وَيَتَأَكَّدُ الْحَثُّ عَلَيْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَعِنْدَ ذِكْرِهِ وَعِنْدَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَفِي آخِرِ الْكِتَابِ وَفِي آخِرِ الدُّعَاءِ اهـ.
وَمِنْهُ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَهُ: أَنَّ الْبُدَاءَةَ مُسْتَحَبَّةٌ أَيْ اسْتِحْبَابًا غَيْرَ أَكِيدٍ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَى اسْتِحْبَابِهَا فِي آخِرِ الدَّرْسِ وَفِي آخِرِ الْخُطْبَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مِثْلَ آخِرِ الْكِتَابِ آخِرُ الدَّرْسِ مِنْ حَيْثُ تَأْكِيدُ الِاسْتِحْبَابِ، نَعَمْ يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ أَيْ مِنْ قَوْلِهِ: وَبَيْنَ يَدَيْ الْعِبَادَاتِ الَّتِي لَمْ تَذْكُرْ الْعُلَمَاءُ الْبُدَاءَةَ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَالصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ.
قَالَ عج مَا نَصُّهُ: ثُمَّ إنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا أَنَّهَا لَا تُكْرَهُ عِنْدَ إقَامَةِ الصَّلَاةِ، نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهَا عِنْدَهَا خِلَافُ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمُبَادَرَةَ بِالصَّلَاةِ أَفْضَلُ اهـ.
[قَوْلُهُ: وَثَبَتَ فِي بَعْضِهَا أَيْضًا] فِي تت التَّصْرِيحُ بِأَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ فِي غَالِبِ النُّسَخِ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالْغَلَبَةِ فِي الْأَوَّلِ بَلْ قَالَ فِي الْأَوَّلِ مِثْلَ مَا قَالَ شَارِحُنَا.
[قَوْلُهُ: رضي الله عنه إلَخْ] إمَّا صِفَةُ فِعْلٍ بِمَعْنَى الْإِنْعَامِ أَوْ صِفَةُ ذَاتٍ بِمَعْنَى إرَادَةِ الْإِنْعَامِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا الثَّانِي فَمِنْ حَيْثُ تَعَلُّقُ الْإِرَادَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِيلُ تَجَدُّدُهُ، فَانْدَفَعَ مَا يُقَالُ إنَّ الدُّعَاءَ إنَّمَا يَكُونُ بِمُسْتَقْبَلٍ لَمْ يُوجَدْ فِي الْحَالِ، وَإِرَادَةُ اللَّهِ أَزَلِيَّةٌ يَسْتَحِيلُ تَجَدُّدُهَا حَتَّى يَتَعَلَّقَ بِهَا الدُّعَاءُ فَيَتَعَيَّنُ الْأَوَّلُ فَتَدَبَّرْ. [قَوْلُهُ: وَأَرْضَاهُ] أَيْ فَعَلَ بِهِ مَا يُصَيِّرُهُ رَاضِيًا وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ قَوْلِهِ رضي الله عنه؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ اللَّهُمَّ أَنْعِمْ عَلَيْهِ بِنِعَمٍ كَثِيرَةٍ عَظِيمَةٍ حَتَّى يَرْضَى وَلَا يَلْتَفِتَ لِسِوَاهَا فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: وَهِيَ رِوَايَتُنَا] أَيْ الَّتِي تَلَقَّيْنَاهَا عَنْ الْأَشْيَاخِ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ [قَوْلُهُ: وَالرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ] يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عُمَرَ وَأَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ شَارِحِنَا.
وَفِي تت التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ. ثُمَّ بَعْدَ كَتْبِي هَذَا اطَّلَعْت عَلَى كَلَامِ ابْنِ عُمَرَ فَوَجَدْته مِنْ كَلَامِهِ إلَى قَوْلِهِ: وَمَنَاقِبُهُ إلَخْ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ كَلَامِهِ [قَوْلُهُ: يَحْكِي بِهِ مَا وَقَعَ] قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ: حَكَيْت الشَّيْءَ أَحْكِيهِ حِكَايَةً إذَا أَتَيْت بِمِثْلِهِ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي أَتَى بِهَا غَيْرُك، فَأَنْتَ كَالنَّاقِلِ اهـ.
[قَوْلُهُ: فَالْمُنَاسِبُ أَنْ يُعَبِّرَ بِيَقُولُ] لَمْ يَقُلْ الصَّوَابُ إشَارَةً إلَى إمْكَانِ الْجَوَابِ، فَإِنْ قُلْت: أَنْ يَكُونَ مُحْتَمِلٌ لِلْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ فَالْجَوَابُ أَنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى الْمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ فَقَطْ تَتَحَصَّلُ بِالْقَرِينَةِ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ.
[قَوْلُهُ: بِأَجْوِبَةٍ] جَمْعُ قِلَّةٍ [قَوْلُهُ: مِنْهَا إلَخْ] أَيْ وَمِنْهَا أَنَّهُ صَوَّرَ فِي ذِهْنِهِ مَا يَقُولُهُ حَتَّى صَارَ كَالْمَوْجُودِ الْخَارِجِيِّ، أَوْ أَنَّ هَذَا وَقَعَ مِنْ بَعْضِ تَلَامِذَتِهِ. [قَوْلُهُ: اسْتَعْمَلَ الْمَاضِيَ] أَيْ لَفْظَ الْمَاضِي،
مَنْزِلَةَ الْوَاقِعِ، لِأَنَّهُ لَمَّا وَثِقَ مِنْ نَفْسِهِ بِإِيجَادِ هَذَا التَّأْلِيفِ صَارَ كَالْمُحَقَّقِ الْمَوْجُودِ؛ لِأَنَّ غَلَبَةَ الظَّنِّ كَالْيَقِينِ فِي مَوَاطِنَ مِنْ الشَّرْعِ. ثَانِيهَا: لِأَيِّ شَيْءٍ زَكَّى نَفْسَهُ وَفِيهَا تَزْكِيَةٌ وَقَدْ نَهَى الشَّرْعُ عَنْهَا قَالَ تَعَالَى {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم: 32] أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لِمَنْ بَلَغَ دَرَجَةَ التَّأْلِيفِ، أَوْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ صُنْعِ بَعْضِ تَلَامِذَتِهِ، وَمَنَاقِبُ الشَّيْخِ وَسِيرَتُهُ مَعْرُوفَةٌ نَقَلْنَا مِنْهَا جُمْلَةً فِي الْأَصْلِ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَلَمَّا كَانَ تَأْلِيفُ هَذَا الْكِتَابِ وَالْإِقْدَارُ
ــ
[حاشية العدوي]
وَقَوْلُهُ: مَوْضِعَ الْمُسْتَقْبَلِ أَيْ مَوْضِعَ الْفِعْلِ الدَّالِّ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ بِالْقَرِينَةِ، وَهُوَ لَفْظُ الْمُضَارِعِ. [قَوْلُهُ: تَنْزِيلًا لَهُ] أَيْ لِلْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ بِمَعْنَى الْحَدَثِ، فَفِي الْعِبَارَةِ اسْتِخْدَامٌ أَوْ أَنَّ الْعِبَارَةَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ لِمَدْلُولِهِ الَّذِي هُوَ الْحَدَثُ الِاسْتِقْبَالِيُّ وَهُوَ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ أَيْ لِأَجْلِ تَنْزِيلِهِ إلَخْ.
[قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ إلَخْ] عِلَّةٌ لِتِلْكَ الْعِلَّةِ، وَلَا يَخْفَى عَدَمُ ظُهُورِهِ إذْ هُوَ إنَّمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا مُسْتَقِلًّا لِلِاسْتِعْمَالِ الْمَذْكُورِ، فَالْمُنَاسِبُ أَنْ يُعَلِّلَ التَّنْزِيلَ بِقَوْلِهِ: لِرَغْبَتِهِ فِي حُصُولِهِ أَوْ أَنْ يَقْتَصِرَ فِي تَعْلِيلِ الِاسْتِعْمَالِ عَلَى قَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَثِقَ إلَخْ.
[قَوْلُهُ: بِإِيجَادِ هَذَا التَّأْلِيفِ] أَيْ الْمُؤَلَّفِ وَأَنَّهُ صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً فِيهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ إظْهَارٌ فِي مَوْضِعِ الْإِضْمَارِ، وَالْأَصْلُ بِإِيجَادِهِ أَيْ إيجَادِ اللَّهِ إيَّاهُ أَوْ إيجَادِهِ هُوَ بِمَعْنَى اكْتِسَابِهِ.
[قَوْلُهُ: كَالْمُحَقَّقِ الْمَوْجُودِ إلَخْ] يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ الْمَوْجُودِ، تَفْسِيرًا لِلْمُحَقَّقِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ أَيْ كَالْمَوْجُودِ بِالْفِعْلِ الْمُحَقَّقِ، أَيْ الَّذِي لَا شَكَّ فِي وُجُودِهِ، أَيْ وَإِذَا صَارَ كَالْمُحَقَّقِ الْمَوْجُودِ فَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُهُ.
[قَوْلُهُ: لِأَنَّ غَلَبَةَ الظَّنِّ] أَيْ الظَّنُّ الْغَالِبُ أَيْ الْقَوِيُّ بَلْ الظَّنُّ وَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ يُجْعَلُ كَالْيَقِينِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ الشَّرْعِ وَهُوَ تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ صَارَ كَالْمُحَقَّقِ. [قَوْلُهُ: فِي مَوَاطِنَ إلَخْ] أَيْ كَالْوُضُوءِ لَا كَالصَّلَاةِ، أَيْ فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ وُضُوءَهُ بَاقٍ وَتَوَهَّمَ عَدَمَ بَقَائِهِ فَهُوَ عَلَى وُضُوءٍ، وَإِذَا ظَنَّ أَنَّهُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَتَوَهَّمَ أَنَّهُ إنَّمَا صَلَّى رَكْعَةً فَقَطْ فَيَعْمَلُ عَلَى رَكْعَةٍ فَقَطْ، وَأَقُولُ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْبَحْثَ مَرْجِعُهُ عِلْمُ الْبَيَانِ لَا الشَّرْعُ، فَالْمُنَاسِبُ إسْقَاطُ قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ غَلَبَةَ إلَخْ.
[قَوْلُهُ: وَقَدْ نَهَى الشَّرْعُ] أَيْ الشَّارِعُ الَّذِي هُوَ اللَّهُ حَقِيقَةً، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَجَازًا أَيْ نَهْيَ تَحْرِيمٍ، إذَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْإِعْجَابِ أَوْ الرِّيَاءِ لَا عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِرَافِ بِالنِّعْمَةِ، فَإِنَّهُ جَائِزٌ كَمَا أَفَادَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: جَائِزٌ أَنَّهُ مَنْدُوبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11] ، وَالظَّاهِرُ الْكَرَاهَةُ إذَا انْتَفَى قَصْدُ كُلٍّ مِنْ الرِّيَاءِ وَالْإِعْجَابِ وَالِاعْتِرَافِ تَرْجِيحًا لِجَانِبٍ دَرْءِ الْمَفْسَدَةِ.
وَخُلَاصَةُ ذَلِكَ أَنَّ النَّهْيَ إمَّا تَحْرِيمٌ أَوْ كَرَاهَةٌ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمُتَقَدِّمِ. [قَوْلُهُ: بِأَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لِمَنْ بَلَغَ دَرَجَةَ إلَخْ] أَيْ بِأَنَّ التَّكْنِيَةَ الَّتِي الْكَلَامُ فِيهَا أَوْ التَّزْكِيَةَ الْمُتَحَقِّقَةَ بِهَا وَبِغَيْرِهَا وَهُوَ أَوْلَى لِشُمُولِهِ وَيَكُونُ ذَلِكَ امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَعَاظَمْ بِالْعِلْمِ» . وَمَعْنَى ذَلِكَ إذَا أَرَادَ أَنَّ اللَّهَ عَظَّمَهُ لَا الْفَخْرَ عَلَى الْغَيْرِ فَإِنَّهُ مَذْمُومٌ. وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11] . وَظَهَرَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجَوَازِ الْإِذْنُ الْمُجَامِعُ لِلنَّدْبِ، وَإِضَافَةُ دَرَجَةٍ لِمَا بَعْدَهُ لِلْبَيَانِ أَيْ سَوَاءٌ أَلَّفَ بِالْفِعْلِ أَمْ لَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ دَرَجَةَ التَّدْرِيسِ عَلَى وَجْهِهَا الْمَرَضِيِّ تَسْتَلْزِمُ دَرَجَةَ التَّأْلِيفِ وَأَنَّ مَنْ بَلَغَ دَرَجَةَ خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ كَالْكَرَمِ يَجُوزُ لَهُ التَّكْنِيَةُ
[قَوْلُهُ: أَوْ أَنَّ ذَلِكَ إلَخْ] أَيْ أَنَّ الَّذِي كَنَّاهُ إنَّمَا هُوَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فَكَتَبُوهَا كَذَلِكَ لِاسْتِحْبَابِ مُخَاطَبَةِ أَهْلِ الْفَضْلِ بِهَا كَمَا فِي تت، وَخُلَاصَةُ ذَلِكَ أَنَّ تِلْكَ التَّكْنِيَةَ مُسْتَحَبَّةٌ صَدَرَتْ مِنْ الْمَشَايِخِ أَوْ مِنْ التَّلَامِذَةِ، وَالْجَوَابُ الْأَوَّلُ يَمْنَعْ أَنَّ الْآيَةَ وَارِدَةٌ عَلَى عُمُومِهَا وَالثَّانِي بِالتَّسْلِيمِ.
[قَوْلُهُ: مِنْ صُنْعِ] مِنْ لِلِابْتِدَاءِ أَيْ نَاشِئًا مِنْ صُنْعِ لَا أَنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ إلَّا أَنْ يُؤَوَّلَ بِاسْمِ الْمَفْعُولِ. [قَوْلُهُ: وَمَنَاقِبُ الشَّيْخِ] جَمْعُ مَنْقَبَةٍ بِفَتْحِ الْمِيمِ الْفِعْلِ الْكَرِيمِ كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ. [قَوْلُهُ: وَسِيرَتُهُ] أَيْ طَرِيقَتُهُ كَمَا أَفَادَهُ الْمِصْبَاحُ، وَهِيَ أَعَمُّ مِنْ الْمَنْقَبَةِ لِانْفِرَادِهَا بِتَلْقِيبِهِ بِمَالِكٍ الْأَصْغَرِ مَثَلًا إذْ لَا يُقَالُ فِيهِ مَنْقَبَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِعْلًا لَهُ فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: مَعْرُوفَةٌ] أَيْ فَلَا يَتَأَتَّى الطَّعْنُ فِيهَا. [قَوْلُهُ: نَقَلْنَا مِنْهَا جُمْلَةً إلَخْ] مِنْهَا كَثْرَةُ حِفْظِهِ. وَدِيَانَتِهِ وَكَمَالُ وَرَعِهِ وَزُهْدِهِ وَصَلَهُ اللَّهُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: صِحَّةُ
عَلَيْهِ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَكَانَ شُكْرُ الْمُنْعِمِ وَاجِبًا قَالَ:
(الْحَمْدُ لِلَّهِ) أَدَاءً لِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَعَمَلًا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ فَهُوَ أَجْذَمُ» . وَلَا يُعَارِضُ هَذَا الْحَدِيثَ، حَدِيثُ الْبَسْمَلَةِ الْمُتَقَدِّمِ. فَإِنَّ حَدِيثَ الْبَسْمَلَةِ حُمِلَ عَلَى ابْتِدَاءِ الْكَلَامِ بِحَيْثُ لَا يَسْبِقُهُ أَمْرٌ مِنْ الْأُمُورِ، وَحَدِيثُ التَّحْمِيدِ عَلَى ابْتِدَاءِ مَا عَدَا التَّسْمِيَةَ، وَآثَرَ الِابْتِدَاءَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ عَلَى الْفِعْلِيَّةِ
ــ
[حاشية العدوي]
الْبَدَنِ وَالسَّعَةُ فِي الْعِلْمِ وَالْمَالِ، وَمَنْ قَرَأَ كِتَابَهُ هَذَا وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِ جَمِيعُ هَذِهِ الْأَوْصَافِ أَوْ بَعْضُهَا، وَكَانَ يُلَقَّبُ بِخَلِيفَةِ مَالِكٍ وَبِمَالِكٍ الْأَصْغَرِ، وَكَانَ يُقَالُ فِيهِ: قُطْبُ الْمَذْهَبِ، وَكَانَ صَاحِبَ فِرَاسَةٍ فَرُبَّمَا قَالَ: حَدَّثَتْنِي نَفْسِي أَنَّ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ كَذَا وَكَذَا سُؤَالًا فَأَيُّكُمْ صَاحِبُ سُؤَالِ كَذَا فَيَقُولُ: أَنَا فَيُجِيبُهُ. [قَوْلُهُ: فِي الْأَصْلِ] تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَخَّصَهُ مِنْ شَرْحَيْنِ الْكَبِيرِ وَالْوَسَطِ، فَهُمَا الْأَصْلُ ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ كُلًّا مِنْهُمَا، أَوْ أَحَدَهُمَا يُعْلَمُ تَحْقِيقُ ذَلِكَ بِمُرَاجَعَتِهِمَا.
[قَوْلُهُ: فَلِلَّهِ الْحَمْدُ] أَيْ عَلَى نَقْلِنَا جُمْلَةً مِنْ مَنَاقِبِهِ؛ لِأَنَّهُ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ حَيْثُ يَحْصُلُ لَهُ أَوْ لِشَرْحِهِ الْبَرَكَةُ، أَوْ لِكَوْنِهِ تَحْصِيلَ عِلْمٍ وَهُوَ نِعْمَةٌ فَيَنْبَغِي الْحَمْدُ عَلَى تِلْكَ النِّعْمَةِ، أَوْ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ عَلَى تِلْكَ الْمَنَاقِبِ وَالسِّيرَةِ فَيَكُونُ حَمْدًا عَلَى نِعْمَةٍ وَاصِلَةٍ لِلْغَيْرِ. [قَوْلُهُ: وَلَمَّا كَانَ تَأْلِيفُ هَذَا الْكِتَابِ] لَا يَخْفَى أَنَّهُ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ جَمْعُ نِعْمَةٍ بِمَعْنَى مُنْعَمٍ بِهِ. [قَوْلُهُ: وَالْإِقْدَارُ عَلَيْهِ] أَيْ جَعَلَ لَهُ قُدْرَةً عَلَيْهِ، وَالْجَعْلُ يَرْجِعُ إلَى تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ الْقَدِيمَةِ بِوُجُودِ الْقُدْرَةِ الْحَادِثَةِ، فَهُوَ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ جَمْعِ نِعْمَةٍ بِمَعْنَى إنْعَامٍ، وَخُلَاصَتُهُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالنِّعَمِ مَا يَشْمَلُ الْمُنْعَمَ بِهِ، وَيَكُونُ نَاظِرًا إلَى الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ التَّأْلِيفُ وَنَفْسُ الْإِنْعَامِ، وَيَكُونُ نَاظِرًا إلَى الثَّانِي الَّذِي هُوَ الْإِقْدَارُ.
[قَوْلُهُ: وَكَانَ شُكْرُ الْمُنْعِمِ وَاجِبًا] أَيْ مُتَأَكِّدًا؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ الشُّكْرُ اللِّسَانِيُّ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ؛ لِأَنَّهُ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ.
