الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثَّانِي: الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ وَاحِدٌ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْخُضُوعُ وَالِانْقِيَادُ بِمَعْنَى قَبُولِ الْأَحْكَامِ وَالْإِذْعَانِ وَذَلِكَ حَقِيقَةُ التَّصْدِيقِ، فَلَا يَصِحُّ فِي الشَّرْعِ أَنْ يُحْكَمَ عَلَى أَحَدٍ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ وَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ أَوْ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ.
الثَّالِثُ: اُخْتُلِفَ فِي أَوَّلِ وَاجِبٍ عَلَى الْمُكَلَّفِ فَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَالْأَشْعَرِيُّ أَنَّهُ الْعِلْمُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَدِينِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ - وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [إبراهيم: 19 - 52] . وَقَوْلُهُ: (أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إلَهٌ وَاحِدٌ) فِي مَحَلِّ نَصْبٍ، مَعْمُولٌ لِلنُّطْقِ، وَأَتَى بِالِاسْمِ الْأَعْظَمِ فِي كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَقَعُ بِهِ الْإِسْلَامُ لَا غَيْرُ فَلَا يُجْزِئُ أَنْ تَقُولَ: لَا إلَهَ إلَّا الْعَزِيزُ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ، وَإِنَّمَا يُجْزِئُ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى وَحْدَانِيِّتِهِ الْكِتَابُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} [محمد: 19] وَالْإِجْمَاعُ قَالَتْ الْأَمَةُ بِلِسَانٍ
ــ
[حاشية العدوي]
بِرُجُوعِهِ بَعِيدٌ.
[التَّنْبِيه الثَّانِي: الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ وَاحِدٌ]
[قَوْلُهُ: وَاحِدٌ] أَيْ مُتَّحِدَانِ مَاصَدَقًا وَمَفْهُومًا. [قَوْلُهُ: هُوَ الْخُضُوعُ] أَيْ الْبَاطِنِيُّ وَقَوْلُهُ: وَالِانْقِيَادُ عَطْفُ مُرَادِفٍ. [قَوْلُهُ: وَالْإِذْعَانُ] مُرَادِفٌ لِقَبُولِ الْأَحْكَامِ. [قَوْلُهُ: وَذَلِكَ حَقِيقَةُ التَّصْدِيقِ] أَيْ الْقَلْبِيِّ، فَظَهَرَ بِذَلِكَ التَّرَادُفُ وَهُوَ طَرِيقَةٌ، وَالطَّرِيقَةُ الْأُخْرَى لِجُمْهُورِ الْأَشَاعِرَةِ أَنَّ الْإِسْلَامَ الْخُضُوعُ الظَّاهِرِيُّ الْمُلَابِسُ لِلْإِذْعَانِ الْبَاطِنِيِّ وَالْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ الْقَلْبِيُّ.
[قَوْلُهُ: فِي الشَّرْعِ] أَيْ بِحَسَبِ مَا عِنْدَ اللَّهِ، وَأَمَّا بِاعْتِبَارِ مَا عِنْدَنَا فَلَا نُجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامَ الشَّرْعِ وَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ إلَّا إذَا نَطَقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ. [قَوْلُهُ: أَهْلِ الْعِلْمِ] أَيْ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ الْمُتَكَلِّمِينَ، لِقَوْلِهِ: مِنْهُمْ مَالِكٌ لَا خُصُوصَ الْمُتَكَلِّمِينَ؛ لِأَنَّ مَالِكًا لَيْسَ مِنْهُمْ بَلْ مِنْ أَكَابِرِ الْفُقَهَاءِ، مُقَابِلُ ذَلِكَ الْقَوْلِ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا أَنَّ أَوَّلَ وَاجِبٍ النَّظَرُ، وَقِيلَ: الْقَصْدُ إلَى النَّظَرِ وَقِيلَ: الْجُزْءُ الْأَوَّلُ مِنْ النَّظَرِ.
[قَوْلُهُ: أَنَّهُ الْعِلْمُ بِاَللَّهِ] أَيْ بِمَا يَجِبُ لَهُ وَيَجُوزُ، وَيَسْتَحِيلُ وَكَذَا يُقَالُ فِي قَوْلِهِ وَرَسُولِهِ وَإِضَافَةُ رَسُولٍ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلِاسْتِغْرَاقِ فَيُوَافِقُ قَوْلَ السَّنُوسِيِّ، وَأَنْ يَعْرِفَ مَا يَجِبُ فِي حَقِّ الرُّسُلِ إلَخْ وَأَنْ تَكُونَ لِلْعَهْدِ أَيْ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم وَالْعِلْمُ بِهِ يَتَضَمَّنُ الْعِلْمَ بِهِمْ، بَقِيَ شَيْءٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ قَضِيَّةَ الْكُبْرَى وَحَاشِيَةَ الْبُوسِيِّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِلْمِ الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إذْعَانٌ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ هُوَ الْمَعْرِفَةُ وَقَدْ جَعَلَهَا السَّنُوسِيُّ مِنْ أَقْوَى مَا قِيلَ فِي أَوَّلِ وَاجِبٍ، ثُمَّ ذَكَرَ الْبُوسِيُّ مِنْ جُمْلَةِ غَيْرِ الْأَقْرَبِ الْإِيمَانَ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ الْإِذْعَانُ الْبَاطِنُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِلْمِ فِي الْآيَتَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ التَّصْدِيقُ أَيْ الْإِذْعَانُ الْمُقَارِنُ لِلِاعْتِقَادِ الْجَازِمِ الَّذِي عَنْ دَلِيلٍ.
[قَوْلُهُ: وَدِينِهِ] أَيْ أَحْكَامُهُ أَيْ مَا كَانَ مَعْلُومًا مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ فِيمَا يَظْهَرُ. [قَوْلُهُ: لِقَوْلِهِ تَعَالَى] دَلِيلٌ لِلطَّرَفِ الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ الْعِلْمُ بِاَللَّهِ، وَقَوْلُهُ: وَلْيَعْلَمُوا دَلِيلٌ لِبَعْضِ مَاصَدَقَاتِهِ ثُمَّ أَقُولُ: وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ الْآيَتَيْنِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ أَوَّلُ وَاجِبٍ الَّذِي هُوَ الْمُدَّعَى، وَلَا يَخْفَى أَيْضًا أَنَّ الْمَعْرِفَةَ الَّتِي قِيلَ إنَّهَا أَوَّلُ وَاجِبٍ الْمَعْرِفَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْإِلَهِ فَقَطْ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ اللَّقَانِيِّ.
[قَوْلُهُ: وَأَتَى بِالِاسْمِ الْأَعْظَمِ إلَخْ] فِيهِ إشَارَةٌ إلَى اعْتِمَادِ أَنَّ لَفْظَ الْجَلَالَةِ هُوَ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ، أَيْ وَعَدَمُ إجَابَةِ الدَّاعِي لِفَقْدِ شَرْطِهَا. [قَوْلُهُ: فِي كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ] ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ الَّذِي هُوَ الْقَوْلُ الْمُعْتَمَدُ فِي كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ [قَوْلُهُ: فَلَا يُجْزِئُ أَنْ تَقُولَ إلَخْ] الْأَنْسَبُ لِمَا قَالَ أَنْ يَقُولَ: فَلَا يُجْزِئُ: الْعَزِيزُ إلَهٌ وَاحِدٌ.
[قَوْلُهُ: وَإِنَّمَا لَا يُجْزِئُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ] يُنَافِي مَا ذُكِرَ مِنْ كَوْنِ: اللَّهُ إلَهٌ وَاحِدٌ كَلِمَةَ تَوْحِيدٍ إلَّا أَنْ يُقَالَ: الْحَصْرُ إضَافِيٌّ أَيْ لَا يُجْزِئُ لَا إلَهَ إلَّا الْعَزِيزُ فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ يُجْزِئُ اللَّهُ إلَهٌ وَاحِدٌ، وَبَعْدَ أَنْ عَلِمْت مَا قَرَّرْنَا فَالظَّاهِرُ إجْزَاءُ لَا إلَهَ إلَّا الْعَزِيزُ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ اللَّفْظُ الْعَرَبِيُّ مِنْ الْقَادِرِ عَلَيْهِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لَفْظُ أَشْهَدُ وَلَا النَّفْيُ وَلَا الْإِثْبَاتُ وَلَا التَّرْتِيبُ وَلَا الْفَوْرِيَّةُ وَلَا اللَّفْظُ الْعَرَبِيُّ مِنْ قَادِرٍ عَلَيْهِ فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: وَالدَّلِيلُ عَلَى وَحْدَانِيِّتِهِ الْكِتَابُ] اعْلَمْ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي صِحَّةِ إثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ وَحْدَهُ، وَاخْتُلِفَ فِي إثْبَاتِهَا بِالدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ وَحْدَهُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَقِيلَ: نَعَمْ، وَهُوَ رَأْيُ فَخْرِ الدِّينِ قَائِلًا: إنَّ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ النُّبُوَّةِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ بِكَوْنِ الْإِلَهِ وَاحِدًا فَلَا جَرَمَ أَمْكَنَ
وَاحِدٍ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ، وَالْعَقْلُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ لَجَازَ أَنْ يَخْتَلِفَا، وَإِذَا اخْتَلَفَا إمَّا أَنْ يَتِمَّ مُرَادُهُمَا جَمِيعًا أَوْ لَا يَتِمَّ مُرَادُهُمَا جَمِيعًا وَهُمَا مُسْتَحِيلَانِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ الِاسْتِحَالَةِ فِي الْأَصْلِ.
وَقَوْلُهُ (لَا إلَهَ غَيْرُهُ) تَأْكِيدٌ
ــ
[حاشية العدوي]
إثْبَاتُ الْوَحْدَانِيَّةِ بِالدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ، وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَهَبَ شَارِحُنَا وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَقِيلَ: لَا وَهُوَ رَأْيُ ابْنِ التِّلِمْسَانِيِّ رَادًّا لِلْأَوَّلِ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ النُّبُوَّةِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى ذَلِكَ، وَبَيَانُهُ أَنَّ الْقَائِلَ أَنَّهُ رَسُولٌ إذَا ادَّعَى الرِّسَالَةَ وَأَقَامَ الْخَارِقَ عَلَى صِدْقِهِ فَلَا بُدَّ لِوُجُودِ الْخَارِقِ عَلَى صِدْقِهِ مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ الَّذِي جَاءَ بِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ غَيْرُ مُرْسِلِهِ لِيَكُونَ فِعْلُهُ مُطَابِقًا لِتَحَدِّيهِ، وَسُؤَالُهُ نَازِلًا مَنْزِلَةَ قَوْلِهِ: صَدَقْت فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَنَا عِلْمٌ بِنَفْيِ فَاعِلِيَّةِ غَيْرِهِ فَلَا نَعْلَمُ أَنَّهُ فَعَلَهُ، وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ إثْبَاتِ أَنَّ هَذَا الْخَارِقَ كَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى مَثَلًا لَا يَفْعَلُهُ غَيْرُ اللَّهِ عز وجل، وَذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى إثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ أَيْ فَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ بِدَلِيلِ السَّمْعِيِّ فِيهِ دَوْرٌ، وَهَذَا الْقَوْلُ الْمُعْتَمَدُ وَالْمُنَاسِبُ لِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّارِحُ أَنْ يَزِيدَ وَالسُّنَّةُ.
[قَوْلُهُ: وَالْإِجْمَاعُ قَالَتْ الْأُمَّةُ. . . إلَخْ] لَا يَخْفَى أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ أُمَّةُ الْإِجَابَةِ، فَلَا يَتِمُّ الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى عَابِدِ الصَّنَمِ الَّذِي يَدَّعِي أَنَّ الصَّنَمَ إلَهٌ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ الْإِجَابَةَ دَلِيلُكُمْ عَيْنُ دَعْوَاكُمْ. [قَوْلُهُ: بِلِسَانٍ وَاحِدٍ] أَيْ قَالَتْ الْأُمَّةُ قَوْلًا مُلْتَبِسًا بِلُغَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا أَفَادَهُ الْمِصْبَاحُ أَيْ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ. [قَوْلُهُ: الْوَاحِدُ الْأَحَدُ إلَخْ] قِيلَ: هُمَا بِمَعْنًى، وَقِيلَ: إنَّ الْأَحَدَ الَّذِي لَيْسَ بِمُنْقَسِمٍ وَلَا مُتَجَزِّئٍ، وَالْوَاحِدَ سَلْبُ الشَّرِيكِ وَالنَّظِيرِ، وَخُلَاصَتُهُ أَنَّ الْوَاحِدَ نَفْيٌ لِلْكَمِّ الْمُنْفَصِلِ وَالْأَحَدَ نَفْيٌ لِلْكَمِّ الْمُتَّصِلِ. [قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ اثْنَيْنِ إلَخْ] لَا يَخْفَى أَنَّ الْوَحْدَانِيَّةَ تَنْقَسِمُ إلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ، وَحْدَةُ الذَّاتِ بِمَعْنَى نَفْيِ الْكَمِّ الْمُتَّصِلِ وَبِمَعْنَى نَفْيِ الْكَمِّ الْمُنْفَصِلِ، فَالْأَوَّلُ أَلَّا تَكُونَ ذَاتُهُ الْعَلِيَّةُ مُرَكَّبَةً مِنْ جُزْأَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ وَالثَّانِي أَلَّا يَكُونَ ذَاتَيْنِ بِحَيْثُ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا مُنْفَرِدَةٌ عَنْ الْأُخْرَى، وَوَحْدَةُ الصِّفَاتِ بِمَعْنَى نَفْيِ الْكَمِّ الْمُتَّصِلِ وَالْمُنْفَصِلِ مِنْهَا أَيْضًا.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَعْنِي بِهِ أَنَّ لَهُ قُدْرَةً وَاحِدَةً وَإِرَادَةً وَاحِدَةً وَهَكَذَا، وَأَمَّا الثَّانِي فَنَعْنِي بِهِ أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ ذَاتٌ تَتَّصِفُ بِمِثْلِ صِفَاتِ مَوْلَانَا، وَوَحْدَةُ الْأَفْعَال بِمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ مُوجِدٌ سِوَاهَا وَهُوَ الْخَامِسُ. فَقَوْلُ الشَّارِحِ: لِأَنَّهُمَا لَوْ كَانَا اثْنَيْنِ إلَخْ. ظَاهِرٌ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ وَحْدَةِ الذَّاتِ، وَيَجْرِي فِي الْبَقِيَّةِ بِحَسَبِ مَا يَصِحُّ بِهِ الْمَعْنَى عَلَى مَا يَأْتِي.
[قَوْلُهُ: أَوْ لَا يَتِمُّ مُرَادُهُمَا جَمِيعًا] يَصْدُقُ بِصُورَتَيْنِ أَلَّا يَتِمَّ مُرَادُ هَذَا وَلَا هَذَا أَوْ يَتِمَّ مُرَادُ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ. [قَوْلُهُ: وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ الِاسْتِحَالَةِ] وَجْهُ الِاسْتِحَالَةِ فِي تَمَامِ مُرَادِهِمَا جَمِيعًا أَنَّهُ يَلْزَمُ اجْتِمَاعَ مُتَنَافِيَيْنِ وَهُوَ لَا يُعْقَلُ وَجْهُهَا فِي عَدَمِ تَمَامِ مُرَادِهِمْ مَعًا، أَوْ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ يَلْزَمُ عَجْزُهُمَا.
وَفِي الثَّانِي يَلْزَمُ عَجْزُ مَنْ تَعَطَّلَ مُرَادُهُ وَيَلْزَمُ مِنْهُ عَجْزُ الْآخَرِ لِلْمُمَاثَلَةِ، وَقَوْلُهُ: لَجَازَ أَنْ يَخْتَلِفَا إلَخْ أَيْ وَجَازَ أَنْ يَتَّفِقَا وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ أَيْضًا، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِرَادَتَيْنِ إذَا تَوَجَّهَتَا فَإِمَّا أَنْ يَقْدِرَ نُفُوذُ مُرَادِهِمَا أَوَّلًا وَكِلَاهُمَا مُحَالٌ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ اجْتِمَاعِ مُؤَثِّرَيْنِ عَلَى أَثَرٍ وَاحِدٍ وَهُوَ بَاطِلٌ، وَأَمَّا الثَّانِي فَإِمَّا أَنْ يُقَدَّمَ عَدَمُ نَفَاذِ مُرَادِ كُلٍّ مِنْهُمَا وَهُوَ بَاطِلٌ لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ الْعَجْزِ الْمُؤَدِّي لِعَدَمِ الْبَاطِلِ أَوْ عَدَمِ نَفَاذِ وَاحِدٍ وَهُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ عَجْزِ الْآخَرِ لِلْمُمَاثَلَةِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ جِسْمًا أَوْ جَوْهَرًا فَرْدًا، وَذَلِكَ أَنَّ إرَادَةَ الْإِلَهِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ عَامَّةَ التَّعَلُّقِ، وَهَذَا الدَّلِيلُ كَمَا ثَبَتَ بِهِ نَفْيُ الْكَمِّ الْمُنْفَصِلِ فِي الذَّاتِ يَثْبُتُ بِهِ نَفْيُ الْكَمِّ الْمُنْفَصِلِ فِي الصِّفَاتِ، وَنُبَيِّنُ وَجْهَ الِاسْتِحَالَةِ فِي بَقِيَّةِ الْأَقْسَامِ فَنَقُولُ تَبَعًا لَهُمْ: إنَّ الدَّلِيلَ عَلَى نَفْيِ الْكَمِّ الْمُتَّصِلِ فِي الذَّاتِ أَنَّ أَوْصَافَ الْإِلَهِ إمَّا أَنْ تَقُومَ بِكُلِّ فَرْدٍ أَوْ بِالْمَجْمُوعِ أَوْ بِالْبَعْضِ، وَتِلْكَ الْأَقْسَامُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْعَجْزِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ يَكُونُ إلَهًا فَيَجْرِي فِيهِ مَا جَرَى فِي تَعَدُّدِ الْإِلَهَيْنِ الَّذِي قَرَّرَ الشَّارِعُ دَلِيلَهُ.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ عَجْزُ كُلٍّ عَلَى انْفِرَادِهِ يُوجِبُ عَجْزَ الْمَجْمُوعِ لِلْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ كُلِّ جُزْءٍ وَالْمَجْمُوعِ وَلَيْسَ هَذَا نَظِيرُ الْحَبْلِ الْمُؤَلَّفِ مِنْ شَعَرَاتٍ كَمَا لَا يَخْفَى فَتَدَبَّرْ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَلِأَنَّهُ لَا أَوْلَوِيَّةَ لِبَعْضِ الْأَجْزَاءِ عَلَى بَعْضٍ حِينَئِذٍ لَا يَقُومُ بِهِ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ
لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: إلَهٌ وَاحِدٌ، وَقِيلَ: هَذَا أَبْلَغُ؛ لِأَنَّهُ يُشْعِرُ بِنَفْيِ إلَهٍ غَيْرِهِ لِوُجُودِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَالْإِثْبَاتُ بِخِلَافِ: اللَّهُ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُشْعِرُ بِنَفْيِ إلَهٍ غَيْرِهِ، فَإِنْ قِيلَ لِمَ اقْتَصَرَ عَلَى إحْدَى الشَّهَادَتَيْنِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ التَّلَفُّظَ بِهِمَا فَرْضٌ قُلْت: أُجِيبُ بِأَنَّهُ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ بَعْدُ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ خَتَمَ الرِّسَالَةَ إلَى آخِرِهِ.
(وَ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى (لَا شَبِيهَ لَهُ وَلَا نَظِيرَ لَهُ) هُمَا وَالْمَثِيلُ أَسْمَاءٌ مُتَرَادِفَةٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ هُنَا لَا شَبِيهَ لَهُ فِي ذَاتِهِ وَلَا نَظِيرَ لَهُ فِي
ــ
[حاشية العدوي]
عَجْزَ جَمِيعِهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى نَفْيِ الْكَمِّ الْمُتَّصِلِ فِي الصِّفَاتِ فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلذَّاتِ الْعَلِيَّةِ قُدْرَتَانِ وَإِرَادَتَانِ وَعِلْمَانِ إلَى الْآخِرِ السَّبْعِ فَلَا يُؤْخَذُ مِنْ الدَّلِيلِ الْمُتَقَدِّمِ إلَّا وَحْدَانِيَّةُ صِفَتَيْ التَّأْثِيرِ مِنْ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ؛ لِأَنَّ التَّخَالُفَ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَوْ التَّوَافُقَ مَعَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ اجْتِمَاعِ مُؤَثِّرَيْنِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ إنَّمَا يَأْتِي فِيهِمَا بِخِلَافِ سَائِرِ الصِّفَاتِ السَّبْعِ كَالْكَلَامَيْنِ وَالْعِلْمَيْنِ، فَوَجْهُ الِاسْتِحَالَةِ فِي ذَلِكَ مَا يُبَيِّنُهُ السَّنُوسِيُّ فِي شَرْحِ الْوُسْطَى بِقَوْلِهِ: إنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ حَيَاتَانِ أَوْ عِلْمَانِ مَثَلًا لَكَانَ أَحَدُ الْعِلْمَيْنِ أَوْ أَحَدُ الْحَيَاتَيْنِ إمَّا أَنْ يَحْصُلَ لِلذَّاتِ مَا هُوَ لَازِمٌ لَهَا وَهُوَ كَوْنُ الذَّاتِ حَيَّةً عَالِمَةً وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ لِلذَّاتِ لِحُصُولِ ذَلِكَ بِالْحَيَاةِ الْأُخْرَى وَالْعِلْمِ الْآخَرِ، وَإِمَّا أَلَّا يَحْصُلَا لِلذَّاتِ ذَلِكَ اللَّازِمَ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَا وُجِدَا بِدُونِ لَازِمِهِمَا الَّذِي يَسْتَحِيلُ أَنْ يُوجَدَا عَارِيَّيْنِ عَنْهُ، وَذَلِكَ كُلُّهُ لَا يُعْقَلُ اهـ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِغَيْرِ مَوْلَانَا تَأْثِيرٌ فِي فِعْلٍ مِنْ الْأَفْعَالِ الَّذِي هُوَ الْخَامِسُ فَلِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِ مَوْلَانَا تَأْثِيرٌ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْأَثَرُ مَقْدُورًا لَهُ تَعَالَى لِعُمُومِ قُدْرَتِهِ وَحِينَئِذٍ إمَّا أَنْ يَحْصُلَ الِاتِّفَاقُ أَوْ الِاخْتِلَافُ، وَيَأْتِي مَا سَبَقَ فَإِنْ كَانَ الْمُؤَثِّرُ غَيْرَ مَوْلَانَا لَزِمَ عَجْزُ مَوْلَانَا وَيَلْزَمُ عَجْزُهُ فِي سَائِرِ الْمُمْكِنَاتِ. [قَوْلُهُ: وَقِيلَ هَذَا أَبْلَغُ] مِنْ الْبَلَاغَةِ وَهِيَ مُطَابَقَةُ الْكَلَامِ لِمُقْتَضَى الْحَالِ، إذْ الْحَالُ يَقْتَضِي التَّصْرِيحَ بِنَفْيِ إلَهٍ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا نِزَاعَ عَلَى مَا قِيلَ فِي ثُبُوتِ الْإِلَهِيَّةِ لِمَوْلَانَا تَعَالَى، وَالْمُحْتَاجُ لَهُ إنَّمَا هُوَ نَفْيُ الْأُلُوهِيَّةِ مِنْ غَيْرِهِ بِشَهَادَةِ قَوْله تَعَالَى:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ} [الزمر: 3] .
[قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ يُشْعِرُ إلَخْ] الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ: يُصَرِّحُ إذْ الْإِشْعَارُ مَوْجُودٌ حَقٌّ فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ إلَهٌ وَاحِدٌ. [قَوْلُهُ: وَالْإِثْبَاتُ] لَا حَاجَةَ لَهُ فَالْمُنَاسِبُ حَذْفُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا إثْبَاتَ فِيهِ، فَإِنْ قُلْت: خُلَاصَةُ الْكَلَامِ: أَنْ لَا إلَهَ غَيْرُهُ صَرِيحٌ فِي نَفْيِ إلَهٍ غَيْرِهِ غَيْرِ مُقَيَّدٍ بِاعْتِبَارِ جَوْهَرِهِ وَذَاتِهِ ثُبُوتُ الْأُلُوهِيَّةِ لِأَحَدٍ، وَاَللَّهُ إلَهٌ وَاحِدٌ صَرِيحٌ فِي ثُبُوتِ الْوَحْدَانِيَّةِ لَهُ مُسْتَلْزِمٌ نَفْيَ الْأُلُوهِيَّةِ عَنْ غَيْرِهِ، فَيَظْهَرُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْأَبْلَغَ اللَّهُ إلَهٌ وَاحِدٌ قُلْت: جَوَابُ ذَلِكَ مَا عَلِمْت مِنْ أَنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي ثُبُوتِ الْأُلُوهِيَّةِ لَهُ إنَّمَا الْمُحْتَاجُ لَهُ نَفْيُهَا عَنْ غَيْرِهِ.
[قَوْلُهُ: عَلَى أَنَّ التَّلَفُّظَ بِهِمَا فَرْضٌ] ظَاهِرُهُ فَرْضٌ وَاحِدٌ فَيَكُونُ أَحَدُهُمَا جُزْءَ فَرْضٍ، وَجُزْءُ الْفَرْضِ فَرْضٌ، اعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ، أَمَّا الْمُؤْمِنُ بِالْأَصَالَةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَذْكُرَهُمَا مَرَّةً وَاحِدَةً فِي الْعُمْرِ يَنْوِي فِي تِلْكَ الْمَرَّةِ بِذَكَرِهِمَا الْوُجُوبَ، وَإِنْ تَرَكَ ذَلِكَ فَهُوَ عَاصٍ وَإِيمَانُهُ صَحِيحٌ كَمَا ذَكَرَهُ السَّنُوسِيُّ.
وَأَمَّا الْكَافِرُ فَذِكْرُهُ لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ فِيهِ النِّزَاعُ الَّذِي قَدْ عَلِمْته. [قَوْلُهُ: بِأَنَّهُ نَبَّهَ إلَخْ] أَيْ فَذَكَرَ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ لِيَعْتَقِدَ مَضْمُونَهُ وَيَنْطِقَ بِهِ مِنْ كَوْنِ رَسُولِهِ خَاتَمَ الرُّسُلِ أَيْ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ التَّلَفُّظَ بِهِمَا فَرْضٌ بِمَا سَيَأْتِي مَضْمُومًا لِمَا هُنَا.
[قَوْلُهُ: مُتَرَادِفُهُ] أَيْ مَدْلُولُهَا وَاحِدٌ مَاصَدَقُهَا كَذَلِكَ. [قَوْلُهُ: وَيُحْتَمَلُ إلَخْ] أَيْ فَقَدْ اخْتَلَفَا بِحَسَبِ الْمُتَعَلَّقِ وَإِنْ اتَّحَدَا بِحَسَبِ الذَّاتِ بِخِلَافِهِ عَلَى الْأَوَّلِ فَقَدْ اتَّحَدَا ذَاتًا وَمُتَعَلَّقًا أَيْ لَا شَبِيهَ لَهُ فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ، وَكَذَا لَا نَظِيرَ لَهُ فِيهِمَا، وَهَذَا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي يَصِحُّ عَكْسُهُ كَمَا أَفَادَهُ ابْنُ نَاجِي، فَقَالَ: لَا شَبِيهَ لَهُ فِي صِفَاتِهِ وَلَا نَظِيرَ لَهُ فِي ذَاتِهِ، وَظَهَرَ مِنْ ذَلِكَ التَّقْرِيرِ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا شَبِيهَ لَهُ إلَخْ تَأْكِيدٌ أَيْضًا. وَحَاصِلُ تَوْضِيحِ الْمَقَامِ أَنَّ اللُّغَوِيِّينَ يَجْعَلُونَ الْمَثِيلَ وَالنَّظِيرَ وَالشَّبِيهَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ شَارِحُنَا، وَلِلسُّيُوطِيِّ كَلَامٌ نَذْكُرُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْفَائِدَةِ حَاصِلُهُ أَنَّ الْمَثِيلَ الْمُسَاوِيَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَالشَّبِيهَ الْمُشَارِكُ فِي أَكْثَرِ الْوُجُوهِ شَارَكَهُ فِي الْكُلِّ أَمْ لَا، وَالنَّظِيرُ الْمُشَارِكُ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ أَكْثَرَهَا سَوَاءٌ شَارَكَ فِي بَقِيَّتِهَا أَمْ لَا، فَالْمَثِيلُ أَخَصُّ مِنْ الشَّبِيهِ وَالشَّبِيهُ
صِفَاتِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، وَلِأَنَّهُ لَوْ حَصَلَتْ الْمُشَابَهَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ لَمْ يَكُنْ إلَهًا وَاحِدًا (وَ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى (لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ لَهُ وَلَا صَاحِبَةَ لَهُ) أَيْ زَوْجَةً (وَلَا شَرِيكَ لَهُ) فِي أَفْعَالِهِ إذْ مِنْهُ الْإِيجَادُ وَالِاخْتِرَاعُ.
(وَ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى (لَيْسَ لِأَوَّلِيَّتِهِ ابْتِدَاءٌ وَلَا لِآخِرِيَّتِهِ انْقِضَاءٌ) مَعْنَى كَلَامِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ وُجُودُهُ مُفْتَتَحًا فَيَكُونُ لَهُ أَوَّلٌ وَلَا مُنْقَضِيًا فَيَكُونُ لَهُ آخِرٌ فَهُوَ وَاجِبُ الْوُجُودِ، فَمُحَالٌ فِي حَقِّهِ الْأَوَّلِيَّةُ وَالْآخِرِيَّةُ وَكَأَنَّهُ قَصَدَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ} [الحديد: 3] أَيْ
ــ
[حاشية العدوي]
أَخَصُّ مِنْ النَّظِيرِ.
[قَوْلُهُ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ] دَلِيلٌ لِكَلَامِ الْمُصَنِّفِ، وَالْكَافُ صِلَةٌ أَيْ لَيْسَ شَيْءٌ مُمَاثِلًا لَهُ لَا مِنْ حَيْثُ ذَاتِهِ وَلَا مِنْ حَيْثُ صِفَاتِهِ فَهُوَ دَلِيلٌ لِلطَّرَفَيْنِ مَعًا، وَقِيلَ: لَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ فَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ الْبَيْضَاوِيُّ: الْمِثْلُ فِي الْآيَةِ إمَّا بِمَعْنَى الذَّاتِ أَوْ الصِّفَةِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي الْآيَةِ بِالْمَعْنَيَيْنِ مَعًا عَلَى جَوَازِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ إنْ كَانَ الْإِطْلَاقُ بِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ أَوْ عَلَى جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ إنْ كَانَ حَقِيقَةً فِي أَحَدِهِمَا مَجَازًا فِي الْآخَرِ، وَقِيلَ فِي الْآيَةِ غَيْرُ ذَلِكَ.
تَنْبِيهٌ: أَوَّلُ الْآيَةِ رَدٌّ عَلَى الْمُجَسِّمَةِ وَآخِرُهَا إثْبَاتٌ، فَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الْمُعَطِّلَةِ النَّافِينَ لِزِيَادَةِ الصِّفَاتِ، وَقَدَّمَ النَّفْيَ عَلَى الْإِثْبَاتِ؛ لِأَنَّ التَّخْلِيَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى التَّحْلِيَةِ.
[قَوْلُهُ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ] أَيْ لَيْسَ أَحَدٌ مُمَاثِلًا لَهُ لَا فِي الذَّاتِ وَلَا فِي الصِّفَاتِ.
[قَوْلُهُ: وَلِأَنَّهُ لَوْ حَصَلَتْ إلَخْ] فِيهِ شَيْءٌ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ لَوْ هَذِهِ شَرْطِيَّةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ مُقَدَّمٍ وَتَالٍ وَالتَّالِي بَاطِلٌ، فَالْمُقَدَّمُ مِثْلُهُ الَّذِي هُوَ الْمُشَابَهَةُ، وَإِذَا بَطَلَتْ الْمُشَابَهَةُ ثَبَتَ نَفْيُ الْمُشَابَهَةِ وَنَفْيُ الْمُشَابَهَةِ فِي الذَّاتِ وَفِي الصِّفَاتِ اللَّذَيْنِ أَشَارَ إلَيْهِمَا فَرْدَانِ مِنْ أَقْسَامِ الْوَحْدَانِيَّةِ، فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِالْوَحْدَانِيَّةِ عَلَى نَفْيِ الْمُشَابَهَةِ.
[قَوْلُهُ: لَا وَلَدَ لَهُ] ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى.
[قَوْلُهُ: وَلَا وَالِدٌ] أَرَادَ بِهِ جِنْسَ الْوَالِدِ أَيْ مَنْ لَهُ عَلَيْهِ وِلَادَةٌ أَبًا أَوْ أُمًّا أَدْنَى أَوْ أَعْلَى [قَوْلُهُ: أَيْ زَوْجَةً] أَرَادَ بِهَا مَا يَشْمَلُ السُّرِّيَّةَ [قَوْلُهُ: وَلَا شَرِيكَ لَهُ فِي أَفْعَالِهِ] الْأَوْلَى، أَنْ يَقُولَ فِي الْأَفْعَالِ؛ لِأَنَّ عِبَارَتَهُ لَا تَنْفِي أَنَّ لِغَيْرِهِ أَفْعَالًا وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ إنْ عَمَّمَ فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ إلَهٌ وَاحِدٌ بِحَيْثُ يَشْمَلُ جَمِيعَ الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَلْيَكُنْ قَوْلُهُ وَلَا شَرِيكَ لَهُ، مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ وَإِنْ خَصَّ بِمَا عَدَا ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْمُغَايِرِ.
[قَوْلُهُ: إذْ مِنْهُ الْإِيجَادُ] الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ إذْ مِنْهُ الْوُجُودُ؛ لِأَنَّ الْإِيجَادَ عِبَارَةٌ عَنْ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِوُجُودِ الْمَقْدُورِ، فَلَا يَتَّصِفُ بِكَوْنِهِ نَاشِئًا مِنْهُ [قَوْلُهُ: وَالِاخْتِرَاعُ] عَيْنُ الْإِيجَادِ [قَوْلُهُ: مَعْنَى كَلَامِهِ إلَخْ] أَيْ فَاللَّامُ فِيهَا بِمَعْنَى الْفَاءِ، وَابْتِدَاءُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ وَانْقِضَاءٌ بِمَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ، أَيْ فَلَيْسَ مُبْتَدَأً أَيْ مُفْتَتَحًا وُجُودُهُ فَيَكُونُ لَهُ أَوَّلٌ، وَلَا مُقْتَضِيًا فَيَكُون لَهُ آخِرٌ.
[قَوْلُهُ: فَيَكُونُ لَهُ أَوَّلٌ] مُتَفَرِّغٌ عَلَى الْمَنْفِيِّ وَكَذَا قَوْلُهُ: فَيَكُونُ لَهُ آخِرٌ [قَوْلُهُ: فَهُوَ وَاجِبُ الْوُجُودِ إلَخْ] أَيْ لَا يَقْبَلُ الِانْتِفَاءَ لَا أَوَّلًا وَلَا آخِرًا قَصَدَ بِذَلِكَ أَنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ هَذَا إشَارَةٌ إلَى عَقِيدَةِ الْوُجُودِ وَالْقِدَمِ وَالْبَقَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ وُجُودُهُ مُفْتَتَحًا وَلَا مُنْقَضِيًا يَلْزَمُ مِنْهُ كَوْنُهُ مَوْجُودًا وَاجِبًا لَهُ الْوُجُودُ، فَهَذِهِ عَقِيدَةُ الْوُجُودِ الَّتِي أَشَارَ لَهَا السَّنُوسِيُّ بِقَوْلِهِ: وَهِيَ الْوُجُودُ وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَيْ مِنْ الْوُجُودِ الْمَوْصُوفِ بِكَوْنِهِ وَاجِبًا الْقِدَمُ وَالْبَقَاءُ اللَّذَانِ أَشَارَ لَهُمَا السَّنُوسِيُّ. بِقَوْلِهِ: بَعْدُ وَالْقِدَمُ وَالْبَقَاءُ فَأَشَارَ لَهُمَا شَارِحُنَا بِقَوْلِهِ: فَمُحَالٌ فِي حَقِّهِ الْأَوَّلِيَّةُ وَالْآخِرِيَّةُ.
[قَوْلُهُ: وَكَأَنَّهُ قَصَدَ إلَخْ] لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْقَصْدَ لَا يَلْتَئِمُ مَعَ مَا قُرِّرَ أَوَّلًا، بَلْ إشَارَةٌ إلَى حَلٍّ آخَرَ أَحْسَنَ مِنْ الْمُتَقَدِّمِ وَحَاصِلُهُ، أَنَّ الْأَوَّلِيَّةَ عَلَيْهِ بِمَعْنَى السَّبْقِيَّةِ عَلَى الْأَشْيَاءِ، وَالْآخِرِيَّةُ بِمَعْنَى الْبَقَاءِ، التَّابِعَيْنِ لَهُ تَعَالَى، وَأَنَّ الْقَصْدَ لَيْسَ لِسَبْقِيَّتِهِ الْأَشْيَاءَ ابْتِدَاءً وَلَا لِبَقَائِهِ انْقِضَاءً، بِخِلَافِ سَبْقِيَّةِ الْأَبِ عَلَى الِابْنِ، فَلَهَا
السَّابِقُ لِلْأَشْيَاءِ الْبَاقِي بَعْدَهَا.
(وَ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى (لَا يَبْلُغُ كُنْهَ) أَيْ لَا يُدْرِكُ حَقِيقَةَ (صِفَتِهِ الْوَاصِفُونَ) فَعَدَمُ إدْرَاكِ حَقِيقَةِ الذَّاتِ مِنْ بَابِ أَوْلَى (وَ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى (لَا يُحِيطُ بِأَمْرِهِ) أَيْ شَأْنِهِ (الْمُتَفَكِّرُونَ) أَيْ الْمُتَأَمِّلُونَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29] مِنْ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ وَالْإِعْزَازِ وَالْإِذْلَالِ وَالْإِفْقَارِ وَالْإِغْنَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
(يَعْتَبِرُ الْمُتَفَكِّرُونَ) أَيْ يَتَّعِظُ الْمُتَأَمِّلُونَ (بِآيَاتِهِ) الْعَقْلِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ، فَالْعَقْلِيَّةُ مَخْلُوقَاتُهُ وَهِيَ الْعَالَمُ بِأَسْرِهِ وَهُوَ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى وَالشَّرْعِيَّةُ آيَاتُ كِتَابِهِ وَأَدِلَّةُ خِطَابِهِ، (وَلَا يَتَفَكَّرُونَ فِي مَائِيَّةِ ذَاتِهِ) بِيَاءٍ مُشَدَّدَةٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَلْفِ هَمْزَةٌ وَقَدْ تُبَدَّلُ هَاءً، فَيُقَالُ: مَاهِيَّةٌ وَمَعْنَاهُمَا الْحَقِيقَةُ قَالَ عليه الصلاة والسلام:
ــ
[حاشية العدوي]
ابْتِدَاءٌ وَبَقَاءُ ابْنِهِ بَعْدَهُ لَهُ انْقِضَاءٌ، فَلَا اسْتِحَالَةَ فِي الْأَوَّلِيَّةِ وَالْآخِرِيَّةُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ.
[قَوْلُهُ: كُنْهَ إلَخْ] إضَافَةُ كُنْهٍ إلَى مَا بَعْدَهُ لِلْبَيَانِ، فَإِنْ قُلْت هَذَا مُشْكِلٌ فَقَدْ عَرَّفُوا الْعِلْمَ وَعَرَّفُوا الْقُدْرَةَ، وَغَيْرَهُمَا بِمَا هُوَ مَعْلُومٌ وَهَذَا يَقْتَضِي مَعْرِفَةَ الْكُنْهِ، قُلْت لَا نُسَلِّمُ؛ لِأَنَّ التَّعَارِيفَ كَمَا تُفِيدُ مَعْرِفَةَ الشَّيْءِ أَيْ كُنْهَهُ تُفِيدُ تَمْيِيزَهُ عَمَّا عَدَاهُ الَّذِي هُوَ الْمُرَادُ، أَيْ فَهُوَ تَعْرِيفٌ بِالرَّسْمِ لَا بِالْحَقِيقَةِ.
[قَوْلُهُ: مِنْ بَابٍ أَوْلَى] أَيْ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ فِي حَدِّ ذَاتِهَا شَأْنُهَا الظُّهُورُ، وَقِيلَ: بِإِدْرَاكِ ذَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْبَارِئَ يَعْلَمُ، وَالْعِلْمُ يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْلُومِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ، إذْ لَوْ تَعَلَّقَ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ لَكَانَ الْعِلْمُ جَهْلًا وَالْخِلَافُ لَفْظِيٌّ، إذْ الثَّانِي يُقِرُّ بِأَنَّهُ لَا يُحَاطُ بِهِ، وَالْعُقُولُ قَاصِرَةٌ عَنْ إدْرَاكِ جَلَالِهِ.
وَالْأَوَّلُ مُقِرٌّ بِأَنَّهُ عَرَفَهُ الْعَارِفُونَ بِدَلَالَةِ الْآيَةِ، وَتَحَقَّقُوا اتِّصَافَهُ بِوَاجِبِ الصِّفَاتِ.
[قَوْلُهُ: وَلَا يُحِيطُ بِأَمْرِهِ. . . إلَخْ] الْإِحَاطَةُ وَالْعِلْمُ مُتَرَادِفَانِ، وَقِيلَ لَا فَالْمُتَعَلِّقُ بِالْمَحْسُوسَاتِ عِلْمٌ وَإِحَاطَةٌ، وَالْمُتَعَلِّقُ بِغَيْرِهَا عِلْمٌ وَلَيْسَ بِإِحَاطَةٍ.
[قَوْلُهُ: أَيْ شَأْنِهِ] أَيْ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ، الْأَمْرُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النَّهْيِ؛ لِأَنَّ الْخَلْقَ مُكَلَّفُونَ بِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ عِلْمِهِمْ بِهِ قَالَهُ تت.
[قَوْلُهُ: أَيْ الْمُتَأَمِّلُونَ] أَيْ فَالْفِكْرُ لُغَةً التَّأَمُّلُ وَاصْطِلَاحًا تَرْتِيبُ أُمُورٍ مَعْلُومَةٍ لِتُؤَدِّي إلَى مَجْهُولٍ فَالتَّفْسِيرُ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
[قَوْلُهُ: لِقَوْلِهِ تَعَالَى {كُلَّ يَوْمٍ} [الرحمن: 29]] هَذَا لَا يَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا لِعَدَمِ الْإِحَاطَةِ بَلْ إنَّمَا يُفِيدُ أَنَّ لَهُ شُؤُونًا كَثِيرَةً، وَكَوْنُهَا تُدْرَكُ أَوَّلًا شَيْءٌ آخَرُ.
[قَوْلُهُ: كُلَّ يَوْمٍ] أَيْ زَمَنٍ، [قَوْلُهُ: وَغَيْرِ ذَلِكَ] كَتَصْحِيحِ مَرِيضٍ وَإِمْرَاضِ صَحِيحٍ.
[قَوْلُهُ: بِآيَاتِهِ] أَيْ بِسَبَبِ آيَاتِهِ أَيْ بِسَبَبِ التَّفَكُّرِ فِيهَا.
[قَوْلُهُ: فَالْعَقْلِيَّةُ مَخْلُوقَاتُهُ] نِسْبَةً لِلْعَقْلِ؛ لِأَنَّهُ يَتَفَكَّرُ فِي أَحْوَالِهَا فَيَعْلَمُ أَنَّ لَهَا صَانِعًا، [قَوْلُهُ: بِأَسْرِهِ] أَيْ بِجُمْلَتِهِ.
[قَوْلُهُ: وَهُوَ مَا سِوَى اللَّهِ] أَيْ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ جَوَاهِرُ وَأَعْرَاضٌ، وَالْحَقُّ نَفْيُ الْأَحْوَالِ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّعْبِيرِ بِالْمُثْبَتَاتِ بَدَلَ الْمَوْجُودَاتِ لِإِدْخَالِهَا، وَلَا حَاجَةَ إلَى زِيَادَةِ وَصِفَاتِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَهُوَ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ لَا يُقَالُ لَهَا عَيْنٌ.
[قَوْلُهُ: آيَاتِ كِتَابِهِ] إضَافَةُ الْكِتَابِ لِلْعَهْدِ أَيْ الْقُرْآنِ، وَإِضَافَةُ الْآيَاتِ لِلْبَيَانِ مِنْ إضَافَةِ الْبَعْضِ لِلْكُلِّ، إنْ لُوحِظَ فِيهَا التَّفْصِيلُ وَإِنْ لُوحِظَ فِيهَا الْمَجْمُوعُ، فَالْإِضَافَةُ لِلْبَيَانِ.
[قَوْلُهُ: وَأَدِلَّةُ خِطَابِهِ] أَيْ الْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى خِطَابِهِ، وَالْخِطَابُ، مَصْدَرٌ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ أَيْ الْكَلَامُ الْمُخَاطَبُ بِهِ أَيْ الْقَدِيمُ، ثُمَّ يَجُوزُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْأَدِلَّةِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةَ الدَّالَّةَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَحْكَامِهِ فَهُوَ عَطْفُ مُرَادِفٍ، وَيَجُوزُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهَا مَا يَشْمَلُ أَحَادِيثَ رَسُولِهِ. فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ.
[قَوْلُهُ: وَلَا يَتَفَكَّرُونَ] أَيْ وَلَا يَتَأَمَّلُونَ لِلِاعْتِبَارِ أَوْ غَيْرِهِ، وَهَذَا خَبَرٌ وَمَعْنَاهُ النَّهْيُ فَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَقُولُ لِأَحَدِكُمْ: مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: اللَّهُ فَيَقُولُ مَنْ خَلَقَ اللَّهَ فَدَوَاءُ ذَلِكَ، أَنْ يَقُولَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ.
وَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَنْ يَعْتَبِرُ، وَيَنْظُرُ فِي الْآيَاتِ أَنْ يَتَجَاوَزَ ذَلِكَ، وَيَنْظُرَ فِي ذَاتِ مَوْلَاهُ [قَوْلُهُ: فِي مَائِيَّةٍ إلَخْ] الْإِضَافَةُ لِلْبَيَانِ [قَوْلُهُ: بِيَاءٍ مُشَدَّدَةٍ إلَخْ] نِسْبَةً لِمَا؛ لِأَنَّهُ يُجَابُ بِهَا عَنْ السُّؤَالِ بِمَا.
[قَوْلُهُ: فَيُقَالُ مَاهِيَّةً] نِسْبَةً لِمَا هُوَ؛ لِأَنَّهُ يُجَابُ بِهَا عَنْ السُّؤَالِ بِمَا هُوَ، تَقُولُ: مَا الْإِنْسَانُ وَمَا هُوَ الْإِنْسَانُ، وَخُلَاصَةُ كَلَامِ الشَّارِحِ: أَنَّ الْمَائِيَّةَ وَالْمَاهِيَّةَ وَالْحَقِيقَةَ وَمِثْلُهَا الطَّبِيعَةُ أَلْفَاظٌ مُتَرَادِفَةٌ عِبَارَةً عَمَّا بِهِ الشَّيْءُ هُوَ كَالْحَيَوَانِ النَّاطِقِ بِالنِّسْبَةِ لِلْإِنْسَانِ بِخِلَافِ الضَّاحِكِ وَالْكَاتِبِ مَثَلًا مِمَّا يُتَصَوَّرُ الْإِنْسَانُ بِدُونِهِ فَإِنَّهُ مِنْ
«تَفَكَّرُوا فِي مَخْلُوقَاتِهِ وَلَا تَتَفَكَّرُوا فِي ذَاتِهِ» .
(وَ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ الْمَخْلُوقِينَ مِنْ عِبَادِهِ تَعَالَى (لَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) بِمَعْنَى مَعْلُومَاتِهِ (إلَّا بِمَا شَاءَ) فَيُعَلِّمُهُ لَهُمْ وَيُحِيطُونَ بِهِ (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ) جُمْهُورُ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى أَنَّ الْكُرْسِيَّ جِرْمٌ مَحْسُوسٌ لِمَا صَحَّ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّهُ جِسْمٌ عَظِيمٌ تَحْتَ الْعَرْشِ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَعَنْ أَبِي مُوسَى وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لُؤْلُؤَةٌ.
وَقَالَ عَلِيٌّ وَمُقَاتِلٌ: كُلُّ قَائِمَةٍ مِنْ الْكُرْسِيِّ طُولُهَا مِثْلُ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَالْأَرْضِينَ السَّبْعِ، (وَلَا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا) أَيْ لَا يُثْقِلُهُ حِفْظُ مَا فِيهِمَا (وَهُوَ الْعَلِيُّ) بِالْمَنْزِلَةِ (الْعَظِيمُ) الْقَدْرِ الرَّفِيعُ النَّعْتِ الَّذِي يَصْغُرُ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَ ذِكْرِ عَظَمَتِهِ، وَهُنَا انْتَهَتْ آيَةُ الْكُرْسِيِّ وَهِيَ خَمْسُونَ كَلِمَةً حَاوِيَةٌ لِخَمْسِينَ بَرَكَةً،
ــ
[حاشية العدوي]
الْعَوَارِضِ، وَاعْتُرِضَ عَلَى الْمُصَنِّفِ بِأَنَّ الْمَائِيَّةَ لَا تَكُونُ إلَّا لَدَى جِنْسٍ وَنَوْعٍ وَهُمَا مُحَالَانِ عَلَى الْمَوْلَى جَلَّ وَعَزَّ، وَأُجِيبُ بِالتَّسَمُّحِ.
[قَوْلُهُ: تَفَكَّرُوا إلَخْ] الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ إذَا كَانَ الْفِكْرُ وَسِيلَةً لِمَعْرِفَةٍ وَاجِبَةٍ، وَلِلنَّدْبِ إذَا كَانَ وَسِيلَةً لِمَعْرِفَةٍ مَنْدُوبَةٍ وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَا تَتَفَكَّرُوا فَالنَّهْيُ تَحْرِيمٌ. [قَوْلُهُ: فِي ذَاتِهِ] الْإِضَافَةُ لِلْبَيَانِ.
[قَوْلُهُ: مِنْ عِبَادِهِ] مِنْ بَيَانِيَّةٌ [قَوْلُهُ: بِمَعْنَى مَعْلُومَاتِهِ إلَخْ] لَمَّا كَانَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: مِنْ عِلْمِهِ تَجَزُّؤَ الْعِلْمُ مَعَ أَنَّهُ صِفَةٌ قَدِيمَةٌ لَا تَقْبَلُ التَّجَزُّؤَ، أَوَّلَهُ الشَّارِحُ بِأَنَّهُ مِنْ إطْلَاقِ الْمَصْدَرِ وَإِرَادَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، وَيُجَابُ أَيْضًا بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ أَيْ مُتَعَلِّقُ عِلْمِهِ.
[قَوْلُهُ: إلَّا بِمَا شَاءَ] بَدَلٌ مِنْ شَيْءٍ أَيْ إلَّا بِالْمَعْلُومِ الَّذِي شَاءَ، إحَاطَتَهُمْ بِهِ فَمَا اسْمٌ مَوْصُولٌ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً؛ لِأَنَّ الْعِبَادَ لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى الْإِحَاطَةِ بِشَيْءٍ مِنْ مَعْلُومَاتِ اللَّهِ إلَّا بِمَشِيئَتِهِ، أَيْ إرَادَتِهِ. [قَوْلُهُ: وَيُحِيطُونَ بِهِ] مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنْ عَطْفِ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ، أَيْ وَيَعْلَمُونَ بِهِ بِسَبَبِ تَعْلِيمِهِ لَهُمْ، قَوْلُهُ:{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة: 255] إلَخْ أَيْ لَمْ يَضِقْ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لِسَعَتِهِ فَالسَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ فِي جَنْبِ الْكُرْسِيِّ كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ فِي فَلَاةٍ.
[قَوْلُهُ: السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ] جَمَعَ السَّمَوَاتِ وَأَفْرَدَ الْأَرْضَ مَعَ أَنَّهَا سَبْعٌ كَالسَّمَوَاتِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ السَّمَوَاتُ مِنْ الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ مِنْ نُجُومٍ وَقَمَرٍ وَغَيْرِهِمَا وَلَمْ يَظْهَرْ لَنَا مِنْ الْأَرْضِ إلَّا وَاحِدَةٌ.
[قَوْلُهُ: جُمْهُورُ الْمُحَقِّقِينَ] مُقَابِلُهُ أَنَّ الْكُرْسِيَّ عِلْمُهُ، تَسْمِيَةً بِمَكَانِ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ كُرْسِيُّ الْعَالِمِ، أَوْ مُلْكُهُ تَسْمِيَةً بِمَكَانِهِ الَّذِي هُوَ كُرْسِيُّ الْمُلْكِ أَوْ قُدْرَتُهُ.
[قَوْلُهُ: مَحْسُوسٌ] وَصْفٌ كَاشِفٌ.
[قَوْلُهُ: تَحْتَ الْعَرْشِ. . . إلَخْ] وَضَّحَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ: هُوَ جِسْمٌ عَظِيمٌ نُورَانِيٌّ بَيْنَ يَدَيْ الْعَرْشِ مُلْتَصِقٌ بِهِ، لَا قَطْعَ لَنَا بِحَقِيقَتِهِ اهـ.
[قَوْلُهُ: فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ] وَهَلْ هُوَ مُلْتَصِقٌ بِهَا أَوْ لَا.
[قَوْلُهُ: لُؤْلُؤَةٌ] مُقَابِلٌ لِمَا ذَكَرَهُ الْبَعْضُ، [قَوْلُهُ: كُلُّ قَائِمَةٍ مِنْ الْكُرْسِيِّ] الْقَائِمَةُ مَا قَامَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ، وَهَلْ تِلْكَ الْقَوَائِمُ مُسْتَقِرَّةٌ عَلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ؟ أَوْ لَيْسَتْ مُسْتَقِرَّةً عَلَى شَيْءٍ بَلْ قَائِمَةٌ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَانْظُرْ مَا عَدَدُ تِلْكَ الْقَوَائِمِ.
[قَوْلُهُ: طُولُهَا مِثْلُ السَّمَوَاتِ] وَهَلْ عَلَى تِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ الَّتِي عَلَيْهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُونَ، الَّتِي ذَكَرَهَا بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَنَّ سَعَةَ السَّمَاءِ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ وَبَيْنَ كُلِّ سَمَاءٍ كَذَلِكَ وَالْأَرْضِينَ، كَذَلِكَ وَهُوَ الظَّاهِرُ أَوْ وَلَوْ وُصِلَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ.
[قَوْلُهُ: أَيْ لَا يُثْقِلُهُ حِفْظُ مَا فِيهِمَا] أَيْ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ حِفْظُ مَا فِيهِمَا، وَأَوْلَى حِفْظِهِمَا إذْ لَوْ شَقَّ عَلَيْهِ لَكَانَ عَاجِزًا وَالْعَجْزُ مُحَالٌ، وَلَعَلَّ السِّرَّ فِي تَأْوِيلِ الشَّارِحِ الْمَذْكُورِ أَنَّ مَا فِيهِمَا لَا يُحْصَى وَلَا يُعَدُّ لِكَثْرَتِهِ كَثْرَةً لَا يَعْلَمُهَا إلَّا خَالِقُهَا، فَإِذَا كَانَ هَذَا الْكَثِيرُ لَا يُتْعِبُ الْمَوْلَى عز وجل حِفْظُهُ فَأَوْلَى مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ. وَهُوَ ذَاتُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَالشَّارِحُ رحمه الله جَعَلَ الْآيَةَ نَاصَّةً عَلَى مَا يُتَوَهَّمُ، [قَوْلُهُ: الْعَلِيُّ بِالْمَنْزِلَةِ] أَيْ الْمَرْتَبَةِ أَيْ لَا عُلُوَّ مَكَان وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي ذَلِكَ.
[قَوْلُهُ: الرَّفِيعُ النَّعْتِ] أَيْ الْمُرْتَفِعُ الْوَصْفُ بِمَعْنَى الصِّفَةِ أَيْ أَنَّ صِفَاتِهِ مُرْتَفِعَةٌ ارْتِفَاعًا مَعْنَوِيًّا، وَكَأَنَّهُ قَصَدَ بِقَوْلِهِ الرَّفِيعُ النَّعْتِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَهُ تَفْسِيرًا لِشَيْءٍ مِنْ الْآيَةِ، الْإِشَارَةُ إلَى تَفْسِيرِ الْعَظِيمِ الْقَدْرِ فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: يَصْغُرُ إلَخْ] يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ التَّعْلِيلُ وَأَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ التَّوْصِيفُ.
[قَوْلُهُ: هُنَا انْتَهَتْ إلَخْ] لَعَلَّ فَائِدَةَ الْإِخْبَارِ بِذَلِكَ وَهُوَ مَعْلُومُ
وَبِهَا تَمَّ قِسْمُ مَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ تَعَالَى.
وَمِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى (الْعَالِمُ) مَعْنَاهُ أَنَّهُ عَلَى صِفَةٍ تَنْكَشِفُ بِهَا الْمَعْلُومَاتُ الْمَوْجُودَاتُ وَالْمَعْدُومَاتُ وَمِنْهَا (الْخَبِيرُ) بِمَعْنَى الْمُطَّلِعُ عَلَى الشَّيْءِ الْمُشَاهَدِ لَهُ، فَهُوَ تَعَالَى مُشَاهِدٌ لِمَا غَابَ وَلِمَا حَضَرَ مُطَّلِعٌ عَلَى مَا ظَهَرَ وَاسْتَتَرَ وَمِنْهَا (الْمُدَبِّرُ) قَالَ تَعَالَى {يُدَبِّرُ الأَمْرَ} [السجدة: 5] وَأَصْلُ التَّدْبِيرِ النَّظَرُ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ لِتَقَعَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَصْلَحِ، هَذَا فِي صِفَاتِ الْبَشَرِ، وَأَمَّا فِي حَقِّ الْبَارِي تَعَالَى
ــ
[حاشية العدوي]
الْإِشَارَةِ، أَنَّ مَا سَاقَهُ الْمُصَنِّفُ لَاحَظَ فِيهِ الْآيَةَ لِكَمَالِ الْبَرَكَةِ أَوْ دَفْعًا لِمَا يُقَالُ: إنَّ آخِرَهَا خَالِدُونَ أَيْ وَهُنَا، انْتَهَتْ آيَةُ الْكُرْسِيِّ الَّذِي ذَكَرْنَا بَعْضَهَا لَا كُلَّهَا كَمَا يَقَعُ فِي الْوَهْمِ مِنْ التَّعْبِيرِ الْمَذْكُورِ.
[قَوْلُهُ: حَاوِيَةً لِخَمْسِينَ بَرَكَةً] مِنْ مُقَابَلَةِ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ فَيَقْتَضِي الْقِسْمَةَ عَلَى الْآحَادِ، أَيْ فَلِكُلِّ كَلِمَةٍ بَرَكَةٌ. ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْبَرَكَةِ الْحَسَنَةَ، وَنُكْتَةُ التَّعْبِيرِ بِالْبَرَكَةِ الْإِشَارَةُ إلَى عِظَمِهَا، حَيْثُ عَدَلَ عَنْ التَّعْبِيرِ بِاسْمِهَا الْمَعْهُودِ إظْهَارًا لِمَزِيَّةِ تِلْكَ الْآيَةِ، وَالْعَدَدُ لَا مَفْهُومَ لَهُ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَاوِيَةً أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِالْبَرَكَةِ مَنْفَعَةً تَلْحَقُهُ بِهَذِهِ الدَّارِ فِي مَالِهِ أَوْ عَمَلِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَتَفْصِيلُهَا مُفَوَّضٌ إلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَالثَّانِي هُوَ الظَّاهِرُ.
[قَوْلُهُ: مَا يَسْتَحِيلُ] الْإِضَافَةُ لِلْبَيَانِ أَيْ قِسْمٌ هُوَ مَا يَسْتَحِيلُ.
أَيْ ثُمَّ طَفِقَ يَتَكَلَّمُ عَلَى مَا يَجِبُ لَهُ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا مَا سَيَأْتِي مِنْ الْأَسْمَاءِ.
[قَوْلُهُ: أَنَّ مِنْ أَسْمَائِهِ] أَرَادَ بِهَا مَا يَشْمَلُ الْأَوْصَافَ أَعْنِي الْمُشْتَقَّاتِ الدَّالَّةَ عَلَى ذَاتٍ مُتَّصِفَةٍ بِمَعْنًى.
[قَوْلُهُ: أَنَّهُ عَلَى صِفَةٍ] أَيْ ذُو صِفَةٍ وَنُكْتَةُ هَذَا التَّعْبِيرِ الْإِشَارَةُ إلَى تَمَكُّنِ الْمَوْلَى مِنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ، فَيَكُونُ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى قُوَّةِ الرَّدِّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ عَالِمٌ بِذَاتِهِ.
[قَوْلُهُ: يَنْكَشِفُ بِهَا الْمَعْلُومَاتُ] فِيهِ أَمْرَانِ: الْأَوَّلُ مِنْ حَيْثُ تَعْبِيرُهُ بِالِانْكِشَافِ الْمُوجِبِ لِسَبْقِ الْخَفَاءِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ أَقْسَامِ الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ، مِنْ حَيْثُ كَوْنُهَا مَعْلُومَةً لِلذَّاتِ الْعَلِيَّةِ بِذَلِكَ الْعِلْمِ، الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: الْمَعْلُومَاتُ فِيهِ مَجَازُ الْأَوَّلِ، أَيْ الَّتِي تَصِيرُ مَعْلُومَةً؛ لِأَنَّهَا لَا تَصِيرُ مَعْلُومَةً إلَّا بَعْدَ الْكَشْفِ فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: الْمَوْجُودَاتُ] أَيْ وَاجِبَةٌ أَوْ حَادِثَةٌ وَيَدْخُلُ فِي الْمَوْجُودَاتِ الْوَاجِبَةِ عِلْمُهُ فَيَعْلَمُ بِعِلْمِهِ أَنَّ لَهُ عِلْمًا وَقَوْله: الْمَعْلُومَاتُ أَيْ مُمْكِنَةٌ أَوْ مُسْتَحِيلَةٌ وَلِلْعِلْمِ تَعَلُّقٌ تَنْجِيزِيٌّ وَلَا يَصِحُّ فِيهِ الصُّلُوحِيُّ؛ لِأَنَّ الصَّالِحَ لِلتَّعَلُّقِ بِالْفِعْلِ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِالْفِعْلِ، فَيُوهِمُ سَبْقَ الْجَهْلِ.
[قَوْلُهُ: الْمَشَاهِدِ لَهُ] تَوْضِيحٌ لِقَوْلِهِ الْمُطَّلِعِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْخَبِيرُ أَخَصَّ مِنْ الْعَالِمِ فَكُلُّ خَبِيرٍ عَالِمٌ وَلَا عَكْسَ كَالْوَاحِدِ مِنَّا يَرَى مَكَّةَ فَهُوَ عَالِمٌ بِهَا وَخَبِيرٌ، أَيْ فِي وَقْتِ الرُّؤْيَةِ وَإِذَا تَبَاعَدَ عَنْهَا أَوْ جَاءَهُ الْخَبَرُ الْمُتَوَاتِرُ بِوُجُودِهَا وَلَمْ يَرَهَا فَهُوَ عَالِمٌ وَلَيْسَ بِخَبِيرٍ.
[قَوْلُهُ: لِمَا غَابَ] أَيْ عَنَّا أَيْ مَعْشَرَ الْآدَمِيِّينَ كَاَلَّذِي تَحْتَ الْأَرْضِينَ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ مَعْشَرَ الْمَخْلُوقِينَ، مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ.
[قَوْلُهُ: وَلَمَّا حَضَرَ] أَيْ لَنَا وَهُوَ مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِمَّا اطَّلَعَ عَلَيْهِ بَنُو آدَمَ، أَوْ مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ الْمَخْلُوقَاتُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: مُطَّلِعٌ] هُوَ بِمَعْنَى، مُشَاهِدٌ وَقَوْلُهُ: مَا ظَهَرَ هُوَ عَيْنُ مَا حَضَرَ، وَقَوْلُهُ: وَاسْتَتَرَ هُوَ عَيْنُ مَا غَابَ فَقَدْ تَفَنَّنَ فِي التَّعْبِيرِ وَكَذَا مَا بَعْدَهُ.
[قَوْلُهُ: وَاسْتَتَرَ] عِبَارَةٌ عَمَّا غَابَ، [قَوْلُهُ: قَالَ تَعَالَى {يُدَبِّرُ} [السجدة: 5] إلَخْ] أَتَى بِهِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ مِنْهَا الْمُدَبِّرَ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ لَا يَكْفِي فِي صِحَّةِ الْإِطْلَاقِ وُرُودُ الْفِعْلِ وَلَا الْمَصْدَرِ، نَعَمْ لَا اعْتِرَاضَ عَلَى الْمُصَنِّفِ؛ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ اسْمُ الْمُدَبِّرُ كَمَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.
[قَوْلُهُ: وَأَصْلُ التَّدْبِيرِ] أَيْ الْمَعْنَى الْمَعْنَوِيِّ اللُّغَوِيِّ لَهُ كَمَا يُفِيدُهُ الْقَامُوسُ، [قَوْلُهُ: فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ] مِنْ مُقَابَلَةِ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ، فَتَقْتَضِي الْقِسْمَةَ عَلَى الْآحَادِ، أَيْ فِي عَاقِبَةِ الْأَمْرِ.
[قَوْلُهُ: عَلَى الْوَجْهِ الْأَصْلَحِ] أَيْ لَا عَلَى وَجْهِ الصَّلَاحِ، إذْ الْأَصْلَحُ مُقَابِلُ الصَّلَاحِ، أَيْ أَوْ لِتُوقَعَ عَلَى الْوَجْهِ الصَّالِحِ، لَا عَلَى الْوَجْهِ الْفَاسِدِ فَفِي الْعِبَارَةِ قُصُورٌ.
[قَوْلُهُ: هَذَا فِي صِفَاتِ الْبَشَرِ] الْمُنَاسِبُ حَذْفُ صِفَاتٍ، وَيَقُولُ هَذَا فِي حَقِّ الْبَشَرِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إذَا أُضِيفَ لِلْجِنِّ أَوْ
فَمَعْنَاهُ إبْرَامُ الْأَمْرِ وَتَنْفِيذُهُ وَقَضَاؤُهُ وَمِنْهَا. (الْقَدِيرُ) مُبَالَغَةً فِي الْقُدْرَةِ؛ لِأَنَّ قُدْرَتَهُ تَعَالَى مُتَعَلِّقَةٌ بِجَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ وَمِنْهَا (السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) وَرَدَ بِهِمَا الْخَبَرُ وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِمَا فَهُوَ سبحانه وتعالى سَامِعٌ لِكَلَامِهِ الْأَزَلِيِّ وَلِكَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ عِنْدَ وُجُودِهِمْ وَمِنْهَا (الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) قَالَ تَعَالَى {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر: 12] لَيْسَ عُلُوُّهُ سُبْحَانَهُ عُلُوَّ جِهَةٍ وَلَا اخْتِصَاصٍ بِبُقْعَةٍ، وَلَا كَبِيرَ بِعِظَمِ جُثَّةٍ وَكِبَرِ بِنْيَةٍ، بَلْ الْعَلِيُّ وَصْفُهُ وَهُوَ اسْتِحْقَاقُهُ لِنُعُوتِ
ــ
[حاشية العدوي]
الْمَلَكِ يَكُونُ كَذَلِكَ.
[قَوْلُهُ: وَتَنْفِيذُهُ] عَطْفُ تَفْسِيرٍ وَقَوْلُهُ: وَقَضَاؤُهُ مُرَادِفٌ لِمَا قَبْلَهُ، فَيَكُونُ حَاصِلُهُ أَنَّ التَّدْبِيرَ تَعَلُّقُ الْقُدْرَةِ بِتَمَامِ الْأَمْرِ وَحُصُولِهِ وَالْقَضَاءُ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِتَفْسِيرِهِ، أَيْ الْقَضَاءُ عِنْدَ الْأَشْعَرِيَّةِ مِنْ أَنَّهُ صِفَةُ ذَاتٍ وَهِيَ إرَادَةُ اللَّهِ الْمُتَعَلِّقَةِ أَزَلًا، وَقِيلَ هُوَ عِلْمُ اللَّهِ الْمُتَعَلِّقُ أَزَلًا، وَلِلْإِرَادَةِ ثَلَاثُ تَعَلُّقَاتٍ عَلَى مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْخِلَافِ: صُلُوحِيٌّ قَدِيمٌ، وَتَنْجِيزِيٌّ قَدِيمٌ وَتَنْجِيزِيٌّ حَادِثٌ، فَإِيمَانُ الْمُؤْمِنِ تَعَلَّقَتْ بِهِ الْإِرَادَةُ التَّعَلُّقَاتِ الثَّلَاثِ وَكُفْرُهُ تَعَلَّقَتْ بِهِ الصُّلُوحِيُّ دُونَ مَا عَدَاهُ مِنْ التَّنْجِيزِيِّينَ.
[قَوْلُهُ: مُبَالَغَةً فِي الْقُدْرَةِ] أَيْ مِنْ حَيْثُ مُتَعَلِّقُهَا لَا مِنْ حَيْثُ ذَاتُهَا، وَالظَّاهِرُ أَنْ يَقُولَ مُبَالَغَةً فِي قَادِرٍ، أَيْ أَنَّ قَدِيرَ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِنْ حَيْثُ كَثْرَةُ مُتَعَلِّقَاتِ قُدْرَتِهِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدُ؛ لِأَنَّ قُدْرَتُهُ إلَخْ، وَهُوَ عِلَّةٌ لِمَحْذُوفٍ، أَيْ إنَّمَا وُصِفَ اللَّهُ بِالْقَدِيرِ الَّذِي هُوَ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ إلَخْ؛ لِأَنَّ قُدْرَتَهُ إلَخْ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مَعْنَى قَدِيرٍ ذَاتٌ ثَبَتَ لَهَا قُدْرَةٌ كَثِيرَةُ الْمُتَعَلِّقَاتِ، وَلَا نَقُولُ إنَّ الْمُبَالَغَةَ عِبَارَةٌ عَنْ أَنَّك تُثْبِتُ لِلشَّيْءِ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ مُسْتَحِقَّهُ، وَهَذَا مُحَالٌ فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ نَعْنِي بِالْمُبَالَغَةِ النَّحْوِيَّةِ وَهِيَ إفَادَةُ اللَّفْظِ أَكْثَرَ مِمَّا يُفِيدُهُ غَيْرُهُ لَا الْمُبَالَغَةِ الْبَيَانِيَّةِ، وَقُدْرَتُهُ صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ يَتَأَتَّى بِهَا إيجَادُ كُلِّ مُمْكِنٍ وَإِعْدَامُهُ.
[قَوْلُهُ: مُتَعَلِّقَةٌ] أَيْ تَعَلُّقًا صُلُوحِيًّا قَدِيمًا وَلَهَا تَعَلُّقٌ تَنْجِيزِيٌّ حَادِثٌ وَهُوَ تَعَلُّقُهَا بِوُجُودِ الْمَقْدُورِ وَقْتَ وُجُودِهِ، وَلَا تَتَعَلَّقُ بِالْوَاجِبِ؛ لِأَنَّهَا إنْ تَعَلَّقَتْ بِوُجُودِهِ لَزِمَ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِعَدَمِهِ لَزِمَ قَلْبُ الْحَقِيقَةِ، وَلَا بِالْمُسْتَحِيلِ؛ لِأَنَّهَا إنْ تَعَلَّقَتْ بِوُجُودِهِ لَزِمَ قَلْبُ الْحَقِيقَةِ، وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِعَدَمِهِ لَزِمَ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ.
[قَوْلُهُ: وَرَدَ بِهِمَا] الْمُنَاسِبُ أَنْ يَقُولَ: وَرَدَ بِهِمَا الْقُرْآنُ وَالْخَبَرُ قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ الْقُرْآنَ لِظُهُورِهِ.
[قَوْلُهُ: وَلِكَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ] أَيْ وَلِلَفْظِ الْمَخْلُوقِينَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَلَامًا بَلْ كَانَ كَلِمَةً، وَقَوْلُهُ: عِنْدَ وُجُودِهِمْ الْمُنَاسِبِ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ نُطْقِهِمْ؛ لِأَنَّ الْوُجُودَ لَا يَسْتَلْزِمُ كَلَامًا، وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِ أَنَّ سَمْعَهُ عز وجل إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْكَلَامِ مُطْلَقًا حَادِثًا أَوْ قَدِيمًا، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِهِ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ بَعْضٍ، وَالْحَقُّ خِلَافُهُ وَأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ مَوْجُودٍ، أَيْ فَسَمْعُهُ صِفَةٌ يَنْكَشِفُ بِهَا الْمَوْجُودُ عَلَى وَجْهٍ يَعْلَمُهُ كَانَ ذَلِكَ الْمَوْجُودُ قَدِيمًا أَوْ حَادِثًا، كَانَ شَأْنُهُ أَنْ يَسْمَعَ لَنَا أَوَّلًا فَذَاتُهُ وَصِفَاتُهُ وَكَذَا ذَوَاتُنَا وَصِفَاتُنَا مَسْمُوعَةٌ لَهُ بِسَمْعِهِ عَلَى وَجْهٍ يَعْلَمُهُ هُوَ وَلَهُ تَعَلُّقٌ وَتَنْجِيزِيٌّ قَدِيمٌ، وَهُوَ تَعَلُّقُهُ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ أَزَلًا، وَصُلُوحِيٌّ قَدِيمٌ وَهُوَ تَعَلُّقُهُ بِذَوَاتِنَا وَصِفَاتِنَا أَزَلًا، وَتَنْجِيزِيٌّ حَادِثٌ وَهُوَ تَعَلُّقُهُ بِذَوَاتِنَا وَصِفَاتِنَا عِنْدَ وُجُودِنَا، وَكَذَا بَصَرُهُ صِفَةٌ تَتَعَلَّقُ بِكُلِّ مَوْجُودٍ عَلَى وَجْهِ الِاتِّضَاحِ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَصْوَاتِ أَوْ غَيْرِهَا، وَخُلَاصَتُهُ أَنَّ كُلًّا مِنْ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ، إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَوْجُودَاتِ، وَلِكُلٍّ مِنْ التَّعَلُّقَيْنِ حَقِيقَةٌ تَخُصُّهُ يَعْلَمُهَا هُوَ، وَالْبَصَرُ مِثْلُ السَّمْعِ فِي التَّعَلُّقَاتِ الثَّلَاثِ.
[قَوْلُهُ: عُلُوَّ جِهَةٍ] أَيْ لَيْسَ عُلُوُّهُ عُلُوًّا مُلْتَبِسًا بِجِهَةٍ أَيْ بِأَنْ يَكُونَ لِجِهَةِ الْفَوْقِ، [قَوْلُهُ: وَلَا اخْتِصَاصَ بِبُقْعَةٍ] الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ وَلَا اخْتِصَاصًا بِبُقْعَةٍ بِالتَّنْوِينِ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ عُلُوَّ جِهَةٍ، أَيْ لَيْسَ عُلُوُّهُ مُخْتَصًّا بِبُقْعَةٍ بِأَنْ يَكُونَ فَوْقَ الْعَرْشِ مَثَلًا، وَهَذَا الْمَعْطُوفُ أَخَصُّ مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ.
[قَوْلُهُ: وَلَا كَبِيرَ إلَخْ] الْمُنَاسِبُ أَنْ يَقُولَ وَلَيْسَ كِبَرُهُ بِعِظَمِ جُثَّةٍ [قَوْلُهُ: كِبَرَ بِنْيَةٍ] مُرَادِفٌ لِمَا قَبْلَهُ، وَفِي نُسْخَةٍ وَكَثْرَةَ بِنْيَةٍ، أَيْ وَكَثْرَةَ أَجْزَاءٍ، فِي الْقَامُوسِ الْبُنْيَةُ بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ مَا بَنَيْته تَأَمَّلْ.
[قَوْلُهُ: بَلْ الْعَلِيُّ وَصْفُهُ] الْمُنَاسِبُ أَنْ يَقُولَ بَلْ الْعُلُوُّ، أَيْ الْمَأْخُوذُ مِنْ عَلَا وَصْفُهُ أَيْ صِفَتِهِ، [قَوْلُهُ: لِنُعُوتِ الْجَلَالِ] أَيْ أَوْصَافِ الْجَلَالِ، كَالْعَظِيمِ وَالْقَهَّارِ وَالْقَوِيِّ مِنْ كُلِّ وَصْفٍ، يَدُلُّ عَلَى السَّطْوَةِ
الْجَلَالِ، وَالْكِبْرِيَاءُ نَعْتُهُ وَهُوَ اسْتِحْقَاقُهُ لِصِفَاتِ الْجَمَالِ.
(وَ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ (أَنَّهُ) تَعَالَى (فَوْقَ عَرْشِهِ الْمَجِيدِ بِذَاتِهِ) أُخِذَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ بِذَاتِهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ لَمْ يَرِدْ بِهَا السَّمْعُ، وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي دَفْعِ الْإِشْكَالِ أَنَّ الْكَلَامَ يَتَّضِحُ بِبَيَانِ مَعْنَى الْفَوْقِيَّةِ وَالْعَرْشِ وَالْمَجِيدِ وَالذَّاتِ، فَالْفَوْقِيَّةُ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ الشَّيْءِ أَعْلَى مِنْ غَيْرِهِ وَهِيَ حَقِيقَةٌ فِي الْأَجْرَامِ كَقَوْلِنَا: زَيْدٌ فَوْقَ السَّطْحِ مَجَازٌ فِي الْمَعَانِي كَقَوْلِنَا: السَّيِّدُ فَوْقَ عَبْدِهِ، وَفَوْقِيَّةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عَرْشِهِ فَوْقِيَّةٌ مَعْنَوِيَّةٌ بِمَعْنَى الشَّرَفِ وَهِيَ بِمَعْنَى الْحُكْمِ وَالْمُلْكِ، فَتَرْجِعُ إلَى مَعْنَى الْقَهْرِ وَالْعَرْشُ اسْمٌ لِكُلِّ مَا عَلَا، وَالْمُرَادُ بِهِ
ــ
[حاشية العدوي]
وَالْقَهْرِ وَقَوْلُهُ: وَالْكِبْرِيَاءُ الْأَوْلَى، أَنْ يَقُولَ وَالْكِبَرُ الْمَأْخُوذُ مِنْ كَبِيرٍ، وَقَوْلُهُ: نَعْتُهُ أَيْ وَصْفُهُ.
[قَوْلُهُ: لِصِفَاتِ الْجَمَالِ] مِنْ حَلِيمٍ وَغَفَّارٍ مِنْ كُلِّ وَصْفٍ، يَدُلُّ عَلَى الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ وَاعْتُرِضَ عج عَلَى الشَّارِحِ، فَقَالَ: وَفِيهِ نَظَرٌ، بَلْ كُلٌّ مِنْ الْعَلِيِّ وَالْكَبِيرِ مِنْ صِفَاتِ الْجَلَالِ.
قَالَهُ الشَّاذِلِيُّ: فِي شَرْحِ الْعَقِيدَةِ اهـ.
[قَوْلُهُ: أُخِذَ عَلَيْهِ] أَيْ اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ بِذَاتِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَوْقَ عَرْشِهِ الْمَجِيدِ فَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِ فِيهِ أَيْ؛ لِأَنَّهُ وَرَدَ الشَّرْعُ بِإِطْلَاقِ الْفَوْقِيَّةِ كَقَوْلِهِ: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، فَالْمُرَادُ إطْلَاقُ الْفَوْقِيَّةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ، لَا بِخُصُوصِ الْإِضَافَةِ لِلْعَرْشِ، فَيَجُوزُ قَوْلُ الْقَائِلِ فَوْقَ سَمَائِهِ أَوْ فَوْقَ عَرْشِهِ، وَيُحْمَلُ عَلَى فَوْقِيَّةِ الشَّرَفِ وَالْجَلَالِ وَالسَّلْطَنَةِ، فَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُجَاهِدٍ، مِمَّا أَجْمَعُوا عَلَى إطْلَاقِهِ أَنَّهُ تَعَالَى فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ دُونَ أَرْضِهِ إطْلَاقًا شَرْعِيًّا، وَلَمْ يَرِدْ فِي الشَّرْعِ أَنَّهُ فِي الْأَرْضِ فَلِذَلِكَ قَالَ دُونَ أَرْضِهِ.
[قَوْلُهُ: وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ إلَخْ] لَا يَخْفَى أَنَّ أَحْسَنَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ أَنَّ الْكَلَامَ إلَخْ، وَهَذَا الْحَمْلُ لَا يَصِحُّ فَالْمُنَاسِبُ أَنْ يَقُولَ، وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي دَفْعِ الْإِشْكَالِ أَنَّ مَعْنَى الْفَوْقِيَّةِ كَذَا إلَخْ. [قَوْلُهُ: فَالْفَوْقِيَّةُ] نِسْبَةٌ لِلْفَوْقِ أَيْ الشَّامِلَةُ لِلْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ.
[قَوْلُهُ: كَوْنُ الشَّيْءِ أَعْلَى] أَيْ حِسِّيًّا كَانَ ذَلِكَ الْعُلُوُّ أَوْ مَعْنَوِيًّا فَمَا بَعْدَهُ تَفْصِيلٌ لَهُ.
[قَوْلُهُ: أَعْلَى مِنْ غَيْرِهِ] كَانَ مُتَّصِلًا بِهِ أَوْ مُنْفَصِلًا عَنْهُ، [قَوْلُهُ: فِي الْأَجْرَامِ] أَيْ فِي كَوْنِ جِرْمٍ أَعْلَى مِنْ جِرْمٍ عُلُوًّا حِسِّيًّا، [قَوْلُهُ: فِي الْمَعَانِي] أَيْ فِي كَوْنِ شَيْءٍ أَعْلَى مِنْ غَيْرِهِ عُلُوًّا مَعْنَوِيًّا [قَوْلُهُ: كَقَوْلِنَا السَّيِّدُ فَوْقَ عَبْدِهِ إلَخْ] لَا يَخْفَى أَنَّهُ مَجَازُ اسْتِعَارَةٍ وَتَقْرِيرُهَا أَنْ تَقُولَ: شَبَّهَ كَوْنَ الشَّيْءِ أَشْرَفَ مِنْ غَيْرِهِ، بِكَوْنِ جِرْمٍ أَعْلَى مِنْ جِرْمٍ الَّذِي هُوَ عُلُوٌّ حِسِّيٌّ وَاسْتُعِيرَ اسْمُ الْمُشَبَّهِ بِهِ الَّذِي هُوَ الْفَوْقِيَّةُ لِلْمُشَبَّهِ، وَإِنْ شِئْت جَعَلْت فِيهَا اسْتِعَارَةً تَمْثِيلِيَّةً بِأَنْ تَقُولَ، شُبِّهَتْ حَالُ السَّيِّدِ مَعَ عَبْدِهِ مِنْ حَيْثُ التَّمَكُّنُ بِحَالَةِ مُسْتَعْلٍ عَلَى سَطْحٍ مَثَلًا مِنْ تِلْكَ الْحَيْثِيَّةِ وَاسْتُعِيرَ اسْمُ الْمُشَبَّهِ بِهِ لِلْمُشَبَّهِ، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ مِنْهُ إلَّا لَفْظَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ الْفَوْقِيَّةُ، لَكِنْ أَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ لَفْظَ الْفَوْقِيَّةِ لَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا فِي التَّرْكِيبِ.
وَإِنَّمَا الْمَذْكُورُ لَفْظُ فَوْقَ، قَالَ عَجَّ: بَعْدَمَا فِي الشَّارِحِ وَقَدْ يُقَالُ: الْفَوْقِيَّةُ حَقِيقَةٌ فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْفَوْقِيَّةِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، وَهُوَ مُجَرَّدُ الْعُلُوِّ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ الْمَكَانِ وَغَيْرِهِ، دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ وَالْمَجَازِ اهـ.
[قَوْلُهُ: وَهِيَ بِمَعْنَى الْحُكْمِ] الْمُنَاسِبِ وَهُوَ أَيْ الشَّرَفُ بِمَعْنَى الْحُكْمِ أَيْ بِمَعْنَى هُوَ الْحُكْمُ، وَلَمَّا كَانَ تَفْسِيرُ الشَّرَفِ بِهِ فِيهِ خَفَاءٌ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: بِمَعْنَى الْحُكْمِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ بِمَعْنَى أَوْ تَفْسِيرٌ ثَانٍ، وَالتَّقْدِيرُ أَوْ هِيَ بِمَعْنَى الْحُكْمِ.
[قَوْلُهُ: وَالْمُلْكِ] الْأَحْسَنُ أَنْ يُقَدِّمَ الْمُلْكَ عَلَى الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَتَفَرَّعُ عَلَى الْمُلْكِ أَيْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَالِكٌ لِلْعَرْشِ وَحَاكِمٌ فِيهِ.
[قَوْلُهُ: فَتَرْجِعُ إلَخْ] أَيْ وَإِذَا فَسَّرْت الْفَوْقِيَّةَ بِهَذَا التَّفْسِيرِ فَتَرْجِعُ إلَى مَعْنَى الْقَهْرِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ مِنْ رُجُوعِ الشَّيْءِ إلَى لَازِمِهِ، أَيْ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ الْمُلْكِ وَالْحُكْمِ الْقَهْرُ، وَإِضَافَةُ مَعْنًى إلَى الْقَهْرِ إضَافَةٌ لِلْبَيَانِ، وَكَأَنَّ الْمَقْصُودَ الِالْتِفَاتُ فِي الْإِخْبَارِ إلَى ذَلِكَ اللَّازِمِ، فَلِذَلِكَ نَظَرَ إلَيْهِ فَقَالَ: فَتَرْجِعُ إلَخْ، ثُمَّ إنَّ التَّعْبِيرَ بِالْقَهْرِ يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْعَرْشَ ذُو إدْرَاكٍ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي يَتَّصِفُ بِكَوْنِهِ مَقْهُورًا، وَلَا يُقَالُ: إنَّهُ مَجَازٌ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: يَرْجِعُ إلَى الْمَعْنَى الْمُتَقَدِّمِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي الِالْتِفَاتِ الْمَذْكُورِ فَتَدَبَّرْ الْمَقَامَ.
[قَوْلُهُ: وَالْعَرْشُ اسْمٌ لِكُلِّ مَا عَلَا] أَيْ لُغَةً وَالْمُنَاسِبُ، أَنْ يَقُولَ وَالْعَرْشُ مَا عَلَا وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ بِقَوْلِهِ اسْمٌ يُفِيدُ أَنَّ الْمُرَادَ لَفْظُ الْعَرْشِ، وَهُوَ لَيْسَ
هُنَا مَخْلُوقٌ عَظِيمٌ وَهُوَ مِنْ جَوْهَرَةٍ خَضْرَاءَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَهُوَ أَوَّلُ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى الْأَصَحِّ لَهُ أَلْفُ أَلْفُ رَأْسٍ فِي كُلِّ رَأْسٍ أَلْفُ أَلْفِ وَجْهٍ وَسِتُّمِائَةِ أَلْفِ وَجْهٍ، وَالْوَجْهُ الْوَاحِدُ كَطِبَاقِ الدُّنْيَا أَلْفُ أَلْفِ مَرَّةٍ وَسِتُّمِائَةِ أَلْفِ مَرَّةٍ، فِي الْوَجْهِ الْوَاحِدِ أَلْفُ أَلْفِ لِسَانٍ وَسِتُّمِائَةِ أَلْفِ لِسَانٍ كُلُّ لِسَانٍ يُسَبِّحُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَلْفِ أَلْفِ لُغَةٍ، يَخْلُقُ اللَّهُ تَعَالَى بِكُلِّ لُغَةٍ مِنْ لُغَاتِهِ خَلْقًا فِي مَلَكُوتِهِ يُسَبِّحُونَهُ وَيُقَدِّسُونَهُ بِتِلْكَ اللُّغَاتِ، دَلَّ عَلَى وُجُودِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ، وَالْمَجِيدُ، يُقَالُ بِالْخَفْضِ صِفَةٌ لِلْعَرْشِ وَبِالرَّفْعِ خَبَرُ مُبْتَدَإٍ مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ وَهُوَ الْمَجِيدُ، أَيْ الْعَظِيمُ فِي ذَاتِهِ، وَذَاتُ الشَّيْءِ حَقِيقَتُهُ، وَالضَّمِيرُ فِي بِذَاتِهِ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْعَرْشِ عَلَى أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ بِمَعْنَى فِي كَقَوْلِك: أَقَمْت بِمَكَّةَ أَيْ فِيهَا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: الْعَرْشُ الْمَجِيدُ أَيْ الْعَظِيمُ فِي ذَاتِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْفَوْقِيَّةَ الْمَعْنَوِيَّةَ لَهُ تَعَالَى بِالذَّاتِ لَا بِالْغَيْرِ مِنْ كَثْرَةِ أَمْوَالٍ وَفَخَامَةِ أَجْنَادٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
(وَ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ (هُوَ) أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى (فِي كُلِّ مَكَانٍ بِعِلْمِهِ) أُخِذَ عَلَيْهِ أَيْضًا فِي اسْتِعْمَالِ هَذَا اللَّفْظِ مِنْ وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ الْجِهَةُ وَهُوَ سبحانه وتعالى مُنَزَّهٌ عَنْ الْمَكَانِ، وَالْآخَرُ أَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ عِلْمَهُ مُتَجَزِّئٌ مُفَارِقٌ لِذَاتِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ
ــ
[حاشية العدوي]
بِمَقْصُودٍ.
[قَوْلُهُ: وَالْمُرَادُ بِهِ] الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ اسْمٌ أَنْ يَقُولَ وَالْمُرَادُ مِنْهُ، أَيْ مِنْ ذَلِكَ الِاسْمِ الَّذِي هُوَ اللَّفْظُ، إذْ مَا قَالَهُ إنَّمَا يُنَاسِبُ مَا قُلْنَاهُ سَابِقًا مِنْ أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ: وَالْعَرْشُ مَا عَلَا وَيَجِبُ بِأَنَّ الْبَاءَ بِمَعْنَى مِنْ [قَوْلُهُ: مِنْ جَوْهَرَةٍ خَضْرَاءَ] اعْتَمَدَ بَعْضُهُمْ خِلَافَهُ، وَهُوَ أَنْ لَا قَطْعَ لَنَا بِحَقِيقَتِهِ، ثُمَّ تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مَنْ ابْتِدَائِيَّةً، أَيْ نَاشِئًا مِنْ جَوْهَرَةٍ أَيْ فَكَانَ أَوَّلًا جَوْهَرَةً خَضْرَاءَ، ثُمَّ صَوَّرَهُ الْمَوْلَى عز وجل عَرْشًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلْبَيَانِ أَيْ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ جَوْهَرَةً خَضْرَاءَ.
[قَوْلُهُ: فَوْقَ السَّمَوَاتِ] أَيْ وَفَوْقَ الْكُرْسِيِّ مُلْتَصِقٌ بِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُهُمْ، [قَوْلُهُ: وَهُوَ أَوَّلُ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى الْأَصَحِّ] ضَعِيفٌ بَلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ، أَنَّ أَوَّلَهَا نُورُهُ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ الْمَاءُ ثُمَّ الْعَرْشُ ثُمَّ الْقَلَمُ.