[قَوْلُهُ: أَدَاءً لِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ] أَيْ تَأَكَّدَ عَلَيْهِ. [قَوْلُهُ: كُلُّ أَمْرٍ إلَخْ] فِيهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمَعْمُولِيَّةِ أَوْ الْبَدَلِيَّةِ. [قَوْلُهُ: فَهُوَ أَجْذَمُ] أَيْ كَالرَّجُلِ الْأَجْذَمِ أَيْ الْأَقْطَعِ، كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ، أَوْ مَنْ قَامَ بِهِ الْجُذَامُ كَمَا فِي الْقَامُوسِ وَمَا قِيلَ فِي أَقْطَعَ مِنْ التَّشْبِيهِ وَالِاسْتِعَارَةِ يُقَالُ فِي أَجْذَمَ.
[قَوْلُهُ: هَذَا الْحَدِيثُ إلَخْ] لَا يَخْفَى أَنَّ الْمُعَارَضَةَ مُفَاعَلَةٌ تَكُونُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، فَيَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا الْحَدِيثُ فَاعِلًا وَحَدِيثَ مَفْعُولًا وَالْعَكْسُ، إلَّا أَنَّ الْأَنْسَبَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ الْبَسْمَلَةِ مُتَقَدِّمٌ اعْتِبَارًا فَتُسْنَدُ الْمُعَارَضَةُ لِلْمُتَأَخِّرِ. [قَوْلُهُ: فَإِنَّ حَدِيثَ إلَخْ] أَيْ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَيْنِ إذَا كَانَ ظَاهِرُهُمَا التَّعَارُضَ وَأَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا كَانَ إعْمَالُهُمَا أَوْلَى مِنْ إهْمَالِهِمَا، أَوْ الْعَمَلُ بِأَحَدِهِمَا، وَهُوَ هُنَا مُمْكِنٌ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ إلَخْ. [قَوْلُهُ: بِحَيْثُ إلَخْ] حَيْثِيَّةُ تَقْيِيدٍ أَيْ بِقَيْدٍ وَإِضَافَةِ قَيْدٍ لِمَا بَعْدَهُ لِلْبَيَانِ. [قَوْلُهُ: وَحَدِيثُ التَّحْمِيدِ] التَّحْمِيدُ مَصْدَرُ حَمَّدَ بِالتَّشْدِيدِ أَيْ أَكْثَرَ مِنْ الْحَمْدِ، وَلَيْسَ مُرَادًا فَالْأَنْسَبُ وَحَدِيثُ الْحَمْدِ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً فِي الْحَمْدِ.
[قَوْلُهُ: عَلَى ابْتِدَاءِ مَا عَدَا التَّسْمِيَةَ] أَيْ عَلَى ابْتِدَاءِ الْكَلَامِ خَلَا جُمْلَةَ الْبَسْمَلَةِ فَإِنَّهَا مُتَقَدِّمَةٌ أَيْ وَمَا عَدَا قَوْلَهُ: وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مَا ثَبَتَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ.
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ حُمِلَ عَلَى الِابْتِدَاءِ مَا عَدَا التَّسْمِيَةِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ حَدِيثَ الْبَسْمَلَةِ حُمِلَ عَلَى الِابْتِدَاءِ الْحَقِيقِيِّ وَالْحَمْدَلَةُ عَلَى الْإِضَافِيِّ وَبَيْنَهُمَا التَّبَايُنُ عَلَى تَقْرِيرِهِ، فَإِنْ قُلْت هَلَّا عُكِسَ الْأَمْرُ بِحَمْلِ حَدِيثِ الْحَمْدَلَةِ عَلَى الْحَقِيقِيِّ وَالْبَسْمَلَةِ عَلَى الْإِضَافِيِّ؟ قُلْت: إنَّمَا لَمْ يَعْكِسْ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ الْبَسْمَلَةِ أَقْوَى مِنْ حَدِيثِ الْحَمْدَلَةِ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ الْبَسْمَلَةِ صَحِيحٌ وَحَدِيثَ الْحَمْدَلَةِ حَسَنٌ كَذَا بِخَطِّ بَعْضِ الْفُضَلَاءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَلِمُوَافَقَةِ كِتَابِ اللَّهِ الْوَارِدِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ سَمَّى إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِمُرَادٍ، فَالْمُرَادُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَكَأَنَّهَا أَيْ التَّسْمِيَةُ صَارَتْ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً فِيهَا فَلَا اعْتِرَاضَ.
[قَوْلُهُ: وَآثَرَ] أَيْ فَضَّلَ قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ: آثَرْته بِالْمَدِّ فَضَّلْتُهُ اهـ. أَيْ أَنَّ الِابْتِدَاءَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ فَضَّلَهُ حَيْثُ تَلَبَّسَ بِهِ وَاتَّصَفَ بِهِ.
[قَوْلُهُ: دَلَالَةً] أَيْ لِأَجْلِ الدَّلَالَةِ عَلَى عِظَمِهَا فَهِيَ عِلَّةٌ غَائِيَّةٌ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الدَّلَالَةَ
دَلَالَةً عَلَى عِظَمِهَا حَيْثُ جُعِلَتْ مُفْتَتَحًا لِلْقُرْآنِ الْعَظِيمِ. وَالْحَمْدُ لُغَةً الْوَصْفُ بِالْجَمِيلِ عَلَى جِهَةِ التَّعْظِيمِ؛ لِأَجْلِ جَمِيلٍ اخْتِيَارِيٍّ. وَاصْطِلَاحًا فِعْلٌ يُشْعِرُ بِتَعْظِيمِ الْمُنْعِمِ بِسَبَبِ كَوْنِهِ مُنْعِمًا، وَذَلِكَ الْفِعْلُ إمَّا فِعْلُ الْقَلْبِ أَعْنِي
ــ
[حاشية العدوي]
الْمَذْكُورَةَ عِلَّةٌ غَائِيَّةٌ وَلَوْ قَالَ: لِعِظَمِهَا لَصَحَّ أَيْضًا وَكَانَتْ عِلَّةً بِدُونِ الْوَصْفِ بِكَوْنِهَا غَائِيَّةً. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْبَاعِثَ عَلَى الشَّيْءِ عِلَّةٌ فِيهِ وَتَكُونُ غَائِيَّةً وَغَيْرَ غَائِيَّةٍ. [قَوْلُهُ: حَيْثُ جُعِلَتْ] حَيْثِيَّةَ تَعْلِيلٍ لِقَوْلِهِ: عِظَمِهَا أَيْ إنَّمَا كَانَتْ عَظِيمَةً؛ لِأَنَّهَا جُعِلَتْ إلَخْ أَيْ؛ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ الَّذِي هُوَ مُنَاسِبٌ لِلرُّبُوبِيَّةِ الَّتِي هِيَ وَصْفٌ ثَابِتٌ دَائِمٌ، وَظَهَرَ مِمَّا قَرَرْنَاهُ أَنَّ الْحَيْثِيَّةَ تَأْتِي لِلتَّعْلِيلِ، وَتَأْتِي لِلتَّقْيِيدِ كَمَا تَقَدَّمَ وَلَهَا مَعْنًى ثَالِثٌ وَهُوَ: أَنَّهَا تَكُونُ لِلْإِطْلَاقِ، تَقُولُ: أَكْرِمْ زَيْدًا مِنْ حَيْثُ هُوَ أَيْ عَالِمًا أَوْ جَاهِلًا.
[قَوْلُهُ: مُفْتَتَحًا] أَيْ مُبْتَدَأً كَمَا يُفِيدُهُ الْمِصْبَاحُ. [قَوْلُهُ: لُغَةً] أَيْ فِي اللُّغَةِ، وَهُوَ حَالٌ مِنْ الْحَمْدِ؛ لِأَنَّهُ مُضَافٌ إلَيْهِ تَقْدِيرًا، وَالْأَصْلُ وَتَفْسِيرُ الْحَمْدِ حَالَةَ كَوْنِهِ كَائِنًا فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْطُ مَوْجُودٌ؛ لِأَنَّ الْمُضَافَ مُقْتَضٍ لِلْعَمَلِ. [قَوْلُهُ: الْوَصْفُ] أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِاللِّسَانِ أَوْ بِغَيْرِهِ، فَيَشْمَلُ حَمْدَ الْمَوْلَى تبارك وتعالى، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَيَّدَ بِاللِّسَانِ بِمَعْنَى آلَةِ النُّطْقِ وَلَوْ غَيْرَ الْمَعْهُودَةِ خَرْقًا لِلْعَادَةِ كَمَا إذَا نَطَقَتْ يَدُهُ مَثَلًا فَيَكُونُ مُوَافِقًا لِقَوْلِ غَيْرِهِ هُوَ لُغَةً الثَّنَاءُ بِاللِّسَانِ اهـ.
[قَوْلُهُ: بِالْجَمِيلِ إلَخْ] الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ فَالْمُرَادُ بِهِ الْمَحْمُودُ بِهِ لَا لِلسَّبَبِيَّةِ وَإِلَّا لَكَانَ الْمَحْمُودُ عَلَيْهِ مُتَكَرِّرًا مَعَ قَوْلِهِ لِأَجْلِ جَمِيلٍ إلَخْ، وَالْمَحْمُودُ بِهِ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ اخْتِيَارِيًّا كَصَبَاحَةِ الْوَجْهِ وَالْمُرَادُ الْجَمِيلُ، وَلَوْ فِي زَعْمِ الْحَامِدِ أَوْ فِي زَعْمِ الْمَحْمُودِ، لَكِنْ عَلَى زَعْمِ الْحَامِدِ يَدْخُلُ الْوَصْفُ بِالظُّلْمِ عِنْدَ اعْتِقَادِ مَنْ ذُكِرَ حُسْنُهُ بِخِلَافِ الْمَحْمُودِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ اخْتِيَارِيًّا.
وَأَرْكَانُ الْحَمْدِ خَمْسَةٌ: حَامِدٌ وَمَحْمُودٌ وَمَحْمُودٌ بِهِ وَمَحْمُودٌ عَلَيْهِ وَصِيغَةٌ. وَالتَّعْرِيفُ مُشْتَمِلٌ عَلَيْهَا، فَالْوَصْفُ يَتَضَمَّنُ وَاصِفًا وَمَوْصُوفًا أَيْ الْحَامِدَ وَالْمَحْمُودَ، وَالثَّالِثُ هُوَ قَوْلُهُ: بِالْجَمِيلِ.
وَالرَّابِعُ: هُوَ قَوْلُهُ لِأَجْلِ جَمِيلٍ اخْتِيَارِيٍّ، وَالْمَحْمُودُ بِهِ مَعْنًى فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَالٍّ عَلَيْهِ وَهِيَ الصِّيغَةُ الَّتِي هِيَ الرُّكْنُ الْخَامِسُ. [قَوْلُهُ: عَلَى جِهَةِ التَّعْظِيمِ] الْإِضَافَةُ لِلْبَيَانِ أَيْ عَلَى جِهَةٍ هِيَ التَّعْظِيمُ احْتِرَازًا عَمَّا إذَا كَانَ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِهْزَاءِ، فَلَا يُقَالُ لَهُ حَمْدٌ، وَهُنَا سُؤَالٌ وَجَوَابٌ اُنْظُرْهُ فِي حَاشِيَةِ شَرْحِ الْعِزِّيَّةِ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلَمْ يَحْذِفْ جِهَةَ إشْعَارًا بِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْحَمْدِ لَيْسَ نَفْسَ التَّعْظِيمِ الظَّاهِرِيِّ الَّذِي هُوَ مُوَافَقَةُ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ، بَلْ الْمُعْتَبَرُ فِيهِ طَرِيقَتُهُ وَطُرُزُهُ أَعْنِي عَدَمَ مُخَالَفَةِ الْأَرْكَانِ، وَكَذَا الْحَالُ فِي التَّعْظِيمِ الْبَاطِنِيِّ. [قَوْلُهُ: لِأَجْلِ جَمِيلٍ إلَخْ] تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ: الْوَصْفُ بِالْجَمِيلِ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْجَمِيلُ، مُتَعَدِّيًا كَالْإِنْعَامِ عَلَى الْغَيْرِ أَوْ قَاصِرًا كَحُسْنِ خَطِّهِ. [قَوْلُهُ: اخْتِيَارِيٌّ] أَيْ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، فَشَمَلَ الْحَمْدَ عَلَى ذَاتِ الْمَوْلَى وَصِفَاتِهِ، فَإِنَّهَا اخْتِيَارِيَّةٌ حُكْمًا، أَمَّا الذَّاتُ، فَلِأَنَّهَا مَنْشَأُ أَفْعَالٍ اخْتِيَارِيَّةٍ، وَأَمَّا الصِّفَاتُ فَمِنْ حَيْثُ إنَّ ذَاتَهُ الْمُقَدَّسَةَ اسْتَلْزَمَتْهَا اسْتِلْزَامًا لَا يَقْبَلُ الِانْفِكَاكَ، فَنَزَلَتْ تِلْكَ الصِّفَاتُ بِسَبَبِ اسْتِلْزَامِ الذَّاتِ إيَّاهَا مَنْزِلَةَ أَفْعَالٍ اخْتِيَارِيَّةٍ لَهَا مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلًّا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالذَّاتِ، الصِّفَاتُ بِالِاسْتِلْزَامِ وَالْأَفْعَالُ الِاخْتِيَارِيَّةُ بِالْإِيجَادِ.
[قَوْلُهُ: وَاصْطِلَاحًا] أَيْ اصْطِلَاحَ النَّاسِ أَيْ عُرْفَهُمْ لَا فِي عُرْفِ الشَّرْعِ، إذْ لَوْ كَانَ مُرَادًا لَاخْتَصَّ الْمُتَعَلِّقُ بِاَللَّهِ تَعَالَى.
[قَوْلُهُ: فِعْلٌ إلَخْ] الْمُرَادُ بِهِ الْأَمْرُ وَالشَّأْنُ عَلَى اصْطِلَاحِ أَهْلِ اللُّغَةِ كَمَا ذَكَرَهُ حَفِيدُ السَّعْدِ أَيْ فَصَحَّ شُمُولُهُ لِمَا كَانَ بِاللِّسَانِ وَهُوَ فِي اللُّغَةِ قَوْلٌ لَا فِعْلٌ، وَلَمَّا كَانَ بِالْجَنَانِ وَهُوَ كَيْفِيَّةٌ نَفْسَانِيَّةٌ لَا فِعْلٌ قَالَهُ الشَّيْخُ يَاسِينُ. [قَوْلُهُ: يُشْعِرُ بِتَعْظِيمِ إلَخْ] ظَاهِرٌ فِي اللِّسَانِ وَفِعْلِ الْجَوَارِحِ، وَأَمَّا فِعْلُ الْقَلْبِ فَهُوَ خَفِيٌّ، فَيُقَالُ: يَجُوزُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ غَيْرُ الْحَامِدِ بِإِلْهَامٍ أَوْ بِقَوْلٍ مِنْ الْحَامِدِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ الْحَاصِلُ مِنْ الْحَامِدِ حَمْدًا وَاحِدًا وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ اثْنَيْنِ أَحَدُهُمَا يَدُلُّ عَلَى الْآخَرِ فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: بِسَبَبِ كَوْنِهِ مُنْعِمًا] أَيْ عَلَى الْحَامِدِ أَوْ غَيْرِهِ، وَالْجَارُّ مُتَعَلِّقٌ إمَّا بِفَعَلَ أَوْ بِيَشْعُرُ أَوْ بِتَعْظِيمٍ أَيْ لَا بِاعْتِبَارِهِ وَحْدَهُ بَلْ بِاعْتِبَارِ تَقْيِيدِهِ بِغَيْرِهِ [قَوْلُهُ: بِسَبَبِ كَوْنِهِ مُنْعِمًا] مَفْهُومٌ مِنْ تَعَلُّقِ تَعْظِيمٍ بِالْمُنْعِمِ؛ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الْحُكْمِ بِمُشْتَقٍّ يُؤْذِنُ بِعِلِّيَّةِ الْمَأْخَذِ وَهُوَ الْإِنْعَامُ
الِاعْتِقَادَ بِاتِّصَافِهِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ أَوْ فِعْلُ اللِّسَانِ، أَعْنِي ذِكْرَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَوْ فِعْلُ الْجَوَارِحِ وَهُوَ الْإِتْيَانُ بِأَفْعَالٍ دَالَّةٍ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الشُّكْرُ لُغَةً.
وَأَمَّا اصْطِلَاحًا: فَهُوَ صَرْفُ الْعَبْدِ جَمِيعَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَغَيْرِهِمَا إلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ. وَأَعْطَاهُ لِأَجْلِهِ كَصَرْفِ النَّظَرِ إلَى مُطَالَعَةِ مَصْنُوعَاتِهِ، وَالسَّمْعِ إلَى تَلَقِّي مَا
ــ
[حاشية العدوي]
الْمُشْتَقُّ مِنْهُ لَفْظُ الْمُنْعِمِ.
[قَوْلُهُ: إمَّا فِعْلُ الْقَلْبِ] أَيْ الْعَقْلِ أَيْ عَلَى طَرِيقِ التَّجَوُّزِ؛ لِأَنَّهُ فِعْلُ النَّفْسِ، إلَّا أَنَّ الْقَلْبَ آلَةُ هَذَا وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضٌ إلَى أَنَّ الْقَلْبَ يُطْلَقُ عَلَى النَّفْسِ فَلَا تَجُوزُ.
[قَوْلُهُ: أَعْنِي الِاعْتِقَادَ] سَوَاءٌ كَانَ جَازِمًا أَوْ رَاجِحًا ثَابِتًا أَمْ لَا. [قَوْلُهُ: بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ] أَرَادَ بِالْأُولَى الْأَوْصَافَ الثُّبُوتِيَّةَ كَالْعِلْمِ وَالْكَرَمِ، وَأَرَادَ بِالثَّانِيَةِ أَعْنِي الْجَلَالَ الْأَوْصَافَ السَّلْبِيَّةَ كَعَدَمِ الْبُخْلِ وَكَالْقِدَمِ وَالْبَقَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَوْلَى تبارك وتعالى، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الصِّفَاتُ اخْتِيَارِيَّةً أَوْ لَا كَمَا ظَهَرَ مِمَّا ذَكَرْنَا.