[قَوْلُهُ: كَطِبَاقٍ إلَخْ] طِبَاقٌ يَأْتِي مَصْدَرًا وَجَمْعًا لِطَبَقٍ الَّذِي هُوَ مِنْ أَمْتِعَةِ الْبَيْتِ، كَجَبَلٍ وَجِبَالٍ، وَطَبَقَةٌ أَيْ الَّتِي هِيَ الْمَوْضِعُ الْمَعْرُوفُ كَرَحَبَةٍ وَرِحَابٍ، وَالدُّنْيَا مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، عَلَى مَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ الْمَعْنَى الْأَخِيرَ، وَهُوَ جَمْعُ طَبَقَةٍ وَلَا يَخْفَى أَنَّهَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ طَبَقَةٌ وَاحِدَةٌ، فَلَعَلَّ جَعْلَهَا طِبَاقًا مَجَازٌ؛ لِأَنَّهَا مَا كَانَتْ مُتَّسِعَةً كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الطِّبَاقِ أَوْ جَعَلَهَا طِبَاقًا بِاعْتِبَارِ أَرْكَانِهَا وَلَمْ أَطَّلِعْ عَلَى نَصٍّ فِي ذَلِكَ إنَّمَا ذَلِكَ ظَهَرَ لِي.
[قَوْلُهُ: بِأَلْفِ أَلْفِ لُغَةٍ] أَيْ لَفْظَةٍ مُغَايِرَةٍ لِأُخْتِهَا دَالَّةٍ عَلَى التَّنْزِيهِ، [قَوْلُهُ: بِكُلِّ لُغَةٍ مِنْ لُغَاتِهِ] أَيْ بِسَبَبِ كُلِّ لُغَةٍ أَوْ أَنَّ الْبَاءَ، بِمَعْنَى مِنْ أَيْ خَلْقًا نَاشِئًا مِنْ كُلِّ لُغَةٍ.
[قَوْلُهُ: فِي مَلَكُوتِهِ] وَهُوَ مَا كَانَ غَيْرَ ظَاهِرٍ لَنَا كَمَا فِي بَاطِنِ السَّمَوَاتِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَخْلُوقُونَ مَلَائِكَةً.
[قَوْلُهُ: وَيُقَدِّسُونَهُ] مُرَادِفٌ لِلَّذِي قَبْلَهُ، وَالْمَقْصُودُ يُنَزِّهُونَهُ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، [قَوْلُهُ: الْكِتَابُ] قَالَ تَعَالَى {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج: 15][قَوْلُهُ: وَالسُّنَّةُ] قَالَ صلى الله عليه وسلم «قَدَّرَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلْقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفِ سَنَةٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ» .
[قَوْلُهُ: أَيْ الْعَظِيمِ فِي ذَاتِهِ] أَيْ أَنَّ ذَاتَهُ عَظِيمَةٌ، مِنْ حَيْثُ إنَّهَا جُعِلَتْ ظَرْفًا لِلْعِظَمِ أَيْ مَوْصُوفَةً بِهِ [قَوْلُهُ: أَنَّ هَذِهِ الْفَوْقِيَّةَ الْمَعْنَوِيَّةَ بِالذَّاتِ] أَيْ بِسَبَبِ الذَّاتِ.
[قَوْلُهُ: وَفَخَامَةِ أَجْنَادٍ] أَيْ وَعِظَمِ أَجْنَادٍ، كَمًّا أَوْ كَيْفًا وَأَجْنَادُ جَمْعُ جُنْدٍ، وَالْجُنْدُ الْأَنْصَارُ وَالْأَعْوَانُ وَكَذَا يُجْمَعُ عَلَى جُنُودٍ، فَلَهُ جَمْعَانِ وَوَاحِدُ جُنْدٍ جُنْدِيٌّ، فَأَجْنَادٌ فِي مَعْنَى جَمْعِ الْجَمْعِ لَهُ، كَمَا أَفَادَ ذَلِكَ الْمِصْبَاحُ.
[قَوْلُهُ: وَغَيْرِ ذَلِكَ] أَيْ مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ كَالسَّيْفِ وَالرُّمْحِ وَنَحْوِهِمَا، [قَوْلُهُ: أَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ الْجِهَةُ] الْمُنَاسِبُ: أَنْ يَقُولَ الْمَكَانُ الَّذِي قَدْ صَرَّحَ بِهِ، بِقَوْلِهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ الْمَكَانِ.
[قَوْلُهُ: مُتَجَزِّئٌ] أَيْ ذُو أَجْزَاءٍ مُفَارِقٌ لِذَاتِهِ أَيْ أَنَّهُ يُفِيدُ مَعْنَيَيْنِ غَيْرَ لَائِقِينَ: التَّجْزِئَةُ وَالْمُفَارَقَةُ، هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ وَفِيهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إذْ غَايَةُ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ حَالٌّ فِي أَمْكِنَةٍ
صِفَةٌ قَدِيمَةٌ لَا تُفَارِقُ الذَّاتَ، أُجِيبُ: بِأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ عِلْمَهُ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ فِي أَمَاكِنِهَا وَأَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ قَوْله تَعَالَى {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] . الْآيَةَ أَيْ عِلْمُهُ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ الْأَمْكِنَةِ.
(وَ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى (خَلَقَ الْإِنْسَانَ) أَيْ أَوْجَدَ جِنْسَهُ الصَّادِقَ بِالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى (وَ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّهُ تَعَالَى (يَعْلَمُ مَا) أَيْ الَّذِي (تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) أَيْ الْإِنْسَانُ وَوَسْوَسَةُ نَفْسِهِ مَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ، وَنِسْبَةُ الْوَسْوَسَةِ لِلنَّفْسِ مَجَازٌ كَنِسْبَةِ الْإِنْسَاءِ لِلشَّيْطَانِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ} [الكهف: 63] إذْ لَا قُدْرَةَ لِلشَّيْطَانِ عَلَى إيجَادِ شَيْءٍ وَلَا إعْدَامِهِ (وَهُوَ) سبحانه وتعالى (أَقْرَبُ إلَيْهِ) أَيْ إلَى الْإِنْسَانِ (مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) الْمُرَادُ بِالْقُرْبِ هُنَا قُرْبُ
ــ
[حاشية العدوي]
مُتَعَدِّدَةٍ مُلَابِسٌ لِعِلْمِهِ، نَعَمْ يُفْهَمُ مِنْهُ تَعَدُّدُ ذَاتِهِ وَعِلْمِهِ وَهُوَ أَمْرٌ آخَرُ غَيْرُ التَّجْزِئَةِ وَالْمُفَارَقَةِ [قَوْلُهُ: أَنَّ عِلْمَهُ مُحِيطٌ إلَخْ] الْمُرَادُ أَنَّ عِلْمَهُ تَعَالَى مُتَعَلِّقٌ بِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ فِي مَكَانِهَا أَيْ حَالَةَ كَوْنِهَا كَائِنَةً فِي مَكَانِهَا أَيْ فَهِيَ مَكْشُوفَةٌ لَهُ غَيْرُ خَافِيَةٍ عَلَيْهِ، وَحَاصِلُ مَعْنَى الْمُصَنِّفِ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا حَلَّ فِي كُلِّ مَكَان بِعِلْمِهِ، أَيْ بِوَصْفٍ زَائِدٍ عَلَى ذَاتِهِ لَا بِذَاتِهِ كَمَا يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ.
[قَوْلُهُ: وَأَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ إلَخْ] أَيْ فَقَدْ بَيَّنَ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ أَنَّ الْمُصَاحَبَةَ الْمُسْتَفَادَةَ مِنْ قَوْلِهِ: إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ، وَمَا بَعْدَهَا مُصَاحَبَةُ عِلْمٍ لَا مُصَاحَبَةُ ذَاتٍ فَافْهَمْ.
[قَوْلُهُ: أَيْ عِلْمُهُ مُحِيطٌ إلَخْ] هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ وَقَوْلُهُ بِجَمِيعِ الْأَمْكِنَةِ أَيْ الْأَمْكِنَةِ مَعَ مَا فِيهَا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ قَبْلُ: بِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ فِي مَكَانِهَا.
[قَوْلُهُ: خَلَقَ الْإِنْسَانَ] أَيْ وَغَيْرَهُ وَإِنَّمَا خَصَّ الْإِنْسَانَ بِالذِّكْرِ لِمُنَاسَبَتِهِ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ وَيَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ.
[قَوْلُهُ: أَوْجَدَ جِنْسَهُ] أَيْ أَوْجَدَ جِنْسًا هُوَ الْإِنْسَانُ فَالْإِضَافَةُ لِلْبَيَانِ وَالْمُرَادُ أَوْجَدَ الْجِنْسَ فِي ضِمْنِ أَفْرَادِهِ مَعَ أَفْرَادِهِ، لَا الْجِنْسَ وَحْدَهُ.
[قَوْلُهُ: الصَّادِقَ بِالذَّكَرِ] الصِّدْقُ فِي الْمُفْرَدَاتِ بِمَعْنَى الْحَمْلِ، وَفِي الْجُمَلِ بِمَعْنَى التَّحَقُّقِ وَالْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ فَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِالذَّكَرِ، بِمَعْنَى عَلَى أَيْ الصَّادِقِ عَلَى الذَّكَرِ إلَخْ: أَيْ الْمَحْمُولِ وَلَوْ جَعَلَ أَلْ لِلِاسْتِغْرَاقِ لَكَانَ أَحْسَنَ فَتَأَمَّلْ.
[قَوْلُهُ: أَيْ الَّذِي إلَخْ] جُعِلَ " مَا " اسْمٌ مَوْصُولٌ وَعَلَيْهِ فَالْهَاءُ مَنْ بِهِ هِيَ الْعَائِدُ وَتُوَسْوِسُ بِمَعْنَى تُحَدِّثُ بِهِ وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ.
[قَوْلُهُ: مَا يَخْطُرُ إلَخْ] كَذَا فِي بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ، [قَوْلُهُ: بِبَالِهِ] أَيْ بِقَلْبِهِ، فَقَدْ قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ الْبَالُ الْقَلْبُ وَخَطَرَ بِبَالِي أَيْ بِقَلْبِي اهـ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْخُطُورَ فِي النَّفْسِ، فَيَكُونُ مَجَازًا أَوْ أَرَادَ بِالْقَلْبِ الرُّوحَ فَيَكُونُ حَقِيقَةً كَمَا تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: وَنِسْبَةُ إلَخْ] إشَارَةٌ إلَى أَنَّ قَوْلَهُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ فِيهِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ مِنْ إسْنَادِ الشَّيْءِ إلَى غَيْرِ مَنْ هُوَ لَهُ، ثُمَّ أَقُولُ، وَفِي عِبَارَتِهِ بَحْثٌ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ فَسَّرَ الْوَسْوَسَةَ بِمَا قَدْ عَلِمْته، فَلَيْسَتْ حَدَثًا وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ النِّسْبَةَ الَّتِي يُحْكَمُ عَلَيْهَا بِالْمَجَازِيَّةِ، إنَّمَا تُضَافُ لِلْحَدَثِ، كَأَنْ تَقُولَ فِي: بَنَى الْأَمِيرُ الْمَدِينَةَ نِسْبَةُ الْبِنَاءِ لِلْأَمِيرِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ.
فَالْمُنَاسِبُ أَنْ يَقُولَ وَنِسْبَةُ الْوِسْوَاسِ بِالْكَسْرِ لِلنَّفْسِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، فَفِي الْمِصْبَاحِ: الْوِسْوَاسُ بِالْكَسْرِ مَصْدَرٌ وَرَجُلٌ مُوَسْوِسٌ اسْمُ فَاعِلٍ؛ لِأَنَّهُ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِالْوَسْوَسَةِ اهـ.
[قَوْلُهُ: مَجَازٌ] أَيْ عَقْلِيٌّ كَمَا قَرَّرْنَا أَوَّلًا، أَيْ وَالْفَاعِلُ الْحَقِيقِيُّ هُوَ الشَّخْصُ، كَذَا فِي كَلَامِ بَعْضٍ وَالظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّهَا حَقِيقَةٌ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَتَحَدَّثُ بِذَلِكَ الْأَمْرِ الْخَفِيِّ، فَالتَّحَدُّثُ قَائِمٌ بِهَا وَنِسْبَةُ الشَّيْءِ إلَى الْقَائِمِ بِهِ حَقِيقَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ خَالِقًا لَهُ كَقَامَ زَيْدٌ.
[قَوْلُهُ: كَنِسْبَةِ الْإِنْسَاءِ لِلشَّيْطَانِ] أَيْ فَهُوَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، وَالْحَقِيقِيُّ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى:[قَوْلُهُ: وَمَا أَنْسَانِيهُ] أَيْ بِإِلْقَاءِ الْخَوَاطِرِ فِي الْقَلْبِ كَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، فَإِسْنَادُ الْإِنْسَاءِ لِلشَّيْطَانِ مِنْ بَابِ الْإِسْنَادِ إلَى السَّبَبِ؛ لِأَنَّ إلْقَاءَ الْخَوَاطِرِ فِي الْقَلْبِ يَتَسَبَّبُ عَنْهُ الْإِنْسَاءُ، أَيْ إيجَادُ اللَّهِ النِّسْيَانَ.
[قَوْلُهُ: عَلَى إيجَادٍ إلَخْ] الْمُنَاسِبُ أَنْ يَقُولَ عَلَى وُجُودِ شَيْءٍ وَعَدَمِهِ؛ لِأَنَّ الْإِيجَادَ تَعَلُّقُ الْقُدْرَةِ فَلَيْسَ مُتَعَلِّقًا لَهَا بَلْ مَا مُتَعَلِّقُهَا إلَّا الْوُجُودُ، وَكَذَا يُقَالُ: فِي الْإِعْدَامِ فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: أَقْرَبُ إلَيْهِ] أَيْ اللَّهُ سبحانه وتعالى شَارَكَ حَبْلَ الْوَرِيدِ فِي الْقُرْبِ لِلْإِنْسَانِ، إلَّا أَنَّ اللَّهَ أَشَدُّ قُرْبًا وَإِنْ اخْتَلَفَ الْقُرْبُ بِالْإِضَافَةِ فَبِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ قُرْبُ عِلْمٍ، وَبِالنِّسْبَةِ لِحَبْلِ الْوَرِيدِ قُرْبُ مَسَافَةٍ.
[قَوْلُهُ: الْمُرَادُ
عِلْمٍ لَا قُرْبُ مَسَافَةٍ فَهُوَ مَثَلٌ فِي فَرْطِ الْقُرْبِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَانَ مُطَّلِعًا عَلَى مَعْلُومَاتِ الْعِبَادِ وَسَرَائِرِهِمْ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فَكَأَنَّ ذَاتَهُ تَعَالَى قَرِيبَةٌ مِنْهُ، وَالْحَبْلُ الْعِرْقُ شُبِّهَ بِالْحَبْلِ اسْتِعَارَةً مِنْ حَيْثُ اشْتَدَّ اللَّحْمُ بِهِ وَارْتَبَطَ، وَالْوَرِيدُ عِرْقٌ بِبَاطِنِ الْعُنُقِ.
(وَ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ (مَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ) مِنْ زَائِدَةٍ أَيْ وَمَا تَسْقُطُ وَرَقَةٌ مِنْ أَيِّ وَرَقَةٍ كَانَتْ فِي جَمِيعِ أَقْطَارِ الْأَرْضِ (إلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ) بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى لَفْظِ وَرَقَةٍ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا
ــ
[حاشية العدوي]
بِالْقُرْبِ] الْأَنْسَبُ أَنْ يَقُولَ الْمُرَادُ بِالْأَقْرَبِيَّةِ هُنَا، أَيْ فِي جَانِبِ الْمَوْلَى قُرْبُ عِلْمٍ، أَيْ قُرْبٌ مِنْ حَيْثُ الْعِلْمُ، لَا أَنَّ الْعِلْمَ فِي حَدِّ ذَاتِهِ قَرِيبٌ؛ لِأَنَّهُ صِفَةُ ذَاتٍ لَا تُفَارِقُ الذَّاتَ. [قَوْلُهُ: فَهُوَ مِثْلٌ. . . إلَخْ] الْمُنَاسِبُ أَوْ هُوَ مِثْلُ إشَارَةٍ إلَى وَجْهٍ ثَانٍ، وَهُوَ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الِاسْتِعَارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ شَبَّهَ حَالَ اللَّهِ مَعَ عَبْدِهِ مِنْ حَيْثُ اطِّلَاعِهِ عَلَى سَرَائِرِهِ، وَمَا يُخْفِيهِ بِحَالِ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ قُرْبًا حِسِّيًّا فَرْضًا وَاسْتُعِيرَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْمُشَبَّهِ بِهِ لِلْمُشَبَّهِ، فَقَوْلُهُ فَهُوَ مِثْلٌ أَيْ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ وَقَوْلُهُ فِي فَرْطِ الْقُرْبِ، أَيْ مِنْ حَيْثُ شِدَّةُ الْقُرْبِ.
[قَوْلُهُ: وَسَرَائِرِهِمْ] جَمْعُ سَرِيرَةٍ أَيْ مَا يُسِرُّهُ فِي الْقَلْبِ وَعَطْفُهُ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ.
[قَوْلُهُ: وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ] لَازِمٌ لِمَا قَبْلَهُ [قَوْلُهُ: فَكَأَنَّ ذَاتَه تَعَالَى قَرِيبَةٌ] أَيْ فَالْأَقْرَبِيَّةُ، بِاعْتِبَارِ الذَّاتِ تَقْدِيرًا وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا مِنْ التَّنَافِي لِمَا قَدَّمَهُ مِنْ أَنَّ الْقُرْبَ مِنْ حَيْثُ الْعِلْمُ، فَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ هَذَا وَجْهٌ ثَانٍ لَا أَنَّهُ مِنْ تَتِمَّةِ الْأَوَّلِ كَمَا قَدْ يُتَوَهَّمُ.
[قَوْلُهُ: وَالْحَبْلُ الْعِرْقُ] أَيْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَبْلِ الْعِرْقُ أَوْ الْمُرَادُ مِنْ لَفْظِ الْحَبْلِ الْعِرْقُ، وَقَوْلُهُ شَبَّهَ أَيْ الْعِرْقَ بِالْحَبْلِ، أَيْ الَّذِي هُوَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ، فَالْحَبْلُ الثَّانِي غَيْرُ الْحَبْلِ الْأَوَّلِ، هَذَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَالْمَعْنَى وَالْمُرَادُ مِنْ لَفْظِ الْحَبْلِ: الْعِرْقُ، وَقَوْلُهُ شُبِّهَ بِالْحَبْلِ، أَيْ الَّذِي هُوَ الْمَعْنَى لِلَفْظِ الْحَبْلِ.
[قَوْلُهُ: اسْتِعَارَةً] أَيْ لِأَجْلِ اسْتِعَارَةِ اسْمِ الْحَبْلِ لِلْعِرْقِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ إضَافَةِ الْمُشَبَّهِ بِهِ لِلْمُشَبَّهِ [قَوْلُهُ: مِنْ حَيْثُ] مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ شَبَّهَ، أَيْ شَبَّهَ مِنْ أَجْلِ اشْتِدَادِ اللَّحْمِ بِهِ، وَارْتِبَاطِ بِهِ بِالْحَبْلِ بِجَامِعِ مُطْلَقِ الِارْتِبَاطِ، وَقَوْلُهُ وَارْتَبَطَ عَطْفُ تَفْسِيرٍ.
[قَوْلُهُ: وَالْوَرِيدُ عِرْقٌ بِبَاطِنِ الْعُنُقِ] فِي الْمِصْبَاحِ وَالْوَرِيدُ عِرْقٌ قِيلَ هُوَ الْوَدَجُ وَقِيلَ بِجَنْبِهِ اهـ. فَعَلَى أَنَّهُ الْوَدَجُ يَكُونُ لِكُلِّ إنْسَانٍ وَرِيدَانِ، وَحَيْثُ كَانَ الْحَبْلُ اسْتِعَارَةً لِلْعِرْقِ وَالْوَرِيدُ عِرْقٌ مَخْصُوصٌ، كَانَتْ إضَافَةُ حَبْلٍ إلَى الْوَرِيدِ مِنْ إضَافَةِ الْعَامِّ إلَى الْخَاصِّ، فَالْإِضَافَةُ بَيَانِيَّةٌ أَوْ مِنْ إضَافَةِ الْمُشَبَّهِ بِهِ لِلْمُشَبَّهِ، فَالْإِضَافَةُ لِلْبَيَانِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ وَسُمِّيَ وَرِيدًا كَمَا قَالَ بَعْضٌ؛ لِأَنَّ الرُّوحَ تَرِدُهُ، وَخَصَّهُ؛ لِأَنَّ بِهِ حَيَاتَهُ وَهُوَ بِحَيْثُ يُشَاهِدُهُ كُلُّ أَحَدٍ.
[قَوْلُهُ: مِنْ زَائِدَةٌ] أَيْ لِتَأْكِيدِ الْعُمُومِ، [قَوْلُهُ: أَيْ وَمَا تَسْقُطُ وَرَقَةٌ] حَمَلَ الْوَرَقَةَ عَلَى حَقِيقَتِهَا وَقِيلَ الْمُرَادُ، أَيْ سَاقِطَةٌ كَانَتْ وَقِيلَ غَيْرَ ذَلِكَ.
[قَوْلُهُ: مِنْ أَيِّ وَرَقَةٍ] الْأَوْلَى حَذْفُ مِنْ [قَوْلُهُ: فِي جَمِيعِ أَقْطَارِ الْأَرْضِ] قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ الْقُطْرُ بِالضَّمِّ، الْجَانِبُ وَالنَّاحِيَةُ وَالْجَمْعُ أَقْطَارٌ مِثْلُ قُفْلٍ وَأَقْفَالٌ اهـ.
[قَوْلُهُ: إلَّا يَعْلَمُهَا] حَالٌ مِنْ وَرَقَةٍ، وَجَاءَتْ الْحَالُ مِنْ النَّكِرَةِ لِاعْتِمَادِهَا عَلَى النَّفْيِ وَالتَّقْدِيرِ مَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إلَّا فِي حَالِ كَوْنِهِ عَالِمًا هُوَ بِهَا؛ لِأَنَّهُ يُسْقِطُهَا بِإِرَادَتِهِ.
[قَوْلُهُ: فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ] أَيْ بُطُونِهَا، [قَوْلُهُ: بِالْجَرِّ] وَقُرِئَ بِالرَّفْعِ، [قَوْلُهُ: وَالْمُرَادُ إلَخْ] أَيْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْحَبَّةِ وَاحِدَةَ، الْحَبِّ الَّذِي أَشَارَ لَهُ الْقَامُوسُ بِقَوْلِهِ الْحَبَّةُ وَاحِدَةُ الْحَبِّ الْجَمْعُ حَبَّاتٌ وَحُبُوبٌ اهـ.
بَلْ الْمُرَادُ أَقَلُّ قَلِيلٍ أَيْ مَا يَشْمَلُ أَقَلَّ قَلِيلٍ لِأَجْلِ شُمُولِهِ الْحَبَّةَ الْمَعْرُوفَةَ وَغَيْرَهَا وَإِنْ لَمْ نَقُلْ ذَلِكَ لَفَاتَهُ الْكَلَامُ عَلَى الْحَبَّةِ، وَلَا يُقَالُ تُفْهَمُ بِالْأَوْلَى لِأَنَّا نَقُولُ وَالْوَرَقَةُ كَذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْإِطْلَاقَ مَجَازِيٌّ مِنْ إطْلَاقِ اسْمِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ؛ لِأَنَّ الْحَبَّةَ اسْمٌ لِشَيْءٍ ثَبَتَ لَهُ الْقِلَّةُ فَأَطْلَقَهَا وَأَرَادَ بِهَا مُطْلَقَ ذَاتٍ اتَّصَفَتْ بِالْقِلَّةِ، وَالْعَطْفُ مُغَايِرٌ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ ذَاتٌ ثَبَتَتْ لَهَا الْقِلَّةُ أَدَقُّ مِنْ الْوَرَقَةِ، وَذَكَرَ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ قَوْلَيْنِ، أَحَدَهُمَا أَنَّهَا مِنْ هَذَا الْحَبِّ الْمَعْرُوفِ
أَقَلُّ قَلِيلٍ عَبَّرَ بِهَا تَقْرِيبًا لِلْأَفْهَامِ (وَلَا رَطْبٍ) هُوَ مَا يَنْبُتُ (وَلَا يَابِسٍ) هُوَ مَا لَا يَنْبُتُ (إلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، يَعْنِي أَنَّ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ فِيهِ عِلْمُ كُلِّ شَيْءٍ مَا دَقَّ وَمَا جَلَّ حَتَّى سُقُوطِ الْوَرَقَةِ وَالْحَبَّةِ وَهِيَ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهَا وَلَا حِسَابَ وَلَا مُجَازَاةَ، فَمَا ظَنَّكَ بِالْأَعْمَالِ الْمُجَازَى عَلَيْهَا بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَفْوَ
ــ
[حاشية العدوي]
تَكُونُ فِي الْأَرْضِ قَبْلَ أَنْ تَنْبُتَ، ثَانِيهِمَا أَنَّهَا الْحَبَّةُ الَّتِي فِي الصَّخْرَةِ الَّتِي فِي أَسْفَلِ الْأَرْضِ.
[قَوْلُهُ: تَقْرِيبًا لِلْإِفْهَامِ] أَيْ لِتَعَاهُدِ النَّاسِ لَهَا. [قَوْلُهُ: وَلَا رَطْبٍ] مَعْطُوفٌ عَلَى وَرَقَةٍ.
قَالَ أَبُو السُّعُودِ وَقُرِئَ الْأَخِيرَانِ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ وَرَقَةٍ. وَقِيلَ رَفْعُهُمَا بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ إلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ اهـ.
[قَوْلُهُ: هُوَ مَا يَنْبُتُ إلَخْ] بِفَتْحِ الْيَاءِ مِنْ نَبَتَ، وَكَذَا مَا بَعْدَهُ هَكَذَا ظَهَرَ لِي وَارْتَضَاهُ بَعْضُ شُيُوخِنَا وَشَيْخُنَا السَّيِّدُ مُحَمَّدٍ رضي الله عنه وَقِيلَ الْأَوَّلُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ وَالثَّانِي قَلْبُ الْمُنَافِقِ، أَوْ الْأَوَّلُ الْإِيمَانُ وَالثَّانِي الْكُفْرُ، أَوْ الْأَوَّلُ الْحَاضِرَةُ، وَالثَّانِي الْبَادِيَةُ، أَقْوَالٌ وَأَرَادَ بِالسُّقُوطِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لَازِمُهُ وَهُوَ الثُّبُوتُ لَا الْحَقِيقَةُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَظْهَرُ فِيمَا ذُكِرَ، وَقِيلَ الرَّطْبُ النُّطْفَةُ الَّتِي تَتَكَوَّنُ وَالْيَابِسُ النُّطْفَةُ الَّتِي لَا تَتَكَوَّنُ فَالتَّعْبِيرُ بِالسُّقُوطِ عَلَيْهِ ظَاهِرٌ.
[قَوْلُهُ: إلَّا فِي كِتَابٍ] بَدَلٌ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ بَدَلُ الْكُلِّ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَ عِلْمُ اللَّهِ أَوْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ إنْ أُرِيدَ بِهِ اللَّوْحُ، كَمَا ذَكَرَهُ الْبَيْضَاوِيُّ فَالِاسْتِثْنَاءُ الْأَوَّلُ مُنْسَحِبٌ عَلَى مَا بَعْدَهُ، [قَوْلُهُ: مُبِينٍ] أَيْ بَيِّنٍ.
[قَوْلُهُ: قِيلَ إلَخْ] قَدْ عَرَفْت مُقَابِلَهُ، [قَوْلُهُ: يَعْنِي إلَخْ] إنَّمَا عَبَّرَ بِيَعْنِي دَفْعًا لِمَا يُقَالُ: لَيْسَ فِي الْآيَةِ تَعَرُّضٌ لِكَوْنِ الْأَعْمَالِ فِي الْكِتَابِ الْمُبِينِ، مَعَ أَنَّهَا أَوْلَى أَنْ تَكُونَ فِيهِ؛ لِأَنَّهَا الْمَجَازِيُّ عَلَيْهَا، وَخُلَاصَةُ الْجَوَابِ لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ بَلْ الْآيَةُ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِ الْكِتَابِ فِيهِ كُلُّ شَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ فِيهِ مَا لَا حِسَابَ فِيهِ فَأَوْلَى مَا فِيهِ الْحِسَابُ، فَحِينَئِذٍ تَكُونُ الْغَايَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِاَلَّذِي لَا يُجَازَى عَلَيْهِ، فَقَوْلُهُ: حَتَّى سُقُوطِ الْحَبَّةِ وَالْوَرَقَةِ، وَكَذَا مَا بَعْدَهَا فَإِنْ قُلْت: كَوْنُ الْآيَةِ دَالَّةً عَلَى أَنَّ الْكِتَابَ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ لَا يُسَلَّمُ إذْ مَا لَا حِسَابَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ فِي الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهَا مَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ فِيهِ إلَّا بِطَرِيقِ الْأَوْلَوِيَّةِ وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ عَنْهُ قُلْت: جَوَابُ ذَلِكَ أَنَّ تَعْدَادَ الْأَشْيَاءِ وَعَدَمَ الْوُقُوفِ عَلَى وَاحِدٍ أَوْ اثْنَيْنِ رُبَّمَا آذَنَ بِأَنَّ الْمُرَادَ وَغَيْرَهُمَا، ثُمَّ إنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنْ قَوْلِهِ: كُلِّ شَيْءٍ مَا دَقَّ وَمَا جَلَّ ذَوَاتٌ دَقَّتْ وَجَلَّتْ، فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى ذَاتٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ بَعْضٌ مِنْ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَيُؤَوَّلُ قَوْلُهُ: سُقُوطِ إلَخْ بِأَنْ يُجْعَلَ مِنْ إضَافَةِ الصِّفَةِ لِلْمَوْصُوفِ، أَيْ الْوَرَقَةُ السَّاقِطَةُ إلَخْ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا تَعَلُّقُ الْعِلْمِ فِي الْآيَةِ بِنَفْسِ الْوَرَقَةِ.
تَنْبِيهٌ: يُسْتَثْنَى مِنْ قَوْلِهِ: عِلْمُ كُلَّ شَيْءٍ مَا دَقَّ وَمَا جَلَّ ذَاتُهُ وَصِفَاتُهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْغَايَةُ الْمَذْكُورَةُ، وَمَا قَالَهُ ابْنُ نَاجِي وَنَصُّهُ: الْمَعْلُومَاتُ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ كَذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَقِسْمٌ عَلِمَهُ اللَّوْحُ وَالْقَلَمُ وَهُوَ مَعْرِفَةُ مَا جَرَى بِهِ الْقَلَمُ فِي اللَّوْحِ، وَقِسْمٌ عَلِمَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَقِسْمٌ عَلِمَهُ الْأَنْبِيَاءُ، وَقِسْمٌ عَلِمَتْهُ الْأَوْلِيَاءُ كَالْمُكَاشَفَاتِ وَعِلْمُ اللَّهِ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ.
[قَوْلُهُ: فِيهِ عِلْمُ كُلِّ شَيْءٍ] أَيْ مَعْلُومٌ هُوَ كُلِّ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِالْعَالِمِ أَوْ مُتَعَلِّقُ عِلْمِ كُلِّ شَيْءٍ الَّذِي هُوَ نَفْسُ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَمَّا فَاتَهُ التَّصْرِيحُ بِالْمُضَافِ أَوَّلًا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: كُلِّ شَيْءٍ فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: دَقَّ] أَيْ قَلَّ [قَوْلُهُ: وَجَلَّ] أَيْ عَظُمَ. [قَوْلُهُ: لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهَا إلَخْ] أَيْ لَا تَكْلِيفَ لِأَجْلِهَا وَلَا حِسَابَ لِأَجْلِهَا، أَيْ لَا تَكْلِيفَ مَنُوطٌ بِهَا إلَخْ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهَا وَلَا حِسَابَ وَلَا عِقَابَ أَيْضًا إذْ الْمُتَّصِفُ بِذَلِكَ إنَّمَا هُوَ الْعَبْدُ.
[قَوْلُهُ: الْمَجَازِيُّ عَلَيْهَا] أَيْ لِأَجْلِهَا، وَكَذَا الْحِسَابُ لِأَجْلِهَا وَالتَّكْلِيفُ. [قَوْلُهُ: وَالْغُفْرَانُ] عَطْفُ مُرَادِفٍ فِي
وَالْغُفْرَانَ إنَّهُ جَوَادٌ كَرِيمٌ مَنَّانٌ.
(وَ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ وَالْإِيمَانُ بِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى (عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) لَا يَرِدُ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ مَا وَرَدَ عَلَى قَوْلِهِ قَبْلُ، فَوْقَ عَرْشِهِ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ أَتَى بِهِ وَهُوَ مِنْ الْمُتَشَابِهِ، فَمِنْ الْعُلَمَاءِ كَابْنِ شِهَابٍ وَمَالِكٍ مَنْ مَنَعُوا تَأْوِيلَهُ وَقَالُوا: نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نَتَعَرَّضُ لِمَعْنَاهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَ تَأْوِيلَهُ قَصْدًا لِلْإِيضَاحِ، فَمَعْنَى اسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَوْلَى عَلَيْهِ اسْتِيلَاءَ مَلِكٍ قَادِرٍ قَاهِرٍ، وَمِنْ اسْتَوْلَى عَلَى أَعْظَمِ الْأَشْيَاءِ كَانَ مَا دُونَهُ فِي ضِمْنِهِ وَمُنْطَوِيًا تَحْتَهُ، وَقِيلَ: الِاسْتِوَاءُ بِمَعْنَى الْعُلُوِّ أَيْ عُلُوِّ مَرْتَبَةٍ وَمَكَانَةٍ لَا عُلُوِّ مَكَان (وَعَلَى الْمُلْكِ احْتَوَى) حَقِيقَةُ الِاحْتِوَاءِ الِاسْتِدَارَةُ وَهِيَ مُسْتَحِيلَةٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَيَجِبُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى إحَاطَةِ قُدْرَتِهِ بِجَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ، وَمِلْكِهِ لِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ، وَالْمَلَكُوتُ عِبَارَةٌ عَنْ بَاطِنِ الْمُلْكِ وَالْمُلْكُ هُوَ الظَّاهِرُ (وَ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى (لَهُ
ــ
[حاشية العدوي]
الْمِصْبَاحِ عَفَا عَنْك أَيْ مَحَا ذُنُوبَك اهـ.
وَالْغُفْرَانُ سَتْرُ الذَّنْبِ وَسَتْرُهُ مَحْوُهُ. [قَوْلُهُ: جَوَادٌ] بِالتَّخْفِيفِ [قَوْلُهُ: كَرِيمٌ] هُوَ بِمَعْنَى جَوَادٍ كَمَا يُفِيدُهُ الْمِصْبَاحُ.
[قَوْلُهُ: مَا وَرَدَ عَلَى قَوْلِهِ قَبْلُ فَوْقِ عَرْشِهِ إلَخْ] فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْإِيرَادَ عَلَى قَوْلِهِ بِذَاتِهِ، وَأَمَّا الْفَوْقِيَّةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ فَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِإِطْلَاقِهَا. [قَوْلُهُ: كَابْنِ شِهَابٍ] شَيْخٌ لِمَالِكٍ فَلِذَلِكَ قَدَّمَهُ [قَوْلُهُ: مَنَعُوا تَأْوِيلَهُ إلَخْ] أَيْ تَفْصِيلًا فَلَا يَنْفُونَ تَأْوِيلَهُ إجْمَالًا فَيُنَزِّهُونَ الْيَدَ عَنْ كَوْنِهَا كَالْيَدِ الْحَادِثَةِ فَهُوَ تَأْوِيلٌ إجْمَالًا وَيُفَوِّضُونَ عِلْمَ الْحَقِيقَةِ إلَى اللَّهِ سبحانه وتعالى. [قَوْلُهُ: نُؤْمِنُ بِهِ] أَيْ بِمَعْنَاهُ الظَّاهِرِ وَهُوَ كَوْنُهُ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ.
[قَوْلُهُ: وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَ تَأْوِيلَهُ] فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُمْ لَا يُوجِبُونَ تَأْوِيلَهُ؛ لِأَنَّهُ الْمُتَبَادَرُ مِنْ لَفْظِ الْجَوَازِ. [قَوْلُهُ: فَمَعْنَى اسْتِوَائِهِ إلَخْ] رَدَّ ابْنُ رُشْدٍ ذَلِكَ بِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْمُغَالَبَةِ وَالْمُقَاهَرَةِ. [قَوْلُهُ: قَادِرٌ قَاهِرٌ] لَازِمٌ لِلَّذِي قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ الْمَلِكَ مِنْ شَأْنِهِ ذَلِكَ. [قَوْلُهُ: وَمَنْ اسْتَوْلَى عَلَى أَعْظَمِ الْأَشْيَاءِ] لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا يُؤْذِنُ بِأَنَّهُ ذُو إدْرَاكٍ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا تَقَدَّمَ فِي الشَّارِحِ مِنْ قَوْلِهِ: وَالْمُرَادُ هُنَا مَخْلُوقٌ عَظِيمٌ. . . إلَخْ.
[قَوْلُهُ: كَانَ مَا دُونَهُ] أَيْ كَانَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى مَا دُونَهُ فِي ضِمْنِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ وَمُنْطَوِيًا تَحْتَهُ تَأْكِيدٌ [قَوْلُهُ: عُلُوِّ مَرْتَبَةٍ وَمَكَانَةٍ] أَيْ فَاَللَّهُ عز وجل أَشْرَفُ مِنْ الْعَرْشِ فَهَذَا التَّأْوِيلُ لَازِمٌ لِلْأَوَّلِ وَإِنْ كَانَ مُغَايِرًا لَهُ، وَعَطْفُ الْمَكَانَةِ مُرَادِفٌ. تَتِمَّةٌ:
قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ أَبِي شَرِيفٍ: مَذْهَبُ السَّلَفِ أَسْلَمُ فَهُوَ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ، وَيَكْفِيك عَلَى أَنَّهُ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ ذَهَابُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ إلَيْهِ.
وَأَمَّا طَرِيقَةُ الْخَلَفِ فَهِيَ أَحْكَمُ بِمَعْنَى أَكْثَرُ إحْكَامًا بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ أَيْ إتْقَانًا لِمَا فِيهَا مِنْ إزَالَةِ الشُّبَهِ عَنْ الْأَفْهَامِ وَبَعْضٌ عَبَّرَ بِأَعْلَمَ بَدَلَ أَحْكَمُ بِمَعْنَى أَنَّ مَعَهَا زِيَادَةَ عِلْمٍ لِبَيَانِ الْمَعْنَى التَّفْصِيلِيِّ.
[قَوْلُهُ: فَيَجِبُ حَمْلُ اللَّفْظِ إلَخْ] أَيْ فَالْمِلْكُ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَخْلُوقَاتِ، وَالْمَعْنَى أَحَاطَتْ قُدْرَتُهُ بِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ فَمُرَادُ الشَّارِعِ بِالْمُمْكِنَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ؛ لِأَنَّ الْمُمْكِنَ فِي ذَاتِهِ يَشْمَلُ الْمَعْدُومَ الَّذِي لَمْ يَرِدْ اللَّهُ وُجُودَهُ وَلَمْ تُحِطْ الْقُدْرَةُ بِهِ أَيْ لَمْ تَتَعَلَّقْ تَعَلُّقًا تَنْجِيزِيًّا بِهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْإِحَاطَةِ التَّعَلُّقَ التَّنْجِيزِيَّ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ مَا مِنْ مَخْلُوقٍ إلَّا، وَقُدْرَةُ الْبَارِي قَدْ تَعَلَّقَتْ بِهِ، فَلَمْ يَخْرُجْ فَرْدٌ مِنْهُ عَنْهَا فَإِنْ قُلْت: كَلَامُ الشَّارِحِ يُشْعِرُ بِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الِاحْتِوَاءِ فِي إحَاطَةِ الْقُدْرَةِ مَجَازٌ أَيُّ مَجَازٍ هُوَ؟ قُلْت: اسْتِعَارَةٌ وَتَقْرِيرُهَا شَبَّهَ إحَاطَةَ الْقُدْرَةِ بِمَا ذَكَرَ بِالِاحْتِوَاءِ وَالْعَلَاقَةُ ظَاهِرَةٌ، وَاسْتُعِيرَ اسْمُ الْمُشَبَّهِ بِهِ لِلْمُشَبَّهِ وَاشْتُقَّ مِنْ الِاحْتِوَاءِ بِمَعْنَى الْإِحَاطَةِ احْتَوَى بِمَعْنَى أَحَاطَتْ قُدْرَتُهُ إلَخْ. [قَوْلُهُ: عَنْ بَاطِنِ الْمُلْكِ] أَيْ مَا خَفِيَ عَنَّا مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ. وَقَوْلُهُ: وَالْمُلْكُ هُوَ الظَّاهِرُ لَا يَخْفَى أَنَّهُ مُنَافٍ لِقَوْلِهِ: وَالْمَلَكُوتُ إلَخْ. إذْ هُوَ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَلَكُوتَ بَعْضُ الْمُلْكِ. وَقَوْلُهُ: وَالْمُلْكُ هُوَ الظَّاهِرُ يَقْتَضِي أَنَّهُ
الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) وَصْفُ الْأَسْمَاءِ وَهِيَ جَمْعٌ بِالْحُسْنَى وَهُوَ مُفْرَدٌ؛ لِأَنَّهُ جَمْعٌ فِي الْمَعْنَى إذْ هُوَ مَصْدَرٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ أَسْمَاءَهُ تَعَالَى غَيْرُ مَحْصُورَةٍ فِي التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ الْوَارِدَةِ فِي الْحَدِيثِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا تَوْقِيفِيَّةٌ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمٌ إلَّا بِتَوْقِيفٍ مِنْ الشَّارِعِ.
(وَ) لَهُ سبحانه وتعالى (الصِّفَاتُ الْعُلَى) أَيْ الْمُرْتَفِعَةُ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ، وَلَمَّا بَيْنَ أَنَّ لَهُ تَعَالَى أَسْمَاءَ وَصِفَاتٍ عَقَّبَ ذَلِكَ بِأَنَّهَا قَدِيمَةٌ فَقَالَ (لَمْ يَزَلْ) أَيْ اللَّهُ سبحانه وتعالى يُرِيدُ وَلَا يَزَالُ مُتَّصِفًا (بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ وَ) مُسَمًّى بِ (أَسْمَائِهِ) وَمَعْنَى لَمْ يَزَلْ عِبَارَةٌ عَنْ الْقِدَمِ، وَلَا يَزَالُ عِبَارَةٌ عَنْ الْبَقَاءِ، وَقَصَدَ الشَّيْخُ بِهَذَا وَاَلَّذِي قَبْلَهُ الرَّدَّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ الزَّاعِمِينَ أَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ وَلَا قُدْرَةَ لَهُ، وَعَلَى الْقَائِلِينَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ فِي أَزَلِهِ بِلَا اسْمٍ
ــ
[حاشية العدوي]
مُبَايِنٌ لَهُ، فَالْمُنَاسِبُ أَنْ يَقُولَ أَرَادَ بِالْمُلْكِ هُنَا مَا يَشْمَلُ الظَّاهِرَ وَالْبَاطِنَ وَإِنْ كَانَ الْمُلْكُ يُطْلَقُ عَلَى الظَّاهِرِ وَالْمَلَكُوتُ عَلَى الْبَاطِنِ [قَوْلُهُ: لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى إلَخْ] الْأَسْمَاءُ جَمْعُ اسْمٍ وَهُوَ لُغَةً: كُلُّ مَا لَهُ مُسَمًّى، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مَا دَلَّ عَلَى مُجَرَّدِ ذَاتِهِ كَلَفْظِ الْجَلَالَةِ أَوْ عَلَى الذَّاتِ مَعَ الصِّفَةِ كَالْعَالِمِ وَالْقَادِرِ، وَوَجْهُ حُسْنِهَا دَلَالَتُهَا عَلَى مَعَانٍ هِيَ أَشْرَفُ الْمَعَانِي وَأَفْضَلُهَا.
[قَوْلُهُ: إذْ هُوَ مَصْدَرٌ إلَخْ] فِيهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ الْمَصْدَرَ يَصْدُقُ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ: لِأَنَّهُ يَصْدُقُ بِالْكَثِيرِ إذْ هُوَ مَصْدَرٌ، وَبَعْضُهُمْ قَالَ فِي بَيَانِهِ: لِأَنَّ حُسْنَى جَمْعٌ فِي الْمَعْنَى إذْ هُوَ مَصْدَرٌ لِحَسَنَ حُسْنًا ضِدُّ قَبُحَ، فَإِنْ قَصَدْت الْمُبَالَغَةَ فِي الْحُسْنِ قُلْت: حُسْنَى عَلَى وَزْنِ فُعْلَى، وَمُذَكَّرُهُ حَسُنَ عَلَى وَزْنِ فَعُلَ اهـ.
وَلَا يَتِمُّ هَذَا إلَّا إذَا أُرِيدَ الْمُبَالَغَةُ مِنْ حَيْثُ الْكَمِيَّةُ [قَوْلُهُ: وَالصَّحِيحُ إلَخْ] الْأَنْسَبُ تَأْخِيرُ هَذَا الصَّحِيحِ عَنْ الَّذِي بَعْدَهُ. [قَوْلُهُ: غَيْرُ مَحْصُورَةٍ إلَخْ] إذْ مِنْهَا الْمُدَبَّرُ وَمِنْهَا الْحَنَّانُ الْمَنَّانُ فَهُمَا وَارِدَانِ وَالْحَنَّانُ مَنْ يُقْبِلُ عَلَى مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ، وَالْمَنَّانُ الَّذِي يَبْدَأُ بِالنَّوَالِ قَبْلَ السُّؤَالِ. [قَوْلُهُ: وَالْأَصَحُّ] عَبَّرَ فِي الْأَوَّلِ بِالصَّحِيحِ وَهُنَا بِالْأَصَحِّ تَفَنُّنًا إذْ الْمُرَادُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا الْمُعْتَمَدُ. [قَوْلُهُ: تَوْقِيفِيَّةٌ] أَيْ تَعْلِيمِيَّةٌ فَلَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ كَمَا قَالَهُ عج إلَّا مَا وَرَدَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ أَوْ أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ كَالْبَاعِثِ، وَاخْتُلِفَ فِيمَا وَرَدَ آحَادًا فَمَنَعَهُ بَعْضُهُمْ وَأَجَازَهُ الْجُمْهُورُ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْعَمَلِ، وَيَكْفِي فِيهِ الْآحَادُ.
وَأَمَّا أَسْمَاؤُهُ صلى الله عليه وسلم فَنَقَلَ الشَّامِيُّ فِي سِيرَتِهِ أَنَّهَا تَوْفِيقِيَّةٌ، وَلَكِنْ فِي مَسَالِكِ الْحُنَفَاءِ مَا يُفِيدُ خِلَافَهُ، وَفِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ نَحْوُ مَا فِي السِّيرَةِ اهـ.
[قَوْلُهُ: بِتَوْقِيفٍ] أَيْ تَعْلِيمٍ.
[قَوْلُهُ: الصِّفَاتُ إلَخْ] الصِّفَاتُ جَمْعُ صِفَةٍ وَهِيَ الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالْمَوْصُوفِ [قَوْلُهُ: الْعَلِيُّ] جَمْعُ الْعَلْيَاءِ تَأْنِيثُ الْأَعْلَى كَمَا قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ، أَيْ كَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الصِّفَاتِ.
[قَوْلُهُ: يُرِيدُ وَلَا يَزَالُ إلَخْ] أَيْ فَالْمُصَنِّفُ أَشَارَ إلَى الْقِدَمِ وَلَمْ يُشِرْ إلَى الْبَقَاءِ، فَأَشَارَ إلَيْهِ الشَّارِحُ بِقَوْلِهِ: يُرِيدُ وَلَا يَزَالُ وَلَا ضَرُورَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ مَا ثَبَتَ قِدَمُهُ اسْتَحَالَ عَدَمُهُ. [قَوْلُهُ: وَمَعْنَى لَمْ يَزَلْ إلَخْ] فِيهِ شَيْءٌ إذْ الْقِدَمُ وَصْفٌ سَلْبِيٌّ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الْأَوَّلِيَّةِ، وَلَمْ يَزَلْ نَفْيُ نَفْيٍ وَهُوَ إثْبَاتٌ، فَكَيْفَ يَكُونُ عِبَارَةً عَنْهُ؟ وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ أَنَّ الْمَقْصُودَ وَاحِدٌ وَهُوَ أَنَّ صِفَاتِهِ وَأَسْمَاءَهُ لَيْسَتْ مُحْدَثَةً. [قَوْلُهُ: بِهَذَا] أَعْنِي قَوْلَهُ لَمْ يَزَلْ بِصِفَاتِهِ إلَخْ، وَقَوْلُهُ: وَاَلَّذِي قَبْله الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ وَالصِّفَاتُ الْعُلَى. وَقَوْلُهُ: الزَّاعِمِينَ أَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ وَلَا قُدْرَةَ نَاظِرٌ لِلْأَوَّلِ. وَقَوْلُهُ: وَعَلَى الْقَائِلِينَ إلَخْ نَاظِرٌ لِلثَّانِي الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ لَمْ يَزَلْ بِصِفَاتِهِ إلَخْ [قَوْلُهُ: الزَّاعِمِينَ] فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. [قَوْلُهُ: لَا عِلْمَ لَهُ وَلَا قُدْرَةَ] أَيْ وَلَا كَلَامَ وَلَا غَيْرَهُ مِنْ صِفَاتِ الْمَعَانِي، فَتَقُولُ الْمُعْتَزِلَةُ إنَّهُ عَالِمٌ بِذَاتِهِ قَادِرٌ بِذَاتِهِ، فَرُّوا بِذَلِكَ مِنْ تَعَدُّدِ الْقُدَمَاءِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الرَّوَافِضَ مِثْلُهُمْ فِي ذَلِكَ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الْمُسْتَحِيلَ إنَّمَا هُوَ تَعَدُّدُ ذَوَاتٍ لَا ذَاتٍ مَعَ صِفَاتٍ [قَوْلُهُ: وَعَلَى الْقَائِلِينَ إلَخْ] قَضِيَّتُهُ أَنَّهُمْ غَيْرُ الْمُعْتَزِلَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُمْ نَفْسُ الْمُعْتَزِلَةِ، فَعِبَارَةُ تت أَحْسَنُ حَيْثُ قَالَ: لِلرَّدِّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ الزَّاعِمِينَ أَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ وَلَا قُدْرَةَ وَالْقَائِلِينَ أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ فِي أَزَلِهِ إلَخْ فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ:
وَلَا صِفَةٍ، وَأَنَّ عِبَادَهُ هُمْ الَّذِينَ خَلَقُوا لَهُ الْأَسْمَاءَ وَالصِّفَاتِ (تَعَالَى) أَيْ تَنَزَّهَ وَتَعَاظَمَ عَمَّا يَقُولُونَ مِنْ (أَنْ تَكُونَ صِفَاتُهُ مَخْلُوقَةً وَ) أَنْ تَكُونَ (أَسْمَاؤُهُ مُحْدَثَةً) ظَاهِرُ هَذَا وَمَا قَبْلَهُ أَنَّ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ كَالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ فَقَدِيمَةٌ وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَمَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهَا حَادِثَةٌ أَيْ مُتَجَدِّدَةٌ؛ لِأَنَّهَا إضَافَاتٌ تَعْرِضُ لِلْقُدْرَةِ. وَهِيَ تَعَلُّقَاتُهَا بِوُجُودَاتِ الْمَقْدُورَاتِ لِأَوْقَاتِ وُجُودَاتِهَا وَلَا مَحْذُورَ فِي اتِّصَافِ الْبَارِي سُبْحَانَهُ بِالْإِضَافَاتِ كَكَوْنِهِ قَبْلَ الْعَالِمِ وَمَعَهُ وَبَعْدَهُ، وَأَمَّا صِفَاتُ الذَّاتِ قَدِيمَةٌ اتِّفَاقًا لَا تُفَارِقُ الذَّاتَ وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ. الْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ وَالْعِلْمُ وَالْحَيَاةُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْكَلَامُ وَالْبَقَاءُ.
(وَ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ إجْمَاعًا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى (كَلَّمَ مُوسَى) عليه الصلاة والسلام (بِكَلَامِهِ) الْقَدِيمِ (الَّذِي هُوَ صِفَةُ ذَاتِهِ) فَخَلَقَ لَهُ فَهْمًا فِي قَلْبِهِ، وَسَمْعًا فِي أُذُنَيْهِ يَسْمَعُ بِهِ كَلَامًا لَيْسَ بِصَوْتٍ وَلَا
ــ
[حاشية العدوي]
خَلَقُوا لَهُ الْأَسْمَاءَ] لَا يَخْفَى أَنَّ الْأَسْمَاءَ أَلْفَاظٌ دَلَّتْ عَلَى مُسَمَّيَاتِهَا فَوَصْفُهُمْ بِذَلِكَ أَيْ بِكَوْنِهِمْ خَلَقُوا الْأَسْمَاءَ لِكَوْنِهِمْ يَقُولُونَ: إنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ فِعْلَ نَفْسِهِ. [قَوْلُهُ: وَالصِّفَاتِ إلَخْ] هَذَا مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ هِيَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالْمَوْصُوفِ فَهُوَ لَيْسَ فِعْلًا لِلْعَبْدِ وَلَا نَاشِئًا عَنْ فِعْلِهِ، وَالْمَخْلُوقُ لَهُمْ عِنْدَهُمْ مَا ذُكِرَ فَقَطْ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: أَرَادَ بِالْأَسْمَاءِ مَا دَلَّ عَلَى الذَّاتِ فَقَطْ، وَالصِّفَاتِ مَا دَلَّ عَلَى الذَّاتِ وَالصِّفَةِ، وَحَرِّرْ. [قَوْلُهُ: وَتَعَاظَمَ] مُرَادِفٌ [قَوْلُهُ: مِنْ أَنْ تَكُونَ] بَيَانٌ لِمَا فَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ مَجْرُورَةٌ بِمِنْ مُقَدَّرَةٌ، وَأَنَّ تَعَالَى يَتَعَدَّى بِعَنْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ أَنْ تَكُونَ مَجْرُورَةً بِعَنْ مَحْذُوفَةً فَهُوَ أَخَصْرُ. [قَوْلُهُ: أَنْ تَكُونَ صِفَاتُهُ مَخْلُوقَةً وَأَسْمَاؤُهُ مُحْدَثَةً] فَالتَّعْبِيرُ فِي الصِّفَاتِ بِمَخْلُوقَةٍ وَفِي الْأَسْمَاءِ بِمُحْدَثَةٍ تَفَنُّنٌ لَا يَخْفَى أَنَّ الصِّفَاتِ قَدِيمَةٌ وَلَا خَفَاءَ فِي قِدَمِهَا، وَأَمَّا الْأَسْمَاءُ فَكَيْفَ تَكُونُ قَدِيمَةً مَعَ أَنَّهَا أَلْفَاظٌ وَكُلُّ لَفْظٍ حَادِثٌ؟ فَتَخَلَّصَ الْعُلَمَاءُ مِنْ ذَلِكَ بِوَجْهَيْنِ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَنَّ قِدَمَ الْأَسْمَاءِ بِاعْتِبَارِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ الْمَعَانِي كَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَسْمَاءِ التَّسْمِيَاتُ، وَالتَّسْمِيَاتُ كَلَامُهُ وَكَلَامُهُ قَدِيمٌ، وَلَعَلَّ جَعْلَ الْكَلَامِ تَسْمِيَةً تَسَامُحٌ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ جَعْلَ اللَّفْظِ دَلِيلًا عَلَى الْمَعْنَى. [قَوْلُهُ: وَالرَّزْقُ] بِفَتْحِ الرَّاءِ مَصْدَرٌ لِيُنَاسِبَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ، وَيَصِحُّ كَسْرُهَا بِجَعْلِهِ اسْمَ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ كَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ، وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُمْ يُرْجِعُونَ هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ وَمَا مَاثَلَهَا إلَى صِفَةِ مَعْنًى قَدِيمَةٍ قَائِمَةٍ بِالذَّاتِ الْعَلِيَّةِ تُسَمَّى التَّكْوِينُ زِيَادَةً عَلَى السَّبْعِ، فَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِالْحَيَاةِ سُمِّيَتْ إحْيَاءً وَبِالْمَوْتِ سُمِّيَتْ إمَاتَةً وَغَيْرُ ذَلِكَ. [قَوْلُهُ: أَيْ مُتَجَدِّدَةٌ] أَشَارَ بِذَلِكَ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْحُدُوثِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي هُوَ الْوُجُودُ بَعْدَ الْعَدَمِ، بَلْ مَعْنَاهُ الْمَجَازِيُّ وَهُوَ التَّجَدُّدُ؛ لِأَنَّهَا أُمُورٌ اعْتِبَارِيَّةٌ [قَوْلُهُ: إضَافَاتٌ] أَيْ نَسَبٌ [قَوْلَهُ: وَهِيَ] أَيْ تِلْكَ الْإِضَافَاتُ. [قَوْلُهُ: تَعَلُّقَاتُهَا] أَيْ التَّنْجِيزِيَّةُ الْحَادِثَةُ.
[قَوْلُهُ: بِوُجُودَاتِ إلَخْ] الْإِضَافَةُ لِلْبَيَانِ؛ لِأَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الْوُجُودَ عَيْنُ الْمَوْجُودِ. [قَوْلُهُ: الْأَوْقَاتِ] أَيْ عِنْدَ أَوْقَاتِ وُجُودَاتِهَا [قَوْلُهُ: وَلَا مَحْذُورَ] أَيْ لَا ضَرَرَ [قَوْلُهُ: كَكَوْنِهِ قَبْلَ الْعَالَمِ] فَالْقَبْلِيَّةُ نِسْبِيَّةٌ، وَكَذَا الْمَعِيَّةُ وَالْبَعْدِيَّةُ، وَهِيَ أُمُورٌ اعْتِبَارِيَّةٌ لَا وُجُودِيَّةٌ، وَإِطْلَاقُ الْحُدُوثِ عَلَيْهَا مَجَازٌ، وَاسْتِحَالَةُ اتِّصَافِ الْمَوْلَى بِالْحَادِثِ إنَّمَا هُوَ بِالْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ الْوُجُودُ بَعْدَ الْعَدَمِ فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: وَالْبَقَاءُ إلَخْ] فِيهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَمَدَ أَنَّهُ صِفَةٌ سَلْبِيَّةٌ.
[قَوْلُهُ: إجْمَاعًا] فِيهِ شَيْءٌ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يُجْمِعُوا عَلَى كَوْنِ مُوسَى سَمِعَ الْكَلَامَ الْقَدِيمَ إذْ ذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ السُّنَّةِ إلَى أَنَّهُ إنَّمَا سَمِعَ صَوْتًا، وَاخْتُصَّ بِاسْمِ الْكَلِيمِ لِكَوْنِهِ بِلَا وَاسِطَةِ الْكِتَابِ وَالْمَلَكِ. هَذَا إذَا أُرِيدَ إجْمَاعُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَأَمَّا إنْ أُرِيدَ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ الشَّامِلَةِ لِسُنِّيِّهَا وَمُبْتَدِعِهَا كَمَا هُوَ الصَّوَابُ فَيَقْوَى الِاعْتِرَاضُ إلَّا أَنْ يُجَابَ عَلَى بُعْدٍ بِأَنَّ مَصَبَّ قَوْلِهِ: إجْمَاعًا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ كَلَّمَ مُوسَى فَقَطْ.
[قَوْلُهُ: الْقَدِيمِ] وَصْفٌ مُخَصِّصٌ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى الصِّفَةِ الْقَدِيمَةِ يُطْلَقُ عَلَى الْقُرْآنِ الْمَعْلُومِ، أَعْنِي اللَّفْظَ الْمُنَزَّلَ عَلَى نَبِيِّنَا إلَخْ. [قَوْلُهُ: الَّذِي هُوَ صِفَةُ ذَاتِهِ] أَيْ وَصْفٌ مِنْ أَوْصَافِهِ قَائِمٌ بِذَاتِهِ،
حَرْفٍ، يَسْمَعُ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ بِكُلِّ جَارِحَةٍ وَلَمْ تَقَعْ لَهُ رُؤْيَةٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِ وَقَوْلُهُ (لَا خَلْقٌ مِنْ خَلْقِهِ) يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّ مُوسَى مَا كَلَّمَهُ مَخْلُوقٌ، وَإِنَّمَا كَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى بِهِ قَدِيمٌ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ (وَتَجَلَّى) أَيْ ظَهَرَ (لِلْجَبَلِ) وَهُوَ طُورُ سَيْنَاءَ مِنْ غَيْرِ تَكْلِيفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ، (فَصَارَ دَكًّا) أَيْ مُسْتَوِيًا مَعَ الْأَرْضِ (مِنْ جَلَالِهِ) تَعَالَى، وَجَلَالُهُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ اسْتِحْقَاقُهُ لِنُعُوتِ التَّعَالِي وَهُوَ رِفْعَتُهُ وَعُلُوُّهُ، وَقِيلَ: سَاخَ بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ بِمَعْنَى غَابَ فِي الْأَرْضِ فَهُوَ يَذْهَبُ حَتَّى الْآنَ.
(وَ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ (أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ) الْقَائِمُ بِذَاتِهِ (لَيْسَ
ــ
[حاشية العدوي]
وَهَذَا وَصْفٌ كَاشِفٌ حَيْثُ أُرِيدَ مِنْ الْكَلَامِ الْمَعْنَى الْقَدِيمِ [قَوْلُهُ: فَخَلَقَ لَهُ فَهْمًا] أَيْ يُدْرِكُ بِهِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُهُ الْقَدِيمُ مِنْ مَأْمُورٍ بِهِ وَمَنْهِيٍّ عَنْهُ مِمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُطْلِعَهُ عَلَيْهِ. [قَوْلُهُ: وَسَمْعًا فِي أُذُنَيْهِ] أَيْ وَقُوَّةً.
[قَوْلُهُ: بِهِ] أَيْ بِتِلْكَ الْقُوَّةِ [قَوْلُهُ: وَلَا حَرْفَ] لَا حَاجَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْحَرْفَ أَخَصُّ مِنْ الصَّوْتِ وَالصَّوْتُ أَعَمُّ وَيَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْأَعَمِّ نَفْيُ الْأَخَصِّ. [قَوْلُهُ: بِكُلِّ جَارِحَةٍ إلَخْ] فِيهِ نَظَرٌ لِمُخَالَفَتِهِ لِمَا قَبْلَهُ، إذْ مُقْتَضَى مَا قَبْلَهُ أَنَّهُ إنَّمَا سَمِعَهُ بِجَارِحَةِ الْأُذُنَيْنِ فَقَطْ لِقَوْلِهِ سَمْعًا فِي أُذُنَيْهِ وَلَمْ يَقُلْ فِي كُلِّ جَوَارِحِهِ، وَكَلَامُهُ فِي التَّحْقِيقِ أَحْسَنُ إذْ حَاصِلُهُ أَنَّهُمَا تَقْرِيرٌ أَنَّ الْأَوَّلَ لِلْفَاكِهَانِيِّ وَالثَّانِي لِابْنِ عُمَرَ فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: وَلَمْ تَقَعْ لَهُ رُؤْيَةٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِ] وَقِيلَ: رَآهُ وَهُوَ مَذْهَبٌ ضَعِيفٌ.
[قَوْلُهُ: يُحْتَمَلُ إلَخْ] أَيْ فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى الضَّمِيرِ فِي كَلَّمَ. [قَوْلُهُ: وَيُحْتَمَلُ إلَخْ] هَذَا أَحْسَنُ مِنْ الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَأْكِيدًا لِرَدٍّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ الْقَائِلِينَ مَعْنَى كَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا أَنَّهُ مُوجِدٌ لِأَصْوَاتٍ وَحُرُوفٍ دَالَّةٍ عَلَى مَعَانٍ مَخْصُوصَةٍ فِي أَجْسَامٍ مَخْصُوصَةٍ، أَوْ لِلْإِشْكَالِ بِالْكِتَابَةِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لِإِنْكَارِهِمْ الْكَلَامَ النَّفْسِيَّ، وَاسْتِحَالَةُ قِيَامِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ بِهِ.
[قَوْلُهُ: طُورُ سَيْنَاءَ إلَخْ] يُحْتَمَلُ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنْ يَكُونَ الْجَبَلُ الْمُسَمَّى بِالطُّورِ مُضَافًا إلَيَّ بُقْعَةٍ اسْمُهَا سَيْنَاءُ أَوْ يَكُونُ اسْمًا لِلْجَبَلِ مُرَكَّبًا مِنْ مُضَافٍ وَمُضَافٍ إلَيْهِ وَهُوَ جَبَلُ فِلَسْطِينَ، وَسَيْنَاءُ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ. [قَوْلُهُ: مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ] فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ التَّكْيِيفَ مَصْدَرُ كَيْفِهِ إذَا ذَكَرَ أَوْ أَدْرَكَ كَيْفِيَّتَهُ أَيْ صِفَتَهُ، وَالتَّشْبِيهُ مَصْدَرُ شِبْهِهِ إذَا جَعَلَهُ مِثْلَ غَيْرِهِ فِي صِفَةٍ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ بَلْ الْمُرَادُ نَفْيُ الْكَيْفِيَّةِ وَالصِّفَةِ اللَّائِقَةِ بِالْحَوَادِثِ.
[قَوْلُهُ: مُسْتَوِيًا] وَقِيلَ صَارَ غُبَارًا. قَالَ بَعْضٌ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْجَبَلَ ذَهَبَ مِنْهُ قَدْرُ الثُّلُثِ وَصَارَ مَا بَقِيَ مِنْهُ مُسْتَوِيًا، وَهُوَ الْيَوْمَ مَزَارُ يُصْعَدُ فَوْقَهُ تَبَرُّكًا بِهِ حَكَاهُ تت.
[قَوْلُهُ: مِنْ جَلَالِهِ] أَيْ مِنْ أَجْلِ جَلَالِهِ، تَقَدَّمَ الْفَرْقُ بَيْنَ صِفَاتِ الْجَلَالِ وَالْجَمَالِ وَالدَّكُّ إنَّمَا جَاءَ مِنْ التَّجَلِّي بِصِفَاتِ الْجَلَالِ إذْ لَوْ تَجَلَّى لَهُ بِصِفَاتِ الْجَمَالِ لَمَا انْدَكَّ. [قَوْلُهُ: عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ] أَقُولُ هَذِهِ الْعِبَارَةُ تُشْعِرُ بِأَنَّ لِلْجَلَالِ عِنْدَ غَيْرِهِمْ مَعْنًى آخَرَ وَأَصْلُ الْعِبَارَةِ لِلْقُشَيْرِيِّ وَنَصُّهُ لَا خِلَافَ عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ أَنَّ جَلَالَهُ اسْتِحْقَاقُهُ لِنُعُوتِ التَّعَالِي إلَخْ. أَيْ فَأَهْلُ الْحَقِّ مُجْمِعُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا تَقْتَضِي هَذِهِ الْعِبَارَةُ أَنَّ لِلْجَلَالِ عِنْدَ غَيْرِهِمْ مَعْنًى كَمَا تَقْتَضِيهِ عِبَارَةُ شَارِحِنَا، فَالْمُنَاسِبُ أَنْ يَذْكُرَ الْعِبَارَةَ عَلَى وَجْهِهَا.
[قَوْلُهُ: لِنُعُوتِ التَّعَالِي] أَيْ لِأَوْصَافِ التَّعَالِي أَيْ لِلْأَوْصَافِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّعَالِي. [قَوْلُهُ: وَهُوَ رِفْعَتُهُ] تَفْسِيرٌ لِلتَّعَالِي. [قَوْلُهُ: وَعُلُوُّهُ] عَطْفُ تَفْسِيرٍ أَيْ وَالرِّفْعَةُ وَالْعُلُوُّ بِصِفَاتِ الْجَلَالِ أَلْيَقُ، وَفَسَّرَ صَاحِبُ الْمِصْبَاحِ الْجَلَالَ بِالْعَظَمَةِ وَهُوَ أَوْلَى مِنْ تَفْسِيرِهِ بِالِاسْتِحْقَاقِ.
[قَوْلُهُ: غَابَ فِي الْأَرْضِ] أَيْ تَحْتَ الْأَرْضِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضٌ. [قَوْلُهُ: وَأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ إلَخْ] هَذَا مُسْتَفَادٌ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى قَدِيمَةٌ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ لِإِفَادَةِ أَنَّ الْقُرْآنَ يُطْلَقُ عَلَى كَلَامِ اللَّهِ الَّذِي لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَيْهِ، وَإِلَّا لَمْ يَحْتَجْ إلَى قَوْلِهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ إذْ يَصِيرُ حَشْرًا كَمَا قَالَهُ عج.
[قَوْلُهُ: كَلَامُ اللَّهِ] بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، وَقَوْلُهُ: الْقَائِمُ بِذَاتِهِ احْتِرَازٌ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ بِمَعْنَى الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ قَائِمَةً بِذَاتِهِ. وَقَوْلُهُ: لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ خَبَرٌ وَعَقَّبَ الْقُرْآنَ بِقَوْلِهِ: كَلَامُ اللَّهِ
بِمَخْلُوقٍ فَيَبِيدَ وَلَا صِفَةً لِمَخْلُوقٍ فَيَنْفَدَ) ابْنُ الْعَرَبِيِّ: يَبِيدُ مَعْنَاهُ يَذْهَبُ، وَيَنْفُدُ مَعْنَاهُ يَتِمُّ. قِيلَ: مِنْهُ نَفِدَ يَنْفَدُ نَفَادًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [الكهف: 109] وَكِلَاهُمَا مَنْصُوبَانِ عَلَى جَوَابِ النَّفْيِ الَّذِي هُوَ لَيْسَ.
(وَ) وَمِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ (الْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ) بِتَحْرِيكِ الدَّالِ. ق: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَجْمُوعُ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ، وَهُوَ الَّذِي يَجْرِي عَلَيْهِ أَلْفَاظُ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: فِيمَا يَأْتِي وَكُلُّ ذَلِكَ قَدْ قَدَّرَهُ اللَّهُ رَبُّنَا وَقَالَ: (عَلِمَ كُلَّ شَيْءٍ قَبْلَ كَوْنِهِ) وَقَالَ: تَعَالَى أَنْ يَكُونَ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يُرِيدُ وَالضَّمَائِرُ فِي قَوْلِهِ (خَيْرِهِ وَشَرِّهِ حُلْوِهِ وَمُرِّهِ) عَائِدَةٌ
ــ
[حاشية العدوي]
قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ: لَمَّا ذَكَرَ الْمَشَايِخُ مِنْ أَنَّهُ يُقَالُ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَا يُقَالُ: الْقُرْآنُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ لِئَلَّا يَسْبِقَ لِلْفَهْمِ أَنَّ الْمُؤَلَّفَ مِنْ الْأَصْوَاتِ وَالْحُرُوفِ قَدِيمٌ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ جَهْلًا وَعِنَادًا.
[قَوْلُهُ: مَعْنَاهُ يَذْهَبُ] أَيْ يَفْنَى وَيَهْلَكُ [قَوْلُهُ: مَعْنَاهُ يَتِمُّ] لَا يَخْفَى أَنَّ تَمَامَهُ ذَهَابُهُ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ، فَالنُّكْتَةُ فِي اخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ مَعَ كَوْنِ الْمَعْنَى مُتَّحِدًا أَنَّ شَأْنَ الْمَخْلُوقِ أَنْ يُوصَفَ بِالْهَلَاكِ لَا بِالتَّمَامِ.
قَالَ تَعَالَى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ} [القصص: 88] أَيْ فَانٍ، فَنَاسَبَ تَفَرُّعَ الْهَلَاكِ عَلَى الْمَخْلُوقِيَّةِ الْمَنْفِيَّةِ، وَشَأْنُ كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ لَهُ أَنْ يُوصَفَ بِالتَّمَامِ تَقُولُ: تَمَّ كَلَامِي وَلَا تَقُولُ هَلَكَ كَلَامِي أَوْ فَنِيَ، فَنَاسَبَ تَفَرُّعُ التَّمَامِ عَلَى كَوْنِهِ صِفَةً لِمَخْلُوقٍ: وَأَجَابَ الْفَاكِهَانِيُّ بِقَوْلِهِ: قُلْت؛ لِأَنَّ الْأَجْسَامَ تَفْنَى أَصَالَةً، فَنَاسَبَ قَوْلَهُ: يَبِيدُ، وَالْأَعْرَاضُ يَخْلُفُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَنَاسَبَ يَنْفَدُ اهـ.
[قَوْلُهُ: لَنَفِدَ الْبَحْرُ] أَيْ فَرَغَ جِنْسُ الْبَحْرِ وَانْتَهَى قَبْلَ أَنْ تَنْتَهِيَ وَتَفْرُغَ كَلِمَاتُ رَبِّي؛ لِأَنَّ الْبَحْرَ وَإِنْ تَعَدَّدَ مُتَنَاهٍ؛ لِأَنَّهُ جِسْمٌ مُتَنَاهٍ، وَكَلِمَاتُ اللَّهِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ فَلَا تَنْفَدُ. [قَوْلُهُ: وَكِلَاهُمَا مَنْصُوبَانِ] رَاعَى الْمَعْنَى، وَلَوْ رَاعَى اللَّفْظَ لَقَالَ: وَكِلَاهُمَا مَنْصُوبٌ، وَيَصِحُّ الرَّفْعُ وَهُوَ أَنْ تَجْعَلَ الْفَاءَ لِمُجَرَّدِ الْعَطْفِ أَيْ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ وَلَيْسَ بِبَائِدٍ.
[قَوْلُهُ: بِتَحْرِيكِ الدَّالِ] وَحُكِيَ سُكُونُهَا بَلْ جَعَلَهُمَا اللَّقَانِيُّ فِي شَرْحِ جَوْهَرَتِهِ وَجْهَيْنِ مَشْهُورَيْنِ كِلَاهُمَا مَصْدَرٌ، قَدَرْت الشَّيْءَ بِفَتْحِ الدَّالِ وَتَخْفِيفِهَا إذَا أَحَطْت بِمِقْدَارِهِ.
[قَوْلُهُ: وَالصَّحِيحُ إلَخْ] أَيْ فَيَكُونُ صِفَةَ ذَاتٍ مُرَكَّبَةٍ مِنْ ثَلَاثِ صِفَاتٍ.
وَفِي كَلَامِ الْأَقْفَهْسِيِّ نَظَرٌ، وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَقَوْله: وَهُوَ الَّذِي يَجْرِي إلَخْ. لَا يُسَلِّمُ إذْ قَوْلُهُ: وَكُلُّ ذَلِكَ قَدْ قَدَّرَهُ اللَّهُ رَبُّنَا مِنْ مَادَّةِ الْقَدَرِ، فَلَا يَكُونُ نَصًّا فِي إرَادَةِ الْقُدْرَةِ إذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: وَكُلُّ ذَلِكَ قَدْ تَعَلَّقَتْ إرَادَتُهُ بِهِ.
وَقَوْلُهُ: عَلِمَ كُلَّ شَيْءٍ إلَخْ إخْبَارٌ مِنْ الْمُصَنِّفِ بِصِفَاتِ الْمَوْلَى لِأَجْلِ أَنْ تَعْتَقِدَ فَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْعِلْمَ جُزْءُ الْمَدْلُولِ لِلْقَدَرِ، وَكَذَا قَوْله تَعَالَى إلَخْ. بَلْ الْقَدَرُ عِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ إيجَادُ الْأَشْيَاءِ عَلَى قَدَرٍ مَخْصُوصٍ وَتَقْدِيرٍ مُعَيَّنٍ فِي ذَوَاتِهَا وَأَحْوَالِهَا طِبْقَ مَا سَبَقَ بِهِ الْعِلْمُ الْقَدِيمُ، أَيْ فَهُوَ صِفَةُ فِعْلٍ، وَعِنْدَ الْمَاتُرِيدِيَّةِ تَحْدِيدُهُ أَزَلًا كُلُّ مَخْلُوقٍ يَحُدُّهُ الَّذِي يُوجَدُ بِهِ مِنْ حُسْنٍ وَقُبْحٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، أَيْ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ بِالْحَدِّ الَّذِي يُوجَدُ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ قَاسِمٍ.
[قَوْلُهُ: بِتَأْوِيلِ خَيْرِ إلَخْ] إنَّمَا احْتَاجَ الشَّارِحُ إلَى هَذَا التَّأْوِيلِ؛ لِأَنَّهُ فَسَّرَ الْقَدَرَ بِالْأَوْصَافِ الثَّابِتَةِ، فَلَا يَصِحُّ حِينَئِذٍ إبْدَالُ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ إلَخْ. مِنْهَا أَيْ فَالْمُرَادُ الْخَيْرُ مِنْ الْمَقْدُورَاتِ الْمُضَافَةِ لِلْقَدَرِ، وَهَكَذَا مِنْ إضَافَةِ الْمُتَعَلَّقِ بِفَتْحِ اللَّامِ لِلْمُتَعَلِّقِ بِكَسْرِهَا الَّذِي هُوَ مَجْمُوعُ الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ، وَخُلَاصَةُ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُصَدَّقَ بِأَنَّ الْخَيْرَ مِنْ مُتَعَلَّقِ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَكَذَا غَيْرُهُ فَعَلِمَهَا وَأَرَادَهَا أَزَلًا وَتَعَلَّقَتْ قُدْرَتُهُ بِوُجُودِهَا فِيمَا لَا يَزَالُ، وَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ التَّصْدِيقَ بِالْقَدَرِ لَيْسَ مَقْصُودًا لِذَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْمُبْدَلَ مِنْهُ فِي نِيَّةِ الطَّرْحِ، بَلْ الْقَصْدُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ مِنْ مُتَعَلَّقِ قَدَرِهِ، ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ أَنَّ فِي الْعِبَارَةِ اسْتِخْدَامًا أَطْلَقَ الْقَدَر أَوَّلًا وَأَرَادَ بِهِ الصِّفَاتِ الْمُتَقَدِّمَةَ وَأَعَادَ عَلَيْهِ الضَّمِيرَ بِمَعْنًى آخَرَ وَهُوَ الْمَقْدُورُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى مَحْذُوفٍ مُضَافٍ لِلْقَدَرِ
عَلَى الْقَدَرِ بِتَأْوِيلِ خَيْرِ مَقْدُورَاتِهِ وَشَرِّ مَقْدُورَاتِهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَجِبُ التَّصْدِيقُ بِعُمُومِ إرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِجَمِيعِ الْمُمْكِنَات خَيْرًا كَانَتْ أَوْ شَرًّا حُلْوًا أَوْ مُرًّا، وَفَسَّرُوا الْخَيْرَ بِالطَّاعَاتِ وَالْحُلْوَ بِلَذَّتِهَا وَثَوَابِهَا وَالشَّرَّ بِالْمَعْصِيَةِ وَالْمُرَّ بِمَشَقَّتِهَا وَعِقَابِهَا، (وَكُلُّ ذَلِكَ) أَيْ الْخَيْرُ وَمَا بَعْدَهُ (قَدْ قَدَّرَهُ اللَّهُ رَبُّنَا) ق: وَمَعْنَى (وَمَقَادِيرُ الْأُمُورِ) أَيْ مَبَادِئُهَا (بِيَدِهِ) أَيْ قُدْرَتِهِ (وَمَصْدَرُهَا) أَيْ وُقُوعُهَا عَلَى شَكْلٍ دُونَ شَكْلٍ، وَوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ وَزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ (عَنْ قَضَائِهِ) أَيْ قُدْرَتِهِ، عَبَّرَ بِالْقَضَاءِ عَنْ الْقُدْرَةِ؛ لِأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهَا وَعَلَى الْإِرَادَةِ.
(وَ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى (عَلِمَ كُلَّ شَيْءٍ) مِنْ الْمُمْكِنَاتِ (قَبْلَ كَوْنِهِ) أَيْ وُقُوعِهِ (فَجَرَى) أَيْ وَقَعَ (عَلَى قَدَرِهِ) أَيْ عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ هَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي يَجِبُ اعْتِقَادُهُ وَاعْتِقَادُ غَيْرِهِ كُفْرٌ يُقْتَلُ مُعْتَقِدُهُ إنْ لَمْ يَتُبْ، فَإِنْ قِيلَ: الرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَاجِبٌ وَالْكُفْرُ بِقَضَاءِ اللَّهِ
ــ
[حاشية العدوي]
[قَوْلُهُ: وَشَرِّ مَقْدُورَاتِهِ] أَيْ وَهَكَذَا مِنْ الْحُلْوِ وَالْمُرِّ، وَقِيلَ: إنَّ الْقَدَرَ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَقْدُورَاتِ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّأْوِيلِ [قَوْلُهُ: بِعُمُومٍ إلَخْ] هَذَا يُفِيدُ أَنَّ الْقَدَرَ عِبَارَةٌ عَنْ الْإِرَادَةِ فَقَطْ فَيُنَافِي كَلَامَهُ أَوَّلًا. [قَوْلُهُ: بِجَمِيعِ] أَيْ لِجَمِيعِ [قَوْلُهُ: الْمُمَكَّنَاتِ] أَيْ الَّتِي اتَّصَفَتْ بِالْوُجُودِ. [قَوْلُهُ: خَيْرًا كَانَتْ أَوْ شَرًّا] اُقْتُصِرَ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَإِنْ كَانَتْ الْمُبَاحَاتُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْ تِلْكَ الْعِبَارَةِ التَّعْمِيمُ. تَقُولُ لِغَيْرِك: اعْلَمْ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَقَصْدُك جَمِيعُ مَا هُوَ فِيهِ.
[قَوْلُهُ: وَثَوَابُهَا] عَطْفُ سَبَبٍ عَلَى مُسَبَّبٍ؛ لِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى الثَّوَابِ اللَّذَّةُ فِي الْآخِرَةِ، وَقُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ شَأْنَ الطَّاعَةِ فِي الدُّنْيَا الْمَشَقَّةُ وَالْمَرَارَةُ لَا اللَّذَّةُ، وَيَشْهَدُ لَهُ أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إلَى اللَّهِ أَحَمْزُهَا أَيْ أَشَقُّهَا. [قَوْلُهُ: وَعِقَابُهَا] عَطْفُ سَبَبٍ عَلَى مُسَبِّبٍ؛ لِأَنَّ الْمَشَقَّةَ الْأُخْرَوِيَّةَ تَتَرَتَّبُ عَلَى الْعِقَابِ، وَقُلْنَا الْأُخْرَوِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ شَأْنُهَا الْحُبُّ فَلَا مَشَقَّةَ فِيهَا. [قَوْلُهُ: أَيْ الْخَيْرُ وَمَا بَعْدَهُ] أَيْ بِتَأْوِيلِهَا بِالْمَذْكُورِ فَلِذَلِكَ أُفْرِدَ.
[قَوْلُهُ: قَدْ قَدَّرَهُ إلَخْ] أَيْ تَعَلَّقَتْ قُدْرَتُهُ بِوُجُودِهِ، وَيُحْتَمَلُ تَعَلَّقَتْ إرَادَتُهُ بِوُجُودِهِ أَفَادَهُ عج. وَبِهِ يُعْلَمُ صِحَّة مَا قُلْنَاهُ سَابِقًا. [قَوْلُهُ: مَبَادِئُهَا] الظَّاهِرُ أَنَّهُ جَمْعُ مَبْدَأٍ أَيْ مَحَلُّ بَدْئِهَا، وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِيَدِهِ لِلتَّصْوِيرِ وَالتَّقْدِيرِ، وَمَحَلُّ بَدْئِهَا أَيْ ابْتِدَائِهَا مُصَوَّرٌ بِيَدِهِ أَيْ قُدْرَتِهِ إلَخْ.
وَقَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: وَالْمَعْنَى ابْتِدَاءُ الْأُمُورِ، وَخَبَرُ مَعْنَى قَوْلِهِ أَيْ مَبَادِئُهَا وَالتَّقْدِيرُ، وَمَعْنَى مَقَادِيرِ الْأُمُورِ ظَاهِرٌ بِقَوْلِنَا أَيْ مَبَادِئُهَا، وَلَمْ يُفَسِّرْ الْمَقَادِيرَ جَمْعُ مِقْدَارٍ بِمَعْنَى الْقَدْر أَيْ إنْ قَدَّرَهَا مِنْ صِغَرٍ وَكِبَرٍ وَطُولٍ وَقِصَرٍ بِيَدِهِ أَيْ قُدْرَتُهُ؛ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ وَصْفُ الْإِرَادَةِ لَا الْقُدْرَةِ، وَإِنْ أُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُمَا لَمَّا تَلَازَمَا عَبَّرَ بِأَحَدِ الْمُتَلَازِمَيْنِ عَنْ الْآخَرِ فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: أَيْ وُقُوعُهَا] إشَارَةٌ إلَى أَنَّ مَصْدَرَهَا مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الصُّدُورِ أَيْ الْوُقُوعِ [قَوْلُهُ: وَزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ] هُوَ عَيْنُ قَوْلِهِ وَوَقْتٌ دُونَ وَقْتٍ فَلَوْ قَالَ بَدَلَهُ: وَمَكَانٍ دُونَ مَكَان وَجِهَةٍ دُونَ جِهَةٍ لَكَانَ أَفْضَلَ. [قَوْلُهُ: قُدْرَتِهِ] الْمُنَاسِبُ أَنْ يَقُولَ إرَادَتُهُ لِأَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ إنَّ الْوُقُوعَ عَلَى شَكْلٍ دُونَ شَكْلٍ إلَخْ تَخْصِيصٌ وَهُوَ شَأْنُ الْإِرَادَةِ لَا الْقُدْرَةِ، الثَّانِي: إنَّ الْقَضَاءَ عِنْدَهُمْ إمَّا الْإِرَادَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ أَوْ عِلْمُهُ بِالْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ. [قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهَا وَعَلَى الْإِرَادَةِ] أَيْ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا لَا مَجْمُوعِهِمَا.
[قَوْلُهُ: مِنْ الْمُمْكِنَاتِ] لَا يَخْفَى أَنَّ عِلْمَهُ تَعَالَى يَتَعَلَّقُ بِالْمُمْكِنِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْوَاجِبِ وَالْمُسْتَحِيلِ، وَقَصَرَ الْكَلَامَ عَلَى الْمُمْكِنَاتِ لِقَوْلِهِ: قَبْلَ كَوْنِهِ فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: قَدْرِهِ] أَيْ حَسَبَ عِلْمِهِ أَيْ فَلَمْ يَتَغَيَّرْ أَيْ فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: قَدَرِهِ عَائِدٌ عَلَى الْعِلْمِ الْمَفْهُومِ مِنْ عِلْمٍ عَلَى حَدِّ قَوْله تَعَالَى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] وَالْمُرَادُ عَلَى حَسَبِ مَا عَلِمَهُ، فَالدَّالُ فِي قَدْرِهِ سَاكِنَةٌ وَعِبَارَةُ تت فَجَرَى مَقْدُورُهُ أَيْ وَقَعَ وَجَاءَ عَلَى قَدْرِهِ الَّذِي عَلِمَهُ.
[قَوْلُهُ: هَذَا هُوَ الْحَقُّ] يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ الْعِلْمُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ: عَلِمَ كُلَّ شَيْءٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى الْجَرَيَانِ عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ وَلَعَلَّهُ قَصَدَ الرَّدَّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ الْأُولَى الَّذِينَ يُنْكِرُونَ تَعَلُّقَ عِلْمِ الْمَوْلَى بِشَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الْعِبَادِ قَبْلَ وُقُوعِهَا، وَإِنَّمَا يَعْلَمُهَا بَعْدَ وُقُوعِهَا وَلَا شَكَّ فِي كُفْرِ هَؤُلَاءِ [قَوْلُهُ:
وَهُوَ لَا يَجِبُ الرِّضَا بِهِ؛ لِأَنَّ الرِّضَا بِالْكُفْرِ كُفْرٌ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْكُفْرَ مَقْضِيٌّ لَا قَضَاءُ وَالرِّضَا إنَّمَا يَجِبُ بِالْقَضَاءِ دُونَ الْمَقْضِيِّ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: قَوْلُهُ (لَا يَكُونُ مِنْ عِبَادِهِ قَوْلٌ وَلَا عَمَلٌ إلَّا وَقَدْ قَضَاهُ) دَاخِلٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ عَلِمَ كُلَّ شَيْءٍ إلَخْ. قِيلَ إنَّمَا ذَكَرَهُ وَإِنْ كَانَ دَاخِلًا فِيهِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ عَلَى الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيلِ، وَيَعْلَمُ الْجُزْئِيَّ وَالْكُلِّيَّ رَدًّا عَلَى مَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ عَلَى الْجُمْلَةِ لَا عَلَى التَّفْصِيلِ، وَيَعْلَمُ الْكُلِّيَّ لَا الْجُزْئِيَّ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ كُفْرِهِمْ وَعَصَمَنَا مِنْ اعْتِقَادِهِمْ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ وَقَوْلِهِ:(وَسَبَقَ عِلْمُهُ بِهِ) هُوَ عَيْنُ قَوْلِهِ: عَلِمَ كُلَّ شَيْءٍ قَبْلَ كَوْنِهِ كَرَّرَهُ تَأْكِيدًا ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] أَلَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَلَا النَّافِيَةِ، وَمَعْنَاهَا تَحْقِيقُ مَا بَعْدَهَا؛ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ إذَا دَخَلَ عَلَى النَّفْيِ أَفَادَ الْإِثْبَاتَ وَالتَّقْرِيرَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ عَلَى بَابِهِ لِاسْتِحَالَتِهِ عَلَيْهِ تَعَالَى، وَمَنْ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ وَالْمَفْعُولِ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ: أَلَا يَعْلَمُ الْخَالِقُ مَخْلُوقَهُ أَوْ خَلْقَهُ، وَالْخَلْقُ عَامٌّ فِيمَنْ يَعْقِلُ وَمَنْ لَا يَعْقِلُ، هَذَا قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ.
وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: مَنْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ
ــ
[حاشية العدوي]
فَالْجَوَابُ إلَخْ] جَوَابٌ بِالْمَنْعِ لِتَوَهُّمِ أَنَّ السَّائِلَ اعْتَقَدَ أَنَّ الْكُفْرَ مِنْ أَفْرَادِ الْقَضَاءِ، فَأَجَابَهُ الشَّارِحُ بِقَوْلِهِ: لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ مِنْ مُتَعَلَّقِ الْقَضَاءِ، وَالْوَاجِبُ إنَّمَا هُوَ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْقَائِلَ رَضِيَتْ بِقَضَاءِ اللَّهِ لَا يُرِيدُ أَنَّهُ رَضِيَ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى بَلْ إنَّهُ رَضِيَ بِمُقْتَضَى تِلْكَ الصِّفَةِ وَهُوَ الْمُقْتَضَى، فَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ أَنْ يُقَالَ الرِّضَا بِالْكُفْرِ لَا مِنْ حَيْثُ ذَاتِهِ بَلْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ بِكُفْرٍ قَالَهُ الْغَزَالِيُّ.