تَنْبِيهٌ: أَرَادَ بِالصِّفَاتِ الْجِنْسَ فَيَصْدُقُ بِوَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ التَّعَدُّدُ فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: أَعْنِي ذِكْرَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ] أَيْ ذِكْرَ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى اتِّصَافِهِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ إلَخْ، وَمُرَادُهُ بِالذِّكْرِ حَرَكَاتُ اللِّسَانِ، النَّاشِئُ عَنْهَا اللَّفْظُ بِمَعْنَى الْمَلْفُوظِ الْمَوْصُوفِ بِكَوْنِهِ دَالًّا عَلَى الِاتِّصَافِ لَا مُقَارَنَةَ الْقُدْرَةِ الْحَادِثَةِ لِتِلْكَ الْحَرَكَاتِ، فَظَهَرَ أَنَّ الْمُتَحَدِّدَ ثَلَاثَهُ أُمُورٍ: الْمُقَارَنَةُ وَالْحَرَكَةُ وَالْمَلْفُوظُ وَالْمَوْصُوفُ بِكَوْنِهِ فِعْلًا لِلِّسَانِ نَفْسُ الْحَرَكَةِ لَا نَفْسُ مُقَارَنَةِ الْقُدْرَةِ الْحَادِثَةِ لِلْحَرَكَةِ وَلَا الْمَلْفُوظُ، فَحِينَئِذٍ يَرِدُ أَنَّ الْمَوْصُوفَ بِكَوْنِهِ يُشْعِرُ بِتَعْظِيمِ الْمُنْعِمِ هُوَ اللَّفْظُ بِمَعْنَى الْمَلْفُوظِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الِاتِّصَافِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ لَا الذِّكْرُ بِالْمَعْنَى الْمُتَقَدِّمِ، فَيُجَابُ بِأَنْ يُرَادَ بِالذِّكْرِ بِمَعْنَى الْمَذْكُورِ الَّذِي هُوَ الْمَلْفُوظُ وَإِضَافَتُهُ لِمَا بَعْدَهُ لِلْبَيَانِ وَتَسْمِيَتُهُ فِعْلًا لِلِّسَانِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ نَاشِئًا عَنْ فِعْلِهِ فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: وَهُوَ الْإِتْيَانُ] فِيهِ شَيْءٌ وَذَلِكَ أَنَّ فِعْلَ الْجَوَارِحِ هُوَ الْأَفْعَالُ الَّتِي هِيَ الْحَرَكَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى الِاتِّصَافِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ لَا الْإِتْيَانُ الَّذِي هُوَ أَمْرٌ اعْتِبَارِيٌّ الَّذِي هُوَ تَعَلُّقُ الْقُدْرَةِ الْحَادِثَةِ بِتِلْكَ الْحَرَكَاتِ، وَأَيْضًا فَالْإِتْيَانُ الْمَذْكُورُ لَيْسَ هُوَ الْمُشْعِرُ بِالتَّعْظِيمِ بَلْ الْمُشْعِرُ هُوَ نَفْسُ الْحَرَكَاتِ، فَالْمُخَلِّصُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُؤَوَّلَ الْإِتْيَانُ بِمَا أَتَى بِهِ، وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِأَفْعَالِ التَّصْوِيرِ [قَوْلُهُ: بِأَفْعَالٍ إلَخْ] أَيْ جِنْسِ أَفْعَالٍ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ فِعْلٌ وَاحِدٌ.
[قَوْلُهُ: دَالَّةٍ عَلَى ذَلِكَ] أَيْ عَلَى اتِّصَافِهِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ. [قَوْلُهُ: وَهَذَا إلَخْ] أَيْ فَبَيْنَ الْحَمْدِ الْعُرْفِيِّ وَالشُّكْرِ اللُّغَوِيِّ التَّرَادُفُ كَانَ الْإِنْعَامُ عَلَى الشَّاكِرِ أَوْ غَيْرِهِ.
[قَوْلُهُ: وَأَمَّا اصْطِلَاحًا] أَيْ اصْطِلَاحَ الشَّرْعِ لِاخْتِصَاصِ الْمُتَعَلِّقِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الِاصْطِلَاحَ فِي الْحَمْدِ مُغَايِرٌ لِلِاصْطِلَاحِ فِي الشُّكْرِ. [قَوْلُهُ: صَرْفُ إلَخْ] يُحْتَمَلُ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ صَرْفُهُ فِي جَمِيعِ أَوْقَاتِ النِّعْمَةِ، وَيُحْتَمَلُ وَلَوْ فِي بَعْضِهَا وَالْأَوَّلُ مُتَعَذِّرٌ أَوْ مُتَعَسِّرٌ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ الشُّكْرُ إلَّا بِصَرْفِ اللِّسَانِ لِلشُّكْرِ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءٍ مِنْ وُجُودِهِ، وَلَا خَفَاءَ فِي تَعَذُّرِ هَذَا أَوْ تَعَسُّرِهِ، وَالِاحْتِمَالُ الثَّانِي يَلْزَمُ عَلَيْهِ كَثْرَةُ الشَّاكِرِينَ فِينَا فِي قَوْله تَعَالَى:{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُرَادَ بِالصَّرْفِ هُنَا أَنَّهُ لَا يَصْرِفُهُ فِي مَعْصِيَةٍ اهـ.
وَيُجَابُ بِمَا أَفَادَهُ خُسْرٍ وَمِنْ أَنَّ الْقِلَّةَ بِاعْتِبَارِ صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ، وَأَمَّا نَفْسُ أَفْرَادِ الشَّاكِرِينَ فَكَثِيرٌ فَلَا مُنَافَاةَ عَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي. [قَوْلُهُ: مَا أَنْعَمَ اللَّهُ إلَخْ] مَا مَوْصُولَةٌ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ جَمِيعُ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ أَيْ الْعَبْدِ. وَقَوْلُهُ: مِنْ السَّمْعِ بَيَانٌ لِمَا.
[قَوْلُهُ: إلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ] أَيْ الَّذِي أَوْ شَيْءٌ خَلَقَهُ اللَّهُ أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَغَيْرِهِمَا لِأَجْلِ مَا، فَمَصْدُوقُ " مَا " مُطَالَعَةُ مَصْنُوعَاتِهِ مَثَلًا إلَّا أَنَّ الشَّارِحَ أَخَلَّ بِإِبْرَازِ الضَّمِيرِ؛ لِأَنَّ الصِّلَةَ أَوْ الصِّفَةَ لَمْ تَجْرِ عَلَى " مَا " كَمَا تَبَيَّنَ. [قَوْلُهُ: وَأَعْطَاهُ] عَطْفٌ عَلَى خَلَقَ، وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْبَارِزُ مَفْعُولُهُ الثَّانِي، وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ الَّذِي هُوَ الْعَبْدُ، وَتَقْدِيرُ الْعِبَارَةِ مِنْ أَوَّلِهَا: صَرْفُ الْعَبْدِ جَمِيعَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَغَيْرِهِمَا إلَى شَيْءٍ
يُنْبِئُ عَنْ مَرْضَاتِهِ وَالِاجْتِنَابِ عَنْ مَنْهِيَّاتِهِ، فَالنِّسْبَةُ بَيْنَ الْحَمْدَيْنِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ وَبَيْنَ الشُّكْرَيْنِ عُمُومٌ مُطْلَقٌ.
(الَّذِي) اسْمٌ مَوْصُولٌ صِفَةٌ لِلَّهِ أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ. وَجُمْلَةُ (ابْتَدَأَ الْإِنْسَانُ بِنِعْمَتِهِ) صِلَتُهُ وَالِابْتِدَاءُ مَعْنَاهُ
ــ
[حاشية العدوي]
مِنْ صِفَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ مَا ذُكِرَ مِنْ السَّمْعِ وَغَيْرِهِ، وَأَعْطَى مَا ذُكِرَ لِأَجْلِهِ أَيْ لِأَجْلِ ذَلِكَ الشَّيْءِ.
وَيَجُوزُ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّك تَقُولُ إلَى شَيْءٍ مِنْ صِفَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْعَبْدَ وَأَعْطَى الْعَبْدَ مَا ذُكِرَ مِنْ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَغَيْرِهِمَا لِأَجْلِهِ أَيْ لِأَجْلِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مُطَالَعَةِ الْمَصْنُوعَاتِ مَثَلًا كَمَا تَبَيَّنَ. [قَوْلُهُ: كَصَرْفِ النَّظَرِ إلَخْ] أَيْ الْبَصَرِ. [قَوْلُهُ: إلَى مُطَالَعَةِ إلَخْ] أَيْ الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا فِي مَصْنُوعَاتِهِ مِنْ دَقَائِقِ الصُّنْعِ الْعَجَبِ وَالْحِكْمَةِ الْأَنِيقَةِ.
[قَوْلُهُ: إلَى تَلَقِّي] أَيْ سَمَاعِ. [قَوْلُهُ: مَا يُنْبِئُ] أَيْ أَوَامِرُ وَنَوَاهٍ وَإِخْبَارَاتٌ تُخْبِرُ عَنْ مَرْضَاتِهِ، وَفِي الْعِبَارَةِ تَسَامُحٌ وَالْمُرَادُ تَدُلُّ عَلَى رِضَاءٍ أَيْ تَدُلُّ عَلَى فِعْلِ مَا يُرْضِيهِ. [قَوْلُهُ: وَالِاجْتِنَابِ] مَعْطُوفٌ عَلَى مَرْضَاتِهِ، أَيْ وَتَدُلُّ عَلَى تَرْكِ مَا لَا يُرْضِيهِ الَّذِي هُوَ الْمَنَاهِي كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَعَدَّى الِاجْتِنَابَ بِعَنْ وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ بِدَلِيلِ {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ} [النساء: 31] إلَخْ، لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى التَّجَاوُزِ أَيْ وَالتَّجَاوُزُ عَنْ مَنَاهِيهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ جَمْعُ نَهْيٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ بِمَعْنَى الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
[قَوْلُهُ: فَالنِّسْبَةُ إلَخْ] هَذَا التَّفْرِيعُ قَاصِرٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُتَقَدِّمَ أَرْبَعَةُ أُمُورٍ حَمْدٌ لُغَوِيٌّ وَحَمْدٌ عُرْفِيٌّ وَشُكْرٌ لُغَوِيٌّ وَشُكْرٌ عُرْفِيٌّ، فَالْحَمْدُ اللُّغَوِيُّ يُؤْخَذُ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِمَّا بَعْدَهُ فَيَتَحَصَّلُ ثَلَاثُ نِسَبٍ، ثُمَّ يُؤْخَذُ الْحَمْدُ الْعُرْفِيُّ مَعَ كُلٍّ مِنْ الِاثْنَيْنِ بَعْدَهُ فَيَتَحَصَّلُ نِسْبَتَانِ، ثُمَّ يُؤْخَذُ الشُّكْرُ اللُّغَوِيُّ مَعَ مَا بَعْدَهُ فَيَتَحَصَّلُ نِسْبَةٌ فَتَكُونُ جُمْلَةُ النِّسَبِ سِتَّةً.
وَقَدْ ذَكَرَ الشَّرْحُ نِسْبَتَيْنِ وَهُوَ أَنَّ بَيْنَ الْحَمْدَيْنِ عُمُومًا وَخُصُوصًا مِنْ وَجْهٍ يَجْتَمِعَانِ فِي ثَنَاءٍ بِلِسَانٍ فِي مُقَابَلَةِ إحْسَانٍ، وَيَنْفَرِدُ الْحَمْدُ اللُّغَوِيُّ عَنْ الْحَمْدِ الِاصْطِلَاحِيِّ فِي ثَنَاءٍ بِلِسَانٍ لَا فِي مُقَابَلَةِ إحْسَانٍ كَأَنْ يَحْمَدَهُ لِكَوْنِهِ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ قِرَاءَةً جَيِّدَةً، وَيَنْفَرِدُ الْحَمْدُ الِاصْطِلَاحِيُّ فِي فِعْلِ جَارِحَةٍ أَوْ قَلْبٍ فِي مُقَابَلَةِ إحْسَانٍ، وَبَيْنَ الشُّكْرَيْنِ عُمُومًا وَخُصُوصًا مُطْلَقًا فَكُلُّ شُكْرٍ اصْطِلَاحِيٍّ شُكْرٌ لُغَةً وَلَا عَكْسَ، فَإِذَا صَرَفَ جَارِحَةَ اللِّسَانِ فَقَطْ لِكَوْنِ الْمَوْلَى مُنْعِمًا فَهُوَ شُكْرٌ لُغَةً لَا اصْطِلَاحًا وَتَرَكَ أَرْبَعَةً وَنَقُولُ: بَيَانُهَا أَنَّ النِّسْبَةَ بَيْنَ الْحَمْدِ اللُّغَوِيِّ وَالشُّكْرِ اللُّغَوِيِّ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ الْوَجْهِيُّ؛ لِأَنَّ الْحَمْدَ الْعُرْفِيَّ وَهُوَ عَيْنُ الشُّكْرِ اللُّغَوِيِّ، وَبَيْنَ الْحَمْدِ اللُّغَوِيِّ وَالشُّكْرِ الِاصْطِلَاحِيِّ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ الْمُطْلَقُ، فَكُلُّ شُكْرٍ اصْطِلَاحِيٍّ حَمْدٌ لُغَوِيٌّ وَلَا عَكْسَ، بَيْنَ الْحَمْدِ الْعُرْفِيِّ وَالشُّكْرِ اللُّغَوِيِّ التَّرَادُفُ، وَبَيْنَ الْحَمْدِ الْعُرْفِيِّ وَالشُّكْرِ الِاصْطِلَاحِيِّ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ الْمُطْلَقُ، فَكُلُّ شُكْرٍ اصْطِلَاحِيٍّ حَمْدٌ عُرْفِيٌّ وَلَيْسَ كُلُّ حَمْدٍ عُرْفِيٍّ شُكْرًا اصْطِلَاحِيًّا
[قَوْلُهُ: صِفَةُ اللَّهِ] أَيْ وَصْفٌ مُؤَكَّدٌ، فَإِنْ قُلْت: النَّعْتُ مُشْتَقٌّ وَالْمَوْصُولُ جَامِدٌ، قُلْت: النَّعْتُ إمَّا مُشْتَقٌّ أَوْ مُؤَوَّلٌ بِهِ، وَالْمَوْصُولُ أَيْ مَعَ مَا بَعْدَهُ مُؤَوَّلٌ بِالْمُشْتَقِّ أَيْ الْمُبْتَدِئِ.
[قَوْلُهُ: أَوْ بَدَلٌ] أَيْ بَدَلٌ مُطَابِقٌ، فَإِنْ قُلْت: الْمُبْدَلُ مِنْهُ عَلَى نِيَّةِ الطَّرْحِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْجَلَالَةِ فِي نِيَّةِ الطَّرْحِ مَعَ أَنَّهُ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ عَلَى مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْخِلَافِ، قُلْت: مَعْنَى كَوْنِ الْمُبْدَلِ مِنْهُ فِي نِيَّةِ الطَّرْحِ أَنَّ الْمَنْظُورَ لَهُ فِي الْأَخْبَارِ الْبَدَلُ لِكَوْنِهِ مُفِيدًا مَا لَمْ يُفِدْهُ الْمُبْدَلُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُبْدَلُ مِنْهُ أَقْوَى وَأَشْرَفَ مِنْ الْبَدَلِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْجَلَالَةِ مَدْلُولُهُ الذَّاتُ فَقَطْ.
[قَوْلُهُ: بِنِعْمَتِهِ] الْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ أَيْ بَدْءًا مُلَابِسًا لِإِنْعَامِهِ مِنْ مُلَابَسَةِ الْخَاصِّ بِالْعَامِّ، إشَارَةً إلَى أَنْ ذَلِكَ الْبَدْءَ لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا هُوَ إنْعَامٌ وَكَرَمٌ مِنْهُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ وَالتَّقْدِيرُ أَوْجَدَهُ بِسَبَبِ نِعْمَتِهِ، أَيْ تَعَلَّقَتْ قُدْرَتُهُ بِوُجُودِهِ بِسَبَبِ إرَادَةِ وُجُودِهِ الَّذِي هُوَ نِعْمَةٌ مِنْ الْمَوْلَى لَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ [قَوْلُهُ: وَالِابْتِدَاءُ مَعْنَاهُ الِاخْتِرَاعُ] أَيْ فَمَعْنَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ ابْتَدَأَ إلَخْ. اخْتَرَعَهُ أَيْ أَوْجَدَهُ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ مِثَالٍ، أَيْ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: ابْتَدَأَ بَدَأَ بِهِ أَوَّلًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ ابْتَدَأَ أَشْيَاءَ قَبْلَهُ، فَإِنْ قُلْت: فِي الْقُرْآنِ بَدَأَ فَلِمَ عَدَلَ الْمُصَنِّفُ عَنْهُ؟ قُلْنَا: لَيْسَ تَعَبُّدُنَا بِالْأَلْفَاظِ وَإِنَّمَا هُوَ بِالْمَعَانِي، وَابْتَدَأَ وَبَدَأَ بِمَعْنًى.
الِاخْتِرَاعُ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْإِنْسَانِ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ. وَالْإِنْسَانُ مُشْتَقٌّ مِنْ التَّأَنُّسِ، وَقِيلَ مِنْ النِّسْيَانِ، وَالنِّعْمَةُ بِكَسْرِ النُّونِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى الْعَبْدِ بِهِ، وَبِفَتْحِهَا التَّنَعُّمُ وَبِضَمِّهَا السُّرُورُ.
وَظَاهِرُ كَلَامِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَكْثَرِ أَنَّ الْكَافِرَ مُنْعَمٌ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَوَاضِحٌ وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَلِأَنَّ مَا مِنْ نِقْمَةٍ وَعَذَابٍ إلَّا وَثَمَّ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ، فَكَانَ نِعْمَةً بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُقَالُ إنَّهُ فِي نِعْمَةٍ؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّ انْتِقَامٍ وَغَضَبٍ. وَذَهَبَ الْأَشْعَرِيُّ إلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُنْعَمٍ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَصِيرَهُ إلَى النَّارِ (وَصَوَّرَهُ) بِمَعْنَى وَشَكَّلَهُ عَلَى صِفَةٍ أَرَادَهَا (فِي الْأَرْحَامِ) جَمْعُ رَحِمٍ وَهُوَ مَوْضِعُ وُقُوعِ نُطْفَةِ الذَّكَرِ فِي فَرْجِ الْأُنْثَى، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِانْعِطَافِهِ وَحُنُوِّهِ عَلَى مَا فِيهِ. وَأَفْرَدَ
ــ
[حاشية العدوي]
قَوْلُهُ: وَالْأَلِفُ إلَخْ] الْأَحْسَنُ وَأَلْ.
[قَوْلُهُ: لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ] أَيْ أَفْرَادِ الْجِنْسِ، فِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ حَمَلَهُ عَلَى عِيسَى أَوْ آدَمَ لِبُعْدِهِ، وَقَوْلُهُ: وَصَوَّرَهُ فِي الْأَرْحَامِ أَيْ أَغْلَبَ الْأَفْرَادِ فَلَا يَرِدُ آدَم.
تَنْبِيهٌ: إنَّمَا خَصَّ الْإِنْسَانَ وَإِنْ كَانَ مَا مِنْ مَوْجُودٍ كَمَا قَالَ بَعْضٌ إلَّا وَلِلَّهِ عَلَيْهِ نِعْمَةٌ لِأَشْرَفِيَّتِهِ عَلَى غَيْرِهِ.
[قَوْلُهُ: مُشْتَقٌّ مِنْ التَّأَنُّسِ] ؛ لِأَنَّ أَفْرَادَهُ يَأْنَسُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَظَاهِرٌ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي حَصْرَ التَّأَنُّسِ فِيهِ؛ لِأَنَّا نَجِدُ الْحَيَوَانَاتِ يَتَأَنَّسُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْجِنَّ كَذَلِكَ دُونَ الْمَلَكِ وَحَرِّرْهُ. [قَوْلُهُ: وَقِيلَ مِنْ النِّسْيَانِ] أَيْ؛ لِأَنَّهُ يَنْسَى مَا كَانَ مُتَذَكِّرًا لَهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْجِنَّ كَذَلِكَ، وَهَلْ الْمَلَائِكَةُ كَذَلِكَ؟ وَعِبَارَةُ تت سُمِّيَ الْإِنْسَانُ إنْسَانًا لِظُهُورِهِ وَسُمِّيَ الْجِنُّ جِنًّا لِخَفَائِهِ، وَقِيلَ: لِنِسْيَانِهِ، وَقِيلَ: لِتَأَنُّسِهِ اهـ.