[قَوْلُهُ: دُونَ الْمَقْضِيِّ] أَيْ فَلَا يَجِبُ الرِّضَا بِهِ مُطْلَقًا بَلْ إذَا كَانَ وَاجِبًا كَالْإِيمَانِ وَجَبَ الرِّضَا بِهِ أَوْ مَنْدُوبًا نُدِبَ أَوْ حَرَامًا حُرِّمَ، وَالرِّضَا بِالْكُفْرِ كُفْرٌ أَوْ مُبَاحًا أُبِيحَ أَوْ مَكْرُوهًا كُرِهَ كَمَا ذَكَرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي شَرْحِ الْمُنْفَرِجَةِ. [قَوْلُهُ: وَلَا عَمَلٌ] أَدْخَلَ فِيهِ عِلْمَ الْقَلْبِ [قَوْلُهُ: دَاخِلٌ فِي عُمُومِ إلَخْ] فِيهِ نَظَرٌ بَلْ هُوَ مُغَايِرٌ لَهُ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى هَذَا أَنَّ كُلَّ قَوْلٍ وَعَمَلٍ صَدَرَ مِنْ عِبَادِهِ قَدْ تَعَلَّقَتْ إرَادَتُهُ بِهِ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْقَضَاءَ إرَادَةُ اللَّهِ الْمُتَعَلِّقَةُ أَزَلًا، وَعَلَى تَسْلِيمِهِ فَوَجْهُ الدُّخُولِ عَلَى مَا قَالَهُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ شَامِلٌ لِلْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَغَيْرِهِمَا.
[قَوْلُهُ: يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ عَلَى الْجُمْلَةِ إلَخْ] اعْلَمْ أَنَّ لَنَا كُلًّا وَيُقَابِلُهُ الْجُزْءُ وَكُلِّيًّا وَيُقَابِلُهُ جُزْئِيٌّ، الْأَوَّلُ كَالْجَبَلِ فَإِنَّهُ كُلٌّ، وَكُلُّ قِطْعَةٍ مِنْهُ جُزْءٌ، وَالثَّانِي كَالْإِنْسَانِ فَإِنَّهُ كُلِّيٌّ وَزَيْدٌ وَعَمْرٌو وَغَيْرُهُمَا جُزْئِيَّاتٌ لَهُ إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ، فَقَوْلُ الشَّارِحِ: يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ عَلَى الْجُمْلَةِ نَاظِرٌ لِلْأَوَّلِ، وَقَوْلُهُ: وَيَعْلَمُ الْكُلِّيَّ وَالْجُزْئِيَّ نَاظِرٌ لِلثَّانِي فَلَا يُتَوَهَّمُ اتِّحَادُهُمَا، وَالْوَاضِحُ أَنْ يَقُولَ: وَقِيلَ إنَّمَا ذَكَرَهُ لِيُبَيِّنَ أَنَّ اللَّهَ كَمَا يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ عَلَى الْجُمْلَةِ أَيْ الْمَأْخُوذَ مِمَّا تَقَدَّمَ يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَأْخُوذِ مِمَّا هُنَا، وَكَمَا يَعْلَمُ الْكُلِّيَّ الْمَأْخُوذَ مِمَّا تَقَدَّمَ يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّ الْمَأْخُوذَ مِمَّا هُنَا أَيْ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ: لَا يَكُونُ إلَخْ. لَكِنْ أَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ: عَلِمَ كُلَّ شَيْءٍ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْكُلِّيِّ وَلَا الْكُلِّ، بَلْ مِنْ بَابِ الْكُلِّيَّةِ إلَّا أَنَّ هَذَا يُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْهُ بِأَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّرْكِيبِ قَدْ يُسْتَعْمَلُ مِنْ بَابِ الْكُلِّيِّ أَيْ الْمَجْمُوعِيِّ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْكُلِّ.
[قَوْلُهُ: عَنْ كُفْرِهِمْ] أَيْ مَا كَفَرُوا بِهِ، فَلَيْسَ التَّنَزُّهُ عَنْ نَفْسِ الْكُفْرِ بَلْ مَا كَفَرُوا بِهِ وَهُوَ كَوْنُهُ عَلِمَ الْجُمْلَةَ لَا التَّفْصِيلَ إلَخْ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي مِنْ الصِّفَاتِ، بَقِيَ شَيْءٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ اعْتِقَادَهُمْ هُوَ كُفْرُهُمْ فَهُوَ إظْهَارٌ فِي مَوْضِعِ الْإِضْمَارِ، صَرَّحَ بِهِ إشَارَةً إلَى أَنَّ هَذَا الْكُفْرَ اعْتِقَادُهُمْ. [قَوْلُهُ: هُوَ عَيْنُ إلَخْ] فِيهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ عَامٌّ فِي عِبَادِهِ مُطْلَقًا وَهَذَا خَاصٌّ بِعِبَادِهِ الَّذِينَ لَهُمْ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَالْخَاصُّ لَيْسَ عَيْنَ الْعَامِّ. [قَوْلُهُ: هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ] أَيْ الْإِنْكَارِيِّ كَمَا أَفَادَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ.
[قَوْلُهُ: لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ] أَيْ الْإِنْكَارِيَّ [قَوْلُهُ: وَالتَّقْرِيرَ] هُوَ الْحَمْلُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِمَا بَعْدَ النَّفْيِ فَعَطَفَهُ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنْ عَطْفِ الْمَلْزُومِ عَلَى اللَّازِمِ. [قَوْلُهُ: عَلَى بَابِهِ] أَيْ مِنْ طَلَبِ الْإِفْهَامِ. [قَوْلُهُ: لِاسْتِحَالَتِهِ عَلَيْهِ] أَيْ لِاسْتِدْعَائِهِ الْجَهْلَ. [قَوْلُهُ: مَخْلُوقَهُ أَوْ خَلْقَهُ] تَنْوِيعٌ فِي الْعِبَارَةِ، وَالْمُرَادُ
أَيْ أَلَا يَعْلَمُ اللَّهُ مَنْ خَلَقَ وَمَنْ لَمْ يَعْقِلْ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْلَمُ عِبَادَهُ دُونَ أَفْعَالِهِمْ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ، وَاللَّطِيفُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى يُطْلَقُ بِإِزَاءِ مَعَانٍ بِمَعْنَى الْعَلِيمِ بِخَفِيَّاتِ الْأُمُورِ وَغَوَامِضِهَا وَمُشْكِلَاتِهَا، وَبِمَعْنَى الرَّحِيمِ وَبِمَعْنَى فَاعِلِ اللُّطْفِ.
وَقَوْلُهُ: (وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ فَيَخْذُلُهُ بِعَدْلِهِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَيُوَفِّقُهُ بِفَضْلِهِ) دَلِيلٌ عَلَى قَوْلِهِ: لَا يَكُونُ مِنْ عِبَادِهِ إلَخْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْهِدَايَةَ وَالتَّوْفِيقَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ خَلْقُ الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَالضَّلَالُ وَالْخِذْلَانُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ ضِدُّ ذَلِكَ، وَالْعَدْلُ تَصَرُّفُ الْمَالِكِ فِي مُلْكِهِ وَالْفَضْلُ إعْطَاءُ عَطِيَّةٍ بِغَيْرِ عِوَضٍ ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى قَوْلِهِ: يَضِلُّ إلَخْ فَقَالَ:
ــ
[حاشية العدوي]
وَاحِدٌ إذْ الْمُرَادُ بِالْخَلْقِ الْمَخْلُوقُ [قَوْلُهُ: وَالْخَلْقُ عَامٌّ] أَيْ وَكَذَا الْمَخْلُوقُ عَامٌّ. [قَوْلُهُ: وَمَنْ لَا يَعْقِلُ] أَيْ كَأَفْعَالِنَا الِاخْتِيَارِيَّةِ.
وَحَاصِلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الذَّوَاتَ وَصِفَاتِهَا مِنْ بَيَاضٍ وَسَوَادٍ وَقُدْرَةٍ وَإِرَادَةٍ وَغَيْرِهَا، وَالْأَفْعَالَ الِاضْطِرَارِيَّةَ مَخْلُوقَةٌ لِلْمَوْلَى عز وجل بِاتِّفَاقٍ، وَالْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُعْتَزِلَةُ فِي الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، فَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ عز وجل وَهُمْ يَقُولُونَ: إنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِلْعَبْدِ. [قَوْلُهُ: مَنْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ] أَيْ فَيَكُونُ الْفَاعِلُ مَحْذُوفًا وَاعْتُرِضَ تت هَذَا الْإِعْرَابُ بِقَوْلِهِ: وَفِي هَذَا الْإِعْرَابِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لِمَا لَا لِمَنْ إذْ قَبْلَهُ، وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوْ اجْهَرُوا بِهِ إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ فَهِيَ عَلَى هَذَا وَاقِعَةٌ عَلَى مَا تُكِنُّهُ الصُّدُورُ فَالْوَاجِبُ مَا اهـ.
وَمَقْصُودُهُمَا كَمَا يُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِ الشَّارِحِ دُونَ أَفْعَالِهِمْ الَّذِي هُوَ مَحَطُّ الْفَائِدَةِ، أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ فِعْلَ عَبْدِهِ، وَخَلْقُ الْجَمَادِ شَيْءٌ آخَرُ فَلَا يَرِدُ مَا يُقَالُ: قَضِيَّةُ كَلَامِهِمْ هَذَا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ الْمَوْلَى لَا يَخْلُقُ إلَّا مَنْ يَعْقِلُ فَقَطْ، وَأَمَّا الْجَمَادَاتُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ لَا يَقُولُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ إيَّاهَا مَعَ أَنَّهُمْ يُوَافِقُونَا، وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ مَا نَسَبَهُ لِلْمُعْتَزِلَةِ مَنْ أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَعْلَمُ أَفْعَالَ الْعِبَادِ إنَّمَا يَظْهَرُ فِي الْمُعْتَزِلَةِ الْأُولَى الَّذِينَ يُنْكِرُونَ تَعَلُّقَ عِلْمِ الْبَارِي بِالْأَشْيَاءِ قَبْلَ وُقُوعِهَا، وَإِنَّمَا يَعْلَمُهَا بَعْدَ وُقُوعِهَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ: وَقَدْ انْقَرَضَ هَذَا الْمَذْهَبُ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ الْآنَ كَمَا قَالَ بَعْضٌ فَهُمْ مُطْبِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ قَبْلَ وُقُوعِهَا، وَإِنَّمَا خَالَفُوا السَّلَفَ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ الِاخْتِيَارِيَّةَ مَقْدُورَةٌ وَوَاقِعَةٌ مِنْهُمْ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِقْلَالِ فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: بِإِزَاءِ مَعَانٍ] أَيْ فِي مُقَابَلَةِ مَعَانٍ [قَوْلُهُ: بِمَعْنَى الْعَلِيمِ] فَهُوَ بِمَعْنَى الْأَسْمَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى صِفَاتِ الذَّاتِ. [قَوْلُهُ: وَغَوَامِضُهَا] عَطْفُ خَاصٍّ عَلَى عَامٍّ، وَقَوْلُهُ وَمُشْكِلَاتُهَا مُرَادِفٌ لِلَّذِي قَبْلَهُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْخَفَاءَ وَالْغُمُوضَ وَالْإِشْكَالَ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لَنَا وَإِلَّا فَالْكُلُّ عِنْدَ اللَّهِ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ. [قَوْلُهُ: وَبِمَعْنَى الرَّحِيمِ] إنْ فُسِّرَ بِالْمُنْعِمِ بِدَقَائِق النِّعَمِ كَانَ دَالًّا عَلَى صِفَةِ الْفِعْلِ، وَإِنْ فُسِّرَ بِمُرِيدِ الْإِنْعَامِ فَهُوَ دَالٌّ عَلَى صِفَةِ ذَاتٍ. [قَوْلُهُ: وَبِمَعْنَى فَاعِلِ اللُّطْفِ] أَيْ فَفَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ فَهُوَ دَالٌّ عَلَى صِفَةِ الْفِعْلِ عَلَى هَذَا.
[قَوْلُهُ: اللُّطْفُ] أَيْ الْإِحْسَانُ، وَهَذَا الْمَعْنَى أَعَمُّ مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ، وَالْمُرَادُ بِالْإِحْسَانِ مَا يُنْعِمُ بِهِ عَلَى الْعَبْدِ إذْ هُوَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْإِعْطَاءُ لَا نَفْسُ الْإِعْطَاءِ الَّذِي هُوَ مَعْنًى حَقِيقِيٌّ لَهُ. [قَوْلُهُ: يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ] أَيْ مَنْ يَشَاءُ ضَلَالَهُ. وَقَوْلُهُ: فَيَخْذُلُهُ مُرَادِفٌ لِقَوْلِهِ: يُضِلُّ، فَأَتَى بِهِ تَثْبِيتًا وَتَقْرِيرًا لِمَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَأَتَى بِالثَّانِي عَلَى وَفْقِهِ لِيَتَنَاسَقَ الْكَلَامُ، وَغَايَرَ فِي التَّعْبِيرِ دَفْعًا لِلثِّقَلِ الْحَاصِلِ بِالتَّكْرَارِ اللَّفْظِيِّ. [قَوْلُهُ: دَلِيلًا إلَخْ] لَا مَعْنَى لِتِلْكَ الدَّلَالَةِ إذْ هَذِهِ كُلُّهَا جُمَلٌ أَتَى بِهَا الْمُصَنِّفُ مُجَرَّدَةً عَنْ الْأَدِلَّةِ لِيُعْتَقَدَ مَدْلُولُهَا، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ الْقَصْدَ أَنَّ ذَلِكَ لَمَّا جَاءَ الْقُرْآنُ بِهِ كَانَ دَلِيلًا لِمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَقْصُودًا لِلْمُصَنِّفِ فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: خَلْقُ الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّاعَةِ] أَرَادَ بِالْقُدْرَةِ الْعَرَضَ الْمُقَارِنَ لِلْفِعْلِ، وَاسْتَظْهَرَ بَعْضٌ أَنَّهَا خَلْقُ الطَّاعَةِ؛ لِأَنَّ التَّوْفِيقَ مَا بِهِ الْوِفَاقُ وَهُوَ بِخَلْقِ الطَّاعَةِ لَا بِالْقُدْرَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مُقَارِنَةً فَإِنْ قُلْت: أَلْ فِي الطَّاعَةِ لِلْجِنْسِ أَوْ الِاسْتِغْرَاقِ قُلْت: لِلِاسْتِغْرَاقِ أَيْ خَلْقُ الْقُدْرَةَ عَلَى جَمِيعِ الطَّاعَاتِ بِحَيْثُ لَا تَقَعُ مِنْهُ مَعْصِيَةٌ أَصْلًا فَلِذَلِكَ قَالَ اللَّقَانِيُّ: فَالْمُوَفَّقُ لَا يَعْصِي أَيْ لَا يَقَعُ مِنْهُ مَعْصِيَةٌ أَصْلًا.
[قَوْلُهُ: ضِدُّ ذَلِكَ] وَهُوَ خَلْقُ
(فَكُلٌّ) بِالتَّنْوِينِ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (مُيَسَّرٌ) أَيْ مُسَهَّلٌ، وَالتَّنْوِينُ لِلْعِوَضِ أَيْ كُلُّ شَيْءٍ، وَيُرْوَى فَكُلُّ مُيَسَّرٍ بِالْإِضَافَةِ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ (بِتَيْسِيرِهِ إلَى مَا) أَيْ الَّذِي (سَبَقَ مِنْ عِلْمِهِ وَقَدَرِهِ) مِنْ بِمَعْنَى فِي مُتَعَلِّقٌ بِسَبَقِ وَمِنْ فِي قَوْلِهِ (مِنْ شَقِيٍّ أَوْ سَعِيدٍ) لِبَيَانِ السَّابِقِ مِنْ عِلْمٍ وَقَدَرٍ، وَالشَّقَاوَةُ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَضَرَّةِ اللَّاحِقَةِ فِي الْعُقْبَى وَالسَّعَادَةُ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَنْفَعَةِ اللَّاحِقَةِ فِي الْعُقْبَى، ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى قَوْلِهِ فَكُلٌّ إلَخْ بِقَوْلِهِ:(تَعَالَى) أَيْ تَنَزَّهَ وَتَقَدَّسَ عَنْ (أَنْ يَكُونَ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يُرِيدُ أَوْ يَكُونَ لِأَحَدٍ عَنْهُ غِنًى) لَوْ قَالَ لِشَيْءٍ بَدَلٌ لِأَحَدٍ لَكَانَ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَعَمُّ، لَكِنَّهُ أَتَى بِلَفْظِ أَحَدٍ إشَارَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر: 15] ؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَقَعُ عَلَى غَيْرِ النَّاسِ وَهُوَ رَدٌّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ الْقَائِلِينَ إنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَى إيجَادِ أَفْعَالِهِمْ قَبْلَ إيجَادِهَا، مُسْتَغْنُونَ عَنْ رَبِّهِمْ فِي حَالِ اخْتِرَاعِهِمْ لَهَا، وَهَذَا هُوَ
ــ
[حاشية العدوي]
الْقُدْرَةِ عَلَى الْكُفْرِ فَقَدْ قَالَ: بَعْضٌ: الْخِذْلَانُ مُرَادِفٌ لِلْكُفْرِ فَالْعَاصِي عَلَى هَذَا لَا يُقَالُ: فِيهِ مَخْذُولٌ، وَفِي عِبَارَةٌ أَنَّ الضَّلَالَ خَلْقُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْكُفْرِ وَالْخِذْلَانُ خَلْقُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، فَالْفَاسِقُ عَلَى هَذَا مَخْذُولٌ وَيَكُونُ الْخِذْلَانُ أَعَمَّ.
[قَوْلُهُ: تَصَرُّفُ الْمَالِكِ فِي مُلْكِهِ] أَيْ بِغَيْرِ الْإِحْسَانِ فَيَكُونُ مُبَايِنًا لِلْفَضْلِ، أَوْ بِالْإِحْسَانِ وَبِغَيْرِهِ فَيَكُونُ الْفَضْلُ أَخَصَّ مِنْهُ. [قَوْلُهُ: أَيْ مُسَهَّلٌ] أَيْ مُهَيَّأٌ. [قَوْلُهُ: أَيْ كُلُّ شَيْءٍ إلَخْ] لَوْ قَالَ: أَيْ كُلُّ مُكَلَّفٍ لَكَانَ أَحْسَنَ لِعُمُومِ الشَّيْءِ مَعَ أَنَّ التَّيْسِيرَ لِمَا ذُكِرَ خَاصٌّ بِالْمُكَلَّفِ.
[قَوْلُهُ: وَيُرْوَى إلَخْ] وَالتَّقْدِيرُ فَكُلُّ شَخْصٍ مَوْصُوفٍ بِكَوْنِهِ مُيَسَّرًا مُلْتَبِسٌ بِتَيْسِيرِهِ إلَى الَّذِي سَبَقَ فِي عِلْمِهِ وَقَدَرِهِ مِنْ أَسْبَابِ شَقَاوَةِ شَقِيٍّ وَأَسْبَابِ سَعَادَةِ سَعِيدٍ، وَفِيهِ إظْهَارٌ فِي مَوْضِعِ الْإِضْمَارِ، وَحَاصِلُ تِلْكَ الْعِبَارَةِ أَنَّ قَوْلَهُ: إلَى مَا تَنَازَعَ فِيهِ مُيَسَّرٌ وَتَيْسِيرٌ، وَأُعْمِلَ الثَّانِي قُرِئَ بِالتَّنْوِينِ أَوْ بِالْإِضَافَةِ.
[قَوْلُهُ: وَقَدَرِهِ] الْمُنَاسِبُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْإِرَادَةُ إذْ لَهَا تَعَلُّقٌ تَنْجِيزِيٌّ قَدِيمٌ [قَوْلُهُ: عَنْ الْمَضَرَّةِ إلَخْ] هِيَ الْمَوْتُ عَلَى الْكُفْرِ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْخُلُودُ فِي النَّارِ وَتَوَابِعُهُ [قَوْلُهُ: اللَّاحِقَةِ فِي الْعُقْبَى] أَيْ مُنْتَهَى أَمْرِهِ.
[قَوْلُهُ: عَنْ الْمَنْفَعَةِ إلَخْ] وَهِيَ الْمَوْتُ عَلَى الْإِيمَانِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْخُلُودُ فِي الْجَنَّةِ وَتَوَابِعُهُ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَفْسِيرِ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ، وَذَهَبَ الْمَاتُرِيدِيُّ إلَى أَنَّ السَّعِيدَ هُوَ الْمُسْلِمُ وَالشَّقِيُّ هُوَ الْكَافِرُ، فَعَلَى مَذْهَبِ الْأَشْعَرِيِّ لَا يَنْتَقِلُ السَّعِيدُ عَمَّا ثَبَتَ لَهُ وَكَذَلِكَ الشَّقِيُّ، وَعَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْمَاتُرِيدِيُّ يُتَصَوَّرُ أَنَّ السَّعِيدَ قَدْ يَشْقَى بِأَنْ يَرْتَدَّ بَعْدَ الْإِيمَانِ، وَالشَّقِيُّ قَدْ يَسْعَدُ بِأَنْ يُؤْمِنَ بَعْدَ الْكُفْرِ.
[قَوْلُهُ: ثُمَّ اسْتَدَلَّ إلَخْ] إلَّا أَنَّ الطَّرَفَ الْأَوَّلَ أَعْنِي قَوْلَهُ: أَنْ يَكُونَ فِي مُلْكِهِ اسْتِدْلَالٌ عَلَى قَوْلِهِ: إلَى مَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ وَقَدَرِهِ، وَقَوْلُهُ: أَوْ يَكُونَ لِأَحَدٍ عَنْهُ غِنًى اسْتِدْلَالٌ عَلَى قَوْلِهِ: بِتَيْسِيرِهِ، فَفِي الْعِبَارَةِ لَفٌّ وَنَشْرٌ مُشَوِّشٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهَا جُمَلٌ الْقَصْدُ مِنْهَا الِاعْتِقَادُ فَلَا اسْتِدْلَالَ. وَقَوْلُهُ: مَا لَا يُرِيدُ لَوْ تَمَّ الْكَلَامُ لَقَالَ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يَعْلَمُهُ وَمَا لَا يُرِيدُهُ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِالْقَدَرِ الْإِرَادَةَ، وَمُقْتَضَى قَوْلِهِ: سَبَقَ أَنْ يَقُولَ مَا لَمْ يُرِدْهُ بِلَمْ الْجَازِمَةِ [قَوْلُهُ:؛ لِأَنَّهُ أَعَمُّ] ؛ لِأَنَّهُ يَشْمَلُ بَقِيَّةَ الْحَيَوَانَاتِ.
[قَوْلُهُ: وَهُوَ رَدٌّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ إلَخْ] أَيْ هَذَا الطَّرَفُ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ أَوْ يَكُونُ إلَخْ فَيُرَدُّ عَلَى الشَّارِحِ أَنَّ الْأَوَّلَ أَيْضًا رَدٌّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّهُمْ ذَهَبُوا إلَى أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى لَا يُرِيدُ الشَّرَّ وَالْكُفْرَ وَالْمَعْصِيَةَ وَقَعَتْ أَمْ لَا وَيُرِيدُ الطَّاعَةَ وَالْخَيْرَ وَقَعَ أَمْ لَا، وَأَنَّ الْإِرَادَةَ تُوَافِقُ الْأَمْرَ فَكُلُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ يُرِيدُهُ وَعِنْدَنَا يَنْفَكَّانِ فَقَدْ يُرِيدُ وَيَأْمُرُ كَإِيمَانِ أَبِي بَكْرٍ، وَقَدْ لَا يُرِيدُ وَلَا يَأْمُرُ كَكُفْرِهِ، وَقَدْ يُرِيدُ وَلَا يَأْمُرُ كَكُفْرِ أَبِي جَهْلٍ، وَقَدْ يَأْمُرُ وَلَا يُرِيدُ كَإِيمَانِهِ.
[قَوْلُهُ: وَنَحْوِهِمْ] أَيْ مِنْ أَهْلِ الْبِدْعَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْفَاكِهَانِيُّ. [قَوْلُهُ: أَنَّهُمْ قَادِرُونَ إلَخْ] أَيْ فَعِنْدَهُمْ الْقُدْرَةُ سَابِقَةٌ عَلَى الْفِعْلِ، إلَّا أَنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِلْمَوْلَى جَلَّ وَعَزَّ، وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْفِعْلِ لَا تَكُونُ إلَّا مَعَ الْفِعْلِ، وَصِحَّةُ التَّكْلِيفِ تَعْتَمِدُ عَلَى سَلَامَةِ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ لَا عَلَى الْقُدْرَةِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا الْفِعْلُ، فَلَا يُقَالُ: إذَا كَانَتْ الْقُدْرَةُ مُقَارِنَةً لِلْفِعْلِ لَا سَابِقَةً
الضَّلَالُ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ.
وَكَذَا قَوْلُهُ: (أَوْ يَكُونُ خَالِقٌ) بِالرَّفْعِ عَلَى أَنْ يَكُونَ تَامَّةً (لِشَيْءٍ إلَّا هُوَ) رَدٌّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ أَيْضًا دَلِيلُهُ قَوْله تَعَالَى {لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 102] وَفِيهِ عُمُومٌ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ، إذْ يَخْرُجُ مِنْهُ ذَاتُهُ وَصِفَاتُهُ وَأَسْمَاؤُهُ سبحانه وتعالى (رَبُّ الْعِبَادِ) أَيْ خَالِقُهُمْ وَسَيِّدُهُمْ (وَرَبُّ أَعْمَالِهِمْ وَالْمُقَدِّرُ لِحَرَكَاتِهِمْ) وَسَكَنَاتِهِمْ (وَآجَالِهِمْ) جَمْعُ أَجَلٍ وَهُوَ مُدَّةُ الشَّيْءِ وَوَقْتُهُ، وَهَذَا رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْقَاتِلَ قَدْ قَطَعَ عَلَى الْمَقْتُولِ أَجَلَهُ وَمَا قَالُوهُ بَاطِلٌ بَلْ هُوَ مَيِّتٌ بِأَجَلِهِ.
قَالَ تَعَالَى {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ} [نوح: 4]{فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34] وَهُنَا تَمَّ الْكَلَامُ عَلَى مَا يَجِبُ لَهُ سبحانه وتعالى وَمَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ.
ثُمَّ انْتَقَلَ يَتَكَلَّمُ عَلَى مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ التَّفَضُّلِ وَالْإِحْسَانِ مِنْ إيجَادِ الْخَلْقِ بَعْدَ عَدَمِهِمْ وَعَدَمِهِمْ بَعْدَ
ــ
[حاشية العدوي]
عَلَيْهِ يَلْزَمُ تَكْلِيفُ الْعَاجِزِ، وَذَلِكَ لِمَا قُلْنَاهُ أَنَّ التَّكْلِيفَ مَنُوطٌ بِسَلَامَةِ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ وَجَائِزٌ أَنْ تَحْصُلَ قَبْلَ الْفِعْلِ.
[قَوْلُهُ: مُسْتَغْنَوْنَ عَنْ رَبِّهِمْ فِي حَالِ اخْتِرَاعِهِمْ] يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْقُدْرَةَ إذَا كَانَتْ سَابِقَةً عَلَى الْفِعْلِ فَالِاسْتِغْنَاءُ حَاصِلٌ وَلَوْ قَبْلَ الِاخْتِرَاعِ، فَلَا وَجْهَ لِلتَّقْيِيدِ وَالِاسْتِغْنَاءِ الْمَذْكُورِ مِنْ حَيْثُ حُصُولُ ذَلِكَ الْفِعْلِ لَا مُطْلَقًا لِمَا قُلْنَا أَنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ الْقُدْرَةَ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ عز وجل. [قَوْلُهُ: إلَّا هُوَ] بَدَلٌ مِنْ خَالِقٍ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى نَفْيُ الْخَلْقِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى. [قَوْلُهُ: رَدٌّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ أَيْضًا] أَيْ كَمَا حَصَلَ الرَّدُّ بِقَوْلِهِ: أَوْ يَكُونُ إلَخْ، وَخُلَاصَتُهُ أَنَّ الرَّدَّ عَلَيْهِمْ قَدْ حَصَلَ بِالْأَوَّلِ وَزِيَادَةُ هَذَا إنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ التَّأْكِيدِ تَثْبِيتًا لِلْمُبْتَدِئِ.
[قَوْلُهُ: وَفِيهِ عُمُومٌ إلَخْ] لَا حَاجَةَ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ شَيْءٍ، مُشَاءٌ أَيْ مُرَادٌ، فَتَخْرُجُ ذَاتُهُ وَصِفَاتُهُ؛ لِأَنَّ الْإِرَادَةَ لَا تَتَعَلَّقُ إلَّا بِالْمُمْكِنِ [قَوْلُهُ: وَأَسْمَاؤُهُ] تَقَدَّمَ مَا فِيهِ. [قَوْلُهُ: أَيْ خَالِقُهُمْ إلَخْ] اعْلَمْ أَنَّ الرَّبَّ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْخَالِقُ وَيُرَادُ بِهِ الْمَالِكُ وَالسَّيِّدُ وَالْقَائِمُ بِالْأُمُورِ وَالْمُصْلِحُ لَهَا إذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ، فَقَوْلُ الشَّارِحِ: أَيْ خَالِقُهُمْ وَسَيِّدُهُمْ إشَارَةً لِمَعْنَيَيْنِ مِنْ مَعَانِي الرَّبِّ. [قَوْلُهُ: وَرَبُّ أَعْمَالِهِمْ] أَيْ خَالِقُهَا فِيهِ رَدٌّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ أَيْضًا.
[قَوْلُهُ: وَالْمُقَدِّرُ لِحَرَكَاتِهِمْ] أَيْ الْمُحَدِّدُ وَالْمُعَيِّنُ كَمَا قَالَ تت، وَالْوَاضِحُ أَنْ يَقُولَ أَيْ الَّذِي تَعَلَّقَتْ إرَادَتُهُ أَزَلًا بِحَرَكَاتِهِمْ جَمْعُ حَرَكَةٍ وَعُرِفَتْ بِأَنَّهَا كَوْنَانِ فِي آنَيْنِ فِي مَكَانَيْنِ، وَالسُّكُونُ كَوْنَانِ فِي آنَيْنِ فِي مَكَان وَاحِدٍ، وَالْآنَيْنِ تَثْنِيَةُ آنٍ وَهُوَ طَرَفُ الزَّمَانِ وَقِيلَ أَيْضًا فِي تَعْرِيفِهِمَا الْحَرَكَةُ حُصُولُ أَوَّلٍ فِي حَيِّزٍ ثَانٍ وَالسُّكُونُ حُصُولُ ثَانٍ فِي حَيِّزٍ أَوَّلٍ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا كَوْنٌ وَاحِدٌ عَلَى هَذَا وَلَكِنْ لَا بُدَّ فِي تَحَقُّقِ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ كَوْنٍ آخَرَ كَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ.
[قَوْلُهُ: وَسَكَنَاتِهِمْ] زَادَهَا الشَّارِحُ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَيْهَا الْمُصَنِّفُ إمَّا؛ لِأَنَّ الْحَرَكَاتِ أَظْهَرُ مِنْهَا فِي الْوُجُودِ، أَوْ؛ لِأَنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ إنَّمَا يَتَرَتَّبَانِ عَلَى الْحَرَكَاتِ غَالِبًا. [قَوْلُهُ: وَوَقْتِهِ] عَطْفُ تَفْسِيرٍ. [قَوْلُهُ: قَدْ قَطَعَ إلَخْ] يُطْلَقُ الْأَجْلُ وَيُرَادُ بِهِ مُدَّةُ الْعُمْرِ، وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْوَقْتُ الْمُحَدَّدُ لِلْمَوْتِ فِيهِ إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ، فَالْأَجَلُ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِهِ كُلٌّ مِنْهُمَا، وَالْأَجَلُ فِي قَوْلِ الشَّارِحِ قَطَعَ عَلَى الْمَقْتُولِ أَجَلَهُ وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ لَا الثَّانِي فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: بِأَجَلِهِ] أَيْ فِي أَجَلِهِ، أَرَادَ بِالْأَجَلِ هُنَا بِالْمَعْنَى الثَّانِي وَلَوْ فُرِضَ أَنَّهُ لَمْ يُقْتَلْ لَاحْتُمِلَ أَنْ يَحْيَا وَأَنْ يَمُوتَ فَلَا قَطْعَ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ غَيْبٌ عَلَيْنَا هَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ. [قَوْلُهُ: وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ] عَطْفٌ عَلَى، إذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ أَيْ أَخْبَرَ بِأَمْرَيْنِ هُمَا: إذَا جَاءَ الْأَجَلُ لَا يُؤَخَّرُ وَأَنَّكُمْ لَا تَتَقَدَّمُونَ عَلَى الْأَجَلِ بِحَيْثُ تَمُوتُونَ قَبْلَهُ فَلَا يَرِدُ مَا يُقَال إذَا جَاءَ الْأَجَلُ كَيْفَ يُعْقَلُ تَقَدُّمٌ، وَوَجْهُ عَدَمِ الْوُرُودِ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الشَّرْطِ وَالْوُرُودُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لَا يَسْتَأْخِرُونَ.
[قَوْلُهُ: ثُمَّ انْتَقَلَ إلَخْ] لَمَّا كَانَ الْجَائِزُ شِبْهُ الْمُرَكَّبِ مِنْ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ أَخَّرَهُ؛ لِأَنَّ الْجُزْءَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْكُلِّ. [قَوْلُهُ: عَلَى سَبِيلِ التَّفَضُّلِ إلَخْ] حَالٌ مِنْ مَا أَوْ فَاعِلٌ يَجُوزُ، وَأَتَى بِقَوْلِهِ عَلَى سَبِيلِ إلَخْ إشَارَةً إلَى أَنَّ هَذَا الْجَائِزَ مِنْ بَابِ الْفَضْلِ لَا مِنْ بَابِ الْعَدْلِ إذْ مِنْ أَفْرَادِ الْجَائِزِ مَا كَانَ مِنْ بَابِ الْعَدْلِ أَيْضًا وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنْ سَيَقُولُ: وَخَلَقَ النَّارَ فَأَعَدَّهَا إلَخْ.
وُجُودِهِمْ وَبَعْثَةُ الرُّسُلِ وَبَدَأَ بِهِ فَقَالَ: (الْبَاعِثُ الرُّسُلِ) أَيْ وَمِنْ الْجَائِزِ الَّذِي يَجِبُ اعْتِقَادُهُ وَالْإِيمَانُ بِهِ بَعْثَةُ الرُّسُلِ (إلَيْهِمْ) أَيْ إلَى الْعِبَادِ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ بَعْضِ الْعِبَادِ وَهُمْ الْمُكَلَّفُونَ مِنْهُمْ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:(لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ) إذْ الْمَقَامُ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ مَنْ وُجِدَتْ فِيهِ شُرُوطُ التَّكْلِيفِ وَهِيَ الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ وَبُلُوغُ الدَّعْوَةِ، فَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ وَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15] .
وَمِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ عَلَى مَا قَالَ (ع) قَوْلُهُ: (ثُمَّ خَتَمَ الرِّسَالَةَ) وَهِيَ اخْتِصَاصُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِخِطَابِ التَّبْلِيغِ (وَالنِّذَارَةِ) بِكَسْرِ النُّونِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَهِيَ التَّحْذِيرُ مِنْ السُّوءِ، (وَالنُّبُوَّةَ) مِنْ النَّبَأِ وَهُوَ الْخَبَرُ أَوْ مِنْ النُّبُوَّةِ وَهِيَ الرِّفْعَةُ (بِمُحَمَّدٍ
ــ
[حاشية العدوي]
لَا يَخْفَى أَنَّهُ مِنْ الْجَائِزِ وَلَيْسَ مِنْ بَاب الْفَضْلِ بَلْ مِنْ بَابِ الْعَدْلِ فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: وَالْإِحْسَانِ] عَطْفُ تَفْسِيرٍ. [قَوْلُهُ: وَعَدَمِهِمْ بَعْدَ وُجُودِهِمْ] الْمُنَاسِبُ أَنْ يَقُولَ: وَإِعْدَامِهِمْ بَعْدَ وُجُودِهِمْ، أَيْ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْفَضْلِ لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إلَى حَيَاةٍ دَائِمَةٍ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّكَلُّمَ عَلَى الْإِيجَادِ بَعْدَ الْعَدَمِ لَيْسَ بِطَرِيقِ الْقَصْدِ، إنَّمَا هُوَ بِطَرِيقِ أَنْ يَنْظُرَ بِهِ الْإِعَادَةَ بَعْدَ الْمَوْتِ، أَيْ فِي قَوْلِهِ كَمَا بَدَأَهُمْ يَعُودُونَ، وَأَنَّ الْإِعْدَامَ بَعْدَ الْوُجُودِ إنَّمَا أَشَارَ لَهُ بِقَوْلِهِ: يَمُوتُ [قَوْلُهُ: وَالْإِيمَانُ بِهِ] أَيْ الْإِذْعَانُ، وَعَطْفُهُ عَلَى مَا قَبْلَهُ مُغَايِرٌ.
[قَوْلُهُ: وَبَعْثَةُ الرُّسُلِ] الَّذِينَ أَوَّلُهُمْ آدَمَ وَآخِرُهُمْ مُحَمَّدٌ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. [قَوْلُهُ: وَهُمْ الْمُكَلَّفُونَ] أَيْ مِنْ الْإِنْسِ بِالنِّسْبَةِ لِكُلِّ رَسُولٍ، وَالْإِنْسُ وَالْجِنُّ بِالنِّسْبَةِ لِنَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُرْسَلْ لِلْجِنِّ غَيْرُهُ وَتَسَلُّطُ السَّيِّدِ سُلَيْمَانَ إنَّمَا هُوَ تَسَلُّطُ مُلْكٍ لَا رِسَالَةٍ. [قَوْلُهُ: لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ] بَيَانٌ لِفَائِدَةِ الْبَعْثَةِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ لَمْ يُرْسِلْ لَهُمْ رَسُولًا لَقَالُوا: هَلْ أَرْسَلْت إلَيْنَا رَسُولًا فَلَا حُجَّةَ تُقَامُ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا أَرْسَلَ لَهُمْ الرَّسُولَ ثَبَتَتْ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ.
[قَوْلُهُ: فَالصَّبِيُّ] أَيْ مَنْ مَاتَ صَبِيًّا [قَوْلُهُ: وَالْمَجْنُونُ] أَيْ مَنْ بَلَغَ مَجْنُونًا وَمَاتَ عَلَى جُنُونِهِ، وَأَمَّا مَنْ بَلَغَ عَاقِلًا ثُمَّ جُنَّ وَمَاتَ عَلَيْهِ فَالْعِبْرَةُ بِالْحَالَةِ الَّتِي عَلَيْهَا مِنْ إسْلَامٍ أَوْ كُفْرٍ. [قَوْلُهُ: غَيْرُ مُؤَاخِذٍ] أَيْ مُرْسَلٌ لَهُ الرُّسُلَ وَلَوْ عَبَّرَ بِهِ لَكَانَ أَفْضَلَ، وَيَلْزَمُ مَنْ نَفْيِ الرِّسَالَةَ نَفْيُ الْأَخْذِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الصَّبِيَّ مُكَلَّفٌ بِالْمَنْدُوبِ، فَيَكُونُ الرَّسُولُ مُرْسَلًا إلَيْهِ بِاعْتِبَارِهِ [قَوْلُهُ: لِقَوْلِهِ تَعَالَى] دَلِيلٌ لِقَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةٌ وَفِي حُكْمِهِ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ إذْ الرَّسُولُ فِي حَقِّهِمَا كَالْعَدَمِ، فَيَصْدُقُ عَلَيْهِمَا أَنَّهُمَا لَمْ يُبْعَثْ لَهُمَا رَسُولٌ فَالْآيَةُ دَلِيلٌ لِلثَّلَاثَةِ، وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْفَتْرَةِ لَا يُعَذَّبُونَ وَهُمْ فِي الْجَنَّةِ.
[قَوْلُهُ: عَلَى مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ] إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ ذَكَرَ أَنَّهُ تَتِمَّةٌ لِمَا قَبْلَهُ جَاءَ بِهِ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ، وَذَلِكَ الْوَاجِبُ وَاجِبُ أُصُولٍ فَمَنْ كَذَّبَ بِهِ أَوْ شَكَّ فَهُوَ كَافِرٌ، وَاخْتُلِفَ فِي الْجَاهِلِ وَيَظْهَرُ عَدَمُ كُفْرِهِ كَمَا قَالَهُ الشَّيْخُ فِي شَرْحِهِ [قَوْلُهُ: اخْتِصَاصُ النَّبِيِّ إلَخْ] أَيْ كَوْنُهُ مُخْتَصًّا بِذَلِكَ الْخِطَابِ الَّذِي صَارَ رَسُولًا بِهِ.
وَالظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّ تَفْسِيرَ الرِّسَالَةِ بِذَلِكَ تَفْسِيرٌ بِاللَّازِمِ، وَتَفْسِيرُهَا الْحَقِيقِيُّ كَوْنُهُ مُوحًى إلَيْهِ بِشَرْعٍ وَأُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ. [قَوْلُهُ: بِخِطَابِ التَّبْلِيغِ] يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَصْدَرُ بَاقِيًا عَلَى حَقِيقَتِهِ أَيْ اخْتِصَاصُ النَّبِيِّ بِتَوْجِيهِ الْكَلَامِ إلَيْهِ لِأَجْلِ التَّبْلِيغِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مِنْهُ اسْمُ الْمَفْعُولِ أَيْ اخْتِصَاصُهُ بِكَلَامِ مُخَاطَبٍ بِهِ دَالٌّ عَلَى أَحْكَامٍ لِأَجْلِ تَبْلِيغِهَا [قَوْلُهُ: مِنْ السُّوءِ] أَيْ عَذَابِ اللَّهِ [قَوْلُهُ: مِنْ النَّبَأِ] أَيْ قَالُوا: وَفِي نُبُوَّةٍ أَصْلُهَا الْهَمْزُ أَوْ تُقْرَأُ بِالْهَمْزِ.
[قَوْلُهُ: وَهُوَ الْخَبَرُ] أَيْ فَالنَّبِيُّ مُخْبَرٌ بِفَتْحِ الْبَاءِ عَنْ اللَّهِ، وَيَجُوزُ قِرَاءَتُهُ بِالْكَسْرِ؛ لِأَنَّهُ يُخْبِرُ بِنُبُوَّتِهِ لِيُحْتَرَمَ. [قَوْلُهُ: أَوْ مِنْ النُّبُوَّةِ] وَعَلَيْهِ فَيَقْرَأُ نُبُوَّةٌ بِالْوَاوِ. [قَوْلُهُ: وَهِيَ الرِّفْعَةُ] أَيْ فَهُوَ أَيْ النَّبِيُّ مُرْتَفِعٌ أَوْ مَرْفُوعٌ فَهُوَ بِمَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ أَوْ اسْمِ الْمَفْعُولِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُتَعَارَفَ أَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْ هَذَيْنِ إنَّمَا هُوَ نَبِيٌّ وَالظَّاهِرُ صِحَّةُ مَا قَالَهُ الشَّارِحُ أَيْضًا، وَلَا يَخْفَى أَيْضًا أَنَّهُ اُعْتُرِضَ عَلَى تَفْسِيرِ النُّبُوَّةِ بِالرِّفْعَةِ بِأَنَّهَا الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ لَا الرِّفْعَةُ وَقَدَّمَ الرِّسَالَةَ عَلَى النُّبُوَّةِ؛ لِأَنَّ الرِّسَالَةَ أَفْضَلُ مِنْ النُّبُوَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقَدَّمَ النِّذَارَةَ عَلَى النُّبُوَّةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ لَوَازِمِ الرِّسَالَةِ.
[قَوْلُهُ: بِمُحَمَّدٍ] أَيْ بِرِسَالَةِ وَنِذَارَةِ
نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم) وَلَمَّا كَانَتْ رِسَالَةُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مَانِعَةً مِنْ ظُهُورِ نُبُوَّةٍ وَرِسَالَةٍ بَعْدَهُ شُبِّهَتْ بِالْخَتْمِ الْمَانِعِ مِنْ ظُهُورِ مَا خُتِمَ عَلَيْهِ، فَكَانَ خِتَامَهُمْ صلى الله عليه وسلم مَنْ كَذَّبَ بِذَلِكَ أَوْ شَكَّ فِيهِ فَهُوَ كَافِرٌ ثُمَّ فَسَّرَ خَتْمَ الرِّسَالَةِ بِقَوْلِهِ (فَجَعَلَهُ) أَيْ صَيَّرَ اللَّهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم (آخِرَ الْمُرْسَلِينَ بَشِيرًا) مِنْ الْبِشَارَةِ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَضَمِّهَا إذَا أُطْلِقَتْ لَا تَكُونُ إلَّا بِالْخَيْرِ، فَإِذَا قُيِّدَتْ جَازَ أَنْ تَكُونَ بِالشَّرِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] (وَ) جَعَلَهُ (نَذِيرًا) مِنْ النِّذَارَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ وَهِيَ لِلْعَاصِينَ، وَالْبِشَارَةُ لِلطَّائِعِينَ (وَدَاعِيًّا) مِنْ الدَّعْوَةِ وَهِيَ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ وَالدُّعَاءُ (إلَى اللَّهِ) تَعَالَى بِتَبْلِيغِ التَّوْحِيدِ وَمُكَافَحَةِ الْكَفَرَةِ، (بِإِذْنِهِ) أَيْ بِأَمْرِهِ أَيْ إلَى أَمْرِهِ (وَسِرَاجًا مُنِيرًا) وَالْأَصْلُ فِيمَا ذُكِرَ
ــ
[حاشية العدوي]
وَنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم[قَوْلُهُ: وَلَمَّا كَانَتْ رِسَالَةُ إلَخْ] الْمُنَاسِبُ أَنْ يَقُولَ: وَلَمَّا كَانَتْ رِسَالَةُ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم وَنِذَارَتُهُ وَنُبُوَّتُهُ مَانِعَةً مِنْ ظُهُورِ رِسَالَةٍ وَنِذَارَةٍ وَنُبُوَّةٍ بَعْدَهُ شُبِّهَتْ بِالْخَتْمِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ بِالْكِنَايَةِ وَإِثْبَاتِ خَتْمِ تَخْيِيلٍ، أَيْ وَشُبِّهَتْ الرِّسَالَاتُ وَالنِّذَارَاتُ وَالنُّبُوَّاتُ بِشَيْءٍ نَفِيسٍ مَخْتُومٍ عَلَيْهِ، وَاسْتُعِيرَ اسْمُ الْمُشَبَّهِ بِهِ لِلْمُشَبَّهِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ بِالْكِنَايَةِ، وَخُلَاصَتُهُ أَنَّ خَتْمَ قَرِينَةُ الِاسْتِعَارَتَيْنِ الْمَكْنِيَّتَيْنِ.
وَقَوْلُهُ: بِالْخَتْمِ الْأَوْلَى الْخَاتَمُ الَّذِي هُوَ الْآلَةُ؛ لِأَنَّهُ الْمُشَبَّهُ بِهِ إلَّا أَنْ يُقَالَ: تُعُورِفَ الْخَتْمُ فِي الْخَاتَمِ فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: الْمَانِعُ مِنْ ظُهُورٍ] أَيْ بِاعْتِبَارِ أَثَرِ تِلْكَ الْآلَةِ. [قَوْلُهُ: خِتَامَهُمْ] أَيْ تَمَامَهُمْ أَيْ مُتَمِّمَهُمْ رِسَالَةً وَنِذَارَةً وَنُبُوَّةً أَيْ فَلَزِمَ مِمَّا ذُكِرَ أَنَّ الْمُصْطَفَى مُتَمِّمُهُمْ. [قَوْلُهُ: ثُمَّ فُسِّرَ خَتْمُ الرِّسَالَةِ] أَيْ جِنْسُ الرِّسَالَةِ أَيْ الْجِنْسُ فِي جَمِيعِ الْأَفْرَادِ، فَالْمَخْتُومُ جَمْعُ الرِّسَالَاتِ لَا رِسَالَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَزِيدَ وَالنِّذَارَةُ وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ تَفْسِيرٌ بِاللَّازِمِ.
[قَوْلُهُ: آخِرَ الْمُرْسَلِينَ] مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَقُولَ: فَجَعَلَهُ آخِرَ الْمُرْسَلِينَ وَالْمُنْذِرِينَ وَالنَّبِيِّينَ رَسُولًا وَمُنْذِرًا وَنَبِيًّا إلَّا أَنْ يُقَالَ: لَاحَظَ بِقَوْلِهِ بَشِيرًا إلَخْ. الْإِشَارَةُ إلَى الْآيَةِ [قَوْلُهُ: بَشِيرًا] أَيْ مُخْبِرًا لِلطَّائِعِينَ بِالْخَيْرِ مِنْ الْبِشَارَةِ، وَهِيَ الْخَبَرُ السَّارُّ، وَسُمِّيَ بِالْبِشَارَةِ؛ لِأَنَّ بَشَرَةَ الْإِنْسَانِ أَيْ جِلْدَهُ تَحْسُنُ عِنْدَهُ [قَوْلُهُ: إذَا أُطْلِقَتْ] أَيْ هَذِهِ الْمَادَّةُ وَلَوْ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَبَشِّرْهُمْ} [آل عمران: 21][قَوْلُهُ: جَازَ أَنْ تَكُونَ بِالشَّرِّ] وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ عَلَى جِهَةِ الْمَجَازِ وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ مُطْلَقُ التَّأَثُّرِ؛ لِأَنَّ الْمُبَشَّرَ يَحْمَرُّ وَجْهُهُ وَالْمُنْذَرُ يَصْفَرُّ وَجْهُهُ كَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ.
[قَوْلُهُ: وَجَعَلَهُ نَذِيرًا] لَا حَاجَةَ لِتَقْدِيرٍ جَعَلَهُ؛ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: بَشِيرًا الْوَاقِعُ حَالًا إلَّا أَنْ يُقَالَ قَصَدَ حَلَّ الْمَعْنَى وَجَانِبَهُ. [قَوْلُهُ: وَهِيَ لِلْعَاصِينَ] تَقَدَّمَ أَنَّ النِّذَارَةَ هِيَ التَّحْذِيرُ مِنْ السُّوءِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ كَمَا يَكُونُ لِلْمُتَلَبِّسِ بِالسُّوءِ يَكُونُ لِغَيْرِ الْمُتَلَبِّسِ بِهِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَتَلَبَّسَ بِهِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَظْهَرُ قَوْلُهُ فَهُوَ لِلْعَاصِينَ إلَّا أَنْ يُقَالَ هِيَ لِلْعَاصِينَ بِالْقَصْدِ الْأَوْلَى، وَقَوْلُهُ: وَالْبِشَارَةُ لِلطَّائِعِينَ. يُقَالُ أَيْضًا: إنَّ الْبِشَارَةَ الْخَبَرُ السَّارُّ، وَكَمَا تَكُونُ لِلْمُتَلَبِّسِ بِالطَّاعَةِ تُقَالُ لِغَيْرِهِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَنْتَهِيَ عَنْ فِعْلِهِ وَيُجَابُ بِمَا تَقَدَّمَ.
[قَوْلُهُ: وَهِيَ لِجَمِيعِ إلَخْ] أَيْ أَنَّ الدَّعْوَةَ الَّتِي اُشْتُقَّ مِنْهَا دَاعِيًا لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ، وَفِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَقَّ مِنْهُ لَيْسَ مَأْخُوذًا فِي مَفْهُومِهِ التَّعَلُّقُ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ، نَعَمْ ذَلِكَ الْمُشْتَقُّ الَّذِي هُوَ وَصْفُهُ صلى الله عليه وسلم مُتَعَلِّقٌ بِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ وَدَاعِيًا جَمِيعَ الْمُكَلَّفِينَ. [قَوْلُهُ: وَالدُّعَاءُ] لَا حَاجَةَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ قَوْلُهُ إلَى اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ دَاعِيًا إلَى اللَّهِ أَيْ إلَى الْإِقْرَارِ بِهِ وَتَوْحِيدِهِ، وَمَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ مِنْ صِفَاتِهِ أَيْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم طَالِبٌ مِنْهُمْ الْإِقْبَالَ إلَيْهِ، وَيُجَابُ عَنْ الشَّارِحِ أَنَّهُ قَصَدَ حَلَّ الْمَعْنَى.
[قَوْلُهُ: بِتَبْلِيغِ التَّوْحِيدِ] الْبَاءُ لِلتَّصْوِيرِ أَيْ أَنَّ الدُّعَاءَ عِبَارَةٌ عَنْ تَبْلِيغِ التَّوْحِيدِ أَيْ الْأَحْكَامِ الِاعْتِقَادِيَّةِ.
[قَوْلُهُ: وَمُكَافَحَةِ الْكَفَرَةِ] أَيْ رَدِّهِمْ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَمَا هُوَ دَاعِي الْخَلْقِ إلَى التَّوْحِيدِ فَهُوَ دَاعِيهِمْ إلَى الْأَحْكَامِ الْفَرْعِيَّةِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُزِيدُهَا الشَّارِحُ. [قَوْلُهُ: بِإِذْنِهِ أَيْ بِأَمْرِهِ] أَشَارَ إلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ حَقِيقَةَ الْإِذْنِ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ وَاجِبَةٌ، وَهُوَ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ الْأَمْرِ بِهَا لَا الْإِذْنِ الْمُتَبَادَرِ
قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب: 45]{وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 46] الْمَعْنَى ذَا سِرَاجٍ وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ لِلنُّورِ الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ شَرْعُهُ، فَإِنَّ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ يَخْرُجُ بِنُورِهِ مِنْ ظُلْمَةِ الْكُفْرِ، وَشُبِّهَ بِالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ دُونَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ؛ لِأَنَّ نُورَهُمَا لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ نُورٌ، وَإِنْ أُخِذَ فَنَادِرٌ بِتَكَلُّفٍ، وَنُورُ السِّرَاجِ يُوقَدُ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفِ أَسْرِجَةٍ وَمِنْ غَيْرِ نَقْصٍ مِنْهُ، وَإِذَا ذَهَبَ نُورُ الْأَصْلِ بَقِيَ نُورُ فَرْعِهِ وَنُورُهُ صلى الله عليه وسلم كَذَلِكَ تُؤْخَذُ مِنْهُ الْأَنْوَارُ بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ وَلَا يَذْهَبُ بِذَهَابِهِ صلى الله عليه وسلم.
(وَ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى (أَنْزَلَ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم (كِتَابَهُ الْحَكِيمَ)
ــ
[حاشية العدوي]
مِنْهُ الْإِبَاحَةُ [قَوْلُهُ: الْمَعْنَى ذَا سِرَاجٍ] وَيَجُوزُ إبْقَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ مُبَالَغَةً.
[قَوْلُهُ: وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ] أَيْ السِّرَاجُ.
[قَوْلُهُ: لِلنُّورِ] أَيْ لِذِي النُّورِ أَيْ الْأَحْكَامِ الِاعْتِقَادِيَّةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: يُخْرِجُهُ بِنُورِهِ مِنْ ظُلْمَةِ الْكُفْرِ وَاحْتَجْنَا لِهَذَا التَّقْدِيرِ؛ لِأَنَّ الْمُشَبَّهَ بِهِ السِّرَاجُ وَهُوَ ذُو نُورٍ فَيَكُونُ الْمُشَبَّهُ كَذَلِكَ. [قَوْلُهُ: الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ شَرْعُهُ] أَرَادَ بِهِ الْأَحْكَامَ مُطْلَقًا اعْتِقَادِيَّةً أَوْ فَرْعِيَّةً، فَيَكُونُ مِنْ تَضَمُّنِ الْكُلِّ لِلْجُزْءِ أَوْ أَرَادَ بِهِ الْأَدِلَّةَ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ السِّرَاجَ الْقُرْآنُ.
وَالتَّقْدِيرُ: ذَا سِرَاجٍ أَوْ تَالِيًا سِرَاجًا، وَوُصِفَ بِالْإِنَارَةِ؛ لِأَنَّ مِنْ السِّرَاجِ مَا لَا يُضِيءُ إذَا دَقَّتْ فَتِيلَتُهُ أَوْ قَلَّ سَلِيطُهُ [قَوْلُهُ: يُخْرِجُ بِنُورِهِ] أَرَادَ بِهِ ذَا النُّورِ الَّذِي هُوَ الْأَحْكَامُ الْمُشَبَّهَةُ بِالسِّرَاجِ، وَالضَّمِيرُ فِي بِنُورِهِ يَجُوزُ رُجُوعُهُ إلَى اللَّهِ أَوْ مِنْ، وَالْإِضَافَةُ تَأْتِي لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ أَيْ فَكَمَا يَخْرُجُ أَيْ يُتَخَلَّصُ مِنْ الظُّلْمَةِ الْحِسِّيَّةِ بِالسِّرَاجِ كَذَلِكَ يُتَخَلَّصُ مِنْ ظُلْمَةِ الْكُفْرِ فِيمَا هُوَ شَبِيهٌ بِالسِّرَاجِ، أَعْنِي الْأَحْكَامَ.
وَقَوْلُهُ: مِنْ ظُلْمَةِ الْكُفْرِ إمَّا مِنْ إضَافَةِ الْمُشَبَّهِ بِهِ لِلْمُشَبَّهِ أَوْ الْإِضَافَةُ لِلْبَيَانِ بِأَنْ يَتَجَوَّزَ فِي الظُّلْمَةِ بِاسْتِعَارَتِهَا إلَى أَمْرٍ مَكْرُوهٍ ثُمَّ يُبَيَّنُ بِالْكُفْرِ.
[قَوْلُهُ: وَشُبِّهَ] أَيْ ذُو النُّورِ الَّذِي هُوَ الْأَحْكَامُ الِاعْتِقَادِيَّةُ. [قَوْلُهُ: وَإِنْ أُخِذَ] أَيْ مِنْ نُورِهِمَا نُورٌ فَنَادِرٌ مَعَ تَكَلُّفٍ [قَوْلُهُ: مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ] هَذَا هُوَ الْفَارِقُ فَإِنْ قُلْت: هَذَا الَّذِي يُمَيَّزُ بِهِ السِّرَاجُ عَنْ الشَّمْسِ، وَالْقَمَرُ مَوْجُودٌ فِي الشَّمْعِ وَالشَّمْعُ أَقْوَى نُورًا مِنْ السِّرَاجِ فَهُوَ أَوْلَى بِالذِّكْرِ مِنْ السِّرَاجِ، قُلْت: الشَّمْعُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ، فَفِي ذِكْرِهِ كَسْرُ خَاطِرِ الْعَاجِزِ عَنْهُ [قَوْلُهُ: أَسْرِجَةٍ] جَمْعُ الْقِلَّةِ لَيْسَ مُرَادًا مِنْهُ الْقِلَّةُ بَلْ الْكَثْرَةُ أَيْ نُورُ السِّرَاجِ يُؤْخَذُ مِنْهُ نُورُ أَسْرِجَةٍ وَقَوْلُهُ: مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ مِنْهُ هَذَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ.
[قَوْلُهُ: وَإِذَا ذَهَبَ نُورُ الْأَصْلِ] لَا يَخْفَى أَنَّهُ قَدْ وَصَفَ نُورَ السِّرَاجِ بِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْهُ، فَيَكُونُ هُوَ الْأَصْلُ وَالْمَأْخُوذُ مِنْهُ فَرْعًا فَتُجْعَلُ الْإِضَافَةُ لِلْبَيَانِ أَيُّ نُورٍ هُوَ الْأَصْلُ وَنُورٌ هُوَ فَرْعُهُ. [قَوْلُهُ: وَنُورُهُ صلى الله عليه وسلم إلَخْ] أَيْ وَنُورُ أَحْكَامِهِ لِمَا تَقَدَّمَ، فَإِنْ قُلْت: قَدْ أَفَدْت أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَحْكَامِ الْأَحْكَامُ الِاعْتِقَادِيَّةُ الْمَوْصُوفَةُ بِأَنَّ لَهَا نُورًا؛ لِأَنَّهَا شَبِيهَةٌ بِالسِّرَاجِ الَّذِي لَهُ نُورٌ، فَمَا الْمَأْخُوذُ مِنْ نُورِهَا؟ قُلْت: ذَلِكَ الْمَأْخُوذُ مَعَارِفُ وَعُلُومٌ فَتِلْكَ الْأَحْكَامُ حِينَ تَتَمَكَّنُ فِي قَلْبِ مَنْ تَتَمَكَّنُ بِهِ يَثْبُتُ لَهَا إشْرَاقٌ قَلْبِيٌّ يَنْشَأُ مِنْهُ مَعَارِفُ وَعُلُومٌ.
[قَوْلُهُ: وَلَا يَذْهَبُ بِذَهَابِهِ] أَيْ وَلَا يَذْهَبُ ذَلِكَ النُّورُ بِذَهَابِهِ؛ لِأَنَّهُ بَاقٍ بِبَقَاءِ أَصْلِهِ الَّذِي هُوَ أَحْكَامُهُ صلى الله عليه وسلم وَبِهِ يَتَمَيَّزُ عَنْ نُورِ السِّرَاجِ؛ لِأَنَّ نُورَ السِّرَاجِ لَا يَبْقَى فَإِنْ قُلْت: كَيْفَ يَصِحُّ التَّشْبِيهُ حِينَئِذٍ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْقُوَّةَ فِي الْمُشَبَّهِ بِهِ تَكْفِي وَلَوْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَالْقُوَّةُ فِي السِّرَاجِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ أَمْرٌ حِسِّيٌّ، وَالْمَحْسُوسُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَحْسُوسٌ أَعْلَى مِنْ الْمَعْقُولِ.
[قَوْلُهُ: أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّهِ كِتَابَهُ الْحَكِيمَ] الْمُرَادُ بِهِ اللَّفْظُ الْمُنَزَّلُ عَلَى نَبِيِّنَا لِلْإِعْجَازِ بِأَقْصَرِ سُورَةٍ، وَصِفَةُ إنْزَالِهِ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ لَفْظًا فَأَسْمَعَهُ لِجِبْرِيلَ فَحَفِظَهُ جِبْرِيلُ، وَنَقَلَهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا تَلَاهُ جِبْرِيلُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَفِظَهُ وَوَعَاهُ، وَقِيلَ: إنَّ جِبْرِيلَ نَقَلَ ذَلِكَ مِنْ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فَنَزَلَ بِهِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقِيلَ: إنَّ الْمَلَائِكَةَ تَلَقَّنَتْهُ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَقَّنْتُهُ لِجِبْرِيلَ فِي عِشْرِينَ لَيْلَةً، وَلَقَّنَهُ جِبْرِيلُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ نَزَلَ بِاللَّفْظِ، وَأَمَّا عَلَى أَنَّهُ نَزَلَ بِالْمَعْنَى فَقِيلَ: إنَّ جِبْرِيلَ عَبَّرَ عَنْهُ بِاللَّفْظِ الْخَاصِّ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَقِيلَ:
بِمَعْنَى الْمُحْكَمِ أَيْ الَّذِي أُحْكِمَتْ فِيهِ عُلُومُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، أَوْ لِأَنَّهُ أُحْكِمَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقَعُ فِيهِ اخْتِلَافٌ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] (وَشَرَحَ) بِمَعْنَى فَتَّحَ وَوَسَّعَ (بِهِ) أَيْ بِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم (دِينَهُ) أَيْ دِينَ الْإِسْلَامِ (الْقَوِيمَ) أَيْ الْمُسْتَقِيمَ (وَهَدَى بِهِ) أَيْ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (الصِّرَاطَ) الْمُرَادُ بِهِ هُنَا دِينُ الْإِسْلَامِ (الْمُسْتَقِيمَ) أَيْ الَّذِي لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ.
(وَ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ (أَنَّ السَّاعَةَ) وَهِيَ الْقِيَامَةُ أَيْ انْقِرَاضُ الدُّنْيَا (آتِيَةٌ) أَيْ جَائِيَةٌ (لَا رَيْبَ) أَيْ لَا شَكَّ (فِيهَا) فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَرُسُلِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ، مَنْ كَذَّبَ بِذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا} [الفرقان: 11] وَلَا يَعْلَمُ وَقْتَ مَجِيئِهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ
ــ
[حاشية العدوي]
إنَّمَا أُلْقِيَ الْمَعْنَى عَلَى قَلْبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَبَّرَ عَنْهُ أَفَادَ ذَلِكَ عج. [قَوْلُهُ: أَيْ الَّذِي أُحْكِمَتْ فِيهِ] أَيْ جُمِعَتْ فِيهِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْمُحْكَمَ، أَصْلُهُ الْمُحْكَمُ فِيهِ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ. [قَوْلُهُ: عُلُومُ الْأَوَّلِينَ] أَيْ مَا قَبْلَ نَبِيِّنَا وَالْآخِرِينَ هُمْ أُمَّةُ نَبِيِّنَا أَيْ جُمِعَتْ فِيهِ تِلْكَ الْعُلُومُ يُدْرِكُهَا مِنْهُ مَنْ نَوَّرَ اللَّهُ بَصِيرَتَهُ.
[قَوْلُهُ: أَوْ لِأَنَّهُ أُحْكِمَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقَعُ فِيهِ اخْتِلَافٌ] أَيْ أُتْقِنَ عَلَى وَجْهٍ [قَوْلُهُ: لَا يَقَعُ فِيهِ] أَيْ الْقُرْآنِ، هَذَا تَفْرِيعٌ بِحَسَبِ الْمَعْنَى عَلَى مَا قَبْلَهُ، أَيْ أُتْقِنَ عَلَى وَجْهٍ عَظِيمٍ فَصَارَ لَا يَقَعُ فِيهِ اخْتِلَافٌ أَصْلًا أَيْ تَنَاقُضٌ مِنْ حَيْثُ التَّحْرِيمُ وَالتَّحْلِيلُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ تَعُمُّ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: عز وجل {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ} [النساء: 82] إلَخْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَضْلًا عَنْ الْقَلِيلِ لَكِنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَلَيْسَ فِيهِ اخْتِلَافٌ أَصْلًا لَا كَثِيرًا وَلَا قَلِيلًا.
[قَوْلُهُ: بِمَعْنَى فَتَّحَ وَوَسَّعَ] هَذَا مَعْنَاهُ لُغَةً، وَالْقَصْدُ مِنْهُ لَازِمُ ذَلِكَ وَهُوَ الْبَيَانُ وَالْإِظْهَارُ فَهُوَ مَجَازٌ مِنْ إطْلَاقِ الْمَلْزُومِ وَإِرَادَةِ اللَّازِمِ، وَالْمَعْنَى وَأَظْهَرَ وَبَيَّنَ دِينَ الْإِسْلَامِ أَيْ الْأَحْكَامَ اعْتِقَادِيَّةً وَفَرْعِيَّةً عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم[قَوْلُهُ: أَيْ الْمُسْتَقِيمَ] أَيْ فَقَوْلُهُ الْقَوِيمَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ بِحَذْفِ الْكَافِ أَيْ الَّذِي هُوَ كَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ أَوْ اسْتِعَارَةٌ، وَلَكِنَّ هَذَا إذَا كَانَتْ الِاسْتِقَامَةُ حَقِيقَةٌ فِي الطَّرِيقِ الْحِسِّيَّةِ وَمَعْنَى مُسْتَقِيمٍ أَنَّهُ لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ [قَوْلُهُ: وَهَدَى بِهِ] يُحْتَمَلُ وَبَيَّنَ بِهِ إلَخْ. فَيَكُونُ عَيْنُ الْجُمْلَةِ الْأُولَى وَقَصْدُهُ التَّثْبِيتُ الْمُبْتَدِئُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَعْنَى وَهَدَى النَّاسَ إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ أَيْ وَفَّقَهُمْ إلَيْهِ بِسَبَبِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَكُونُ الصِّرَاطُ مَنْصُوبًا عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ. [قَوْلُهُ: الْمُرَادُ بِهِ هُنَا دِينُ الْإِسْلَامِ] أَيْ لَا الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ، فَشَبَّهَ دِينَ الْإِسْلَامِ بِالصِّرَاطِ وَاسْتُعِيرَ اسْمُ الْمُشَبَّهِ بِهِ لِلْمُشَبَّهِ فَهِيَ اسْتِعَارَةٌ تَصْرِيحِيَّةٌ وَقَوْلُهُ: الْمُسْتَقِيمَ وَصْفٌ لِلصِّرَاطِ بِحَسَبِ مَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ فَلْيَكُنْ تَرْشِيحًا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دِينُ الْإِسْلَامِ أَيْ هَذَا التَّرْكِيبُ الْإِضَافِيُّ صَارَ عَلَمًا عَلَى تِلْكَ الْأَحْكَامِ.
[قَوْلُهُ: أَيْ انْقِرَاضُ الدُّنْيَا إلَخْ] اعْلَمْ أَنَّهُ سَيَأْتِي لِلشَّارِحِ أَنَّ أَوَّلَ السَّاعَةِ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ إلَى أَنْ تَسْتَقِرَّ النَّاسُ فِي الدَّارَيْنِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ أَوْ إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى لَا مِنْ الْأَوْلَى خِلَافًا لتت، فَإِذَا عَلِمْت أَنَّهَا مِنْ النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ فَتَعْلَمُ أَنَّهَا بَعْدَ انْقِرَاضِ الدُّنْيَا لَا أَنَّهَا نَفْسُ انْقِرَاضِ الدُّنْيَا وَالنَّفْخَةُ الْأُولَى لِلْإِمَاتَةِ وَالثَّانِيَةُ لِلْإِحْيَاءِ وَبَيْنَهُمَا أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَقِيلَ: ثَلَاثٌ: نَفْخَةُ الْفَزَعِ وَنَفْخَةُ الْمَوْتِ وَنَفْخَةُ الْإِحْيَاءِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ.
[قَوْلُهُ: أَيْ جَائِيَةٌ] الْإِتْيَانُ حَقِيقَةٌ فِي الْأَجْرَامِ مَجَازٌ فِي غَيْرِهَا، فَإِسْنَادُ الْمَجِيءِ إلَيْهَا مَجَازٌ عَقْلِيٌّ:[قَوْلُهُ: أَيْ لَا شَكَّ فِيهَا] أَرَادَ بِهِ مُطْلَقَ التَّرَدُّدِ فَيَشْمَلُ الظَّنَّ وَالْوَهْمَ.
[قَوْلُهُ: فِي عِلْمِ اللَّهِ] أَيْ فِي مَوْصُوفِ عِلْمِ اللَّهِ أَيْ الَّذِي هُوَ الذَّاتُ الْعَلِيَّةُ، أَيْ أَنَّ الذَّاتَ الْعَلِيَّةَ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا لَيْسُوا مَوْصُوفِينَ بِالشَّكِّ، وَهَذَا جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ: إنَّهُ قَدْ شَكَّ فِيهَا كَثِيرٌ، وَخُلَاصَةُ الْجَوَابِ أَنَّ نَفْيَ الشَّكِّ بِحَسَبِ ذَاتِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَمَلَائِكَتِهِ، وَأُجِيبُ بِجَوَابٍ آخَرَ بِأَنَّ الْمَعْنَى مَا حَقُّهَا أَنْ يُرْتَابَ فِيهَا. [قَوْلُهُ: مَنْ كَذَّبَ بِذَلِكَ] أَيْ أَوْ تَرَدَّدَ، فَلَعَلَّ الْآيَةَ وَارِدَةٌ فِيمَنْ كَذَّبَ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ. [قَوْلُهُ: عَلَى الْحَقِيقَةِ] أَيْ وَأَمَّا عَلَى الْإِجْمَالِ فَهِيَ مَعْلُومَةٌ مِنْ حَيْثُ حُصُولُ الْأَمَارَاتِ. [قَوْلُهُ: لَكِنْ لَهَا أَشْرَاطٌ] أَيْ عَلَامَاتٌ
إلَّا اللَّهُ تَعَالَى لَكِنْ لَهَا أَشْرَاطٌ ذَكَرْنَاهَا فِي الْأَصْلِ: مِنْهَا كَثْرَةُ الْجَهْلِ وَقِلَّةُ الْعِلْمِ وَإِمَارَةُ الصِّبْيَانِ وَكَثْرَةُ الرِّبَا وَكَثْرَةُ الزِّنَا وَالْفِتَنُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْبُلْدَانِ، قِيلَ: وَهُوَ أَوَّلُ الْأَشْرَاطِ، وَقِيلَ: عِنْدَهُ يُغْلَقُ بَابُ التَّوْبَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ عَدَمَ قَبُولِ التَّوْبَةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا.
(وَ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ (أَنَّ اللَّهَ) سبحانه وتعالى (يَبْعَثُ مَنْ يَمُوتُ) هَذَا مِمَّا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ لَكِنْ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ، فَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعْدِمُ الذَّوَاتَ بِالْكُلِّيَّةِ ثُمَّ يُعِيدُهَا، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَشْيَاءَ: أَحَدُهَا قِيَاسُ الْإِعَادَةِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّيْخُ بِقَوْلِهِ
ــ
[حاشية العدوي]
وَهِيَ عِشْرُونَ ذَكَرَهَا فِي الْكَبِيرِ وَشَرْحِ الْعَقِيدَةِ الْمُسَمَّى بِالْفَتْحِ الرَّبَّانِيِّ.
[قَوْلُهُ: مِنْهَا إلَخْ] وَمِنْهَا بَعْثَتُهُ عليه السلام وَظُهُورُ أُمَّتِهِ وَتَأْمِينُ الْخَائِنِ وَخِيَانَةُ الْأَمِينِ وَالتَّطَاوُلُ فِي الْبُنْيَانِ وَزَخْرَفَةُ الْمَسَاجِدِ. [قَوْلُهُ: وَقِلَّةُ الْعِلْمِ] عَطْفُ لَازِمٍ عَلَى مَلْزُومٍ [قَوْلُهُ: وَإِمَارَةُ الصِّبْيَانِ] بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ أَيْ كَوْنُهُمْ أُمَرَاءَ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهِمْ مَا يَشْمَلُ الْبَالِغِينَ الْقَرِيبِينَ مِنْ الصِّبَا بِأَنْ يُرَادَ بِهِمْ مَنْ شَأْنُهُمْ ضَعْفُ الْعَقْلِ. [قَوْلُهُ: قِيلَ وَهُوَ أَوَّلُ الْأَشْرَاطِ إلَخْ] ضَعِيفٌ فَلَيْسَ مِنْ الْكُبْرَى بَلْ هُوَ مِنْ الصُّغْرَى وَأَوَّلُهَا بَعْثَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَّا أَنَّ الْفِتَنَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ الْكُبْرَى وَلَا أَوَّلَ الصُّغْرَى مُؤْذِنَةٌ بِتَغَيُّرِ الْوَقْتِ وَعِظَمِ الْهَوْلِ وَفَقْدِ الرَّاحَةِ فَلَعَلَّهَا أَوْلَى بِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ، وَأَشَارَ لِهَذَا الْقَوْلِ الْفَاكِهَانِيُّ بِزِيَادَةٍ فَنَذْكُرُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْفَائِدَةِ وَنَصُّهُ: وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ أَوَّلُهَا الْفِتَنُ فِي الْبُلْدَانِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْعَدُوِّ ثُمَّ قَحْطٌ ثُمَّ الدَّجَّالُ ثُمَّ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ثُمَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجُ ثُمَّ طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ الْمَغْرِبِ، ثُمَّ يَكْثُرُ الشَّرُّ لِغَلَبَةِ الْأَشْرَارِ عَلَى الْأَخْيَارِ فَتَخْرُجُ الدَّابَّةُ ثُمَّ الدُّخَانُ ثُمَّ رِيحٌ تُلْقِي أَكْثَرَ النَّاسِ فِي الْبَحْرِ كُرْهًا أَوْ طَلَبًا لِلسَّلَامَةِ فِيهِ، ثُمَّ نَارٌ عَظِيمَةٌ تَخْرُجُ مِنْ أَرْضِ الْيَمَنِ مِنْ عَدَنَ تَسُوقُ النَّاسَ إلَى الْمَحْشَرِ، رُوِيَ أَنَّ الدَّابَّةَ تَكُونُ فِي زَمَنِ عِيسَى وَأَنَّ النَّاسَ يُقِيمُونَ بَعْدَ عِيسَى أَرْبَعِينَ عَامًا وَقِيلَ: ثَمَانِينَ عَامًا ثُمَّ قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَوَّلُهَا طُلُوعُ الشَّمْسِ وَخُرُوجُ الدَّابَّةِ ضُحًى فَأَيَّتُهُمَا سَبَقَتْ فَالْأُخْرَى فِي أَثَرِهَا، وَهَذَا يَقْتَضِي الشَّكَّ فِي السَّابِقَةِ مِنْهُمَا اهـ.
الْمُرَادُ مِنْهُ [قَوْلُهُ: عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا] اُخْتُلِفَ هَلْ ذَلِكَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ تَطْلُعُ مِنْ الْمَشْرِقِ كَعَادَتِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَعِنْدَ طُلُوعِهَا مِنْ مَغْرِبِهَا تَغْرُبُ مِنْ جِهَةِ الْمَشْرِقِ، وَوَرَدَ أَنَّ الْقَمَرَ حِينَ طُلُوعِهَا مِنْ مَغْرِبِهَا يَطْلُعُ مِنْ الْمَغْرِبِ أَيْضًا قَالَ عج فِي حَاشِيَتِهِ: وَاخْتُلِفَ فِي عَدَمِ قَبُولِ التَّوْبَةِ مِنْ الذَّنْبِ وَالْإِيمَانِ مِنْ الْكَافِرِ فَقِيلَ: لَا يُقْبَلَانِ مُطْلَقًا وَقِيلَ: عَدَمُ قَبُولِهِمَا مُخْتَصٌّ بِمَنْ شَاهَدَ الطُّلُوعَ وَهُوَ مُمَيِّزٌ، فَأَمَّا مَنْ يُولَدُ بَعْدَهُ أَوْ قَبْلَهُ وَلَمْ يَكُنْ مُمَيَّزًا لِصِبًا أَوْ جُنُونٍ وَمَيَّزَ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ إيمَانُهُ وَتَوْبَتُهُ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ.
وَقَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: إنَّ مَنْ رَأَى طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا أَوْ بَلَغَهُ الْخَبَرُ وَحَصَلَ لَهُ الْيَقِينُ بِذَلِكَ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَلَا إيمَانُهُ، وَمَنْ لَمْ يَرَ وَلَمْ تَبْلُغْهُ مَعَ الْيَقِينِ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَإِيمَانُهُ اهـ.
وَمِثْلُ غَيْرِ الْمُمَيَّزِ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ إلَّا عِنْدَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ إيمَانُهُ كَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ ظَاهِرٌ.
وَقَالَ عج فِي شَرْحِ خَلِيلٍ: إنَّ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا مُذْنِبًا فَتَابَ مِنْ الذُّنُوبِ فَإِنَّهُ تُقْبَلُ مِنْهُ تَوْبَتُهُ.
[قَوْلُهُ: هَذَا مِمَّا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ] أَيْ بَعْثُ مَنْ يَمُوتُ الْمَأْخُوذُ مِنْ قَوْلِهِ: يَبْعَثُ فَهُوَ عَلَى حَدِّ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ أَيْ الْعَدْلُ وَالْبَعْثُ هُوَ الْإِحْيَاءُ وَقَوْلُ الشَّارِحِ: لَكِنْ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ يَقْتَضِي أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي مَعْنَى الْبَعْثِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ لَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى الْبَعْثِ بَلْ فِي الْإِعَادَةِ هَلْ هِيَ عَنْ عَدَمٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ أَوْ عَنْ تَفْرِيقٍ وَهُوَ خِلَافُهُ. [قَوْلُهُ: فَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ] وَمُقَابِلُهُ تَفَرُّقُ الْأَجْزَاءِ الْأَصْلِيَّةِ، ثُمَّ يُرَكِّبُهَا مَرَّةً أُخْرَى.
وَقَالَ الْآمِدِيُّ: الْحَقُّ إمْكَانُ كُلٍّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ إذْ السَّمْعُ لَمْ يُوجِبْ أَحَدُهُمَا بِعَيْنِهِ. [قَوْلُهُ: وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَشْيَاءَ إلَخْ] ثَانِيهَا قِيَاسُ الْإِعَادَةِ عَلَى خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.
قَالَ تَعَالَى {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [يس: 81] ثَالِثُهَا: قِيَاسُ الْإِعَادَةِ
كَمَا بَدَأَهُمْ يَعُودُونَ) التِّلَاوَةُ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ يَعْنِي كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ الْعَدَمِ إلَى الْوُجُودِ كَذَلِكَ يُنْشِئُكُمْ بَعْدَ مَوْتِكُمْ إلَى الْحَشْرِ، وَيُحْشَرُ الْعَبْدُ وَلَهُ مِنْ الْأَعْضَاءِ مَا كَانَ لَهُ يَوْمَ وُلِدَ، فَمَنْ قُطِعَ مِنْهُ عُضْوٌ يَعُودُ إلَيْهِ فِي الْقِيَامَةِ حَتَّى الْخِتَانُ.
(وَ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ (أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى ضَاعَفَ) أَيْ كَثَّرَ (لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) دُونَ الْكَافِرِينَ مُطِيعِينَ أَوْ عَاصِينَ مُكَلَّفِينَ أَوْ غَيْرَ مُكَلَّفِينَ وَإِنْ اُخْتُلِفَ فِي أَجْرِ الصَّبِيِّ لِمَنْ هُوَ (الْحَسَنَاتُ) جَمْعُ حَسَنَةٍ وَهِيَ مَا يُحْمَدُ الْإِنْسَانُ عَلَيْهَا
ــ
[حاشية العدوي]
عَلَى إخْرَاجِ النَّبَاتِ مِنْ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا بِالْمَطَرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الروم: 19] رَابِعُهَا: قِيَاسُ الْإِعَادَةِ عَلَى إخْرَاجِ النَّارِ مِنْ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79][قَوْلُهُ: قِيَاسُ الْإِعَادَةِ] أَيْ فَالِابْتِدَاءُ بَعْدَ عَدَمٍ فَلْتَكُنْ الْإِعَادَةُ كَذَلِكَ. [قَوْلُهُ: التِّلَاوَةُ إلَخْ] أَيْ فَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ لِمَعْنَى الْآيَةِ لَا أَنَّهُ قَصَدَ رِوَايَتَهَا بِالْمَعْنَى. [قَوْلُهُ: يَعْنِي إلَخْ] الْأَوْضَحُ أَنْ يَقُولَ: كَمَا أَنْشَأَكُمْ أَوَّلًا مِنْ الْعَدَمِ إلَى الْوُجُودِ كَذَلِكَ يُعِيدُكُمْ بَعْدَ عَدَمِكُمْ بِالْمَوْتِ إلَى الْوُجُودِ، هَذَا وَالْأَحْسَنُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ كَمَا أَنْشَأَكُمْ بَعْدَ عَدَمٍ كَذَلِكَ يُعِيدُكُمْ بَعْدَ عَدَمٍ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَنْشَأْته مَعْنَاهُ أَحْدَثْته أَيْ أَوْجَدْته، فَيُؤَوَّلُ الْمَعْنَى كَمَا أَوْجَدَكُمْ مِنْ الْعَدَمِ إلَى الْوُجُودِ وَلَا مُحَصِّلَ لَهُ.
[قَوْلُهُ: كَذَلِكَ يُنْشِئُكُمْ] أَيْ يُوجِدُكُمْ بَعْدَ مَوْتِكُمْ إلَى الْحَشْرِ، وَالْحَشْرُ سَوْقُهُمْ جَمِيعًا إلَى الْمَوْقِفِ الْهَائِلِ كَمَا قَالَهُ السَّنُوسِيُّ. [قَوْلُهُ: وَيُحْشَرُ الْعَبْدُ] أَيْ وَيُسَاقُ الْعَبْدُ إلَى الْمَوْقِفِ الْهَائِلِ وَحَشَرَ مِنْ بَابِ قَتَلَ كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ. [قَوْلُهُ: مَا كَانَ لَهُ يَوْمَ وُلِدَ] يَقْتَضِي أَنَّهُ يُبْعَثُ بِلَا أَسْنَانٍ وَلَا لِحْيَةٍ وَالظَّاهِرُ خِلَافُهُ وَقَدْ يُقَالُ: مُرَادُهُ لَا يَنْقُصُ مِنْهُ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ يَوْمَ وُلِدَ، وَأَمَّا الزِّيَادَةُ فَلَا تَمْتَنِعُ قَالَهُ عج. [قَوْلُهُ: فَمَنْ قُطِعَ إلَخْ] أَيْ وَمِنْ قُطِعَتْ يَدُهُ ثُمَّ ارْتَدَّ وَمَاتَ عَلَى رِدَّتِهِ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ بِتِلْكَ الْيَدِ، وَلَا يَرِدُ أَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَلِجَ النَّارَ عُضْوٌ لَمْ يُذْنِبْ بِهِ صَاحِبُهُ؛ لِأَنَّ الْيَدَ تَابِعَةٌ لِلْبَدَنِ لَا حُكْمَ لَهَا عَلَى الِانْفِرَادِ فِي طَاعَةٍ وَلَا مَعْصِيَةٍ، وَمُلَخَّصُهُ أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ إنَّمَا هِيَ بِحَالِ الْمَوْتَى وَأَمَّا الْأَجْزَاءُ بِانْفِرَادِهَا قَبْلَ ذَلِكَ فَغَيْرُ مَنْظُورٍ إلَيْهَا اهـ.
وَأَمَّا الشَّخْصُ الَّذِي خُلِقَ فِي الدُّنْيَا مِنْ غَيْرِ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ فَاسْتَظْهَرَ السَّيِّدُ عِيسَى أَنَّهُ يُعَادُ بِيَدٍ وَرِجْلٍ يَخْلُقُهُمَا اللَّهُ لَهُ اهـ. [قَوْلُهُ: حَتَّى الْخِتَانَ] الظَّاهِرُ أَنَّهُ يُزَالُ عِنْدَ دُخُولِهِ الْجَنَّةَ.
[قَوْلُهُ: أَيْ كَثَّرَ] فَتَكُونُ الْمُضَاعَفَةُ إلَى عَشْرٍ إلَى سَبْعِينَ إلَى سَبْعِمِائَةٍ إلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ إلَى مَا لَا غَايَةَ لَهُ، فَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُضَاعِفُ الْحَسَنَةَ إلَى أَلْفِ أَلْفِ حَسَنَةٍ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ كَثْرَةَ الْمُضَاعَفَةِ وَقِلَّتَهَا بِحَسَبِ مَرَاتِبِ الْإِخْلَاصِ. وَقُلْنَا إلَى عَشْرٍ إشَارَةً إلَى أَنَّ أَقَلَّ مَرَاتِبِ الْمُضَاعَفَةِ عَشْرَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ لَهُ إحْدَى عَشَرَةَ لَكِنَّ حَدِيثَ الْإِسْرَاءِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ لَهُ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشَرَةٌ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْخَمْسَ صَلَوَاتٍ بِخَمْسِينَ صَلَاةً.
[قَوْلُهُ: لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ] أَيْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِغَيْرِهِمْ مِنْ الْأُمَمِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ. [قَوْلُهُ: دُونَ الْكَافِرِينَ] أَيْ فَلَا يُضَاعَفُ لَهُمْ.
قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَهَلْ تُكْتَبُ لَهُمْ حَسَنَةٌ أَمْ لَا؟ فَقِيلَ: يُكْتَبُ وَيُجَازِي عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا، وَقِيلَ: فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ تَفَاوُتُهُمْ فِي شِدَّةِ الْعَذَابِ وَخِفَّتِهِ اهـ. مَعْنَاهُ إذَا لَمْ يُسْلِمْ، أَمَّا لَوْ أَسْلَمَ فَقَدْ جَرَى فِيهِ خِلَافٌ هَلْ يُجَازَى عَلَى أَعْمَالِ الْبِرِّ مُضَاعَفَةً أَوْ لَا؟ وَالْمُرْتَضَى أَنَّهُ يُجَازَى عَلَيْهَا مُضَاعَفَةً كَمَا ذَكَرَهُ الْعَلْقَمِيُّ فِي حَاشِيَةِ الْجَامِعِ.
[قَوْلُهُ: مُطِيعِينَ أَوْ عَاصِينَ] وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْمُضَاعَفَةُ بِاعْتِبَارِهِمَا. [قَوْلُهُ: وَإِنْ اُخْتُلِفَ فِي أَجْرِ الصَّبِيِّ لِمَنْ هُوَ] هَلْ هُوَ لَهُ أَوْ لِأَبَوَيْهِ، وَعَلَى الثَّانِي هَلْ هُوَ عَلَى التَّسَاوِي أَوْ التَّفَاضُلِ، وَالرَّاجِحُ مِنْ الْأَقْوَالِ أَنَّ الْحَسَنَاتِ تُكْتَبُ لَهُ وَلَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ لِأَبَوَيْهِ. [قَوْلُهُ: الْحَسَنَاتِ] أَيْ لَا السَّيِّئَاتِ أَيْ الْحَسَنَاتِ الْمَفْعُولَةِ وَلَوْ بِوَاسِطَةٍ فَلَوْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لِمَانِعٍ كُتِبَ لَهُ وَاحِدَةٌ وَجُوزِيَ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ تَضْعِيفٍ، وَكَذَا الْمَأْخُوذَةُ فِي نَظِيرِ الظُّلَامَةِ فَلَهُ ثَوَابُهَا مِنْ غَيْرِ مُضَاعَفَةٍ كَالْحَسَنَاتِ الْفَرْعِيَّةِ، فَالْمُضَاعَفَةُ إنَّمَا هِيَ
شَرْعًا عَكْسُ السَّيِّئَةِ وَهِيَ مَا يُذَمُّ عَلَيْهَا شَرْعًا، وَالْمُرَادُ مُضَاعَفَةُ جَزَائِهَا، وَالْمُضَاعَفَةُ أَنْوَاعٌ نَقَلْنَاهَا فِي الْأَصْلِ.
(وَ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى (صَفَحَ) أَيْ تَجَاوَزَ وَعَفَا عَلَى سَبِيلِ التَّفَضُّلِ وَالْكَرَمِ (لَهُمْ) أَيْ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ
ــ
[حاشية العدوي]
لِلْأَصْلِيَّةِ الْمَقْبُولَةِ، وَقَدْ تُضَاعَفُ أَفْرَادُ الثَّوَابِ الْمُجَازَى بِهِ عَلَى الْحَسَنَةِ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ «مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ وَكُتِبَ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ وَمُحِيَ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنْ الشَّيْطَانِ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ ثُمَّ يُضَاعَفُ لَهُ كُلُّ حَسَنَةٍ مِنْ الْمِائَةِ بِعَشْرٍ» وَكَذَا لَا تَضْعِيفَ فِي أَجْزَاءِ عِبَادَةٍ غَيْرِ تَامَّةٍ فَلَا تَضْعِيفَ لِتَسْبِيحٍ وَخُشُوعٍ وَتَكْبِيرٍ وَقِرَاءَةٍ مِنْ رَكْعَةٍ فِي صَلَاةٍ قَطَعَهَا الْمُصَلِّي كَمَا حَكَى بَعْضُهُمْ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ، وَظَاهِرُهُ وَلَوْ لَمْ يَتَسَبَّبْ فِي قَطْعِهَا وَاسْتَظْهَرَ اللَّقَانِيُّ أَنَّهَا لَوْ تَمَّتْ تُضَاعَفُ لِكُلِّ ذِكْرٍ وَتَسْبِيحٍ وَقِرَاءَةٍ كَمَا يُضَاعَفُ أَجْرُ نَفْسِهَا. [قَوْلُهُ: مَا يُحْمَدُ الْإِنْسَانُ] أَيْ يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ حُمِدَ بِالْفِعْلِ أَمْ لَا.
[قَوْلُهُ: مَا يُذَمُّ] أَيْ يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ. [قَوْلُهُ: وَالْمُرَادُ مُضَاعَفَةُ جَزَائِهَا] أَيْ فَالْحَسَنَةُ عِبَارَةٌ عَنْ الطَّاعَةِ الَّتِي فَعَلَهَا الْعَبْدُ وَالتَّضْعِيفُ مُتَعَلِّقٌ بِجَزَائِهَا. [قَوْلُهُ: وَالْمُضَاعَفَةُ أَنْوَاعٌ] قِسْمٌ يُضَاعَفُ إلَى عَشَرَةٍ وَهُوَ عَمَلُ الْبَدَنِ كَالذِّكْرِ.