وَقَالَ الشَّارِحُ فِي شَرْحِ الْعَقِيدَةِ: الْإِنْسَانُ مُشْتَقٌّ مِنْ الظُّهُورِ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَ تت. لِقَضِيَّةِ الِاحْتِرَازِ عَنْ الْجِنِّ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الْحَصْرُ أَيْ حَصْرُ النِّسْيَانِ وَالتَّأَنُّسِ فِي الْإِنْسَانِ عَلَى بَقِيَّةِ الْأَقْوَالِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْجَرَيَانُ عَلَى سَنَنٍ وَاحِدٍ فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: وَالنِّعْمَةُ إلَخْ] مُرَادُهُ تَفْسِيرُ الْمَادَّةِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ هَيْئَتِهَا؛ لِأَنَّ النِّعْمَةَ فِي الْمُصَنِّفِ بِالْكَسْرِ لَا غَيْرُ. [قَوْلُهُ: مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى الْعَبْدِ] يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الْعَبْدُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ وَهُوَ الْإِنْسَانُ، وَأَنْ يُرَادَ عَبْدُ الْإِيجَادِ لِمَا قَالَهُ بَعْضٌ: إنَّهُ مَا مِنْ مَوْجُودٍ إلَّا وَلِلَّهِ عَلَيْهِ نِعْمَةٌ.
[قَوْلُهُ: وَبِفَتْحِهَا التَّنَعُّمُ] أَيْ التَّرَفُّهُ أَفَادَهُ الْقَامُوسُ. [قَوْلُهُ: السُّرُورُ] حَالَةٌ نَفْسَانِيَّةٌ تَحْصُلُ لِلْإِنْسَانِ عِنْدَ وُجُودِ مَا يَنْتَظِرُهُ.
[قَوْلُهُ: وَظَاهِرُ كَلَامِهِ إلَخْ] أَيْ لِجَعْلِ أَلْ لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ إنَّمَا هُوَ فِي نِعْمَةِ الْوُجُودِ فَقَطْ، فَلَا يَتَأَتَّى مَا قَالَهُ شَارِحُنَا رحمه الله. [قَوْلُهُ: أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَوَاضِحٌ] ؛ لِأَنَّهُ يَتَلَذَّذُ بِأَنْوَاعِ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، أَيْ أَغْلَبُ أَفْرَادِهِ فَلَا يَرِدُ الْمَرِيضُ الَّذِي أَضْنَاهُ الْمَرَضُ فَصَارَ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَنَاوُلِ مَا فِيهِ لَذَّةٌ أَوْ كُلُّ أَفْرَادِهِ، وَنَقُولُ: الْكَافِرُ الْمَذْكُورُ بِاعْتِبَارِ مَا يَعْقُبُهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَلَمِ فِي الْآخِرَةِ. [قَوْلُهُ: وَعَذَابٍ] عَطْفٌ تَفْسِيرٍ. [قَوْلُهُ: فَكَانَ نِعْمَةً] أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ النِّقْمَةِ وَالْعَذَابِ
[قَوْلُهُ: إلَّا أَنْ يُقَالَ إلَخْ] أَيْ عُرْفًا أَوْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ شَرْعًا، فَالْقَوْلُ مَكْرُوهٌ أَوْ خِلَافُ الْأَوْلَى وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ.
[قَوْلُهُ: وَغَضَبٍ] أَيْ مِنْ اللَّهِ وَعَطْفُهُ عَلَى مَا قَبْلَهُ مُرَادِفٌ؛ لِأَنَّ الْغَضَبَ هُوَ الِانْتِقَامُ حَيْثُ لُوحِظَ أَنَّهُ صِفَةُ فِعْلٍ، وَأَمَّا لَوْ فُسِّرَ بِإِرَادَةِ الِانْتِقَامِ فَيَكُونُ صِفَةَ ذَاتٍ. [قَوْلُهُ: وَذَهَبَ الْأَشْعَرِيُّ] هُوَ عَلِيٌّ أَبُو الْحَسَنُ مَالِكِيُّ الْمَذْهَبِ. [قَوْلُهُ: لِأَنَّ مَصِيرَهُ إلَخْ] مِنْ ذَلِكَ يُعْلَمُ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ فَمَنْ قَالَ: إنَّهُ مُنْعَمٌ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا نَظَرَ إلَى مَا هُوَ قَاطِعًا النَّظَرَ عَمَّا يَئُولُ إلَيْهِ الْأَمْرُ، وَفِي الْآخِرَةِ نَظَرَ إلَى أَنَّهُ مَا مِنْ عَذَابٍ إلَّا وَثَمَّ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ.
وَمَنْ قَالَ: لَيْسَ مُنْعَمًا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا نَظَرَ إلَى مَا يَئُولُ إلَيْهِ الْأَمْرُ، وَفِي الْآخِرَةِ نَظَرَ إلَى مَا هُوَ فِيهِ قَاطِعًا النَّظَرَ عَنْ كَوْنِ اللَّهِ عز وجل عِنْدَهُ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ بَعْدَ كَتْبِي هَذَا وَجَدْت ابْنَ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْأَرْبَعِينَ مُصَرِّحًا بِأَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ فَمَنْ نَفَى كَوْنَهُ لَفْظِيًّا لَمْ يُصِبْ.
[قَوْلُهُ: بِمَعْنَى وَشَكَّلَهُ] لَا حَاجَةَ لِقَوْلِهِ بِمَعْنَى؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَوَهَّمُ مِنْ اللَّفْظِ غَيْرُ ذَلِكَ التَّعْبِيرِ. [قَوْلُهُ: مَوْضِعُ وُقُوعِ نُطْفَةِ] فِي الْعِبَارَةِ حَزَازَةٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ:
الضَّمِيرَ الْبَارِزَ وَإِنْ كَانَ الْمُصَوَّرُ فِي الرَّحِمِ غَيْرَ وَاحِدٍ مُرَاعَاةً لِلَفْظِ الْإِنْسَانِ.
وَذَكَرَ الْأَرْحَامَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ مُرَاعَاةً لِلْمَعْنَى وَالْبَاءُ فِي (بِحِكْمَتِهِ) لِلْمُصَاحَبَةِ أَيْ صَوَّرَهُ مُصَاحَبًا بِحِكْمَتِهِ وَهِيَ الْإِتْقَانُ وَقِيلَ الْعِلْمُ. وَمِنْ حِكْمَتِهِ تَعَالَى أَنْ جَعَلَ وَجْهَهُ إلَى ظَهْرِ أُمِّهِ لِئَلَّا يَتَأَذَّى بِحَرِّ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَجَعَلَ غِذَاءَهُ فِي سُرَّتِهِ، وَجَعَلَ أَنْفَهُ بَيْنَ فَخِذَيْهِ لِيَتَنَفَّسَ فِي فَارِغٍ.
(وَ) الضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي (أَبْرَزَهُ) عَائِدٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْبَارِزُ عَلَى الْإِنْسَانِ وَالْمَجْرُورُ بِالْإِضَافَةِ فِي (إلَى رِفْقِهِ) يُحْتَمَلُ عَوْدُهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى الْإِنْسَانِ، فَمَنْ نَظَرَ إلَى رِفْقِ الْإِنْسَانِ بِهِ جَعَلَهُ عَائِدًا عَلَى الْإِنْسَانِ، وَمَنْ نَظَرَ إلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لَهُ ذَلِكَ أَعَادَهُ عَلَيْهِ، وَمَعْنَى أَبْرَزَ أَظْهَرَ، وَالرِّفْقُ فِي جَمِيعِ مَا
ــ
[حاشية العدوي]
وَهُوَ مَوْضِعُ وُقُوعِ، يُؤْذِنُ بِأَنَّ النُّطْفَةَ تَقَعُ فِيهِ وَهُوَ مَوْضِعُهَا.
وَقَوْلُهُ: بَعْدُ فِي فَرْجِ الْأُنْثَى مُتَعَلِّقٌ بِوُقُوعِ فَهُوَ صَرِيحٌ بِأَنَّ الْفَرْجَ مَوْضِعُ الْوُقُوعِ لَا الرَّحِمَ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ أَيْ مَوْضِعُ انْتِهَاءِ وُقُوعِ إلَخْ. [قَوْلُهُ: سُمِّيَ] أَيْ مَوْضِعُ إلَخْ أَوْ الرَّحِمُ بِمَعْنَى الذَّاتِ، وَقَوْلُهُ: بِذَلِكَ أَيْ بِالرَّحِمِ بِمَعْنَى اللَّفْظِ لَا بِمَعْنَى الذَّاتِ، فَفِي الْعِبَارَةِ اسْتِخْدَامٌ. [قَوْلُهُ: لِانْعِطَافِهِ إلَخْ] الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ وَحُنُوِّهِ أَنْ يَقُولَ لِعَطْفِهِ وَيُعْطَفُ عَلَيْهِ حُنُوُّهُ عَطْفَ مُرَادِفٍ أَيْ عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ.
قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ: حَنَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى وَلَدِهَا تَحْنِي وَتَحْنُو حُنُوًّا، عَطَفَتْ وَأَشْفَقَتْ اهـ.
[قَوْلُهُ: وَحُنُوِّهِ] عَطْفُ مُرَادِفٍ. [قَوْلُهُ: مُرَاعَاةً لِلَفْظِ الْإِنْسَانِ] إذْ لَفْظُهُ وَاحِدٌ. [قَوْلُهُ: مُرَاعَاةً لِلْمَعْنَى] ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ الْأَفْرَادُ كُلُّهَا؛ لِأَنَّ أَلْ لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَمُرَاعَاةُ الْمَعْنَى بَعْدَ مُرَاعَاةِ اللَّفْظِ فَصِيحَةٌ لِقُوَّةِ الْمَعْنَى بِخِلَافِ الْعَكْسِ. [قَوْلُهُ: وَهِيَ الْإِتْقَانُ] هُوَ الْإِتْيَانُ بِالشَّيْءِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُتَنَاسِبِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَالْحِكْمَةُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ. [قَوْلُهُ: وَقِيلَ إلَخْ] أَخَّرَهُ لِضَعْفِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْبَاءَ إمَّا أَنْ تُجْعَلَ لِلْمُصَاحَبَةِ أَوْ لِلسَّبَبِيَّةِ فَيَرِدُ عَلَى الْأَوَّلِ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْعِلْمِ وَتَعَلُّقِهِ قَدِيمٌ وَالِاصْطِحَابُ يُؤْذِنُ بِالْحُدُوثِ؛ لِأَنَّ التَّصَوُّرَ حَادِثٌ، وَالْأَصْلُ تَسَاوِي الْمُقْتَرِنَيْنِ.
وَعَلَى الثَّانِي أَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّهُ صِفَةُ تَأْثِيرٍ كَالْقُدْرَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِخِلَافِ تَفْسِيرِهَا بِالْإِتْقَانِ فَإِنَّهُ صِفَةُ فِعْلٍ وَهِيَ حَادِثَةٌ فَيَصِحُّ الِاصْطِحَابُ، وَلَا تُجْعَلُ الْبَاءُ عَلَيْهِ لِلسَّبَبِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْإِتْقَانَ صِفَةُ تَأْثِيرٍ كَالْقُدْرَةِ حَتَّى يَكُونَ سَبَبًا بَلْ هُوَ مُقَارِنٌ لِلتَّصَوُّرِ فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: وَمِنْ حِكْمَتِهِ] أَيْ إتْقَانِهِ رُجُوعٌ لِلتَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ، وَأَتَى بِمَنْ إشَارَةً إلَى أَنَّ هُنَاكَ شَيْئًا آخَرَ وَمِنْهُ خَلْقُ الْبَصَرِ وَجَعْلِهِ فِي أَعْلَى جَسَدِهِ لِتَكُونَ مَنْفَعَتُهُ أَعَمَّ، وَجَعَلَ عَلَيْهِ أَجْفَانًا كَالْأَغْطِيَةِ تَقِيهِ مِنْ الْآفَاتِ، وَجَعَلَهَا مُتَحَرِّكَةً تَنْطَبِقُ وَتَنْفَتِحُ بِمِقْدَارِ حَاجَتِهِ، وَجَعَلَ فِي أَطْرَافِهَا شَعْرًا يَمْنَعُ لَدْغَ الذُّبَابِ وَالْهَوَامِّ إذَا نَزَلَتْ عَلَيْهَا، وَجَعَلَهَا زِينَةً لَهَا كَحِلْيَةِ مَا يُحَلَّى، وَجَعَلَ عَظْمَ الْحَاجِبِ بَارِزًا عَلَيْهَا يَقِيهَا وَيَدْفَعُ عَنْهَا؛ لِأَنَّهَا لَطِيفَةٌ فِي شَكْلِهَا. [قَوْلُهُ: بِحَرِّ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ] أَيْ إذَا كَانَا حَارَّيْنِ أَوْ بِبَرْدِهِمَا إذَا كَانَا بَارِدَيْنِ، أَوْ أَنَّ لَهُمَا فِي ذَاتِهِمَا حَرَارَةً.
[قَوْلُهُ: وَجَعَلَ غِذَاءَهُ فِي سُرَّتِهِ] لِقُرْبِهَا مِنْ مَعِدَتِهِ، فَلَا كُلْفَةَ عَلَيْهِ فِي الْغِذَاءِ بِخِلَافِ مَا لَوْ جُعِلَ مِنْ فَمِهِ. [قَوْلُهُ: إلَى رِفْقِ الْإِنْسَانِ] أَيْ ارْتِفَاقِهِ، وَقَوْلُهُ: بِهِ الضَّمِيرُ رَاجِعٌ لِلرِّفْقِ الْوَاقِعِ فِي الْمُصَنِّفِ بِمَعْنَى الْمَنْفَعَةِ الْمُرْتَفَقِ بِهَا، فَحَاصِلُ الْمَعْنَى فَمَنْ نَظَرَ إلَى ارْتِفَاقِ الْإِنْسَانِ بِمَا يَرْتَفِقُ بِهِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ جَعَلَهُ عَائِدًا عَلَى الْإِنْسَانِ. [قَوْلُهُ: وَمَنْ نَظَرَ إلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لَهُ ذَلِكَ] أَيْ خَلَقَ لَهُ مَا يَرْتَفِقُ بِهِ أَعَادَهُ عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَى وَأَبْرَزَهُ إلَيَّ شَيْءٍ يَرْتَفِقُ الْإِنْسَانُ بِهِ مُضَافًا لِلْمَوْلَى عَلَى جِهَةِ الْخَلْقِ، وَخُلَاصَتُهُ أَنَّ الرِّفْقَ فِي الْمُصَنِّفِ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي يَرْتَفِقُ الْإِنْسَانُ بِهَا الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ تَعَالَى لَهُ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ رُجُوعَ الضَّمِيرِ لِلَّهِ عَلَى هَذَا فِيهِ تَكَلُّفٌ، فَالْأَنْسَبُ جَعْلُ الضَّمِيرِ عَائِدًا عَلَى الْإِنْسَانِ فَقَطْ، وَذَهَبَ تت إلَى أَنَّ الرِّفْقَ مَصْدَرٌ مُضَافٌ لِلْفَاعِلِ أَوْ الْمَفْعُولِ وَهُوَ أَحْسَنُ. [قَوْلُهُ: أَظْهَرَ] أَيْ مِنْ الْعَدَمِ لِلْوُجُودِ، فَالرِّفْقُ لَحِقَ بِهِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ بَعْدَ خُرُوجِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ جَعَلَ لَهُ حِجْرَ أُمِّهِ وَطَنًا وَثَدْيَهَا لَهُ حُقًّا وَجَعَلَ لَبَنَهَا بَيْنَ الْمُلُوحَةِ وَالْعُذُوبَةِ إذْ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا فَقَطْ لَسَئِمَهُ بَارِدًا فِي الصَّيْفِ سُخْنًا فِي الشِّتَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ:
يُرْتَفَقُ بِهِ.
(وَ) أَبْرَزَهُ إلَى (مَا) أَيْ الَّذِي (يَسَّرَهُ) اللَّهُ (لَهُ مِنْ رِزْقِهِ) مِنْ حَلَالٍ وَحَرَامٍ (وَعَلَّمَهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ) وَهِيَ الشَّهَادَةُ، وَقِيلَ الْعِلْمُ النَّظَرِيُّ وَهُوَ مَا يُدْرَكُ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَقِيلَ: الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ كَالذَّوْقِ وَالشَّمِّ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَاللَّمْسِ وَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113] وَفَضْلُهُ تَعَالَى إعْطَاءُ الشَّيْءِ بِغَيْرِ عِوَضٍ بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يُعْطِي شَيْئًا رَجَاءَ الثَّوَابِ، إمَّا فِي الدُّنْيَا وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ، وَمِنْ فَضْلِهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَوْجَدَهُ بَعْدَ الْعَدَمِ وَأَنْ جَعَلَهُ حَيَوَانًا وَلَمْ يَجْعَلْهُ جَمَادًا، وَأَنْ جَعَلَهُ إنْسَانًا وَلَمْ يَجْعَلْهُ بَهِيمَةً (وَنَبَّهَهُ بِآثَارِ صَنْعَتِهِ) أَيْ أَيْقَظَ اللَّهُ الْإِنْسَانَ وَجَعَلَ لَهُ عَقْلًا يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ لِلْمَصْنُوعِ صَانِعًا صَنَعَهُ، وَهَذَا التَّنْبِيهُ وَاقِعٌ فِي الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى:
ــ
[حاشية العدوي]
أَظْهَرَهُ مِنْ ضِيقٍ إلَى سَعَةٍ، أَيْ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ إلَى خَارِجِهَا. [قَوْلُهُ: مِنْ حَلَالٍ وَحَرَامٍ] أَيْ فَالرِّزْقُ عَلَى الصَّحِيحِ عَامٌّ فِيمَا يَنْتَفِعُ بِهِ مِنْ حِينِ يُخْلَقُ إلَى أَنْ يَمُوتَ حَلَالٌ أَوْ حَرَامٌ، وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: لَا يَكُونُ إلَّا حَلَالًا وَهُوَ بَاطِلٌ. [قَوْلُهُ: مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ إلَخْ] مَا اسْمٌ مَوْصُولٌ أَوْ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ.
قَالَ فِي شَرْحِ الْعَقِيدَةِ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ مَحْمُولٌ عَلَى الْجَهْلِ حَتَّى يَطْرَأَ الْعِلْمُ. [قَوْلُهُ: وَهِيَ الشَّهَادَةُ] أَيْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ ضَعِيفٌ كَمَا قَالَهُ الشَّارِحُ فِي شَرْحِ الْعَقِيدَةِ.
[قَوْلُهُ: وَهُوَ مَا يُدْرَكُ بِالنَّظَرِ إلَخْ] الْمُنَاسِبُ أَنْ يَقُولَ وَهُوَ مَا يَحْصُلُ بِالنَّظَرِ، وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي يُقَالُ فِيهِ يُدْرَكُ إنَّمَا هُوَ الْمَعْلُومُ لَا الْعِلْمُ النَّظَرِيُّ الْمَقْصُودُ تَفْسِيرُهُ، وَالنَّظَرُ تَرْتِيبُ أُمُورٍ مَعْلُومَةٍ لِتُؤَدِّيَ إلَى مَجْهُولٍ كَتَرْتِيبِ، الْعَالَمُ مُتَغَيِّرٌ، وَكُلُّ مُتَغَيِّرٍ حَادِثٍ، الْمُؤَدِّي إلَى أَنَّ الْعَالَمَ حَادِثٌ الَّذِي هُوَ الْمَجْهُولُ، وَقَوْلُهُ: وَالِاسْتِدْلَالُ هُوَ إقَامَةُ الدَّلِيلِ فَهُوَ عَطْفُ لَازِمٍ عَلَى مَلْزُومٍ.
[قَوْلُهُ: وَقِيلَ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ] هُوَ الَّذِي لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى نَظَرٍ وَلَا عَلَى اسْتِدْلَالٍ. [قَوْلُهُ: كَالذَّوْقِ] قَالَ سَعْدُ الدِّينِ: الذَّوْقُ قُوَّةٌ إدْرَاكِيَّةٌ لَهَا اخْتِصَاصٌ بِإِدْرَاكِ لَطَائِفِ الْكَلَامِ وَمَعَانِيهِ انْتَهَى.
وَفِي الْعِبَارَةِ حَذْفٌ وَالتَّقْدِيرُ كَالْعِلْمِ الْحَاصِلِ بِالذَّوْقِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْحَوَاسِّ. [قَوْلُهُ: وَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ] أَيْ وَالْعِلْمِ بِالْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْفَرَحِ وَالْغَمِّ وَغَيْرِهِمَا، وَخُلَاصَتُهُ أَنَّ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ أَشْيَاءُ: أَحَدُهَا مَا يَحْصُلُ بِالْحَوَاسِّ كَعِلْمِكَ بِبَيَاضِ زَيْدٍ أَوْ سَوَادِهِ مَثَلًا، ثَانِيهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأُمُورِ الْبَاطِنِيَّةِ كَعِلْمِك بِجُوعِك أَوْ عَطَشِك وَهَذَا مَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ، ثَالِثُهَا مَا كَانَ أَوَّلِيًّا كَالْعِلْمِ بِأَنَّ الْوَاحِدَ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ الْمِيزَانِ لَا أَنَّ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ هُوَ الذَّوْقُ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ عِبَارَةِ الشَّارِحِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.
[قَوْلُهُ: بِخِلَافِ غَيْرِهِ إلَخْ] هَذَا مُشْكِلٌ بِأَهْلِ الْمَرْتَبَةِ الْعُلْيَا فَإِنَّهُمْ لَا يَرْجُونَ ثَوَابًا لَا دُنْيَا وَلَا أُخْرَى، وَيُجَابُ بِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَرْجُ بِفِعْلِهِ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ وَعَدَ الطَّائِعَ بِالثَّوَابِ وَوَعْدُهُ لَا يَتَخَلَّفُ فَهُوَ رَاجٍ لِلثَّوَابِ بِحَسَبِ نَفْسِ الْأَمْرِ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْهُ.
[قَوْلُهُ: وَأَنْ جَعَلَهُ حَيَوَانًا إلَخْ] أَيْ فَالْحَيَوَانُ أَفْضَلُ مِنْ الْجَمَادِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُرْزَقُ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَيَتَلَذَّذُ. [قَوْلُهُ: وَأَنْ جَعَلَهُ إنْسَانًا وَلَمْ يَجْعَلْهُ بَهِيمَةً] فَإِنْ قُلْت: الْكَافِرُ جَعْلُهُ بَهِيمَةً أَحْسَنُ لَهُ؛ لِأَنَّ مَآلَهُ إلَى الْعَذَابِ الدَّائِمِ. قُلْت: الْكَافِرُ هُوَ الَّذِي ضَيَّعَ نَفْسَهُ بِاخْتِيَارِهِ الْكُفْرَ الْمُوجِبَ لِلْعَذَابِ الدَّائِمِ.
[قَوْلُهُ: وَنَبَّهَهُ إلَخْ] فِي الْعِبَارَةِ حَذْفٌ كَمَا قَالَ ابْنُ نَاجِي، وَالتَّقْدِيرُ وَنَبَّهَهُ بِآثَارِ صَنْعَتِهِ عَلَى وُجُودِهِ وَوَحْدَانِيِّتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ اهـ.
[قَوْلُهُ: صَنْعَتِهِ] أَيْ إيجَادِهِ، فَالْآثَارُ مُتَعَلِّقُ الصَّنْعَةِ الْمُفَسَّرَةِ بِالْإِيجَادِ فَهِيَ صِفَةُ فِعْلٍ فَالْإِضَافَةُ حَقِيقَةٌ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِضَافَةُ لِلْبَيَانِ، أَيْ آثَارٍ هِيَ صَنْعَتُهُ أَيْ مَصْنُوعَةٍ، ثُمَّ بَعْدَ كَتْبِي هَذَا وَجَدْت عج أَفَادَهُ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَيَجُوزُ وَجْهٌ ثَالِثٌ وَإِنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ عج وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّنْعَةِ الْمَصْنُوعُ وَآثَارُهُ مَا احْتَوَى عَلَيْهِ مِنْ بَدِيعِ الْحِكَمِ.
[قَوْلُهُ: وَجَعَلَ لَهُ] عَطْفُ تَفْسِيرٍ عَلَى مَا قَبْلَهُ. [قَوْلُهُ: يُسْتَدَلُّ بِهِ] أَيْ بِسَبَبِهِ لَا أَنَّهُ الدَّلِيلُ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ قَوْلِهِ يُسْتَدَلُّ بِهِ. [قَوْلُهُ: عَلَى أَنَّ لِلْمَصْنُوعِ] أَيْ مِنْ حَيْثُ احْتِوَائِهِ عَلَى بَدِيعِ الْحِكَمِ وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّالِثُ الَّذِي أَشَرْنَا لَهُ سَابِقًا وَإِلَيْهِ يُشِيرُ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ بِقَوْلِهِ: فَانْظُرْ إلَى نَفْسِك إلَخْ. أَيْ فَإِذَا نَظَرَ فِي الْمَصْنُوعِ وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ
{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران: 190] إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ (وَأَعْذَرَ) اللَّهُ (إلَيْهِ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُرْسَلِينَ) مَعْنَاهُ أَنَّهُ قَطَعَ عُذْرَهُ بِتَقْدِيمِ الرُّسُلِ إلَيْهِ وَهَذَا الْإِعْذَارُ وَاقِعٌ فِي الْقُرْآنِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]
وَالرُّسُلُ جَمْعُ رَسُولٍ، وَهُوَ إنْسَانٌ أُوحِيَ إلَيْهِ بِشَرْعٍ وَأُمِرَ بِالتَّبْلِيغِ. وَالنَّبِيُّ مُخْبِرٌ بِالْغَيْبِ خَاصَّةً فَكُلُّ رَسُولٍ نَبِيٌّ وَلَا يَنْعَكِسُ.
وَعِدَّةُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى مَا فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ مَرْفُوعًا مِائَةُ أَلْفٍ
ــ
[حاشية العدوي]
بَدَائِعِ الْحِكَمِ عَلِمَ أَنَّ وُجُودَهُ لَيْسَ مِنْ ذَاتِهِ بَلْ مِنْ صَانِعٍ أَحْكَمَهُ وَأَتْقَنَهُ.
[قَوْلُهُ: وَهَذَا التَّنْبِيهُ إلَخْ] فِيهِ شَيْءٌ وَذَلِكَ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ أَنَّ اللَّهَ نَبَّهَ الْإِنْسَانَ بِهَذِهِ الْآثَارِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ أَوْجَدَهَا وَجَعَلَ لَهُ عَقْلًا عَلَى أَنَّ لَهَا صَانِعًا وَاحِدًا قَدِيمًا بَاقِيًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ لَا أَنَّهُ نَبَّهَهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ حَيْثُ يَقُولُ: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ} [الذاريات: 21] إلَخْ فَالْمُنَاسِبُ أَنْ يَقُولَ: وَهَذَا التَّنْبِيهُ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ لَهُ فِي الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ إلَخْ.
[قَوْلُهُ: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ} [الذاريات: 21]] أَيْ وَفِي أَنْفُسِكُمْ فِي حَالِ ابْتِدَائِهَا وَتَنَقُّلِهَا وَبَوَاطِنِهَا وَظَوَاهِرِهَا مِنْ بَدَائِعِ الْخَلْقِ مَا تَتَحَيَّرُ فِيهِ الْأَذْهَانُ {أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] نَظَرَ مُعْتَبِرٍ فَلَيْسَ قَوْلُهُ: وَفِي أَنْفُسِكُمْ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ تُبْصِرُونَ بَلْ هُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ أَيْ وَفِي أَنْفُسِكُمْ آيَاتٌ.
[قَوْلُهُ: وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ] أَيْ بِالْمَجِيءِ وَالذَّهَابِ وَالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ.
[قَوْلُهُ: لَآيَاتٍ] أَيْ دَلَالَاتٍ عَلَى قُدْرَتِهِ وَوُجُودِهِ وَوَحْدَتِهِ وَعِلْمِهِ، وَتَخْصِيصُ الثَّلَاثَةِ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ لِشُمُولِهَا. [قَوْلُهُ: الْأَلْبَابِ] أَيْ الْعُقُولِ. [قَوْلُهُ: إلَى غَيْرِ ذَلِكَ إلَخْ] أَيْ وَانْظُرْ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ إنْ أَرَدْت الزِّيَادَةَ فَلَا تَعْتَقِدْ قَصْرَ التَّنْبِيهِ عَلَى خُصُوصِ مَا ذَكَرَ. [قَوْلُهُ: عَلَى أَلْسِنَةِ] جَمْعُ لِسَانٍ وَهُوَ تُرْجُمَانُ الْقَلْبِ يُخْبِرُ بِمَا فِيهِ، وَأَلْسِنَةٌ جَمْعُ قِلَّةٍ مُرَادٌ مِنْهُ جَمْعُ الْكَثْرَةِ؛ لِأَنَّ جَمْعَ الْقِلَّةِ مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَالرُّسُلُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَارْتَضَى تت أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا اللُّغَاتُ الثَّلَاثَةُ سُرْيَانِيَّةٌ وَعِبْرَانِيَّةٌ وَعَرَبِيَّةٌ.
[قَوْلُهُ: الْمُرْسَلِينَ] جَمْعُ مُرْسَلٍ بِمَعْنَى رَسُولٍ.
[قَوْلُهُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ قَطَعَ عُذْرَهُ] أَيْ فَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتْرُكْ لَهُ شَيْئًا فِي الِاعْتِذَارِ يَتَمَسَّكُ بِهِ، فَالْهَمْزَةُ فِيهِ لِلسَّلْبِ أَيْ أَزَالَ عُذْرَهُ فَلَمْ يُبْقِ لَهُ اعْتِذَارًا حَيْثُ أَرْسَلَ لَهُ الرُّسُلَ اهـ.
[قَوْلُهُ: بِتَقَدُّمِ الرُّسُلِ إلَيْهِ] أَيْ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ إلَيْهِ حَيْثُ بَيَّنُوا الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ وَالْمُتَشَابِهَ، فَمَعْنَى الْمُصَنِّفِ، وَقَطَعَ عُذْرَهُ بِشَيْءٍ وَأَرَادَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُرْسَلِينَ، وَذَكَرَ عج وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى بَالَغَ فِي الْمَعْذِرَةِ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُرْسَلِينَ، وَلَيْسَ فِي الْمِصْبَاحِ وَالْقَامُوسِ مَا يُفِيدُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ. [قَوْلُهُ: وَهَذَا الْإِعْذَارِ] أَيْ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ سَلْبِ الْعُذْرِ. [قَوْلُهُ: وَاقِعٌ فِي الْقُرْآنِ] أَيْ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ لَهُ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ. [قَوْلُهُ: لِئَلَّا يَكُونَ إلَخْ] أَيْ لِتَنْتَفِيَ الْحُجَّةُ عَلَى اللَّهِ لِلنَّاسِ، أَيْ لَا يَبْقَى لَهُمْ حُجَّةٌ عَلَى اللَّهِ بَعْدَ إرْسَالِ الرُّسُلِ.
[قَوْلُهُ: إنْسَانٌ] أَيْ لَا جِنٌّ وَلَا مَلَكٌ، وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى:{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ} [الرحمن: 33] إلَخْ فَالْمُرَادُ مِنْ أَحَدِكُمْ، وَهُمْ الْإِنْسُ.
[قَوْلُهُ: أُوحِيَ إلَيْهِ بِشَرْعٍ] لَمْ يَذْكُرْ الْفَاعِلَ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْعِلْمِ بِهِ.
[قَوْلُهُ: بِشَرْعٍ] كَانَ مَعَهُ كِتَابٌ أَمْ لَا، نَاسِخٌ لِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ أَمْ لَا. [قَوْلُهُ: مُخْبَرٌ] بِفَتْحِ الْبَاءِ أَيْ أُوحِيَ إلَيْهِ بِشَرْعٍ فَفَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ. وَيَصِحُّ أَنْ يُقْرَأَ بِالْكَسْرِ؛ لِأَنَّهُ يُخْبِرُ بِكَوْنِهِ نَبِيًّا لِيُحْتَرَمَ. [قَوْلُهُ: خَاصَّةً] لَيْسَ مِنْ تَمَامِ التَّعْرِيفِ وَإِلَّا لَاقْتَضَى الْمُبَايَنَةَ بَيْنَ الرَّسُولِ وَالنَّبِيِّ، فَمُرَادُهُ أَنَّكَ تَقْتَصِرُ فِي تَعْرِيفِ النَّبِيِّ عَلَى قَوْلِك مُخْبَرٌ بِالْغَيْبِ وَلَا تَزِيدُ، وَأُمِرَ بِالتَّبْلِيغِ كَمَا زِدْته فِي تَعْرِيفِ الرَّسُولِ أَيْ أَنَّ النَّبِيَّ مُخْبَرٌ بِالْغَيْبِ وَلَا بُدَّ سَوَاءٌ أُمِرَ بِالتَّبْلِيغِ أَمْ لَا.
[قَوْلُهُ: وَلَا يَنْعَكِسُ] أَيْ لُغَوِيًّا بِحَيْثُ تَقُولُ: وَكُلُّ نَبِيٍّ رَسُولٌ بَلْ يَنْعَكِسُ مَنْطِقِيًّا وَهُوَ أَنَّ بَعْضَ النَّبِيِّ رَسُولٌ. [قَوْلُهُ: وَعِدَّةُ الْأَنْبِيَاءِ إلَخْ] الْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ عِدَّتَهُمْ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَمَا وَرَدَ فِي بَيَانِ الْعِدَّةِ مُتَكَلَّمٌ فِيهِ.
[قَوْلُهُ: مَرْفُوعًا] حَالٌ مِنْ مَا أَيْ حَالَةَ كَوْنِ مَا فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ مَرْفُوعًا أَيْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيُقَابِلُهُ الْمَوْقُوفُ فَالْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ مَا أُسْنِدَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صَرِيحًا وَهُوَ ظَاهِرٌ أَوْ حُكْمًا كَأَنْ أُسْنِدَ لِلصَّحَابِيِّ إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ
وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا، الرُّسُلُ مِنْهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ.
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَفِي رِوَايَةٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ. وَالرُّسُلُ كُلُّهُمْ عَجَمٌ إلَّا خَمْسَةً مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم وَإِسْمَاعِيلَ وَهُودًا وَصَالِحًا وَشُعَيْبًا. وَالْوَحْيُ إلَى جَمِيعِهِمْ كَانَ فِي الْمَنَامِ إلَّا أُولُو الْعَزْمِ أَيْ الْجِدِّ وَالثَّبَاتِ، وَهُمْ عَلَى مَا فِي الْكَشَّافِ نُوحٌ صَبَرَ عَلَى أَذَى قَوْمِهِ، وَإِبْرَاهِيمُ صَبَرَ عَلَى النَّارِ وَذَبْحِ وَلَدِهِ، وَإِسْحَاقُ عَلَى الذَّبْحِ وَيَعْقُوبُ عَلَى فَقْدِ وَلَدِهِ وَذَهَابِ بَصَرِهِ، وَيُوسُفُ عَلَى
ــ
[حاشية العدوي]
لِلرَّأْيِ فِيهِ مَجَالٌ، وَالْمَوْقُوفُ مَا أُسْنِدَ لِلصَّحَابِيِّ وَلِلرَّأْيِ فِيهِ مَجَالٌ أَيْ بِحَيْثُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِاجْتِهَادِ الصَّحَابِيِّ.
[قَوْلُهُ: وَالرُّسُلُ كُلُّهُمْ عَجَمٌ إلَخْ] أَيْ يَتَكَلَّمُونَ بِاللُّغَةِ الْعَجَمِيَّةِ إلَّا هَؤُلَاءِ الْخَمْسَةَ يَتَكَلَّمُونَ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، فَالْمُرَادُ بِالْعَجَمِيَّةِ مَا يَشْمَلُ السُّرْيَانِيَّةَ، وَالْعِبْرَانِيَّة، فَالسُّرْيَانِيُّونَ فَإِنَّهُمْ خَمْسَةٌ: إدْرِيسُ وَنُوحٌ وَلُوطٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَيُونُسُ. وَالْعِبْرَانِيُّونَ: بَنُو إسْرَائِيلَ وَهُمْ يَعْقُوبُ وَمَنْ وَلَدَ، وَتَرَدَّدَ بَعْضُهُمْ فِي آدَمَ وَإِسْحَاقَ وَنَحْوِهِمَا، وَظَهَرَ لَهُ أَنَّ آدَمَ سُرْيَانِيٌّ وَالظَّاهِرُ أَنَّ إِسْحَاقَ كَذَلِكَ، قِيلَ: إنَّ إبْرَاهِيمَ تَكَلَّمَ بِاللُّغَةِ الْعِبْرَانِيَّةِ وَالسُّرْيَانِيَّة.
فَائِدَةٌ: نَقَلَ تت عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ وَلَدِ إبْرَاهِيمَ إلَّا ثَمَانِيَةً: آدَم وَشِيثُ وَإِدْرِيسُ وَنُوحٌ وَهُودٌ وَصَالِحٌ وَلُوطٌ وَيُونُسُ وَكُلُّهُمْ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ إلَّا عَشَرَةً الثَّمَانِيَةُ الْمَذْكُورَةُ وَإِبْرَاهِيمُ وَإِسْحَاقُ اهـ.
قُلْت: وَأَيُّوبُ أَيْضًا فَإِنَّهُ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مِنْ ذُرِّيَّةِ الْعِيصِ أَخِي يَعْقُوبَ.
[قَوْلُهُ: كَانَ فِي الْمَنَامِ] وَالسَّفِيرُ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ جِبْرِيلُ كَمَا أَفَادَهُ بَعْضُهُمْ. [قَوْلُهُ: الْجِدُّ] أَيْ الِاجْتِهَادِ فِي الْأَمْرِ وَهُوَ بِفَتْحِ الْجِيمِ كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ وَبِالْكَسْرِ كَمَا فِي الْقَامُوسِ. [قَوْلُهُ: وَهَمَ عَلَى مَا فِي الْكَشَّافِ إلَخْ] أَيْ فَهُمْ تِسْعَةٌ وَمُقَابِلُ مَا فِي الْكَشَّافِ مَا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ مِنْ أَنَّهُمْ خَمْسَةٌ وَنَظَّمَهُمْ تت فَقَالَ:
مُحَمَّدٌ إبْرَاهِيمُ مُوسَى كَلِيمُهُ
…
وَنُوحٌ وَعِيسَى هُمْ أُولُو الْعَزْمِ فَاعْرِفَا
قَالَ تت: وَلَمْ يَعُدَّ أَيْ صَاحِبُ الْكَشَّافِ مِنْهُمْ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم.
قَالَ الْأَقْفَهْسِيُّ: بِنَاءً عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْوَحْيُ إلَى جَمِيعِهِمْ كَانَ فِي الْمَنَامِ إلَّا أُولُو الْعَزْمِ الْخَمْسَةُ، فَإِنَّهُ كَانَ يُوحَى إلَيْهِمْ فِي النَّوْمِ وَالْيَقِظَةِ اهـ.
[قَوْلُهُ: نُوحٌ صَبَرَ عَلَى أَذَى قَوْمِهِ] أَيْ أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا، وَانْظُرْ هَذَا مَعَ أَنَّ نُوحًا دَعَا عَلَى قَوْمِهِ فَلَوْ كَانَ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ لَمْ يَدْعُ عَلَى قَوْمِهِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمَّا أَعْلَمَهُ اللَّهُ بِأَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِهِ إلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ دَعَا عَلَيْهِمْ، وَالْمَقْصُودُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ أَعْنِي قَوْلَهُ صَبَرَ عَلَى أَذَى قَوْمِهِ، وَنَظِيرُهَا مِمَّا سَيَأْتِي تَحَقُّقُ مَا ادَّعَاهُ مِنْ أَنَّ هَؤُلَاءِ أُولُو الْعَزْمِ.