قَالَ تَعَالَى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] وَقَالَ صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ وَلَكِنْ أَقُولُ: أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ: وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقِسْمٌ يُضَاعَفُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ، فَفِي الْحَدِيثِ:«صُمْ يَوْمَيْنِ وَلَك مَا بَقِيَ مِنْ الشَّهْرِ الْحَسَنَةُ بِخَمْسَةَ عَشْرَ وَقِسْمٌ بِثَلَاثِينَ» ، فَفِي الْحَدِيثِ «صُمْ يَوْمًا وَلَك مَا بَقِيَ فَالْحَسَنَةُ بِثَلَاثِينَ وَقِسْمٌ بِخَمْسِينَ» . فَفِي الْحَدِيثِ:«مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَأَعْرَبَهُ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ خَمْسُونَ حَسَنَةً وَقِسْمٌ بِسَبْعِمِائَةٍ» وَهُوَ نَفَقَةُ الْأَمْوَالِ قَالَ تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ} [البقرة: 261] إلَخْ وَقِسْمٌ يُضَاعَفُ إلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ قِيلَ: هُوَ عَمَلُ الْقَلْبِ وَقِيلَ: هُوَ أَجْرُ الصَّائِمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] اهـ.
وَالْمُرَادُ بِإِعْرَابِهِ مَعْرِفَةُ مَعَانِي أَلْفَاظِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ مَا قَابَلَ اللَّحْنَ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ مَعَ فَقْدِهِ لَيْسَتْ بِقِرَاءَةٍ وَلَا ثَوَابَ عَلَيْهَا قَالَهُ السُّيُوطِيّ. وَقَوْلُهُ: قِيلَ هُوَ عَمَلُ الْقَلْبِ فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْهَمَّ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ وَلَيْسَ فِيهِ تَضْعِيفٌ. [أَقُولُ] وَاَلَّذِي ظَهَرَ لِي أَنَّ هَذِهِ الْأَعْدَادَ إمَّا بَيَانٌ لِأَقَلَّ مَا بِهِ التَّضْعِيفُ كَالْآيَةِ وَالْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَحَدِيثِ «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَأَعْرَبَهُ» ، وَإِمَّا بِالنَّظَرِ لِحَالِ الْمُخَاطَبِ كَالْحَدِيثَيْنِ الْمُتَعَلِّقَيْنِ بِالصَّائِمِ أَوْ بِحَالِ الْفَاعِلِينَ كَآيَةِ {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 261] بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدُ {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 261] وَآيَةِ {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ} [الزمر: 10] لَا يُقْصَرُ الصَّابِرُونَ عَلَى الصَّائِمِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْعِبَارَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ عَلَى مُفَارَقَةِ أَوْطَانِهِمْ وَغَيْرِهَا أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ. فِي الْحَدِيثِ: «لَا يُنْصَبُ لَهُمْ الْمِيزَانُ بَلْ يُصَبُّ عَلَيْهِمْ الْأَجْرُ صَبًّا» اهـ. كَلَامُ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ.
[قَوْلُهُ: وَعَفَا] عَطْفُ تَفْسِيرٍ [قَوْلُهُ: وَالْكَرَمِ] عَطْفُ مُرَادِفٍ. [قَوْلُهُ: لَهُمْ] اللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ أَيْ لِأَجْلِهِمْ وَجَعَلَهَا تت بِمَعْنَى عَنْ وَجَعَلَ عَنْ كَبَائِرِ السَّيِّئَاتِ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ لَهُمْ. [قَوْلُهُ: الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ] أَيْ فَالْمُرَادُ بِالْكَافِرِ مَا يَشْمَلُ الْكُفْرَ وَتَوْبَةَ الْكَافِرِ بِالنِّسْبَةِ لَهُ إسْلَامُهُ وَبِالنِّسْبَةِ لِبَقِيَّةِ الْمَعَاصِي كَالْمُسْلِمِ إلَّا أَنَّ مِنْهَا مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِسْلَامِ كَتَرْكِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي تَتَوَقَّفُ عَلَى نِيَّةٍ، وَمِنْهَا مَا لَا يَتَوَقَّفُ كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ التَّوْبَةَ كَمَا قَالَ الْعُلَمَاءُ تَصِحُّ مِنْ بَعْضِ الذُّنُوبِ دُونَ بَعْضٍ هَذَا
وَالْكَافِرِينَ (بِ) سَبَبِ (التَّوْبَةِ عَنْ كَبَائِرِ السَّيِّئَاتِ) ظَاهِرُهُ مَعَ مَا بَعْدَهُ أَنَّ الْكَبَائِرَ لَا يُكَفِّرُهَا إلَّا التَّوْبَةُ، وَقَدْ نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى ذَلِكَ.
وَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَظَاهِرُ قَوْلِهِ آخِرُ الْكِتَابِ: وَالتَّوْبَةُ فَرِيضَةٌ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ أَنَّهَا كَذَلِكَ تَفْتَقِرُ لِتَوْبَةٍ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الطَّيِّبِ فَظَاهِرُ قَوْلِهِ (وَغَفَرَ لَهُمْ الصَّغَائِرَ) أَيْ إثْمَهَا (بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ) أَنَّهَا تُكَفَّرُ بِتَرْكِ التَّلَبُّسِ بِالْكَبَائِرِ وَالْإِبْعَادِ عَنْهَا فَلَا تَفْتَقِرُ إلَى تَوْبَةٍ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: فَيُؤْخَذُ مِنْ الرِّسَالَةِ قَوْلَانِ: وَاعْلَمْ أَنَّ التَّوْبَةَ وَاجِبَةٌ شَرْعًا عَلَى
ــ
[حاشية العدوي]
مَا ظَهَرَ لِي وَعَلَيْكَ بِالتَّحْرِيرِ. [قَوْلُهُ: بِسَبَبِ التَّوْبَةِ] أَيْ فَالتَّوْبَةُ سَبَبٌ شَرْعِيٌّ. [قَوْلُهُ: عَنْ كَبَائِرِ السَّيِّئَاتِ] أَيْ عَنْ الْكَبَائِرِ مِنْ السَّيِّئَاتِ أَوْ عَنْ السَّيِّئَاتِ الْكَبِيرَةِ فَهِيَ إضَافَةُ حَقِيقَةٍ أَوْ إضَافَةُ الصِّفَةِ لِلْمَوْصُوفِ.
[قَوْلُهُ: لَا يُكَفِّرُهَا إلَّا التَّوْبَةُ] أَيْ فَلَا تُكَفَّرُ كَبِيرَةٌ بِتَرْكِ كَبِيرَةٍ أُخْرَى، فَلَا يُنَافِي أَنَّهَا قَدْ تُكَفَّرُ بِمَحْضِ الْفَضْلِ أَوْ بِالْحَدِّ أَوْ بِالْحَجِّ الْمَبْرُورِ، فَإِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ الْحُدُودَ جَوَابِرُ أَيْ كَفَّارَاتٌ لَا زَوَاجِرُ، فَإِنْ زَنَا وَحُدَّ حَصَلَ تَكْفِيرُ الزِّنَا وَإِنْ لَمْ يَتُبْ، وَكَذَا الْحَجُّ الْمَبْرُورُ يُكَفِّرُ الْكَبَائِرَ وَإِنْ لَمْ يَتُبْ، وَأَجْمَعُوا عَلَى عَدَمِ سُقُوطِ قَضَاءِ مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّ مِنْ دَيْنٍ وَغَيْرِهِ.
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَتَكْفِيرُ الْحَجِّ الْمَبْرُورِ وَالْكَبَائِرِ لَا يُنَافِي وُجُوبَ التَّوْبَةِ مِنْهَا؛ لِأَنَّ التَّكْفِيرَ مِنْ الْأُمُورِ الْأُخْرَوِيَّةِ الَّتِي لَا تَظْهَرُ فَائِدَتُهَا إلَّا فِي الْآخِرَةِ خِلَافَ التَّوْبَةِ فَإِنَّهَا مِنْ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ الَّتِي تَظْهَرُ فَائِدَتُهَا فِي الدُّنْيَا، كَرَفْعِ الْفِسْقِ وَنَحْوِهِ، فَهَذَا لَا دَخْلَ لِلْحَجِّ وَغَيْرِهِ فِيهِ بَلْ لَا يُفِيدُ فِيهِ إلَّا التَّوْبَةُ بِشُرُوطِهَا اهـ.
وَوُجِدَ بِخَطِّ الرَّمْلِيِّ الْكَبِيرِ عَلَى شَرْحِ الرَّوْضَةِ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ مَا صُورَتُهُ: إنَّ أَحْكَامَ الدُّنْيَا كَرَفْعِ الْفِسْقِ وَقَبُولِ الشَّهَادَةِ يَتَرَتَّبُ عَلَى التَّكْفِيرِ أَيْضًا مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ اهـ.
وَاسْتَظْهَرَ الشَّيْخُ اللَّقَانِيُّ مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ. [قَوْلُهُ: وَأَمَّا الصَّغَائِرُ] أَيْ كَقُبْلَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَلَعْنِ الْمُعَيَّنِ وَلَوْ بَهِيمَةً، وَكِذْبَةٍ عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ مِمَّا لَا حَدَّ فِيهِ وَلَا إفْسَادَ بَدَنٍ وَلَا مَالٍ وَلَا ضَرُورَةَ، وَهَجْوِ الْمُسْلِمِ وَلَوْ تَعْرِيضًا، وَهَجْرِ الْمُسْلِمِ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَالنَّوْحِ وَالْجُلُوسِ مَعَ الْفَاسِقِ، وَالنَّجْشِ وَالِاحْتِكَارِ الْمُضِرِّ، وَبَيْعِ مَا عَلِمَ مَعِيبًا كَاتِمًا عَيْبَهُ وَالْغِشِّ وَالْخَدِيعَةِ. [قَوْلُهُ: أَنَّهَا كَذَلِكَ تَفْتَقِرُ لِتَوْبَةٍ] وَهُوَ الرَّاجِحُ كَمَا أَفَادَهُ اللَّقَانِيُّ، وَأَمَّا قَوْلُ الشَّارِحِ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَغَفَرَ لَهُمْ الصَّغَائِرَ إلَخْ أَنَّهَا تُكَفَّرُ، فَقَدْ رَدَّهُ اللَّقَانِيُّ بِأَنَّ التَّوْبَةَ فِي ذَاتِهَا فَرْضٌ تَرَتَّبَ الْخِطَابُ بِهِ عَلَى مُجَرَّدِ مُقَارَفَةِ الذَّنْبِ، وَإِنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ اهـ.
[قَوْلُهُ: وَبِهِ قَالَ ابْنُ الطَّيِّبِ] هُوَ أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ مَالِكِيُّ الْمَذْهَبِ [قَوْلُهُ: وَغَفَرَ لَهُمْ الصَّغَائِرَ] أَيْ كُلَّ صَغِيرَةٍ كَانَتْ مِنْ تَوَابِعِ تِلْكَ الْكَبَائِرِ وَمُقَدَّمَاتِهَا، كَالْقُبْلَةِ وَاللَّمْسِ وَالنَّظَرِ لِلزِّنَا وَدُخُولِ دَارِ الْغَيْرِ دُونَ إذْنِهِ وَفَتْحِ حِرْزِهِ كَذَلِكَ لِلسَّرِقَةِ أَوْ لَا كَشَتْمٍ بِمَا لَا يُوجِبُ حَدًّا إذَا اُجْتُنِبَتْ السَّرِقَةُ مَثَلًا، وَهَلْ أَلْ فِي قَوْلِهِ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ لِلْجِنْسِ الصَّادِقِ بِوَاحِدٍ كَاجْتِنَابِ شُرْبِ الْخَمْرِ وَحْدَهُ وَهُوَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ عج أَوْ لِلِاسْتِغْرَاقِ وَهُوَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ اللَّقَانِيُّ حَيْثُ قَالَ: أَوْ لَمْ تَكُنْ تَابِعَةً كَشَتْمٍ بِمَا لَا يُوجِبُ حَدًّا إذَا اُجْتُنِبَتْ السَّرِقَةُ وَالزِّنَا وَنَحْوُهُمَا مِنْ بَقِيَّةِ الْكَبَائِرِ. [قَوْلُهُ: أَقُولُ] : مَا ذَهَبَ إلَيْهِ اللَّقَانِيُّ هُوَ الظَّاهِرُ وَخُلَاصَةُ ذَلِكَ أَنَّ أَلْ فِي الصَّغَائِرِ لِلِاسْتِغْرَاقِ وَفِي الْكَبَائِرِ فِيهَا الْخِلَافُ بَيْنَ الشَّيْخَيْنِ. تَتِمَّةٌ
ظَاهِرُ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ غُفْرَانُ الصَّغَائِرِ يَحْصُلُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ قَصَدَ الِامْتِثَالَ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ أَمْ لَا وَفِي كَلَامِ بَعْضِ الشُّرَّاحِ مَا هُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ إذَا اجْتَنَبَهَا امْتِثَالًا فَلَوْ اجْتَنَبَهَا امْتِثَالًا وَخَوْفًا مِنْ ضَرَرِهَا مَثَلًا فَكَمَنْ اجْتَنَبَهَا لِلثَّانِي فَقَطْ، لَكِنْ فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ مَا يُفِيدُ أَنَّ الِامْتِثَالَ لَوْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ انْفَرَدَ لَتَحَقَّقَ الِاجْتِنَابُ لَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الِاجْتِنَابِ لَهُ خَاصَّةً أَفَادَ ذَلِكَ عج.
[قَوْلُهُ: إنَّهَا تُكَفَّرُ بِتَرْكِ التَّلَبُّسِ إلَخْ] فِيهِ نَظَرٌ بَلْ الْمُرَادُ بِاجْتِنَابِهَا مَا يَشْمَلُ التَّوْبَةَ مِنْهَا بَعْدَ ارْتِكَابِهَا لَا مَا يَخُصُّ عَدَمَ مُقَارَبَتِهَا أَصْلًا كَمَا أَفَادَهُ اللَّقَانِيُّ، وَالْحَالَةُ الْأُولَى تُسَمَّى تَوْبَةً، وَالثَّانِيَةُ وَهِيَ عَدَمُ الْمُقَارَبَةِ أَصْلًا تُسَمَّى تَقْوَى.
الْفَوْرِ عَلَى الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ مَنْ أَخَّرَهَا عَصَى ثَبَتَ وُجُوبُهَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَتَوْبَةُ الْكَافِرِ مَقْبُولَةٌ قَطْعًا إجْمَاعًا، وَاخْتُلِفَ فِي تَوْبَةِ الْمُؤْمِنِ الْعَاصِي هَلْ هِيَ مَقْبُولَةٌ شَرْعًا أَيْ ظَنًّا وَصَحَّحَ أَوْ قَطْعًا وَشُهِرَ.
وَاخْتُلِفَ إذَا أَذْنَبَ التَّائِبُ هَلْ تَعُودُ إلَيْهِ ذُنُوبُهُ أَمْ لَا؟ وَالصَّحِيحُ لَا. وَلِلتَّوْبَةِ شُرُوطٌ ثَلَاثَةٌ: الْأَوَّل النَّدَمُ عَلَى مَا مَضَى مِنْهُ مِنْ الْمَعْصِيَةِ لِرِعَايَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَمَنْ تَرَكَ الْمَعْصِيَةَ مِنْ غَيْرِ نَدَمٍ لَا يَكُونُ تَائِبًا شَرْعًا وَكَذَلِكَ مَنْ نَدِمَ عَلَيْهَا لِكَوْنِهَا
ــ
[حاشية العدوي]
قَوْلُهُ: مَنْ أَخَّرَهَا عَصَى] أَيْ وَيَجِبُ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ مِنْ تَأْخِيرِهَا قَالَهُ ابْنُ قَاسِمٍ أَيْ وَلَوْ كَانَ الذَّنْبُ صَغِيرَةً فَيَجِبُ عَلَيْهِ تَوْبَتَانِ قَالَ فِي شَرْحِ الْعَقِيدَةِ: فَيَلْزَمُ بِتَأْخِيرِ التَّوْبَةِ عَنْ مَعْصِيَةِ لَحْظَةٍ أَيْ بِقَدْرِ مَا يُمْكِنُ فِيهِ التَّوْبَةُ ذَنْبٌ آخَرُ وَهُوَ ذَنْبُ التَّأْخِيرِ الْمُحَرَّمِ بِالْإِجْمَاعِ فَتَجِبُ التَّوْبَةُ مِنْ هَذَا التَّأْخِيرِ أَيْضًا كَمَا وَجَبَتْ مِنْ الْمَعْصِيَةِ الْأُولَى وَهَلُمَّ جَرًّا حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّ تَأْخِيرَ التَّوْبَةِ مِنْ الْكَبِيرَةِ زَمَنًا وَاحِدًا يَلْزَمُ كَبِيرَتَانِ: الْمَعْصِيَةُ وَتَرْكُ التَّوْبَةِ مِنْهَا، وَزَمَانَيْنِ أَرْبَعٌ الْأُولَيَانِ وَتَرْكُ التَّوْبَةِ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَثَلَاثُ أَزْمَانٍ ثَمَانُ كَبَائِرَ، وَأَرْبَعَةُ أَزْمَانٍ سِتَّةَ عَشَرَ، وَهَكَذَا تَتَضَاعَفُ الْكَبَائِرُ حَسَبَ تَضَاعُفِ بُيُوتِ الشِّطْرَنْجِ فِي فَنِّ الْحِسَابِ، فَمَهْمَا زَادَ فِي التَّأْخِيرِ زَمَنًا زَادَ فِي الْكَبَائِرِ ضَعْفُ مَا حَصَلَ قَبْلَ ذَلِكَ اهـ.
وَأَقَرَّهُ عج وَرَدَّهُ اللَّقَانِيُّ بِأَنَّ هَذِهِ طَرِيقَةُ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى مَا نَقَلَهُ عَنْ السَّعْدِ قَائِلًا أَيْ اللَّقَانِيُّ فَإِنَّ قَضِيَّةَ كَلَامِ أَئِمَّتِنَا أَنَّ تَأْخِيرَ التَّوْبَةِ مَعْصِيَةٌ وَاحِدَةٌ يَجِبُ مِنْهَا التَّوْبَةُ، وَلَا يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ أَزْمِنَةِ الِاسْتِمْرَارِ عَلَيْهَا، لَكِنْ لَمْ أَقِفْ عَلَى تَصْرِيحٍ بِهِ فِي كَلَامِ مَنْ وَقَفَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ اهـ.
[قَوْلُهُ: وَتَوْبَةُ الْكَافِرِ] أَيْ مِنْ كُفْرِهِ وَأَمَّا مَنْ غَيْرَهُ فَكَالْمُؤْمِنِ الْعَاصِي كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّقَانِيُّ. [قَوْلُهُ: مَقْبُولَةٌ قَطْعًا] أَيْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا} [الأنفال: 38] إلَخْ.
وَقَالَ عليه الصلاة والسلام: «الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ» وَهَلْ يُشْتَرَطُ مَعَ الْإِيمَانِ النَّدَمُ عَلَى الْكُفْرِ وَبِهِ قَالَ الْإِمَامُ وَرَجَّحَهُ اللَّقَانِيُّ وَجَزَمَ بِهِ الْقُرْطُبِيُّ أَوْ لَا؟ . وَبِهِ قَالَ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ كُفْرَهُ يُمْحَى بِإِيمَانِهِ وَإِقْلَاعِهِ.
[قَوْلُهُ: هَلْ هِيَ مَقْبُولَةٌ شَرْعًا] أَيْ فَاتَّفَقُوا عَلَى قَبُولِهَا شَرْعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ} [الشورى: 25] وَالْخِلَافُ إنَّمَا هُوَ فِي الْقَطْعِ وَالظَّنِّ. [قَوْلُهُ: ظَنًّا] أَيْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [التوبة: 15] فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إلَيْهِ إنْ شَاءَ، وَمَا زَالَتْ الصَّحَابَةُ وَالسَّلَفُ يَرْغَبُونَ فِي قَبُولِهِمْ طَاعَاتِهِمْ وَلَوْ كَانَتْ مَقْبُولَةً قَطْعًا لَمَا طَلَبُوا قَبُولَهَا، فَإِنْ قِيلَ قَالَ تَعَالَى {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ} [الشورى: 25] إلَخْ قُلْنَا: لَا عُمُومَ فِيهَا وَلَوْ سُلِّمَ فَيُحْتَمَلُ التَّخْصِيصُ بِبَعْضِ النَّاسِ أَوْ بِبَعْضِ الذُّنُوبِ فَلَا قَطْعَ.
[قَوْلُهُ: وَصَحَّحَ] أَيْ قِيلَ وَهُوَ الصَّحِيحُ [قَوْلُهُ: أَوْ قَطْعًا] لَا يُقَالُ: إنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُنَافِي مَا تَقَرَّرَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَأَنَّ لَهُ أَنْ يُثِيبَ الْعَاصِيَ وَيُعَاقِبَ الطَّائِعَ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَا مُنَافَاةَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ بِاعْتِبَارِ الْعَقْلِ وَأَنَّ لِلْمَوْلَى أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ، وَالْقَطْعُ الْمَحْكُومُ بِهِ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ وَعْدِ الْمَوْلَى تبارك وتعالى.
[قَوْلُهُ: وَشُهِرَ] أَيْ قِيلَ هُوَ الْمَشْهُورُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمَشْهُورَ قَدْ قِيلَ فِيهِ مَا كَثُرَ قَائِلُهُ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ التَّصْحِيحِ كَوْنُهُ مَشْهُورًا وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ مَشْهُورًا أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا لِجَوَازِ أَنْ يَصِحّ قَوْلُ الْأَقَلِّ. [قَوْلُهُ: وَالصَّحِيحُ لَا] ظَاهِرُهُ وَلَوْ عَادَ لِمَجْلِسِ التَّوْبَةِ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَلَكِنْ يُجَدِّدُ تَوْبَةً لِمَا اقْتَرَفَ، وَإِذَا تَابَ مِنْ بَعْضِ الذُّنُوبِ دُونَ بَعْضٍ فَالصَّحِيحُ الْقَبُولُ بِدَلِيلِ صِحَّةِ إيمَانِ الْكَافِرِ مَعَ إدَامَتِهِ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ [قَوْلُهُ: النَّدَمُ] هُوَ تَحَزُّنٌ وَتَوَجُّعٌ عَلَى أَنْ فَعَلَ وَتَمَنَّى كَوْنَهُ لَمْ يَفْعَلْ وَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا كَمَا ذَكَرَهُ اللَّقَانِيُّ وَعِجْ.
[قَوْلُهُ: لِرِعَايَةِ حَقِّ اللَّهِ] أَيْ لِكَوْنِهَا مَعْصِيَةً كَمَا عَبَّرَ سَعْدُ الدِّينِ، وَأَمَّا النَّدَمُ لِخَوْفِ النَّارِ أَوْ لِلطَّمَعِ فِي الْجَنَّةِ فَفِيهِ تَرَدُّدٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ مَا ذُكِرَ هَلْ يَكُونُ نَدَمًا عَلَيْهَا لِقُبْحِهَا وَلِكَوْنِهَا مَعْصِيَةً أَوْ لَا؟ وَكَذَا النَّدَمُ عَلَيْهَا لِقُبْحِهَا مَعَ غَرَضٍ آخَرَ، وَالْحَقُّ أَنَّ جِهَةَ الْقُبْحِ إنْ كَانَتْ بِحَيْثُ لَوْ انْفَرَدَتْ لَتَحَقَّقَ النَّدَمُ فَتَوْبَةٌ وَإِلَّا فَلَا يَكُون تَوْبَةً كَمَا إذَا كَانَ الْغَرَضُ مَجْمُوعَ الْأَمْرَيْنِ لَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذَكَرَهُ اللَّقَانِيُّ عَنْ سَعْدِ الدِّينِ، وَتُقْبَلُ التَّوْبَةُ فِي الْمَرَضِ الْمَخُوفِ مَا لَمْ تَظْهَرْ عَلَامَاتُ الْمَوْتِ.
قَالَ سَعْدُ الدِّينِ: هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم -
أَضَرَّتْ بِهِ فِي بَدَنِهِ.
الثَّانِي: الْعَزْمُ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، الثَّالِثُ: الْإِقْلَاعُ فِي الْحَالِ فَيَرُدُّ الْمَظَالِمَ إنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا فَيَرْجِعُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّضَرُّعِ وَالتَّصَدُّقِ لِيَرْضَى عَنْهُ خَصْمُهُ وَيَكُونُ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمَرْجُوُّ مِنْ فَضْلِهِ الْعَظِيمِ أَنَّهُ إذَا عَلِمَ صِدْقَ الْعَبْدِ أَرْضَى عَنْهُ خُصَمَاءَهُ مِنْ خَزَائِنِ فَضْلِهِ وَلَا حُكْمَ عَلَيْهِ، وَأُخِذَ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ أَنَّ الذُّنُوبَ قِسْمَانِ: صَغَائِرُ وَكَبَائِرُ، وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي الْكَبِيرِ (وَجَعَلَ) أَيْ صَيَّرَ (مَنْ لَمْ يَتُبْ) مِنْ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْكَبَائِرِ وَمَاتَ مُصِرًّا عَلَيْهَا (صَائِرًا) أَيْ ذَاهِبًا (إلَى مَشِيئَتِهِ) أَيْ إرَادَتِهِ تَعَالَى إنْ شَاءَ عَاقَبَهُ فَبِعَدْلِهِ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ
ــ
[حاشية العدوي]
وَبَعْضُهُمْ عَبَّرَ بِقَوْلِهِ وَيُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ التَّوْبَةِ عِنْدَ الْأَشْعَرِيَّةِ صُدُورُهَا قَبْلَ الْغَرْغَرَةِ، وَأَمَّا الْمَاتُرِيدِيَّةُ فَإِنَّمَا يَشْتَرِطُونَ عَدَمَ الْغَرْغَرَةِ فِي الْكَافِرِ دُونَ الْمُؤْمِنِ الْعَاصِي عَمَلًا بِالِاسْتِصْحَابِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ.
[قَوْلُهُ: فَمَنْ تَرَكَ الْمَعْصِيَةَ] أَيْ كَالْمَاجِنِ إذَا مَلَّ مِنْ مُجُونِهِ وَاسْتَرْوَحَ إلَى بَعْضِ الْمُبَاحَاتِ لَيْسَ بِتَوْبَةٍ. [قَوْلُهُ: لِكَوْنِهَا أَضَرَّتْ بِهِ بَدَنَهُ] أَيْ أَوْ لِإِخْلَالِهَا بِعِرْضِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ كَمَا أَفَادَهُ عج عَنْ السَّعْدِ. [قَوْلُهُ: الْعَزْمُ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ] أَيْ إذَا قَدَرَ مَنْ سُلِبَ الْقُدْرَةَ عَلَى الزِّنَا مَثَلًا وَانْقَطَعَ طَمَعُهُ مِنْ عَوْدَةِ الْقُدْرَةِ إلَيْهِ فَيَكْفِي فِي تَوْبَتِهِ النَّدَمُ عَلَى مَا فَعَلَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ جَعْلَ الْقَوْمِ الْعَزْمَ لَهُ شَرْطًا ثَانِيًا إنَّمَا هُوَ زِيَادَةُ تَقْرِيرٍ؛ لِأَنَّ النَّادِمَ عَلَى الْأَمْرِ لَا يَكُونُ إلَّا كَذَلِكَ. [قَوْلُهُ: الْإِقْلَاعُ فِي الْحَالِ] أَيْ بِتَرْكِ التَّلَبُّسِ بِالْمَعْصِيَةِ. [قَوْلُهُ: فَيَرُدُّ الْمَظَالِمَ] تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ الْإِقْلَاعُ فِي الْحَالِ، وَظَاهِرُهُ سَوَاءٌ بَقِيَتْ أَعْيَانُهَا أَوْ اُسْتُهْلِكَتْ وَتَعَلَّقَتْ بِالذِّمَّةِ وَهُوَ خِلَافُ مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ إذْ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّ الَّذِي يُشْتَرَطُ فِي صِحَّتِهَا رَدُّ الْمَغْصُوبِ الْمَوْجُودِ الَّذِي لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالذِّمَّةِ، وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ لِاسْتِهْلَاكِهِ وَنَحْوِهِ فَرَدُّ عِوَضِهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّةِ التَّوْبَةِ فِي الْغَصْبِ، وَإِنَّمَا هُوَ وَاجِبٌ آخَرُ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ يَحْتَاجُ لِتَوْبَةِ كَمَا أَفَادَهُ السَّنُوسِيُّ كَتَسْلِيمِ النَّفْسِ فِي الْقِصَاصِ وَالشُّرْبِ، وَكَتَسْلِيمِ مَا وَجَبَ فِي الزَّكَوَاتِ وَقَضَاءِ الصَّلَوَاتِ فَهَذَا كُلُّهُ وَاجِبٌ آخَرُ كَمَا أَفَادَهُ شَرْحُ الْمَقَاصِدِ.
[قَوْلُهُ: وَالتَّصَدُّقِ لِيَرْضَى عَنْهُ خَصْمُهُ] ظَاهِرُهُ وَسَوَاءٌ تَصَدَّقَ عَنْهُ أَوْ لَا، وَأَنَّهُ لَا يَبْرَأُ لَكِنْ يُرْجَى مِنْ اللَّهِ الصَّفْحُ، وَمُفَادُ تت أَنَّهُ يَبْرَأُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الرَّدِّ لِرَبِّهِ إذَا تَصَدَّقَ عَنْهُ إنْ أَمْكَنَ، وَإِلَّا فَعَلَيْهِ بِتَكْثِيرِ حَسَنَاتِهِ وَالتَّضَرُّعِ إلَى اللَّهِ أَنْ يُرْضِيَهُ وَيُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بِحَمْلِ كَلَامِ شَارِحِنَا عَلَى مَا إذَا لَمْ يَتَصَدَّقْ عَنْهُ. [قَوْلُهُ: وَيَكُونُ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ] لَا يَخْفَى أَنْ هَذَا ثَابِتٌ لَهُ وَلَوْ لَمْ يَتَصَدَّقْ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّمَا أَتَى بِذَلِكَ إشَارَةً إلَى أَنَّ هَذَا التَّصَدُّقَ لَا يُوجِبُ الصَّفْحَ وَالْعَفْوَ بَلْ يُرَجَّحُ كَمَا أَشَارَ لَهُ بِقَوْلِهِ: وَالْمَرْجُوُّ مِنْ فَضْلِهِ إلَخْ وَجَعْلُهُ الْفَضْلَ الْعَظِيمَ مَرْجُوًّا مِنْهُ تَسَامُحٌ؛ لِأَنَّ الْمَرْجُوَّ مِنْهُ الذَّاتُ الْعَلِيَّةُ، وَقَوْلُهُ أَرْضَى عَنْهُ خُصَمَاءَهُ مِنْ خَزَائِنِ فَضْلِهِ إلَخْ فِيهِ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ حَيْثُ شَبَّهَ حَالَ الْمَوْلَى عز وجل بِحَالِ مَلِكٍ كَرِيمٍ عِنْدَهُ مِنْ خَزَائِنِ الْإِنْعَامِ مَا لَا يَبْخَلُ بِهِ، وَاسْتُعِيرَ اسْمُ الْمُشَبَّهِ بِهِ لِلْمُشَبَّهِ. [قَوْلُهُ: وَلَا حُكْمَ عَلَيْهِ] أَيْ وَلَا حُكْمَ يَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ، أَيْ لَا حُكْمَ مِنْ حَاكِمٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ لَا بِإِعْطَائِهِ وَلَا مَنْعٍ.
[قَوْلُهُ: صَغَائِرُ وَكَبَائِرُ] هُوَ مَذْهَب الْجُمْهُورِ، وَمُقَابِلُهُ أَنَّ الذُّنُوبَ كُلَّهَا كَبَائِرُ وَمَا مِنْهَا صَغِيرَةٌ فَبِالنِّسْبَةِ إلَى أَكْبَرَ مِنْهَا.
[قَوْلُهُ: مِنْ الْمُؤْمِنِينَ] وَكَذَا الْكُفَّارُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَعَاصِي غَيْرُ الْكُفْرِ كَمَا أَفَادَهُ اللَّقَانِيُّ قَائِلًا: فَلَا مَانِعَ مِنْ وَزْنِ سَيِّئَاتِهِمْ غَيْرَ الْكُفْرِ لِيُجَازُوا عَلَيْهَا بِالْعِقَابِ زِيَادَةً عَلَى عِقَابِ كُفْرِهِمْ إنْ لَمْ يَعْفُ اللَّهُ لَهُمْ عَنْهَا اهـ.
[قَوْلُهُ: مِنْ الْكَبَائِرِ] أَفَادَ أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ صَغَائِرُ وَمَاتَ قَبْلَ تَكْفِيرِهَا بِتَوْبَةٍ أَوْ غَيْرِهَا لَيْسَ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ وَهُوَ كَذَلِكَ، فَقَدْ قَالَ الشَّارِحُ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِهِ إنَّ الْعَاصِيَ بِالصَّغَائِرِ يُسْأَلُ وَلَا يُعَاقَبُ، وَالْعَاصِي بِالْكَبَائِرِ الْغَيْرِ التَّائِبِ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ اهـ.
[قَوْلُهُ: وَمَاتَ مُصِرًّا عَلَيْهَا] الظَّاهِرُ إسْقَاطُهُ إذْ مَنْ فَعَلَ كَبِيرَةً وَخَلَا ذِهْنُهُ مِنْهَا فَلَمْ يُكَرِّرْهَا وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَيْهَا وَلَمْ يَتُبْ كَانَ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ أَيْضًا إلَّا أَنْ يُقَالَ: أَرَادَ بِالْإِصْرَارِ عَدَمَ التَّوْبَةِ
[قَوْلُهُ: عَاقَبَهُ بِنَارٍ] وَهُوَ مُتَفَاوِتٌ بِحَسَبِ تَفَاوُتِهِمْ فِي الْمَعَاصِي، فَمِنْهُمْ مَنْ يُعَذَّبُ لَحْظَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَذَّبُ سَاعَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَذَّبُ يَوْمًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَذَّبُ جُمُعَةً وَمِنْهُمْ شَهْرًا وَمِنْهُمْ سَنَةً
لَهُ فَبِفَضْلِهِ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى مَا قَالَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] .
وَمِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ (مَنْ عَاقَبَهُ) اللَّهُ سبحانه وتعالى مِنْ الْمُوَحِّدِينَ (بِنَارِهِ) فِي دَارِ الْعِقَابِ (أَخْرَجَهُ مِنْهَا بِ) سَبَبِ (إيمَانِهِ فَأَدْخَلَهُ) بِسَبَبِهِ (جَنَّتَهُ) دَارَ الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ، فَإِنْ قُلْت: لِمَ جُعِلَ الْإِيمَانَ سَبَبًا لِدُخُولِ الْجَنَّةِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِعَمَلِهِ الْجَنَّةَ» قُلْت: أُجِيبُ بِأَنَّ إيمَانَهُ سَبَبٌ مَعَ رَحْمَةِ اللَّهِ وَعَفْوِهِ وُجُودِهِ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى مَا قَالَهُ بِقَوْلِهِ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] التِّلَاوَةُ فَمَنْ بِالْفَاءِ، وَالْمِثْقَالُ ثِقْلُ الشَّيْءِ أَيْ زِنَتُهُ، وَإِطْلَاقُ الْمِثْقَالِ هُنَا مَجَازٌ إذْ الْمَعْنَى لَا يُوزَنُ بِمِثْقَالٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَالذَّرَّةُ النَّمْلَةُ الصَّغِيرَةُ،
ــ
[حاشية العدوي]
وَمِنْهُمْ أَلْفَ سَنَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَذَّبُ سَبْعَةَ آلَافِ سَنَةٍ، وَهُوَ آخَرُ مَنْ يَبْقَى فِي النَّارِ، وَاخْتُلِفَ فِيهِ فَقِيلَ: هَنَّادٌ، وَقِيلَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ جُهَيْنَةُ وَالْبَاءُ فِي بِنَارِهِ لِلتَّعْدِيَةِ. [قَوْلُهُ: فِي دَارِ الْعِقَابِ] إشَارَةً إلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالنَّارِ دَارَ الْعِقَابِ فَوَرَدَ عَلَى الشَّارِحِ حِينَئِذٍ اعْتِرَاضٌ بِأَنَّ الْعَذَابَ فِيهَا لَا يَخْتَصُّ بِالنَّارِ، وَأُجِيبُ بِأَنَّ النَّارَ مُعْظَمُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِالنَّارِ دَارَ الْعِقَابِ.
قَالَ اللَّقَانِيُّ: لِاشْتِمَالِ تِلْكَ الدَّارِ عَلَى النَّارَ إطْلَاقًا لِاسْمِ الْحَالِ عَلَى الْمَحَلِّ فَلَا اعْتِرَاضَ فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: فَأَدْخَلَهُ بِسَبَبِهِ] أَيْ فَالْإِيمَانُ سَبَبٌ فِي شَيْئَيْنِ فِي الْإِخْرَاجِ مِنْ النَّارِ، وَفِي إدْخَالِهِ الْجَنَّةَ. [قَوْلُهُ: جَنَّتَهُ] أَيْ جِنْسَ جَنَّتِهِ؛ لِأَنَّ الْجِنَانَ سَبْعٌ: جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ، وَجَنَّةُ الْمَأْوَى وَجَنَّةُ الْخُلْدِ، وَجَنَّةُ النَّعِيمِ، وَجَنَّةُ عَدَنَ، وَدَارُ السَّلَامِ، وَدَارُ الْخُلْدِ.
[قَوْلُهُ: فَإِنْ قُلْت إلَخْ] جَعَلَ السُّؤَالَ مُتَعَلِّقًا بِالطَّرَفِ الثَّانِي، أَعْنِي قَوْلَهُ: فَأَدْخَلَهُ بِسَبَبِهِ دُونَ الطَّرَفِ الْأَوَّلِ، أَعْنِي قَوْلَهُ: فَأَخْرَجَهُ مِنْهَا بِسَبَبِ إيمَانِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ مَا يُنَاقِضُهُ.
[قَوْلُهُ: أُجِيبُ إلَخْ] أَيْ فَالسَّبَبُ مُرَكَّبٌ مِنْ طَرَفَيْنِ: الْإِيمَانُ وَالرَّحْمَةُ، أَيْ فَقَوْلُهُ لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ أَرَادَ وَحْدَهُ فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ يُدْخِلُ مَعَ غَيْرِهِ الَّذِي هُوَ الرَّحْمَةُ. وَقَوْلُهُ: فَأَدْخَلَهُ بِسَبَبِهِ جَنَّتَهُ أَيْ مَعَ غَيْرِهِ وَهُوَ الرَّحْمَةُ، وَأُجِيبُ بِجَوَابٍ ادَّعَى تت أَنَّهُ أَظْهَرُ مِنْ الْجَوَابِ الَّذِي أَشَارَ بِهِ شَارِحُنَا، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: ذَكَرَ الْإِيمَانَ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ دُخُولِ الْكَافِرِ إذْ لَوْ قَالَ: مَنْ عَاقَبَهُ بِنَارِهِ أَخْرَجَهُ مِنْهَا فَأَدْخَلَهُ جَنَّتَهُ لَالْتَبَسَ الْأَمْرُ، وَلَمَّا زَادَ بِإِيمَانِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُخْرَجَ مِنْ النَّارِ إنَّمَا هُوَ الْمُؤْمِنُ، قُلْت: فَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِإِيمَانِهِ بِمَعْنَى مَعَ أَوْ يُقَالُ: الْإِيمَانُ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ عَمَلٌ إلَّا عَلَى جِهَةِ النُّدُورِ، وَالْغَالِبُ إطْلَاقُهُ عَلَى عَمَلِ الْجَوَارِحِ.
[قَوْلُهُ: مَعَ رَحْمَةِ اللَّهِ] لَا يَخْفَى أَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ عِبَارَةٌ عَنْ إنْعَامِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وُجُودُهُ يَرْجِعُ لِإِنْعَامِهِ، وَالْعَفْوُ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَالْمُنَاسِبُ جَمْعُ الرَّحْمَةِ وَالْجُودِ لِكَوْنِهِمَا يَرْجِعَانِ إلَى الْإِنْعَامِ وَتَقْدِيمِ الْعَفْوِ، فَيَقُولُ: سَبَبٌ مَعَ عَفْوِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ وُجُودِهِ مِنْ بَابِ تَقْدِيمِ التَّخْلِيَةِ عَلَى التَّحْلِيَةِ، فَالْعَفْوُ يَرْجِعُ لِلتَّخْلِيَةِ وَالْجُودُ لِلتَّحْلِيَةِ.
[قَوْلُهُ: ثُمَّ اسْتَدَلَّ إلَخْ] فِيهِ شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّ قَضِيَّةَ الِاسْتِدْلَالِ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَاءِ لِتَكُونَ إشَارَةً إلَى الْآيَةِ لِأَجْلِ الِاسْتِدْلَالِ، فَإِنْ قُلْت: إنَّهُ لَاحَظَ الِاسْتِدْلَالَ مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى قُلْت: الْقُرْآنُ لَا تَجُوزُ رِوَايَتُهُ بِالْمَعْنَى إلَّا أَنْ يُقَالَ: الِاسْتِدْلَال مِنْ حَيْثُ الْمُوَافَقَةُ لِمَعْنَى الْآيَةِ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ رِوَايَةَ الْقُرْآنِ بِالْمَعْنَى، لَكِنَّ الْإِتْيَانَ بِالْوَاوِ وَيُؤْذِنُ بِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْوَاجِبِ اعْتِقَادَ مَدْلُولِهِ لَا قَصْدَ الِاسْتِدْلَالِ، فَإِنْ قُلْت: مَا وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ؟ قُلْت إنَّ رُؤْيَةَ الْجَزَاءِ بِمُقْتَضَى كَلَامِهِ لَا تَكُونُ إلَّا بِدُخُولِ الْجَنَّةِ أَوْ فِي الْجَنَّةِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَكُونُ خُرُوجُهُ مِنْ النَّارِ وَبَقَاؤُهُ فِي الْأَعْرَافِ جَزَاءٌ لِعِلْمِهِ مَعَ أَنَّهُ يُقَالُ: إنَّ الْخُرُوجَ مِنْ النَّارِ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ، فَأَيُّ مَانِعٍ مِنْ أَنْ يُعَدَّ جَزَاءً لِعَمَلِهِ وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ الْخُرُوجَ مِنْ النَّارِ لَا يَكُونُ جَزَاءً لِعَمَلِهِ؛ لِأَنَّ خُرُوجَهُ مِنْ النَّارِ لِكَوْنِهِ اسْتَوْفَى مَا عَلَيْهِ فَبَقِيَ جَزَاءُ عَمَلِهِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ إلَّا بِدُخُولِ الْجَنَّةِ أَوْ فِي الْجَنَّةِ. [قَوْلُهُ: مِثْقَالَ ذَرَّةٍ] مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى.
[قَوْلُهُ: خَيْرًا] مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ، أَيْ مِنْ خَيْرٍ، [قَوْلُهُ: أَيْ زِنَتُهُ] وَيُطْلَقُ الْمِثْقَالُ أَيْضًا عَلَى دِرْهَمٍ وَثَلَاثَةِ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ، وَهُوَ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: إذْ الْمَعْنَى لَا يُوزَنُ بِمِثْقَالٍ وَلَا غَيْرِهِ فَلَيْسَ الْمِثْقَالُ فِيهِ عَيْنَ الْمَعْنَى الْأَوْلَى الَّذِي فَسَّرَهُ بِهِ وَإِلَّا
وَالْخَيْرُ مَا يُحْمَدُ فَاعِلُهُ شَرْعًا وَالشَّرُّ عَكْسُهُ وَمَعْنَى يَرَهُ يَرَ جَزَاءَ عَمَلِهِ.
(وَ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ إثْبَاتُ الشَّفَاعَةِ لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَ (يَخْرُجُ) بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ (مِنْهَا) أَيْ مِنْ دَارِ الْعِقَابِ بِالنَّارِ (بِشَفَاعَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ) فَاعِلِ يَخْرُجُ أَيْ يَخْرُجُ الَّذِي (شَفَعَ لَهُ) النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ) يَعْنِي الْعُصَاةَ مِنْ الْمُوَحِّدِينَ (مِنْ أُمَّتِهِ) صلى الله عليه وسلم. ك: أَجْمَعَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَقِّ عَلَى ثُبُوتِ الشَّفَاعَةِ لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَلِسَائِرِ الرُّسُلِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْمُؤْمِنِينَ
ــ
[حاشية العدوي]
لَمَا اُحْتِيجَ إلَى قَوْلِهِ: وَلَا غَيْرِهِ، فَفِي الْعِبَارَةِ شِبْهُ اسْتِخْدَامٍ [قَوْلُهُ: وَإِطْلَاقُ الْمِثْقَالِ إلَخْ] أَيْ وَاسْتِعْمَالُ الْمِثْقَالِ أَيْ الْمِثْقَالِ الْمُضَافُ لِلذَّرَّةِ.