[قَوْلُهُ: صَبَرَ عَلَى النَّارِ] أَيْ عَلَى الْإِلْقَاءِ فِيهَا لَا أَنَّهُ صَبَرَ عَلَى النَّارِ بِالْفِعْلِ بِحَيْثُ طُرِحَ فِيهَا وَهِيَ تُحْرِقُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا} [الأنبياء: 69][قَوْلُهُ: وَذَبْحِ وَلَدِهِ] أَيْ عَلَى الْأَمْرِ بِذَبْحِ وَلَدِهِ؛ لِأَنَّ وَلَدَهُ لَمْ يُذْبَحْ. [قَوْلُهُ: وَإِسْحَاقُ عَلَى الذَّبْحِ] أَيْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الذَّبِيحَ إِسْحَاقُ، وَهُوَ قَوْلُ الْإِمَامِ مَالِكٍ وَيُوَافِقُهُ حَدِيثٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَنَصُّهُ الذَّبِيحُ إِسْحَاقُ قَطُّ فِي الْإِفْرَادِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالْبَزَّارِ وَابْنِ مَرْدُوَيْهِ إلَخْ وَقَاعِدَتُهُ أَنَّ قَطُّ لِلدَّارَقُطْنِيِّ.
نَقَلَ هَذَا الْحَدِيثَ الْعَلْقَمِيُّ، فَإِنْ قُلْت: فَمَا مَعْنَى مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَنَا ابْنُ الذَّبِيحَيْنِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ؟ قُلْت: أَفَادَ بَعْضُ الشُّيُوخِ أَنَّهُ يَكُونُ فِيهِ مَجَازٌ حَيْثُ أَطْلَقَ مَا لِأَخِي أَبِيهِ الْأَعْلَى عَلَى أَبِيهِ الْأَعْلَى، وَقِيلَ:
الْجُبِّ وَالسِّجْنِ، وَأَيُّوبُ عَلَى الضُّرِّ، وَمُوسَى قَالَ لَهُ قَوْمُهُ: إنَّا لَمُدْرَكُونَ {قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] وَدَاوُد بَكَى عَلَى خَطِيئَتِهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَعِيسَى لَمْ يَضَعْ لَبِنَةً عَلَى لَبِنَةٍ وَقَالَ: إنَّهَا مَعْبَرَةٌ فَاعْبُرُوهَا وَلَا تَعْمُرُوهَا. (الْخِيرَةُ) بِتَسْكِينِ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِهَا صِفَةٌ لِلْمُرْسَلِينَ أَيْ الْمُخْتَارِينَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى لِلتَّبْلِيغِ، (مِنْ خَلْقِهِ)
وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَوْ نَصُّهُ يَقْتَضِي تَفْضِيلَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ
ــ
[حاشية العدوي]
إسْمَاعِيلُ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْ إِسْحَاقَ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ كَمَا ذَكَرَهُ الْجَلَالُ الْمَحَلِّيُّ بَلْ نَسَبَهُ بَعْضٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ، فَقَالَ: وَإِسْمَاعِيلُ عَلَى الذَّبْحِ؛ لِأَنَّهُ الذَّبِيحُ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ لَا إِسْحَاقُ اهـ.
[قَوْلُهُ: وَذَهَابِ بَصَرِهِ] لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ عَمِيَ كَمَا يَتَبَادَرُ مِنْ الْعِبَارَةِ بَلْ رَقْرَقَ الْمَاءُ فِي عَيْنَيْهِ بِحَيْثُ يَتَرَاءَى أَنَّهُ عَمِيَ، وَفِي الْوَاقِعِ لَيْسَ كَذَلِكَ [قَوْلُهُ: وَأَيُّوبُ عَلَى الضُّرِّ] أَيْ عَلَى الْمَرَضِ الَّذِي حَصَلَ لَهُ. [قَوْلُهُ: وَمُوسَى قَالَ لَهُ قَوْمُهُ إنَّا لَمُدْرَكُونَ] أَيْ لَمَّا خَرَجَ مُوسَى بِبَنِي إسْرَائِيلَ إلَى الْبَحْرِ وَخَرَجَ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ وَرَاءَهُ وَتَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ: إنَّا لَمُدْرَكُونَ أَدْرَكَنَا فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ قَالَ: كَلًّا أَيْ فَهُوَ ذُو عَزْمٍ حَيْثُ لَمْ يُبَالِ بِفِرْعَوْنَ: وَقَالَ كَلًّا.
[قَوْلُهُ: وَدَاوُد بَكَى عَلَى خَطِيئَتِهِ إلَخْ] عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: أَنَّهُ كَانَ ذَنْبُ دَاوُد أَنَّهُ الْتَمَسَ مِنْ الرَّجُلِ الَّذِي هُوَ أُورِيَّا أَنْ يَنْزِلَ لَهُ عَنْ امْرَأَتِهِ.
قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: كَانَ ذَلِكَ مُبَاحًا غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَرْضَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ رَغْبَةٌ فِي الدُّنْيَا وَازْدِيَادٌ فِي النِّسَاءِ وَقَدْ أَغْنَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا أَعْطَاهُ مِنْ غَيْرِهَا، وَتِلْكَ الْمَرْأَةُ أُمُّ سُلَيْمَانَ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، وَقِيلَ: خَطَبَهَا أُورِيَّا ثُمَّ دَاوُد فَآثَرَهُ أَهْلُهَا فَكَانَ ذَنْبُهُ أَنْ خَطَبَ عَلَى خُطُوبَةِ أَخِيهِ مَعَ كَثْرَةِ نِسَائِهِ، قُلْت: وَيَحِلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ جَائِزًا فِي شَرْعِهِ أَيْ فَهُوَ ذُو ثَبَاتٍ حَيْثُ اسْتَمَرَّ يَبْكِي عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا تِلْكَ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ.
[قَوْلُهُ: وَعِيسَى لَمْ يَضَعْ لَبِنَةً عَلَى لَبِنَةٍ] قَالَ فِي الصِّحَاحِ: اللَّبِنَةُ الَّتِي يُبْنَى عَلَيْهَا وَالْجَمْعُ لَبِنٍ، مِثْلُ كَلِمَةٍ وَكَلِمٍ.
قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: وَمِنْ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ لِبْنَةٌ وَلِبَنٌ مِثْلُ لِبْدَةٍ وَلِبَدٍ اهـ. أَيْ فَعَزْمُ عِيسَى عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَضَعْ لَبِنَةً عَلَى لَبِنَةً، أَفْصَحَ بِهِ الشَّارِحُ فِي شَرْحِهِ لِلْعَقِيدَةِ.
[قَوْلُهُ: وَقَالَ إنَّهَا] أَيْ الدُّنْيَا، فَالْمَرْجِعُ إمَّا كَانَ مُتَقَدِّمًا فِي عِبَارَتِهِ أَوْ مَعْلُومًا مِنْ قَرِينَةِ الْحَالِ.
[قَوْلُهُ: مِعْبَرَةٌ] الْمِعْبَرُ بِكَسْرِ الْمِيمِ مَا يُعْبَرُ عَلَيْهِ مِنْ سَفِينَةٍ أَوْ قَنْطَرَةٍ كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ، فَمِعْبَرَةٌ فِي كَلَامِ شَارِحِنَا بِكَسْرِ الْمِيمِ وَالْمَعْنَى أَنَّ الدُّنْيَا مَحَلُّ عُبُورٍ فِيهَا لِلْآخِرَةِ.
[قَوْلُهُ: فَاعْبُرُوهَا] أَيْ فَاذْهَبُوا مِنْهَا لِلْآخِرَةِ وَلَا تَعْمُرُوهَا؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي تَعْمِيرِ دَارٍ مَآلُهَا إلَى الْخَرَابِ، فَالصَّوَابُ السَّعْيُ إلَى الْبَاقِي الَّذِي لَا يَفْنَى. [قَوْلُهُ: الْخِيرَةُ بِتَسْكِينِ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِهَا] أَيْ وَكَسْرِ الْحَاءِ وَهَلْ كُلٌّ مِنْهُمَا مَصْدَرٌ أَوْ اسْمُ مَصْدَرٍ أَوْ بِالْفَتْحِ مَصْدَرٌ وَبِالسُّكُونِ اسْمُ مَصْدَرٍ أَوْ بِالْعَكْسِ أَقْوَالٌ، وَعَلَى كُلٍّ فَهُوَ نَعْتٌ لِلْمُرْسَلِينَ إمَّا بِتَأْوِيلِهِ بِاسْمِ الْمَفْعُولِ كَمَا قَرَّرَهُ الشَّارِحُ حَيْثُ قَالَ: أَيْ الْمُخْتَارِينَ، أَوْ أَنَّهُمْ نَفْسُ الِاخْتِيَارِ مُبَالَغَةً، أَوْ أَنَّهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ ذِي اخْتِيَارٍ عَلَى حَدِّ، زَيْدٌ عَدْلٌ.
[قَوْلُهُ: وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَوْ نَصِّهِ] يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أَوْ لِلشَّكِّ أَيْ أَشُكُّ فِي كَوْنِهِ ظَاهِرَ كَلَامِهِ بِحَيْثُ يَحْتَمِلُ خِلَافَ الْمُتَبَادَرِ مِنْهُ أَوْ نَصًّا لَا يَحْتَمِلُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلْإِضْرَابِ أَيْ بَلْ نَصُّهُ فَفُهِمَ أَوَّلًا أَنَّهُ ظَاهِرٌ ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ نَصُّهُ فَأَضْرَبَ إلَيْهِ إضْرَابًا إبْطَالِيًّا. [قَوْلُهُ: يَقْتَضِي تَفْضِيلَ الْأَنْبِيَاءِ] فِيهِ نَظَرٌ بَلْ تَفْضِيلُ الرُّسُلِ لِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ: أَلْسِنَةِ الْمُرْسَلِينَ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّهُ ذَاهِبٌ إلَى اتِّحَادِ النَّبِيِّ وَالرَّسُولِ.
وَحَاصِلُ مَا فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْقَوْلِ الرَّاجِحِ أَنَّ خَوَاصَّ الْآدَمِيِّينَ وَهُمْ الْأَنْبِيَاءُ أَفْضَلُ مِنْ خَوَاصِّ الْمَلَائِكَةِ وَهُمْ الْأَرْبَعَةُ الْمُقَرَّبُونَ مِيكَائِيلُ وَجِبْرِيلُ وَإِسْرَافِيلُ وَعِزْرَائِيلُ، وَخَوَاصُّ الْمَلَائِكَةِ أَفْضَلُ مِنْ عَوَامِّ الْبَشَرِ وَهُمْ الصَّحَابَةُ وَالْمُتَّقُونَ وَعَوَامُّ الْبَشَرِ أَفْضَلُ مِنْ عَوَامِّ الْمَلَائِكَةِ وَهُمْ غَيْرُ الْأَرْبَعَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمْ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: وَالتَّفْضِيلُ حَيْثُ قِيلَ بِهِ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ الثَّوَابِ، وَيُوَافِقُهُ مَا نُقِلَ عَنْ الْفَخْرِ أَنَّ الْخِلَافَ فِي التَّفْضِيلِ بِمَعْنَى أَيُّهُمَا أَكْثَرُ ثَوَابًا عَلَى الطَّاعَاتِ اهـ.
وَفِي كَلَامِ اللَّقَانِيِّ مَا يُفِيدُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يُثَابُونَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ. [قَوْلُهُ:
وَمُقَابِلُهُ لِلْمُعْتَزِلَةِ، وَاخْتَارَهُ بَعْضُ أَهْلِ السُّنَّةِ فَعَلَى الْأَوَّلِ مَنْ فِي كَلَامِ الشَّيْخِ لِبَيَانِ الْجِنْسِ وَعَلَى الثَّانِي لِلتَّبْعِيضِ، وَاسْتَثْنَوْا مِنْ هَذَا الْخِلَافِ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ شَكٍّ وَلَا رَيْبٍ.
تَنْبِيهٌ: اُنْظُرْ مَا قَالَهُ هُنَا مَعَ قَوْلِهِ بَعْدُ الْبَاعِثُ الرُّسُلَ إلَيْهِمْ أَيْ عَلَى الْعِبَادِ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَ يَدْخُلُ فِيهِمْ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ، وَفِي قَوْلِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُرْسَلِينَ تَنْبِيهٌ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الْعَقْلَ يُحَسِّنُ وَيُقَبِّحُ، وَفَسَادُ قَوْلِ الْبَرَاهِمَةِ: أَنَّ الْعَقْلَ يُغْنِي عَنْ الرُّسُلِ، وَنَبَّهَ بِالْعَطْفِ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: (فَهَدَى مَنْ وَفَّقَهُ بِفَضْلِهِ وَأَضَلَّ مَنْ خَذَلَهُ
ــ
[حاشية العدوي]
وَمُقَابِلُهُ] أَيْ وَهُوَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَفْضَلُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ: [قَوْلُهُ: وَاخْتَارَهُ بَعْضُ أَهْلِ السُّنَّةِ] أَيْ كَالبَاقِلَّانِيِّ وَالرَّازِيِّ. [قَوْلُهُ: مِنْ لِبَيَانِ الْجِنْسِ إلَخْ] أَيْ الْمُخْتَارِينَ الَّذِينَ هُمْ خَلْقُهُ هَذَا مَعْنَاهُ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا خَلْقَهُ إلَّا أَنْ يُرِيدَ مُبَالَغَةً أَوْ فَجَعَلَهُمْ نَفْسَ خَلْقِهِ مُبَالَغَةً يُفِيدُ تَفْضِيلَهُمْ عَلَى سَائِرِ خَلْقِهِ الَّذِينَ مِنْهُمْ الْمَلَائِكَةُ.
[قَوْلُهُ: وَعَلَى الثَّانِي لِلتَّبْعِيضِ] أَيْ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ اللَّهُ لِلتَّبْلِيغِ وَهُمْ بَعْضُ خَلْقِهِ. أَقُولُ: وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا لَا يُفِيدُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَفْضَلُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ بَلْ يُقَالُ: إنَّ اخْتِيَارَهُمْ لِلتَّبْلِيغِ مِنْ بَيْنِ خَلْقِهِ يُؤْذِنُ بِأَفْضَلِيَّتِهِمْ عَلَى سَائِرِ خَلْقِهِ. [قَوْلُهُ: وَاسْتَثْنَوْا إلَخْ] أَيْ وَلَا عِبْرَةَ بِقَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ إنَّ جِبْرِيلَ أَفْضَلُ مِنْ نَبِيِّنَا فَإِنَّهُ مَرْدُودٌ بَاطِلٌ خَارِقٌ لِلْإِجْمَاعِ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ. [قَوْلُهُ: وَلَا رَيْبٍ] عَطْفُ مُرَادِفٍ عَلَى قَوْلِهِ شَكٍّ، وَأَرَادَ بِهِ مُطْلَقَ التَّرَدُّدِ.
[قَوْلُهُ: وَانْظُرْ مَا قَالَهُ هُنَا إلَخْ] أَيْ مِنْ قَوْلِهِ وَأَعْذَرَ إلَيْهِ أَيْ إلَى الْإِنْسَانِ إلَخْ فَإِنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ الرُّسُلَ أُرْسِلَتْ لِلْإِنْسَانِ فَقَطْ فَيُنَافِي قَوْلَهُ بَعْدُ الْبَاعِثُ الرُّسُلَ إلَى الْعِبَادِ الشَّامِلَ لِلْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَيُجَابُ بِأَنَّ أَلْ فِي الْمُرْسَلِينَ لِلْجِنْسِ أَيْ أَعْذَرَ لِلْإِنْسَانِ فَقَطْ عَلَى أَلْسِنَةِ هَذَا الْجِنْسِ الْمُتَحَقِّقِ فِي غَيْرِ نَبِيِّنَا، فَإِنَّ الْإِرْسَالَ لِلْجِنِّ مِنْ خُصُوصِيَّاتِ نَبِيِّنَا.
وَقَوْلُهُ: فِيمَا يَأْتِي الْبَاعِثُ الرُّسُلَ إلَخْ، مَعْنَاهُ الْبَاعِثُ جِنْسَ الرُّسُلِ إلَى جِنْسِ الْعِبَادِ فَيَصْدُقُ بِكَوْنِ بَعْضِ الرُّسُلِ لِبَعْضِ الْعِبَادِ كَغَيْرِ نَبِيِّنَا بِالنِّسْبَةِ لِلْإِنْسِ، وَيَكُونُ بَعْضُ الرُّسُلِ لِكُلِّ الْعِبَادِ كَنَبِيِّنَا فَإِنَّهُ أُرْسِلَ لِلْكُلِّ وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ لَيْسَ فِي الْعِبَارَةِ حَصْرٌ فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْعِبَادَ يَدْخُلُ إلَخْ] أَشَارَ بِقَوْلِهِ: يَدْخُلُ فِيهِمْ إلَى أَنَّ هُنَاكَ شَيْئًا غَيْرَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ دَاخِلٌ وَهُمْ الْمَلَائِكَةُ كَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ خُصَّ بِالرِّسَالَةِ لِلْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةِ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، بَلْ أَفَادَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مُرْسَلٌ لِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ السَّابِقَةِ مِنْ لَدُنْ آدَمَ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ وَرَجَّحَهُ الْبَارِزِيُّ وَزَادَ أَنَّهُ مُرْسَلٌ إلَى جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ وَالْجَمَادَاتِ، وَزِيدَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ مُرْسَلٌ إلَى نَفْسِهِ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَلِيمِيُّ.
[قَوْلُهُ: إنَّ الْعَقْلَ يُحَسِّنُ وَيُقَبِّحُ] أَيْ يُدْرِكُ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ لَا أَنَّهُ الْمُحَسِّنُ وَالْمُقَبِّحُ بِذَاتِهِ وَخُلَاصَتُهُ كَمَا أَفَادَهُ بَعْضُهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: الْمُدْرِكُ لِلْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الْعَقْلُ، وَنَحْنُ نَقُولُ لَمْ يُدْرِكْ ذَلِكَ إلَّا مِنْ الشَّرْعِ فَالْمُحَسِّنُ وَالْمُقَبِّحُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى بِاتِّفَاقٍ.
وَفِي ظَنِّي أَنَّ فِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ مَا يُفِيدُ خِلَافَهُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِعْذَارَ عِنْدَهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِرْسَالِ بَلْ هُوَ مَنُوطٌ بِالْعَقْلِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ جَاءَ مُؤَكِّدًا فِيمَا أَدْرَكَهُ الْعَقْلُ بِالضَّرُورَةِ كَحُسْنِ الصِّدْقِ النَّافِعِ وَقُبْحِ الْكَذِبِ الضَّارِّ، أَوْ بِالنَّظَرِ كَحُسْنِ الْكَذِبِ النَّافِعِ وَقُبْحِ الصِّدْقِ الضَّارِّ، وَقِيلَ بِالْعَكْسِ، وَجَاءَ مُعِينًا لِلْعَقْلِ فِيمَا خَفِيَ عَلَيْهِ كَحُسْنِ صَوْمِ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ وَقُبْحِ صَوْمِ أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ شَوَّالٍ فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: وَفَسَادِ قَوْلِ الْبَرَاهِمَةِ أَنَّ الْعَقْلَ يُغْنِي إلَخْ] أَيْ فَهُمْ يُنْكِرُونَ الرُّسُلَ فَلِذَا حُكِمَ بِكُفْرِهِمْ دُونَ الْمُعْتَزِلَةِ فَلَا يُنْكِرُونَ فَهُمْ مُسْلِمُونَ عَلَى الْأَصَحِّ [قَوْلُهُ: وَنَبَّهَ بِالْعَطْفِ بِالْفَاءِ إلَخْ] فِيهِ أَنَّ الْعَطْفَ بِالْفَاءِ قَدْ يَتَجَرَّدُ عَنْ السَّبَبِيَّةِ كَقَوْلِك: جَاءَ زَيْدٌ فَعَمْرٌو فَلَيْسَ مَلْزُومًا لِلسَّبَبِيَّةِ حَتَّى يَأْتِيَ التَّنْبِيهُ فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: فَهَدَى مَنْ إلَخْ] أَيْ فَأَرْشَدَ وَبَيَّنَ الطَّرِيقَ لِمَنْ وَفَّقَهُ حَالَةَ كَوْنِ تِلْكَ الْهِدَايَةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ هَدَى مُلْتَبِسَةً بِفَضْلِهِ مِنْ الْتِبَاسِ الْجُزْئِيِّ بِالْكُلِّيِّ، أَوْ أَنَّ الْبَاءَ بِمَعْنَى مِنْ أَيْ مِنْ أَفْرَادِ فَضْلِهِ لَيْسَتْ وَاجِبَةً عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ التَّوْفِيقُ مِنْ فَضْلِهِ هَذَا عَلَى مُغَايَرَةِ الْهِدَايَةِ لِلتَّوْفِيقِ،
بِعَدْلِهِ) عَلَى أَنَّ مَا قَبْلَهُ سَبَبٌ، وَكَقَوْلِك: سَهَا فَسَجَدَ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّنْبِيهَ وَالْإِعْذَارَ سَبَبٌ لِقَبُولِهِمَا فِي الْهِدَايَةِ وَالْإِعْرَاضَ عَنْهُمَا سَبَبٌ فِي الْغَوَايَةِ وَالْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ وَالْبَيَانِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى:{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} [الإنسان: 3] أَيْ بَيَّنَّا لَهُ طَرِيقَيْ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ.
وَقِيلَ: الْهِدَايَةُ وَالتَّوْفِيقُ لَفْظَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ خَلْقُ الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَالضَّلَالُ وَالْخِذْلَانُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ خَلْقُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْكُفْرِ، فَهِدَايَةُ الْمُهْتَدِي مَحْضُ فَضْلٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ عِوَضًا عَنْ شَيْءٍ وَلَا سَابِقَةَ اسْتِحْقَاقٍ لِلْعَبْدِ، إذْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ سبحانه وتعالى شَيْءٌ، وَالْإِضْلَالُ وَالْخِذْلَانُ عَدْلٌ مِنْهُ وَالْعَدْلُ مَا لِلْفَاعِلِ أَنْ يَفْعَلَهُ مِنْ غَيْرِ حَجْرٍ عَلَيْهِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى مَالِكٌ لِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ وَلَا حَجْرَ عَلَيْهِ فِيهَا؛ وَلِهَذَا نَفَى عَنْ نَفْسِهِ الظُّلْمَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] وَتَبَيَّنَ بِهَذَا الرَّدُّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ رِعَايَةُ الصَّلَاحِ وَالْأَصْلَحِ، فَإِنْ قِيلَ: الْهِدَايَةُ بِمَعْنَى الْبَيَانِ عَامَّةٌ
ــ
[حاشية العدوي]
وَأَمَّا عَلَى عَدَمِهَا فَالْمَعْنَى فَهَدَى مَنْ أَرَادَ تَوْفِيقَهُ أَيْ وَفَّقَ مَنْ أَرَادَ تَوْفِيقَهُ حَالَ كَوْنِ ذَلِكَ التَّوْفِيقِ مُلْتَبِسًا بِفَضْلِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. [قَوْلُهُ: عَلَى أَنَّ مَا قَبْلَهُ سَبَبٌ] وَهُوَ التَّنْبِيهُ وَالْإِعْذَارُ.
[قَوْلُهُ: لِأَنَّ التَّنْبِيهَ وَالْإِعْذَارَ سَبَبٌ] لَمْ يَقُلْ سَبَبَانِ مَعَ أَنَّهُ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ إشَارَةً إلَى أَنَّ مَجْمُوعَهُمَا سَبَبٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَا ذُكِرَ كَمَا هُوَ بَيِّنٌ فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: فِي الْهِدَايَةِ] مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ سَبَبٌ، وَقَوْلُهُ: لِقَبُولِهِمَا أَيْ لِأَجْلِ قَبُولِهِمَا أَوْ عِنْدَ قَبُولِهِمَا. [قَوْلُهُ: وَالْإِعْرَاضِ إلَخْ] الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ لِقَبُولِهِمَا إلَخْ أَنْ يَقُولَ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُمَا أَيْ لِأَجْلِ الْإِعْرَاضِ أَوْ عِنْدَ الْإِعْرَاضِ عَنْهُمَا فِي الْغَوَايَةِ أَيْ أَنَّ التَّنْبِيهَ وَالْإِعْذَارَ سَبَبٌ فِي الْهِدَايَةِ لِأَجَلِ قَبُولِهِمَا أَوْ عِنْدَ قَبُولِهِمَا وَسَبَبٌ فِي الْغَوَايَةِ لِأَجْلِ الْإِعْرَاضِ أَوْ عِنْدَ الْإِعْرَاضِ عَنْهُمَا.
[قَوْلُهُ: الْغَوَايَةُ] بِفَتْحِ الْغَيْنِ خِلَافُ الرُّشْدِ كَمَا أَفَادَهُ فِي الْمِصْبَاحِ. [قَوْلُهُ: وَالْبَيَانِ] عَطْفُ تَفْسِيرٍ عَلَى الْإِرْشَادِ وَالْهِدَايَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى شَامِلَةٌ لِلْكَافِرِ أَيْضًا. [قَوْلُهُ: بِمَعْنًى وَاحِدٍ] أَيْ فَهُمَا مُتَرَادِفَانِ. [قَوْلُهُ: خَلْقُ الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّاعَةِ] أَرَادَ بِالْقُدْرَةِ الْعَرَضُ الْمُقَارِنُ لِلْفِعْلِ فَلَا حَاجَةَ إلَى قَيْدٍ وَالدَّاعِيَةِ إلَيْهَا. وَقِيلَ: خَلْقُ الطَّاعَةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَكُونُ مُوَفَّقًا بِهَا كَمَا أَفَادَهُ بَعْضٌ، وَالْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي مَعْنَاهَا شَرْعًا وَأَمَّا لُغَةً فَهُوَ التَّأْلِيفُ.
[قَوْلُهُ: وَهُوَ خَلْقُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْكُفْرِ] أَرَادَ بِهَا الْعَرَضُ الْمُقَارِنُ. [قَوْلُهُ: فَهِدَايَةُ الْمُهْتَدِي] أَيْ إرْشَادُهُ وَالْبَيَانُ لَهُ عَلَى الْأَوَّلِ أَوْ تَوْفِيقُهُ عَلَى الثَّانِي.
[قَوْلُهُ: مَحْضُ فَضْلٍ] مِنْ إضَافَةِ الصِّفَةِ لِلْمَوْصُوفِ أَيْ فَضْلٌ مَحْضٌ، وَقَوْلُهُ: لَيْسَ عِوَضًا تَوْضِيحٌ لِقَوْلِهِ مَحْضُ فَضْلٍ.
[قَوْلُهُ: وَلَا سَابِقَةَ اسْتِحْقَاقٍ] أَيْ وَلَا اسْتِحْقَاقٌ سَابِقٌ فَهُوَ أَيْضًا مِنْ إضَافَةِ الصِّفَةِ لِلْمَوْصُوفِ، وَعَطْفُهُ عَلَى مَا قَبْلَهُ مُغَايِرٌ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَبْدَ لَمْ يَفْعَلْ مَعَ مَوْلَاهُ شَيْئًا تَكُونُ تِلْكَ الْهِدَايَةُ عِوَضًا عَنْهُ، وَمَعْنَى الثَّانِي الَّذِي هُوَ الْمَعْطُوفُ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَحِقُّ عِنْدَ اللَّهِ تِلْكَ الْهِدَايَةَ لِذَاتِهِ لَا فِي مُقَابَلَةِ شَيْءٍ.
[قَوْلُهُ: إذْ لَا يَجِبُ إلَخْ] عِلَّةٌ لِقَوْلِهِ مَحْضُ فَضْلٍ.
[قَوْلُهُ: سُبْحَانَهُ] أَيْ أُنَزِّهُهُ تَنْزِيهًا. [قَوْلُهُ: تَعَالَى] أَيْ ارْتَفَعَ. [قَوْلُهُ: وَلِهَذَا] أَيْ وَلِكَوْنِهِ مَالِكًا اعْلَمْ: أَنَّ الْآيَةَ الْمَذْكُورَةَ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِي تَفْسِيرِهَا مَا نَصُّهُ فَلَا أُعَذِّبُ عَبْدًا بِغَيْرِ ذَنْبٍ اهـ.
فَالْآيَةُ عَلَى هَذَا مَسُوقَةٌ بِالنَّظَرِ لِلْوَعْدِ لَا بِالنَّظَرِ لِكَوْنِهِ مَالِكًا يَتَصَرَّفُ كَيْفَ يَشَاءُ الَّذِي كَلَامُ الشَّارِحِ فِيهِ إذْ لَوْ نَظَرَ لِذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يُعَذَّبَ وَلَوْ بِدُونِ ذَنْبٍ، فَلَا يُنَاسِبُ إيرَادُ الْآيَةِ فَإِنْ قُلْت: ظَلَّامٍ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مَعْنَاهَا كَثِيرُ الظُّلْمِ فَالنَّفْيُ مُتَسَلِّطٌ عَلَى الْقَيْدِ الَّذِي هُوَ كَثْرَةُ الظُّلْمِ فَيُفِيدُ ثُبُوتَ أَصْلِ الظُّلْمِ لَهُ وَالْغَرَضُ نَفْيًا قُلْت: أُجِيبَ بِجَوَابَيْنِ.:
الْأَوَّلُ أَنَّ ظَلَّامٍ مِنْ بَابِ النَّسَبِ كَتَمَّارٍ أَيْ ذِي تَمْرٍ، فَالْمَعْنَى وَمَا رَبُّك بِمَنْسُوبٍ لِلظُّلْمِ، الثَّانِي: أَنَّ الْمُبَالَغَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالنَّفْيِ أَيْ انْتَفَى الظُّلْمُ عَنْ الْمَوْلَى انْتِفَاءً مُؤَكَّدًا وَالْإِشْكَالُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَنْفِيِّ فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: رِعَايَةُ الصَّلَاحِ إلَخْ] الصَّلَاحُ مَا قَابَلَهُ فَسَادٌ كَمُقَابَلَةِ الْإِنْعَامِ بِالْعِقَابِ، وَالْأَصْلَحُ مَا قَابَلَهُ صَلَاحٌ
لِلْمُوَفَّقِ وَغَيْرِهِ، فَلِأَيِّ شَيْءٍ خَصَّهَا بِالْمُوَفَّقِ؟ قُلْت: أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُوَفَّقَ لَمَّا انْتَفَعَ بِالْهِدَايَةِ دُونَ الضَّالِّ صَارَتْ فِي حَقِّ الضَّالِّ كَالْعَدَمِ.
(وَيَسَّرَ) أَيْ هَيَّأَ (الْمُؤْمِنِينَ لِلْيُسْرَى) أَيْ لِلطَّاعَةِ، وَقِيلَ مَعْنَى يَسَّرَ هَوَّنَ عَلَيْهِمْ فِعْلَ الطَّاعَةِ بِأَنْ جَعَلَهَا فِيهِمْ مَجْبُولَةً لَهُمْ حَتَّى تَكُونَ عَلَيْهِمْ أَهْوَنَ الْأُمُورِ، وَإِنَّمَا قَالَ: الْمُؤْمِنِينَ دُونَ الْمُسْلِمِينَ، لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِذِكْرِ الْإِيمَانِ عِنْدَ إرَادَةِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ (وَشَرَحَ) بِمَعْنَى فَتَحَ وَوَسَّعَ (صُدُورَهُمْ) أَيْ قُلُوبَ
ــ
[حاشية العدوي]
كَمُقَابَلَةِ الْإِنْعَامِ بِدِينَارٍ بِالْإِنْعَامِ بِدِرْهَمٍ.
وَفِي الْمَقَامِ كَلَامٌ آخَرُ فَلَا حَاجَةَ إلَى جَلْبِهِ [قَوْلُهُ: فَلِأَيِّ شَيْءٍ إلَخْ] هَذَا بِنَاءٌ مِنْهُ عَلَى أَنَّ الْهِدَايَةَ بِمَعْنَى الدَّلَالَةِ، وَأَمَّا إذَا أُرِيدَ بِالْهِدَايَةِ الْوُصُولُ بِالْفِعْلِ فَلَا يَرِدُ ذَلِكَ السُّؤَالُ وَالْأَوْلَى حَمْلُ الْمُصَنِّفِ عَلَيْهِ كَمَا فَعَلَهُ بَعْضُهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحْوِجُ إلَى سُؤَالٍ مَعَ مُنَاسَبَتِهِ لِقَوْلِهِ بَعْدُ وَأَضَلَّ مَنْ خَذَلَهُ بِعَدْلِهِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى أَضَلَّ خَلَقَ قُدْرَةَ الْمَعْصِيَةِ فِي قَلْبِ مَنْ أَرَادَ خِذْلَانَهُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ عج: وَلَا يَصِحُّ تَفْسِيرُهُ بِعَدَمِ بَيَانِ طَرِيقِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ إذْ مَنْ يَبِينُ لَهُ طَرِيقُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ لَيْسَ بِمَخْذُولٍ. .
. [قَوْلُهُ: أَيْ هَيَّأَ إلَخْ] مِنْ هَيَّأَ الْفَرَسَ لِلرُّكُوبِ إذَا أَلْجَمَهَا كَذَا أَفَادَهُ بَعْضُهُمْ. [قَوْلُهُ: الْمُؤْمِنِينَ] أَيْ الْكَامِلِينَ فِي الْإِيمَانِ لِقَوْلِهِ: بَعْدُ فَآمَنُوا إلَخْ. [قَوْلُهُ: وَقِيلَ مَعْنَى يَسَّرَ هَوَّنَ إلَخْ] قَالَ عج: إنَّ هَذَا أَخَصُّ مِنْ الْأَوَّلِ إذْ قَدْ يُهَيَّأُ لِلشَّخْصِ فِعْلُ الطَّاعَةِ مَعَ عُسْرِهَا عَلَيْهِ اهـ.
وَالظَّاهِرُ لِي أَنَّهُ يَرْجِعُ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ التَّيْسِيرَ بِمَعْنَى التَّهْيِئَةِ بِمَعْنَى رَغْبَتِهِمْ فِي الطَّاعَةِ بِحَيْثُ يَرَوْنَهَا سَهْلَةً عَلَيْهِمْ. [قَوْلُهُ: فِيهِمْ] أَيْ ثَابِتَةً فِيهِمْ، وَقَوْلُهُ: مَجْبُولَةً لَهُمْ أَيْ وَمَجْبُولَةً لَهُمْ إذْ حَرْفُ الْعَطْفِ يَجُوزُ حَذْفُهُ اخْتِيَارًا عَلَى التَّحْقِيقِ أَوْ حَالٌ مِنْ الضَّمِيرِ فِي جَعَلَهَا أَوْ الضَّمِيرِ فِيهِمْ أَيْ مَطْبُوعَةٌ وَمَغْرُوزَةٌ فِيهِمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا عَلَى الْقَلْبِ أَيْ جَعَلَهُمْ مَجْبُولِينَ عَلَيْهَا أَيْ مَطْبُوعِينَ عَلَيْهَا.
قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ: جَبَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى كَذَا مِنْ بَابِ قَتَلَ فَطَرَهُ انْتَهَى.
[قَوْلُهُ: حَتَّى تَكُونَ إلَخْ] حَتَّى تَعْلِيلِيَّةٌ فَمَدْخُولُهَا عِلَّةٌ غَائِيَّةٌ. [قَوْلُهُ: عِنْدَ إرَادَةِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ] أَيْ إذَا أَرَادُوا أَنْ يُفَرِّقُوا أَيْ يُمَيِّزُوا بِالتَّعْرِيفِ بَيْنَ الْخَصْلَةِ الْحَمِيدَةِ الَّتِي يَصِيرُ بِهَا الْإِنْسَانُ نَاجِيًا وَالْخَصْلَةِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا الْإِنْسَانُ كَافِرًا يُعَبِّرُونَ عَنْ الْخَصْلَةِ الْحَمِيدَةِ بِالْإِيمَانِ دُونَ الْإِسْلَامِ فَلِذَلِكَ آثَرَ الْمُصَنِّفُ التَّعْبِيرَ بِالْمُؤْمِنِينَ عَلَى التَّعْبِيرِ بِالْمُسْلِمِينَ، وَفِيهِ أَنَّ هَذَا لَا يَتِمُّ إلَّا إذَا كَانَ الْمَقَامُ مَقَامَ فَرْقٍ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ قَوْلَهُ بِذِكْرِ الْإِيمَانِ أَيْ يَذْكُرُ هَذِهِ الْمَادَّةَ فِي ضِمْنِ التَّعْبِيرِ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِذِكْرِ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ إرَادَةِ الْفَرْقِ بَيْنِ ذِي الْإِيمَانِ وَذِي الْكُفْرِ بِذِكْرِ أَوْصَافِ هَذَا وَأَوْصَافِ هَذَا، أَيْ إذَا أَرَادُوا أَنْ يَذْكُرُوا أَوْصَافَ هَذَا وَأَوْصَافَ هَذَا يُعَبِّرُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ دُونَ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ بِالنَّظَرِ لِعِبَارَتِهِ.
وَأَمَّا تت فَقَدْ عَبَّرَ بِأَمْرٍ وَاضِحٍ لَا يَحْتَاجُ لِتَكَلُّفٍ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: وَعَبَّرَ بِالْمُؤْمِنِينَ دُونَ الْمُسْلِمِينَ لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِذِكْرِ الْإِيمَانِ لِلْمُقَابَلَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكُفْرِ اهـ.
[قَوْلُهُ: بِمَعْنَى فَتَحَ وَوَسَّعَ] كَذَا فِي الْقَامُوسِ إلَّا أَنَّهُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي مَجَازِهِ وَهُوَ تَهَيُّؤُ الْقُلُوبِ لِلْإِيمَانِ. [قَوْلُهُ: أَيْ قُلُوبَ إلَخْ] فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الصُّدُورَ مَجَازٌ مِنْ اسْتِعْمَالِ اسْمِ الْمَحَلِّ وَهُوَ الصَّدْرُ عَلَى الْحَالِّ وَهُوَ الْقَلْبُ، وَأَرَادَ بِالْقَلْبِ الْعَقْلَ، إذْ هُوَ أَيْ الْقَلْبُ قَدْ يُطْلَقُ كَمَا فِي الشَّارِحِ فِي شَرْحِ الْعَقِيدَةِ وَيُرَادُ بِهِ الْعَقْلُ، كَمَا يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ اللَّحْمَةُ الصَّنَوْبَرِيَّةُ وَذَكَرَهُ تت بِقَوْلِهِ: وَالْقُلُوبُ جَمْعُ قَلْبٍ وَيَقَعُ عَلَى اللَّحْمَةِ الصَّنَوْبَرِيَّةِ وَعَلَى الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِهَا وَهُوَ الْعَقْلُ عِنْدَ الْقَائِلِ بِأَنَّهُ مَحَلُّهُ، وَسُمِّيَ قَلْبًا لِتَقَلُّبِهِ بَيْنَ الْخَوَاطِرِ الْوَارِدَةِ عَلَيْهِ اهـ. وَالصَّنَوْبَرِيَّة بِفَتْحِ الصَّادِ كَمَا هُوَ مَضْبُوطٌ بِالْقَلَمِ فِي نُسْخَةٍ مِنْ الصِّحَاحِ مُعْتَمَدَةُ الضَّبْطِ.
وَقَوْلُهُ: الْمُؤْمِنِينَ أَيْ الْكَامِلِينَ فِي الْإِيمَانِ أَيْ مَنْ يَئُولُ أَمْرُهُمْ إلَى الْإِيمَانِ الْكَامِلِ، هَيَّأَ قُلُوبَهُمْ لِذَلِكَ الْإِيمَانِ الْكَامِلِ وَحَمَلْنَا الْإِيمَانَ عَلَى الْكَامِلِ لِقَوْلِهِ بَعْدُ: فَآمَنُوا إلَخْ فَفِي الْعِبَارَةِ مَجَازُ الْأَوَّلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا عَلَى حَقِيقَتِهِ أَيْ أَنَّ الْمُتَّصِفِينَ بِأَصْلِ الْإِيمَانِ وَعَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ يَكْمُلُ إيمَانُهُمْ هَيَّأَ قُلُوبَهُمْ
الْمُؤْمِنِينَ (لِلذِّكْرَى) أَيْ لِلْإِيمَانِ.
قَالَ صلى الله عليه وسلم لَمَّا سُئِلَ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر: 22]" إذَا أَنْزَلَ اللَّهُ النُّورَ فِي الْقَلْبِ فَتَحَهُ وَوَسَّعَهُ، وَعَلَامَتُهُ الْعَمَلُ لِدَارِ الْخُلُودِ وَالتَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِهِ "، وَعَطَفَ قَوْلَهُ وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِهِ وَعَطَفَ قَوْلَهُ (فَآمَنُوا بِاَللَّهِ بِأَلْسِنَتِهِمْ نَاطِقِينَ وَبِقُلُوبِهِمْ مُخْلِصِينَ وَبِمَا أَتَتْهُمْ بِهِ رُسُلُهُ وَكُتُبُهُ عَامِلِينَ) لِمَجِيئِهِ مَجِيءَ الْمُسَبَّبِ عَنْ السَّبَبِ، وَفِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ وَعَامِلِينَ بِمَا أَتَتْهُمْ بِهِ رُسُلُهُ وَكُتُبُهُ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ الْمَجْرُورَ عَلَى الْمُتَعَلَّقِ بِهِ
ــ
[حاشية العدوي]
لِكَمَالِ الْإِيمَانِ.
[قَوْلُهُ: أَيْ لِلْإِيمَانِ] اعْلَمْ أَنَّ الذِّكْرَى مَصْدَرٌ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَ الْمُرَادُ بِهِ هُنَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ الْإِيمَانُ، وَرُجِّحَ وَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ شَارِحُنَا، وَقِيلَ: إنَّهُ الْمَوْعِظَةُ وَقَدْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ تت. [قَوْلُهُ: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الزمر: 22]] يُؤْخَذُ مِنْ مُوَافَقَةِ لَفْظِ الْمُصَنِّفِ لِلَفْظِ الْآيَةِ تَفْسِيرُ الذِّكْرَى بِالْإِيمَانِ أَنَّ الْإِسْلَامَ نَفْسُ الْإِيمَانِ فَيَكُونُ مُفِيدًا لِتَرَادُفِهِمَا وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: الذِّكْرَى الْإِيمَانُ، وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ شَيْءٌ وَاحِدٌ.
قَالَ تَعَالَى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ} [الزمر: 22] إلَخْ اهـ.
وَمَنْ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ. {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ} [الزمر: 22] كَذَا قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ قَالَ الشِّهَابُ: أَيْ كَمَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ أَوْ كَمَنْ قَسَا قَلْبُهُ. [قَوْلُهُ: {فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر: 22]] أَيْ ثَابِتٌ وَمُسْتَقِرٌّ عَلَى نُورٍ.
قَالَ الشِّهَابُ عَلَى الْبَيْضَاوِيِّ: وَالنُّورُ مُسْتَعَارٌ لِلْهِدَايَةِ وَالْمَعْرِفَةِ كَمَا يُسْتَعَارُ لِضِدِّهِ الظُّلْمَةُ اهـ.
وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ الْهِدَايَةَ وَالْمَعْرِفَةَ مُحَصَّلُ الْإِيمَانِ الَّذِي جُعِلَ مُرَادِفًا لِلْإِسْلَامِ، فَحَاصِلُهُ أَنَّ النُّورَ نَفْسُ ذَلِكَ الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ فَصَرَّحَ بِهِ تَنْوِيهًا بِشَأْنِهِ حَيْثُ كَانَ نُورًا مِنْ رَبِّهِ مَعَ أَنَّ الْمَحَلَّ لِلضَّمِيرِ.
[قَوْلُهُ: إذَا أَنْزَلَ اللَّهُ النُّورَ فِي الْقَلْبِ إلَخْ] قَالَ الشِّهَابُ: وَالْمُرَادُ بِالنُّورِ فِيهِ أَيْ فِي الْحَدِيثِ الْهِدَايَةُ وَالْيَقِينُ اهـ. أَيْ إذَا أَرَادَ اللَّهُ إنْزَالَ النُّورِ فِي الْقَلْبِ فَتَحَهُ وَوَسَّعَهُ أَيْ هَيَّأَهُ لِقَبُولِ ذَلِكَ النُّورِ، فَلَا تَخَالُفَ بَيْنَ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: وَعَلَامَتُهُ] كَذَا فِي نُسْخَةٍ يُظَنُّ بِهَا الصِّحَّةُ، وَعَلَامَتُهُ بِدُونِ لَفْظِ مِنْ أَيْ عَلَامَةُ الْإِنْزَالِ الْمَأْخُوذِ مِنْ أَنْزَلَ أَوْ الْفَتْحِ الْمَأْخُوذِ مِنْ فَتَحَ، ثُمَّ أَقُولُ: وَهَذَا يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْإِسْلَامَ فِي الْآيَةِ مُرَادٌ بِهِ الْإِسْلَامُ الْكَامِلُ فَيُوَافِقُ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ. [قَوْلُهُ: لِدَارِ الْخُلُودِ] أَيْ الْآخِرَةِ. [قَوْلُهُ: وَالتَّجَافِي] أَيْ التَّبَاعُدُ. [قَوْلُهُ: عَنْ دَارِ الْغُرُورِ] أَيْ الْبَاطِلِ الَّتِي هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ الدُّنْيَا [قَوْلُهُ: وَالِاسْتِعْدَادُ] أَيْ وَالتَّهَيُّؤُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ حُصُولِهِ [قَوْلُهُ: فَآمَنُوا] لَيْسَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا لِلْمُؤْمِنِينَ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُهُمْ بَلْ لِمَنْ هَدَاهُمْ وَيَصِحُّ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُهُمْ بِتَكْلِيفٍ وَهُوَ أَنْ يُرَادَ بِالْمُؤْمِنِينَ مَنْ أَرَادَ إيمَانَهُمْ، وَلَعَلَّ الْحَامِلَ لِبَعْضِهِمْ عَلَى مَا ذَكَرَهُ عَدَمُ لُزُومِ اخْتِلَافِ مَرْجِعِ الضَّمِيرِ إذْ ضَمِيرُ تَعَلَّمُوا وَوَقَفُوا لِلْمُؤْمِنِينَ كَذَا ذَكَرَهُ عج [قَوْلُهُ: بِأَلْسِنَتِهِمْ] مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ نَاطِقِينَ مِنْ بَابِ التَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِمْ: أَبْصَرْت بِعَيْنِي وَسَمِعْت بِأُذُنِي وَنَاطِقِينَ حَالٌ مِنْ الضَّمِيرِ فِي آمَنُوا.
[قَوْلُهُ: وَبِقُلُوبِهِمْ] مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ مُخْلِصِينَ أَوْ مُصَدِّقِينَ، فَالْإِخْلَاصُ هُنَا لَيْسَ بِالْمَعْنَى الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ الَّذِي فِيهِ أَقْوَالٌ فَقِيلَ إنَّهُ تَرْكُ حُبِّ الْمَدْحِ عَلَى الْعَمَلِ، وَقِيلَ: إنَّهُ تَرْكُ الشَّكِّ وَالشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ، وَقِيلَ: إنَّهُ سِرٌّ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكْتُبُهُ وَلَا شَيْطَانٌ فَيُفْسِدُهُ؛ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ جَعَلَ الْإِيمَانَ مُرَكَّبًا مِنْ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: النُّطْقِ وَالْإِخْلَاصِ وَالْعَمَلِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهَا كَلَامُهُ صَرِيحًا بِقَوْلِهِ: نَاطِقِينَ وَمُخْلِصِينَ وَعَامِلِينَ، فَلَوْ فُسِّرَ بِالْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ التَّعَرُّضُ لِلتَّصْدِيقِ صَرِيحًا.
تَنْبِيهٌ: كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُقَدِّمَ الْإِخْلَاصَ عَلَى النُّطْقِ وَإِنْ كَانَتْ الْوَاوُ لَا تَقْتَضِي تَرْتِيبًا.
[قَوْلُهُ: لِمَجِيئِهِ إلَخْ] أَيْ فَعَطَفَ قَوْلَهُ: فَآمَنُوا عَلَى قَوْلِهِ: فَهَدَى مَنْ وَفَّقَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْهِدَايَةِ مُطْلَقُ الدَّلَالَةِ فَهِيَ سَبَبٌ وَإِيمَانُهُمْ بِاَللَّهِ مُسَبَّبٌ أَفَادَهُ عج. وَفِيهِ أَنَّ الْعَطْفَ بِالْفَاءِ لَيْسَ مُسْتَلْزِمًا لِلسَّبَبِيَّةِ [قَوْلُهُ: وَفِيهِ تَقْدِيمٌ
لِتَسْتَقِيمَ بِهِ الْفَوَاصِلُ وَهِيَ حِلْيَةُ الْكَلَامِ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ هُنَا وَفِي آخِرِ بَابِ مَا تَنْطِقُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ أَنَّ الْإِيمَانَ مُرَكَّبٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: النُّطْقُ وَالتَّصْدِيقُ، وَالْعَمَلُ بِالْجَوَارِحِ، وَهُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ كَلَامِهِ أَوَّلَ الْبَابِ الْمَذْكُورِ إنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ الْأَوَّلَيْنِ فَقَطْ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَشَرْطُ كَمَالٍ لَا شَرْطُ صِحَّةٍ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ. وَقَوْلُهُ: بِأَلْسِنَتِهِمْ نَاطِقِينَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ فِي حَقِّ مَنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ النُّطْقُ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَيُجْزِيهِ عَنْ ذَلِكَ الْإِشَارَةُ (وَتَعَلَّمُوا) أَيْ الْمُؤْمِنُونَ (مَا عَلَّمَهُمْ) اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ الْإِيمَانُ (وَوَقَفُوا عِنْدَ مَا حَدَّ لَهُمْ) وَهُوَ الْوَاجِبَاتُ وَالْمَنْدُوبَاتُ وَالْمُحَرَّمَاتُ وَالْمَكْرُوهَاتُ، فَالْوُقُوفُ هُنَا مَعْنَوِيٌّ وَهُوَ الْمُوَاظَبَةُ عَلَى الشَّيْءِ وَالْمُلَازَمَةُ لَهُ وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ، فَوَقَفُوا عَلَى الْوَاجِبَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ بِالِامْتِثَالِ وَعَلَى الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ بِالِاجْتِنَابِ (وَاسْتَغْنَوْا) بِمَعْنَى اكْتَفَوْا (بِمَا أَحَلَّ
ــ
[حاشية العدوي]
وَتَأْخِيرٌ] التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ لَا فِي الْحَالِ الْأَخِيرَةِ فَقَطْ فَلَا وَجْهَ لِلتَّخْصِيصِ.
[قَوْلُهُ: الْفَوَاصِلُ] جَمْعُ فَاصِلَةٍ وَهِيَ فِي النَّثْرِ بِمَنْزِلَةِ الْقَافِيَةِ فِي الشِّعْرِ. [قَوْلُهُ: وَهِيَ حِلْيَةُ الْكَلَامِ] أَيْ زِينَةُ الْكَلَامِ أَيْ يَتَزَيَّنُ الْكَلَامُ بِهَا. [قَوْلُهُ: وَهُوَ خِلَافُ إلَخْ] أَقُولُ لَا مُخَالَفَةَ فِي أَنَّ مُرَادَهُ هُنَا بِالْإِيمَانِ الْإِيمَانُ الْكَامِلُ وَمَا سَيَأْتِي مُرَادُهُ بِهِ أَصْلُ الْإِيمَانِ. [قَوْلُهُ: وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ] أَيْ مَا ذَكَرَهُ آخِرًا مِنْ كَوْنِهِ مُرَكَّبًا مِنْ اثْنَيْنِ فَقَطْ هُوَ الْمَشْهُورُ، وَقَدْ عَلِمْت أَنْ لَا مُخَالَفَةَ ثُمَّ أَقُولُ: وَالْمَشْهُورُ خِلَافُ مَا ادَّعَى أَنَّهُ الْمَشْهُورُ إذْ الْمَشْهُورُ أَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي يَكُونُ بِهِ نَاجِيًا مِنْ الْعَذَابِ الْمُخَلِّدِ التَّصْدِيقُ الْقَلْبِيُّ فَقَطْ وَإِنْ لَمْ يَنْطِقْ، لَكِنْ بِحَيْثُ لَوْ طُلِبَ مِنْهُ النُّطْقُ لَأَتَى بِهِ وَلَمْ يَأْتِ [قَوْلُهُ: فَيُجْزِيهِ عَنْ ذَلِكَ الْإِشَارَةُ] أَيْ فَلَا لِإِشَارَةٍ قَائِمَةٍ مَقَامَ النُّطْقِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الْإِيمَانِ أَيْ فَلَا يَكُونُ مُؤْمِنًا عِنْدَ اللَّهِ إلَّا إذَا أَتَى بِتِلْكَ الْإِشَارَةِ هُنَا عَلَى مَا ادَّعَى أَنَّهُ الْمَشْهُورُ، وَأَمَّا عَلَى مَا قُلْنَا إنَّهُ الْمَشْهُورُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَإِنْ لَمْ يُشِرْ نَعَمْ لَا يُعْرَفُ كَوْنُهُ انْتَقَلَ مِنْ الْكُفْرِ إلَى الْإِيمَانِ إلَّا بِالْإِشَارَةِ [قَوْلُهُ: وَهُوَ الْإِيمَانُ] اعْتَرَضَهُ عج بِالْقُصُورِ حَيْثُ قَالَ: وَتَعَلُّمُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ عَلَّمَهُمْ اللَّهُ وَهُوَ الْمَعْرِفَةُ وَحَقِيقَةُ الْإِيمَانِ وَشَرَائِعُ الْإِسْلَامِ. وَاقْتَصَرَ الشَّاذِلِيُّ فِي الصَّغِيرِ عَلَى الْإِيمَانِ، فَقَالَ: مَا عَلَّمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ الْإِيمَانُ اهـ.
وَفِيهِ قُصُورٌ اهـ. كَلَامُ عج، بَقِيَ بَحْثٌ وَذَلِكَ أَنَّ الْإِيمَانَ قَدْ عَلِمْت أَنَّهُ الْإِيمَانُ الْكَامِلُ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: تَصْدِيقٌ وَقَوْلٌ وَفِعْلٌ، وَلَيْسَ الْقَصْدُ تَعَلُّمُهَا فِيمَا يَظْهَرُ بَلْ الْقَصْدُ الِاتِّصَافُ بِهَا، فَالْوَجْهُ أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ: وَتَعَلَّمُوا مَجَازًا عَنْ الِاتِّصَافِ أَيْ وَاتَّصَفُوا، وَتَجَوَّزَ بِقَوْلِهِ: مَا عَلَّمَهُمْ عَنْ إيجَادِ اللَّهِ ذَلِكَ الْإِيمَانَ فِيهِمْ وَالتَّقْدِيرُ، وَاتَّصَفُوا بِالْإِيمَانِ الَّذِي أَوْجَدَهُ اللَّهُ فِيهِمْ وَيُمْكِنُ إبْقَاءُ الْكَلَامِ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَيُقَدَّرُ مُضَافٌ فِي قَوْلِهِ: الْإِيمَانُ أَيْ شَرَائِعُ الْإِيمَانِ نَعَمْ يُرَادُ أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِتَعَلُّمِ الْمُعَلِّمِ لَهُمْ، قُلْنَا: مَعْنَى عِبَارَتِهِ شَرَعُوا فِي تَعَلُّمِ مَا وَجَبَ تَعَلُّمُهُ عَلَيْهِمْ أَفَادَهُ عج.
[قَوْلُهُ: الْمُوَاظَبَةُ عَلَى الشَّيْءِ] هُوَ مَا ذَكَرَ مِنْ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ وَالْمُحَرَّمِ وَالْمَكْرُوهِ، وَالْمُلَازَمَةُ عَلَى الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ مِنْ حَيْثُ الْفِعْلُ، وَالْمُحَرَّمِ وَالْمَكْرُوهِ مِنْ حَيْثُ التَّرْكُ، وَتَرَكَ الْمُبَاحَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَدٌّ. [قَوْلُهُ: بِالِامْتِثَالِ] قَالَ فِي الْقَامُوسِ: امْتَثَلْت أَمْرَهُ أَطَعْتُهُ، وَالْبَاءُ لِلتَّصْوِيرِ أَيْ مُصَوِّرًا الْوُقُوفَ فِي جَانِبِ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ بِالْإِطَاعَةِ أَيْ فِعْلُهُمَا، وَكَذَا يُقَالُ فِي قَوْلِهِ: بِالِاجْتِنَابِ أَيْ تَرْكُهُمَا وَبِتَقْدِيرِنَا هَذَا يَنْدَفِعُ مَا قَالَ عج مُتَعَقِّبًا لِعِبَارَةِ الشَّارِحِ وَنَصِّهِ، وَهُوَ أَيْ كَلَامُ الشَّارِحِ يُفِيدُ أَنَّ مَنْ صَدَرَ عَنْهُ فِعْلُ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابُ النَّوَاهِي لَا عَلَى وَجْهِ الْمُوَاظَبَةِ بِأَنْ عَاجَلَهُ الْمَوْتُ لَا يَكُونُ وَاقِفًا عَلَى الْحُدُودِ، وَعِبَارَةُ غَيْرِهِ فِي ذَلِكَ تُفِيدُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْوُقُوفِ؛ لِأَنَّهُ فَسَّرَهُ بِالْعَمَلِ بِالْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي، ثُمَّ قَالَ: بَقِيَ شَيْءٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الشَّاذِلِيُّ يُقَالُ: مَا حِكْمَةُ اعْتِبَارِ الِامْتِثَالِ فِي جَانِبِ الْأَوَامِرِ دُونَ النَّوَاهِي مَعَ أَنَّ الثَّوَابَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الِامْتِثَالِ، وَالْخُرُوجُ مِنْ عُهْدَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا يَتَحَقَّقُ بِحُصُولِ كُلٍّ مِنْهُمَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ الِامْتِثَالِ اهـ.