[قَوْلُهُ: مَجَازٌ] أَيْ اسْتِعَارَةٌ وَتَقْرِيرُهَا شَبَّهَ الْقَلِيلَ مِنْ الْخَيْرِ بِمِثْقَالِ الذَّرَّةِ مِنْ الْمَحْسُوسِ بِجَامِعِ الْقِلَّةِ، وَاسْتَعَارَ اسْمَ الْمُشَبَّهِ بِهِ لِلْمُشَبَّهِ اسْتِعَارَةً تَصْرِيحِيَّةً. [قَوْلُهُ: إذْ الْمَعْنَى] أَيْ وَهُوَ الْعَمَلُ. [قَوْلُهُ: لَا يُوزَنُ] أَيْ لَا يُعْقَلُ وَزْنُهُ إلَخْ. قُلْت: وَلَعَلَّ هَذَا إشَارَةً إلَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ وَالْأَعْمَشِ: أَنَّهُ لَا مِيزَانَ، وَيَحْمِلُونَ آيَاتِ الْمِيزَانِ عَلَى الْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَذِكْرُ الْمِيزَانِ وَالْوَزْنِ ضَرْبُ مَثَلٍ كَمَا يُقَالُ: هَذَا الْكَلَامُ فِي وَزْنِ هَذَا أَيْ يُعَادِلُهُ وَيُسَاوِيهِ، وَرُدَّ بِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ تَجَوُّزٌ مَعَ إمْكَانِ الْحَقِيقَةِ كَمَا قَالَ اللَّقَانِيُّ. ثُمَّ أَقُولُ: وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ لِأَهْلِ السُّنَّةِ غَيْرُ مَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَوْزُونَ الْكُتُبُ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَى أَعْمَالِ الْعِبَادِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَسَنَاتِ تَكُونُ مُتَمَيِّزَةً بِكِتَابٍ وَالسَّيِّئَاتِ بِكِتَابٍ آخَرَ.
الثَّانِي: أَنَّ الْمَوْزُونَ نَفْسُ الْأَعْمَالِ إمَّا لِجَوَازِ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ تِلْكَ الْأَعْمَالَ أَجْسَامًا نُورَانِيَّةً فِي الْحَسَنَاتِ وَظُلْمَانِيَّةً فِي السَّيِّئَاتِ، ثُمَّ تُطْرَحُ تِلْكَ الْأَجْسَامُ فِي الْمِيزَانِ وَلَا يَلْزَمُ قَلْبُ الْحَقِيقَةِ الْمُمْتَنِعِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُمْتَنَعُ كَمَا قَالَ اللَّقَانِيُّ مَعَ بَقَاءِ الْحَقِيقَةِ الْأُولَى بِعَيْنِهَا، وَإِمَّا لِجَوَازِ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ أَجْسَامًا عَلَى عَدَدِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ لِلْأَعْمَالِ عَنْ الْعَرَضِيَّةِ. [قَوْلُهُ: النَّمْلَةُ الصَّغِيرَةُ] وَقِيلَ: النَّمْلَةُ الْحَمْرَاءُ أَوْ الْبَيْضَاءُ أَوْ رَأْسُهُمَا أَوْ شَيْءٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ أَوْ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْكَفِّ مِنْ التُّرَابِ إذَا وُضِعَ عَلَى الْأَرْضِ. [قَوْلُهُ: مَا يُحْمَدُ فَاعِلُهُ شَرْعًا] كَانَ ذَلِكَ بِالْقَلْبِ أَوْ اللِّسَانِ أَوْ الْجَوَارِحِ [قَوْلُهُ: وَالشَّرُّ عَكْسُهُ] أَيْ وَهُوَ مَا يُذَمُّ فَاعِلُهُ شَرْعًا، فَإِنْ قُلْت: هَلَّا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ قُلْنَا. وَعَبْدُ اللَّهِ قَدْ يَتَخَلَّفُ وَلَيْسَ بِنَقْصٍ. [قَوْلُهُ: يَرَهُ] أَيْ فِي الْآخِرَةِ، هَذَا فِي الْمُؤْمِنِ وَأَمَّا مَا عَمِلَهُ الْكَافِرُ مِنْ خَيْرٍ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى نِيَّةٍ فَقِيلَ: يُجَازَى عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا بِالتَّنْعِيمِ وَمُعَافَاةِ الْبَدَنِ وَكَثْرَةِ الْوَلَدِ، وَقِيلَ: فِي دَارِ الْعَذَابِ بِتَخْفِيفِ عَذَابِ غَيْرِ الْكُفْرِ.
[قَوْلُهُ: أَيْ مِنْ دَارِ الْعِقَابِ إلَخْ] الْمُنَاسِبُ لِمَا تَقَدَّمَ لَهُ أَنْ يُرْجِعَ الضَّمِيرَ لِلنَّارِ فَيَقُولَ: فَيَخْرُجُ مِنْهَا أَيْ مِنْ النَّارِ. وَقَوْلُهُ: بِالنَّارِ مُتَعَلِّقٌ بِالْعِقَابِ أَيْ فِي الْأَغْلَبِ فَلَا يُنَافِي أَنَّ الْعِقَابَ قَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ النَّارِ كَمَا قَدَّمْنَا. [قَوْلُهُ: بِشَفَاعَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم] خَصَّهُ بِالذِّكْرِ مَعَ كَوْنِ غَيْرِهِ يَشْفَعُ أَيْضًا فِي إخْرَاجِ الْمُوَحِّدِينَ مِنْ النَّارِ لِمَا قَالَهُ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: أَوَّلُ شَافِعٍ مُحَمَّدٌ عليه الصلاة والسلام ثُمَّ الْمُرْسَلُونَ ثُمَّ الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْعُلَمَاءُ ثُمَّ الشُّهَدَاءُ ثُمَّ الصُّلَحَاءُ مِنْ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ. [قَوْلُهُ: الْعُصَاةَ مِنْ الْمُوَحِّدِينَ] أَيْ غَالِبًا فَقَدْ وَرَدَ «أَنَّهُ عليه السلام شَفَعَ فِي عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ فَإِنَّهُ نُقِلَ مِنْ غَمَرَاتٍ إلَى ضَحْضَاحٍ» . أَيْ يَسِيرٍ مِنْ نَارٍ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ يَغْلِي دِمَاغُهُ، وَفِي رِوَايَةٍ أُمُّ دِمَاغِهِ أَيْ رَأْسِهِ. [قَوْلُهُ: مِنْ أُمَّتِهِ] مِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ لَا بَيَانِيَّةٌ وَإِلَّا لَاقْتَضَى أَنَّ كُلَّ أُمَّتِهِ أَهْلُ كَبَائِرَ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الشَّارِحِ هَذَا أَنَّهُ لَا يَشْفَعُ فِي أَحَدٍ مِمَّنْ تَقَدَّمَ مِنْ الْأُمَمِ إلَّا أَنْ يُقَالَ: غَالِبًا وَحَرِّرْ. [قَوْلُهُ: أَجْمَعَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ إلَخْ] ذَكَرَ بَعْضُ الْأَكَابِرِ أَنَّ السَّلَفَ مَا قَبْلَ الْأَرْبَعِمِائَةِ، وَالْخَلَفُ مَا بَعْدَ الْخَمْسِمِائَةِ.
وَقَالَ الشُّمُنِّيُّ الْمُتَأَخِّرُونَ مَا بَعْدَ الْخَمْسِمِائَةِ اهـ.
وَتَأَمَّلْ. [قَوْلُهُ: مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ إلَخْ] أَيْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالسَّلَفِ وَالْخَلَفِ مَنْ تَقَدَّمَ وَمَنْ تَأَخَّرَ مُطْلَقًا حَتَّى يَشْمَلَ مَنْ كَانَ ذَا بِدْعَةٍ، بَلْ الْمُرَادُ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ بِقَيْدِ كَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَقُّ إذْ لَا عِبْرَةَ بِغَيْرِهِمْ. [قَوْلُهُ: وَالْحَقِّ] عَطْفُ تَفْسِيرٍ. [قَوْلُهُ: وَلِسَائِرِ الرُّسُلِ] أَرَادَ بِهِمْ مَا يَشْمَلُ الْأَنْبِيَاءَ، وَهَلْ شَفَاعَتُهُمْ خَاصَّةً بِأُمَمِهِمْ فَيَشْفَعُ كُلُّ وَاحِدٍ فِي أُمَّتِهِ لَا غَيْرُ أَوْ لَيْسَتْ بِخَاصَّةٍ وَهُوَ الظَّاهِرُ.
[قَوْلُهُ: وَالْمَلَائِكَةِ] وَشَفَاعَتُهُمْ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ فِيمَا
مُطْلَقًا، وَأَجَلُّهَا وَأَعْظَمُهَا شَفَاعَةُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّهَا أَعَمَّهَا وَأَتَمُّهَا، وَأَنْكَرَتْ الْمُعْتَزِلَةُ الشَّفَاعَةَ وَهُمْ جَدِيرُونَ بِحِرْمَانِهَا. فَقَالُوا: لَا يَجُوزُ الصَّفْحُ وَالْعَفْوُ عَنْ الذُّنُوبِ.
وَقَالَتْ الْمُرْجِئَةُ أَيْضًا: لَا شَفَاعَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ وَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى جَوَازِهَا فِي رَفْعِ الدَّرَجَاتِ دُونَ رَفْعِ السَّيِّئَاتِ، وَهَذِهِ كُلُّهَا مَذَاهِبُ بَاطِلَةٌ يَشْهَدُ بِاسْتِحَالَتِهَا الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا وَعَدَدَ الشَّفَاعَاتِ فِي الْأَصْلِ.
(وَ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ (أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ) وَتَعَالَى (قَدْ خَلَقَ
ــ
[حاشية العدوي]
يَظْهَرُ، وَهَلْ شَفَاعَتُهُمْ عَامَّةٌ فِي كُلِّ أُمَّةِ نَبِيٍّ أَوْ خَاصَّةٌ بِأُمَّةِ نَبِيِّنَا وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ، وَيَظْهَرُ أَيْضًا أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ هَذَا الْجِنْسَ تَثْبُتُ لَهُ الشَّفَاعَةُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ تَقَعُ مِنْهُ الشَّفَاعَةُ بِالْفِعْلِ تَحْقِيقًا [قَوْلُهُ: وَالْمُؤْمِنِينَ مُطْلَقًا] يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ مِنْ أُمَّةِ كُلِّ نَبِيٍّ وَأَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ سَوَاءٌ كَانُوا صَحَابَةً أَوْ تَابِعِينَ أَوْ عُلَمَاءَ أَوْ شُهَدَاءَ. [قَوْلُهُ: وَأَعْظَمُهَا] عَطْفُ تَفْسِيرٍ. [قَوْلُهُ: شَفَاعَةُ نَبِيِّنَا. . . إلَخْ] لَا يَخْفَى أَنَّ الشَّفَاعَةَ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ: الْأُولَى خَاصَّةٌ بِهِ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ شَفَاعَتُهُ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ فِي الْمَوْقِفِ لِتَعْجِيلِ الْحِسَابِ، وَهِيَ الَّتِي أَشَارَ لَهَا شَارِحُنَا بِقَوْلِهِ: شَفَاعَةُ نَبِيِّنَا. . . إلَخْ فَالْإِضَافَةُ لِلْعَهْدِ.
الثَّانِيَةُ: الشَّفَاعَةُ لِقَوْمٍ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ بِغَيْرِ حِسَابِ، وَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ، وَتَرَدَّدَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي ذَلِكَ وَوَافَقَهُ السُّبْكِيُّ وَقَالَ: لَمْ يَرِدْ مِنْهُ شَيْءٌ.
الثَّالِثَةُ: الشَّفَاعَةُ لِقَوْمٍ اسْتَوْجَبُوا النَّارَ فَلَا يَدْخُلُونَهَا أَيْ مَعَ الْحِسَابِ وَلَا تَخْتَصُّ بِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا قَالَ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ، وَتَرَدَّدَ النَّوَوِيُّ.
الرَّابِعَةُ: الشَّفَاعَةُ لِقَوْمٍ يَدْخُلُونَ النَّارَ فَيَخْرُجُونَ وَهِيَ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ، وَيُشْتَرَطُ فِيهَا الْأَنْبِيَاءُ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ. قَالَ اللَّقَانِيُّ: بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ لَهُ عَمَلُ خَيْرٍ زَائِدٌ عَلَى الْإِيمَانِ، أَمَّا الشَّفَاعَةُ لِمَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ الْإِيمَانِ لِإِخْرَاجِهِ مِنْ النَّارِ فَمُخْتَصَّةٌ بِهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا قَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ.
الْخَامِسَةُ: الْقَوْلُ فِي رَفْعِ الدَّرَجَاتِ فِي الْجَنَّةِ وَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا قَالَهُ الْقَرَافِيُّ، وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ وَادَّعَى عَدَمَ الِاخْتِصَاصِ وَزَادَ عج.
سَادِسَةً وَهِيَ شَفَاعَتُهُ فِي تَخْفِيفِ الْعَذَابِ عَنْ بَعْضِ الْكُفَّارِ وَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِهِ صلى الله عليه وسلم. وَسَابِعَةً وَهِيَ التَّخْفِيفُ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهَا مِنْ خَصَائِصِهِ. [قَوْلُهُ: أَعَمَّهَا] أَيْ أَشْمَلُهَا لِشُمُولِهَا الْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرِينَ. [قَوْلُهُ: وَأَتَمُّهَا] أَيْ أَكْمَلُهَا، وَهُوَ عَطْفُ لَازِمٍ عَلَى مَلْزُومٍ. [قَوْلُهُ: وَأَنْكَرَتْ الْمُعْتَزِلَةُ الشَّفَاعَةَ] أَيْ الشَّفَاعَةَ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ الْمُتَحَقِّقَةِ فِي بَعْضِ مَا ذُكِرَ، فَإِنَّ الْأُولَى يَعْتَرِفُونَ بِهَا وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْفَاسِقَ أَيْ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي التَّحْقِيقِ يُخَلَّدُ فِي النَّارِ عِنْدَهُمْ وَيُعَذَّبُ عَذَابًا دُونَ عَذَابِ الْكُفْرِ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُمْ مِنْ الْفِرَقِ الْإِسْلَامِيَّةِ يَعْتَرِفُونَ بِالْأُولَى وَبِالشَّفَاعَةِ فِي رَفْعِ الدَّرَجَاتِ لِلْمُطِيعِينَ فِي الْجَنَّةِ كَمَا ذَكَرَهُ اللَّقَانِيُّ. [قَوْلُهُ: جَدِيرُونَ] أَيْ حَقِيقُونَ بِحِرْمَانِهَا أَقُولُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْهَا، وَإِنْ كَانُوا جَدِيرِينَ وَفَضْلُ اللَّهِ وَاسِعٌ وَالنَّبِيُّ بُعِثَ رَحْمَةً.
[قَوْلُهُ: وَالْعَفْوُ] عَطْفُ تَفْسِيرٍ.
[قَوْلُهُ: الْمُرْجِئَةُ] سُمُّوا مُرْجِئَةً؛ لِأَنَّهُمْ يُعْطُونَ الرَّجَاءَ وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ [قَوْلُهُ: وَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى جَوَازِهَا إلَخْ] يَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَوْلُ عَيْنَ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ إلَّا أَنْ يَكُونُوا يُعَمِّمُونَ فِي السَّيِّئَات صَغَائِرَ أَوْ كَبَائِرَ فَيَكُونُ مُخَالِفًا، وَيَكُونُ قَوْلُ الْخَوَارِجِ فَإِنَّهُمْ ذَهَبُوا إلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ صَاحِبُ صَغِيرَةٍ أَوْ كَبِيرَةٍ فَهُوَ فِي النَّارِ مُخَلَّدٌ وَلَا إيمَانَ لَهُ؛ لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ كُلَّ الذُّنُوبِ كَبَائِرَ، ذَكَرَ هَذَا الْمَذْهَبَ ك [قَوْلُهُ: بِاسْتِحَالَتِهَا] أَيْ بِبُطْلَانِهَا [قَوْلُهُ: وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا وَعَدَدَ الشَّفَاعَاتِ إلَخْ] قَالَ فِي التَّحْقِيقِ: وَهَذِهِ كُلُّهَا مَذَاهِبُ بَاطِلَةٍ يَشْهَدُ بِاسْتِحَالَتِهَا الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ، أَمَّا الْعَقْلُ فَلِأَنَّهُ لَا يُحِيلُهَا، وَأَمَّا النَّقْلُ فَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي حَدِيثِ «فَآتِي تَحْتَ الْعَرْشِ فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ وَيُلْهِمُنِي مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ لِأَحَدٍ قَبْلِي، ثُمَّ يُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَك تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي
الْجَنَّةَ فَأَعَدَّهَا) أَيْ هَيَّأَهَا وَيَسَّرَهَا (دَارَ) أَيْ مَنْزِلَ (خُلُودٍ) وَاسْتِقْرَارٍ مُؤَبَّدٍ (لِأَوْلِيَائِهِ) جَمْعُ وَلِيٍّ، وَالْمُرَادُ بِهِمْ هُنَا الْمُؤْمِنُونَ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِمْ مَنْ فِيهِ صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الْإِيمَانِ بِاتِّفَاقِ الشُّيُوخِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: بَعْدُ وَخَلَقَ النَّارَ فَأَعَدَّهَا دَارَ خُلُودٍ لِمَنْ كَفَرَ بِهِ.
قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ: لَا يَعْلَمُ مَحَلَّهُمَا إلَّا اللَّهُ تَعَالَى.
(وَ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى (أَكْرَمَهُمْ) أَيْ أَوْلِيَاءَهُ الْمُؤْمِنِينَ (فِيهَا) أَيْ فِي الْجَنَّةِ (بِالنَّظَرِ إلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ) الْمُرَادُ بِالْوَجْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ
ــ
[حاشية العدوي]
فَيُقَالُ: أَدْخِلْ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِك مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ» الْحَدِيثَ. وَفِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ الْمَذْكُورِ مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي الْمَقْصُودِ حَيْثُ يَقُولُ: «فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي فَيُقَالُ: أَطْلِقْ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ بُرَّةٍ أَوْ شَعِيرَةٍ مِنْ إيمَانٍ» فَأَخْرِجْهُ مِنْهَا إلَخْ.
وَأَحَادِيثُ الشَّفَاعَةِ لَا تَكَادُ تَنْحَصِرُ، وَأَجْمَعَ السَّلَفُ عَلَى قَبُولِهَا وَصِحَّتِهَا اهـ. الْمُرَادُ مِنْهُ فَمِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْفَاكِهَانِيُّ حَيْثُ قَالَ: وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «إنِّي ادَّخَرْت شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي» . تَتِمَّةٌ لَا مَفْهُومَ لِمَا ذَكَرَهُ بَلْ وَرَدَتْ الْأَحَادِيثُ بِشَفَاعَةِ الْإِسْلَامِ وَالْقُرْآنِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالْمَوْلَى عز وجل، فَيَشْفَعُ فِي جَمَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَمَلُ خَيْرٍ قَطُّ وَالْأَوْلَادُ الصِّغَارُ يَشْفَعُونَ لِآبَائِهِمْ.
[قَوْلُهُ: وَاسْتِقْرَارٍ مُؤَبَّدٍ] أَتَى بِهِ إشَارَةً إلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْخُلُودِ طُولَ الْمُكْثِ كَمَا قَدْ يُتَوَهَّمُ، وَأَفَادَ اللَّقَانِيُّ أَنَّ الْخُلُودَ مَتَى أُطْلِقَ لَا يَنْصَرِفُ إلَّا لِلتَّأْبِيدِ الَّذِي هُوَ الْحَقِيقَةُ، وَاسْتَحَقُّوا التَّأْبِيدَ؛ لِأَنَّ نِيَّتَهُمْ الْبَقَاءُ عَلَى الْإِيمَانِ مَا دَامُوا فِي الدُّنْيَا. [قَوْلُهُ: جَمْعُ وَلِيٍّ] فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، أَيْ مَنْ تَوَلَّى اللَّهَ فَلَمْ يَجْحَدْهُ أَوْ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ أَيْ مَنْ تَوَلَّاهُ اللَّهُ فَلَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ حِرْزِهِ بِحَيْثُ يَخْلُدُ فِي النَّارِ بَلْ فِي حِفْظِهِ مِنْ حَيْثُ ذَلِكَ. [قَوْلُهُ: وَالْمُرَادُ بِهِمْ هُنَا الْمُؤْمِنُونَ] أَيْ مِنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ إذْ الصَّحِيحُ كَمَا قَالَ اللَّقَانِيُّ: أَنَّ الْجِنَّ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَيَنْعَمُونَ فِيهَا بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَغَيْرِهِمَا، وَقِيلَ: لَا يَدْخُلُونَهَا بَلْ يَكُونُ ثَوَابُهُمْ أَنْ يَنْجُوا مِنْ النَّارِ. ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ: كُونُوا تُرَابًا كَالْبَهَائِمِ هَذَا فِي الْمُؤْمِنِ الطَّائِعِ، وَأَمَّا الْعَاصِي مِنْ الْجِنِّ فَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُعَذَّبُ فِي جَهَنَّمَ، وَأَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُمْ لَا يُثَابُونَ فِي الْجَنَّةِ وَلَوْ كَانُوا سَاكِنِينَ بِهَا، كَمَا أَنَّهُمْ لَا يَنَالُونَ عَذَابَ النَّارِ مَعَ كَوْنِهِمْ خَزَنَتُهَا، وَأَنَّ مَعْنَى كَوْنِهِمَا دَارَيْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ أَنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ لَا يَكُونَانِ إلَّا فِيهِمَا.
قَالَ اللَّقَانِيُّ: وَلَا يَخْفَى عَلَيْك أَنَّ كَلَامَ هَذَا الْبَعْضُ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا لَهُ، وَأَنَّ الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَتَحَرَّرُ بِالْبِنَاءِ عَلَى تَكْلِيفِ الْمَلَائِكَةِ وَعَدَمِهِ اهـ.
[قَوْلُهُ: مَنْ فِيهِ صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الْإِيمَانِ] بَيَّنَ التَّتَّائِيُّ تِلْكَ الصِّفَةَ بِقَوْلِهِ: مِنْ سَلَامَةِ لِسَانِهِ مِنْ الْمُهْلِكَاتِ وَقَلْبِهِ مِنْ الشُّبُهَاتِ وَعَمَلِهِ مِنْ الْمُبْطِلَاتِ.
[قَوْلُهُ: يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدُ إلَخْ] وَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّهُ لَمَّا قَابَلَهُ بِالْكَافِرِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مُطْلَقُ الْمُؤْمِنِ. [قَوْلُهُ: قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ إلَخْ] ذِكْرُهُ لِكَلَامِ ابْنِ الْقُشَيْرِيِّ يَدُلُّ عَلَى اعْتِمَادِهِ وَأَنَّ الْحَقَّ تَفْوِيضُ عِلْمِ مَحَلِّ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ إلَى عِلْمِ الْعَلِيمِ الْخَبِيرِ، لَكِنْ قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: وَلَكِنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ قَدْ وَرَدَتْ بِأَنَّ الْجَنَّةَ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَذَهَبَ إلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ حَيْثُ قَالُوا: إنَّ الْجَنَّةَ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَتَحْتَ الْعَرْشِ، وَإِنَّهُ سَقْفُهَا وَلَمْ يَصِحَّ فِي مَكَانِ النَّارِ شَيْءٌ، وَقِيلَ: إنَّ النَّارَ تَحْتَ الْأَرْضِينَ السَّبْعِ، وَقِيلَ: إنَّهَا مُحِيطَةٌ بِالدُّنْيَا وَالْجَنَّةُ بَعْدَهَا اهـ.
[قَوْلُهُ: أَيْ أَوْلِيَاءَهُ الْمُؤْمِنِينَ فِيهَا] أَيْ وَأَمَّا الْكَافِرُ فَلَا يَدْخُلُهَا فَلَا تُعْقَلُ لَهُ رُؤْيَةٌ فِيهَا، وَيَرَاهُ الْمُؤْمِنُ فِي الْمَوْقِفِ أَيْضًا دُونَ الْكَافِرِ. وَقِيلَ: يَرَاهُ ثُمَّ يُحْجَبُ لِيَكُونَ عَلَيْهِ حَسْرَةٌ [قَوْلُهُ: صِفَةٌ لِلَّهِ] أَيْ كَالْقُدْرَةِ
الذَّاتُ وَعِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ صِفَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى مَعْلُومَةٌ مِنْ الشَّرْعِ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهَا مَعَ نَفْيِ الْجَارِحَةِ الْمُسْتَحِيلَةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالنَّظَرِ مَيْلُ الْحَدَقَةِ إلَى الْمَرْئِيِّ؛ لِأَنَّ هَذَا مُحَالٌ فِي حَقِّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ صِفَةٌ تَقُومُ بِالْمَوْصُوفِ تُوجِبُ لَهُ كَوْنُهُ رَائِيًا مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ أَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ سبحانه وتعالى حَاصِلَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ حَتَّى النِّسَاءَ وَلِمُؤْمِنِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ.
وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ نَقَلْنَاهُ فِي الْكَبِيرِ (وَهِيَ) أَيْ الْجَنَّةُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهَا (الَّتِي أُهْبِطَ) بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِمَعْنَى أُنْزِلَ (مِنْهَا آدَم) بِالرَّفْعِ عَلَى الْأَوَّل وَبِالنَّصْبِ عَلَى الثَّانِي هُوَ أَبُو الْبَشَرِ، سُمِّيَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ آدَمَ اللَّوْنِ وَهِيَ حُمْرَةٌ تَمِيلُ إلَى سَوَادٍ، وَكُنْيَتُهُ فِي الْجَنَّةِ أَبُو مُحَمَّدٍ كَرَامَةً لِنَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم كَانَ هُبُوطُهُ
ــ
[حاشية العدوي]
وَالْإِرَادَةِ. [قَوْلُهُ: مَعْلُومَةٌ مِنْ الشَّرْعِ] أَيْ عَلَى الْإِجْمَالِ. [قَوْلُهُ: لِأَنَّ هَذَا] أَيْ مَيْلَ الْحَدَقَةِ إلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: مُحَالٌ أَيْ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَدْعِي الْجِهَةَ وَالْمُقَابَلَةَ، وَحَدَقَةُ الْعَيْنِ سَوَادُهَا كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ.
[قَوْلُهُ: تَقُومُ بِالْمَوْصُوفِ] أَيْ الَّذِي هُوَ الْعَبْدُ أَيْ بِبَصَرِهِ. [قَوْلُهُ: مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ] أَيْ أَنَّ الرَّائِيَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُكَيِّفَهُ أَيْ يَصِفَهُ بِصِفَةٍ مِنْ الصِّفَاتِ كَمَا يُكَيِّفُ الْإِنْسَانُ مِنَّا غَيْرَهُ أَيْ يَذْكُرُ صِفَتَهُ [قَوْلُهُ: وَلَا تَشْبِيهَ] أَيْ يُشْبِهُهُ بِغَيْرِهِ أَيْ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَرَوْنَهُ فِي جِهَةٍ وَلَا مُقَابَلَةٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ عَادِيٌّ فِي الرُّؤْيَةِ لَا عَقْلِيٌّ، فَكَمَا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي جِهَةٍ فَكَذَلِكَ لَا نَرَاهُ فِي جِهَةٍ. [قَوْلُهُ: وَلِمُؤْمِنِي الْأُمَمِ إلَخْ] عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لِكُلِّ وَاحِدٍ وَلَيْسَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ لِلنِّسَاءِ؛ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ حَتَّى يَكُونَ بَعْضًا مِنْ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ أَوْ كَبَعْضٍ، وَمُؤْمِنُو الْأُمَمِ السَّابِقَةِ لَيْسُوا بَعْضًا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَا كَبَعْضٍ.
[قَوْلُهُ: وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ] أَيْ فِي النِّسَاءِ وَمُؤْمِنِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ أَيْ مَا عَدَا الصِّدِّيقِينَ، فَلِذَلِكَ قَالَ فِي التَّحْقِيقِ: أَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّهَا حَاصِلَةٌ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَالصِّدِّيقِينَ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ وَرِجَالِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْبَشَرِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ اهـ.
وَخُلَاصَتُهُ أَنَّهُ قِيلَ: إنَّ النِّسَاءَ لَا يَرَيْنَ؛ لِأَنَّهُنَّ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ، وَقِيلَ: يَرَيْنَ فِي مِثْلِ الْأَعْيَادِ، وَإِنَّ فِي مُؤْمِنِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ احْتِمَالَيْنِ: أَظْهَرُهُمَا: كَمَا قَالَ فِي التَّحْقِيقِ مُسَاوَاتُهُمْ لِهَذِهِ الرُّؤْيَةِ فِي الْأُمَّةِ اهـ.
وَلَكِنْ فِي التَّعْبِيرِ بِخِلَافٍ مَعَ قَوْلِهِ احْتِمَالَانِ تَنَافٍ فَتَدَبَّرْ.
وَقَالَ اللَّقَانِيُّ الْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِينَ أَيْ الَّذِينَ يَرَوْنَهُ مَنْ اتَّصَفَ بِالْإِيمَانِ عِنْدَ الْمُوَافَاةِ سَوَاءٌ كُلِّفَ بِهِ بِالْفِعْلِ أَوْ كَانَ صَالِحًا لِلتَّكْلِيفِ بِهِ، فَدَخَلَ الْمَلَائِكَةُ وَمُؤْمِنُو الْجِنِّ وَالْأُمَمُ السَّابِقَةُ وَالصِّبْيَانُ وَالْبُلْهُ وَالْمَجَانِينُ الَّذِينَ أَدْرَكَهُمْ الْبُلُوغُ عَلَى الْجُنُونِ وَمَاتُوا عَلَيْهِ، وَمَنْ اتَّصَفَ بِالتَّوْحِيدِ مِنْ أَهْلِ الْفَتْرَةِ ثُمَّ قَالَ: ثُمَّ إنَّ رُؤْيَةَ مُؤْمِنِي الْجِنِّ لِلَّهِ فِي الْجَنَّةِ لَا تُسَاوِي رُؤْيَةَ مُؤْمِنِي الْإِنْسِ لَهُ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ اهـ.
ثُمَّ ذَكَرَ مَا مُحَصِّلُهُ أَنَّ الرُّسُلَ وَالْأَنْبِيَاءَ يَرَوْنَهُ فِي كُلِّ يَوْمِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ وَفِي الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى إلَّا الصِّدِّيقِينَ كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَيَرَوْنَهُ فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ أَيْضًا، وَجُعِلَ ذَلِكَ التَّفَاوُتُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ فِي الْمَوْقِفِ ثُمَّ يُحْجَبُونَ إلَى أَنْ لَا يَبْقَى فِي النَّارِ مِمَّنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَحَدٌ فَيُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَرَوْنَهُ فِي الْجَنَّةِ، ثُمَّ لَا يُحْجَبُونَ بَعْدَ ذَلِكَ أَصْلًا وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ رُجُوعٌ إلَى حَالِ الشُّعُورِ بِلَذَّاتِهِمْ فَهُمْ مُشَاهِدُونَ بِمَعْنَى لَا سَاتِرَ لَهُمْ، وَإِنْ جَذَبَتْهُمْ الطَّبَائِعُ الْبَشَرِيَّةُ بِخَلْقِهِ تَعَالَى وَتَمْكِينِهِ إلَى مَأْلُوفَاتِهَا فَيَكُونُونَ فِي كُلِّ حَالٍ مُشَاهِدِينَ وَبِكُلِّ جَارِحَةٍ نَاظِرِينَ، وَمُرَادُهُ كَمَا قَالَ اللَّقَانِيُّ: بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ، وَافَقَهُ الشَّعْرَانِيُّ حَيْثُ نَقَلَ عَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّ رُؤْيَةَ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ فِي الْجَنَّةِ تَكُونُ بِجَمِيعِ الْأَجْزَاءِ الْبَدَنِيَّةِ.
وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهَا تَكُونُ بِجَمِيعِ أَجْزَاءِ الْوَجْهِ، وَرَجَّحَ الْأَوَّلَ بَعْضُهُمْ وَعَلَيْهِ فَقَوْلُ الْمُتَكَلِّمِينَ: يَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ بِالْأَبْصَارِ اقْتِصَارٌ عَلَى إعَادَةِ مَا هُوَ مَحَلُّ الرُّؤْيَا، وَبَيَانٌ لِمَا هُوَ الْمَأْلُوفُ كَمَا ذَكَرَهُ اللَّقَانِيُّ.
[قَوْلُهُ: وَهِيَ حُمْرَةٌ] أَيْ الْأَدَمَةُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنْ آدَمَ، وَرَدَ ذَلِكَ بِمَا مُحَصِّلُهُ أَنَّهُ كَانَ بَارِعًا فِي الْجَمَالِ اهـ.
[قَوْلُهُ: وَكُنْيَتُهُ فِي الْجَنَّةِ أَبُو مُحَمَّدٍ] وَوَرَدَ «لَا يُدْعَى أَحَدٌ فِي الْجَنَّةِ إلَّا بِاسْمِهِ إلَّا آدَم، فَإِنَّهُ يُكْنَى» أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، وَبِهِ يُرَدُّ عَلَى ابْنِ الْجَوْزِيِّ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَخُلِقَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَمِنْهَا أُخْرِجَ وَأُنْزِلَ إلَى الْأَرْضِ بِأَرْضِ الْهِنْدِ وَعَاشَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَدَفَنَهُ وَلَدُهُ شِيثُ فِي غَارِ أَبِي قُبَيْسٍ وَسَبَبُ هُبُوطِهِ أَنَّهُ نُهِيَ عَنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ وَهِيَ التِّينُ أَوْ الْحِنْطَةُ أَوْ الْكَرْمُ، فَأَكَلَ مِنْهَا نَاسِيًا أَوْ مُتَأَوِّلًا أَنَّهَا غَيْرُ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا. وَفِي قَوْلِهِ: وَهِيَ إلَى آخِرِهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْجَنَّةَ الَّتِي أُهْبِطَ مِنْهَا آدَمُ جَنَّةٌ فِي الدُّنْيَا بِأَرْضِ عَدَنَ.
وَفِي قَوْلِهِ: (نَبِيَّهُ وَخَلِيفَتَهُ) أَيْ الْحَاكِمَ بِأَمْرِهِ، رَدٌّ عَلَى مَنْ يَقُولُ: إنَّ الَّذِي أُهْبِطَ غَيْرُ آدَمَ أَبِي الْبِشْرِ، وَإِنَّمَا هُوَ رَجُلٌ سُمِّيَ بِاسْمِهِ كَانَ فِي حَدِيقَةٍ عَلَى رَبْوَةٍ فَأُهْبِطَ مِنْهَا. (إلَى أَرْضِهِ) مُتَعَلِّقٌ بِأُهْبِطَ وَالْبَاءُ فِي (بِمَا سَبَقَ) سَبَبِيَّةٌ يَعْنِي أَنَّ هُبُوطَهُ إلَى الْأَرْضِ بِسَبَبِ الَّذِي سَبَقَ (فِي سَابِقِ عِلْمِهِ) أَنَّهُ يَخْلُقُ آدَمَ وَيُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ وَيَشْتَرِطُ عَلَيْهِ شَرْطًا إنْ وَفَّى بِهِ أَهَّلَهُ فِيهَا، وَإِنْ لَمْ يُوَفِّ أَخْرَجَهُ مِنْهَا
ــ
[حاشية العدوي]
فِي دَعْوَاهُ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ. [قَوْلُهُ: كَرَامَةً لِنَبِيِّنَا] أَيْ أَنَّ مِنْ كَرَامَاتِ نَبِيِّنَا تَخْصِيصَ كُنْيَةِ آدَمَ بِهِ، فَلَمْ يَقُلْ أَبُو إبْرَاهِيمَ مَثَلًا إنَّمَا قِيلَ أَبُو مُحَمَّدٍ. [قَوْلُهُ: عِنْدَ الْجُمْهُورِ] وَقِيلَ: فِي الْأَرْضِ وَرَدَ إلَيْهَا قِيلَ: وَكَانَ بَيْنَ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَخُرُوجِهِ مِنْهَا سِتَّةُ أَيَّامٍ، كَذَا فِي تت وَهُوَ ظَاهِرٌ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْمُقَابِلِ لِلْجُمْهُورِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ مَقَامُ آدَمَ فِي الْجَنَّةِ نِصْفَ يَوْمٍ وَمِقْدَارُ هَذَا النِّصْفِ سِتَّةُ أَيَّامٍ مِنْ أَيَّامِ الْجَنَّةِ، وَهَبَطَ مَا بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ اهـ.
وَهُوَ يَظْهَرُ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ أَيْضًا. [قَوْلُهُ: وَعَاشَ أَلْفَ سَنَةٍ] قَالَ بَعْضُ الْأَشْيَاخِ: يُحْتَمَلُ بَعْدَ خُرُوجِهِ وَهَذَا الْقَوْلُ أَعْنِي كَوْنَهُ عَاشَ أَلْفَ سَنَةٍ اُشْتُهِرَ فِي كُتُبِ التَّارِيخِ وَكَلَامِ مَيَّارَةَ يَقْتَضِي ضَعْفَهُ، وَأَنَّهُ مَا عَاشَ إلَّا تِسْعَمِائَةٍ وَسِتَّةً وَسِتِّينَ سَنَةً فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ] أَيْ آخِرَ النَّهَارِ فِي السَّاعَةِ الَّتِي خُلِقَ فِيهَا وَأُخْرِجَ فِيهَا أَيْضًا مِنْ الْجَنَّةِ. [قَوْلُهُ: وَهِيَ التِّينُ إلَخْ] أَوْ لِحِكَايَةِ الْخِلَافِ وَقِيلَ التَّمْرُ.
[قَوْلُهُ: رَدٌّ عَلَى مَنْ يَقُولُ إلَخْ] وَهُمْ الْمُعْتَزِلَةُ كَمَا فِي تت إلَّا أَنَّهُ قَالَ: وَهَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا جَنَّةٌ بِأَرْضِ عَدَنَ أَوْ غَيْرِهَا لَا دَارَ الثَّوَابِ وَهُمْ الْمُعْتَزِلَةُ [قَوْلُهُ: بِأَرْضِ عَدَنَ] بِفَتْحَتَيْنِ بَلَدٌ بِالْيَمَنِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْمِصْبَاحِ. [قَوْلُهُ: نَبِيُّهُ] قَالَ نَبِيَّهُ دُونَ رَسُولِهِ مَعَ أَنَّهُ رَسُولٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَفْظٌ عَامٌّ كَذَا قَالَ تت. [قَوْلُهُ: أَيْ الْحَاكِمَ بِأَمْرِهِ] قَالَ تت: وَكُلُّ نَبِيٍّ خَلِيفَةٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ.
قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ: الْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ آدَم مَبْعُوثًا فِي وَقْتِ تَعَلُّمِهِ الْأَسْمَاءَ إلَى حَوَّاءَ، وَلَا يَبْعُدُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مَبْعُوثًا إلَى مَنْ يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ التَّحَدِّي مِنْ الْمَلَائِكَةِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ وَإِنْ كَانُوا رُسُلًا فَقَدْ يَجُوزُ الْإِرْسَالُ إلَى الرُّسُلِ كَبَعْثِ إبْرَاهِيمَ إلَى لُوطٍ اهـ.
[قَوْلُهُ: رَدٌّ إلَخْ] لَا يَخْفَى أَنَّ الرَّدَّ قَدْ حَصَلَ مِنْ اعْتِبَارِ أَنَّ الْمُهْبَطَ مِنْهَا دَارُ الثَّوَابِ. [قَوْلُهُ: كَانَ فِي حَدِيقَةٍ] أَيْ بُسْتَانٍ. [قَوْلُهُ: عَلَى رَبْوَةٍ] أَيْ مَحَلٍّ مُرْتَفِعٍ يَعْنِي فَأُهْبِطَ مِنْ تِلْكَ الْجَنَّةِ الَّتِي هِيَ الْحَدِيقَةُ.
قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ كَلَامًا يَتَّضِحُ بِهِ الْمَقَامُ وَنَصُّهُ: يُرِيدُ أَنَّ الْجَنَّةَ الَّتِي أَعَدَّهَا اللَّهُ تَعَالَى دَارَ خُلُودٍ لِأَوْلِيَائِهِ هِيَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُهْبِطَ مِنْهَا آدَم نَبِيُّهُ بِذَلِكَ عَلَى خِلَافِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الَّتِي أُهْبِطَ مِنْهَا آدَم جَنَّةٌ فِي الدُّنْيَا بِأَرْضِ عَدْنَ، وَلَيْسَتْ بِالْجَنَّةِ الَّتِي أَعَدَّهَا اللَّهُ تَعَالَى لِأَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ فِي الْآخِرَةِ مُحْتَجَّا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ وَصَفَ جَنَّةَ أَوْلِيَائِهِ بِدَارِ الْخُلْدِ وَالْقَرَارِ وَلَا حَزَنَ فِيهَا، وَمَنْ دَخَلَهَا لَا يَخْرُجُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 48] وَهَذِهِ الصِّفَاتُ مُنْتَفِيَةٌ عَنْ جَنَّةِ آدَمَ؛ لِأَنَّهُ أُخْرِجَ مِنْهَا.
وَالْجَوَابُ أَنَّ صِفَاتِ الْجَنَّةِ لَيْسَتْ ذَاتِيَّةً لَهَا وَإِنَّمَا هِيَ بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى، فَجَازَ وَصْفُهَا بِذَلِكَ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ أَوْ يَكُونُ وَصْفُهَا بِذَلِكَ مَوْقُوفًا عَلَى شَرْطٍ فَلَا يُوصَفُ بِهَا قَبْلَ الشَّرْطِ، وَمِثْلُهُمْ فِيمَا ذَكَرُوهُ مِثْلُ مَنْ يُنْكِرُ أَنَّ آدَمَ الَّذِي عَصَى وَأُهْبِطَ مِنْ الْجَنَّةِ لَيْسَ أَبَا الْبَشَرِ وَإِنَّمَا هُوَ رَجُلٌ سُمِّيَ بِاسْمِهِ كَانَ فِي حَدِيقَةٍ عَلَى رَبْوَةٍ فَأُهْبِطَ مِنْهَا.
[قَوْلُهُ: سَابِقِ عِلْمِهِ] أَيْ عِلْمِهِ السَّابِقِ أَيْ الْأَزَلِيِّ [قَوْلُهُ: أَنَّهُ يَخْلُقُ آدَمَ] خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ وَهُوَ أَنَّهُ يَخْلُقُ آدَمَ أَوْ بَدَلٌ مِنْ الَّذِي سَبَقَ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ، وَإِذَا نَظَرْت لِلتَّحْقِيقِ تَجِدُ السَّبَبَ عَدَمَ التَّوْفِيَةِ بِالشَّرْطِ [قَوْلُهُ: وَيُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ] مُرُورٌ عَلَى مُقَابِلِ قَوْلِ الْجُمْهُورِ
فَقَضَى اللَّهُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُوَفِّيَ بِهِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
(وَ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ (أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ النَّارَ) يَعْنِي دَارَ الْعِقَابِ الَّتِي فِيهَا النَّارُ (فَأَعَدَّهَا دَارَ) أَيْ مَنْزِلَ (خُلُودٍ) مُؤَبَّدٍ (لِمَنْ كَفَرَ بِهِ) أَيْ بِاَللَّهِ أَيْ جَحَدَ وُجُودَهُ (وَأَلْحَدَ) أَيْ ظَلَمَ وَزَاغَ (فِي آيَاتِهِ) أَيْ مَخْلُوقَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُودِهِ وَوَحْدَانِيِّتِهِ وَصِفَاتِهِ (وَ) أَلْحَدَ فِي (كُتُبِهِ) الْمُنَزَّلَةِ (وَرُسُلِهِ) الْمُرْسَلَةِ فَمَنْ جَحَدَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ، وَدَلَّ كَلَامُ الشَّيْخِ عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ مَخْلُوقَتَانِ مَوْجُودَتَانِ الْآنَ دَلَّ عَلَى وُجُودِهِمَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَمَنْ قَالَ خِلَافَ ذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ لَا يُعْذَرُ بِجَهْلٍ.
(وَ) مِمَّا
ــ
[حاشية العدوي]
السَّابِقِ. [قَوْلُهُ: وَيَشْتَرِطُ عَلَيْهِ شَرْطًا] وَهُوَ أَنْ لَا يَأْكُلَ مِنْ الشَّجَرَةِ [قَوْلُهُ: أَهَّلَهُ فِيهَا] أَيْ أَقَرَّهُ فِيهَا.
[قَوْلُهُ: فَقَضَى اللَّهُ عَلَيْهِ إلَخْ] قَضِيَّةُ الْمُصَنِّفِ أَنْ يُفَسِّرَ قَضَى بِعِلْمٍ فَيَكُونُ مُرُورًا عَلَى مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْقَضَاءَ هُوَ عِلْمُ اللَّهِ الْمُتَعَلِّقُ فِي الْأَزَلِ، وَقِيلَ: هُوَ إرَادَةُ اللَّهِ الْمُتَعَلِّقَةِ أَزَلًا قَالَ عج:
إرَادَةُ اللَّهِ مَعَ التَّعَلُّقِ
…
فِي أَزَلٍ قَضَاؤُهُ فَحَقِّقْ
وَالْقَدَر الْإِيجَادُ لِلْأَشْيَاءِ عَلَى
…
وَجْهٍ مُعَيَّنٍ أَرَادَهُ عَلَا
وَبَعْضُهُمْ قَدْ قَالَ مَعْنَى الْأَوَّلِ
…
الْعِلْمُ مَعَ تَعَلُّقٍ فِي الْأَزَلِ
وَالْقَدَرُ الْإِيجَادُ لِلْأُمُورِ
…
عَلَى وِفَاقِ عِلْمِهِ الْمَذْكُورِ
اهـ.
[قَوْلُهُ: يَعْنِي دَارَ الْعِقَابِ] مَجَازٌ مِنْ إطْلَاقِ اسْمِ الْحَالِ عَلَى الْمَحَلِّ. [قَوْلُهُ: مُؤَبَّدٍ] وَصْفٌ كَاشِفٌ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْخُلُودَ حَقِيقَةٌ فِي التَّأْبِيدِ، أَوْ أَتَى بِهِ دَفْعًا لِمَا يُتَوَهَّمُ مِنْ التَّجَوُّزِ بِهِ عَنْ طُولِ الْمُدَّةِ [قَوْلُهُ: أَيْ جَحَدَ وُجُودَهُ] فِيهِ قُصُورٌ إذْ الْكُفْرُ بِاَللَّهِ لَيْسَ قَاصِرًا عَلَى جَحْدِ الْوُجُودِ، فَالْأَحْسَنُ أَنْ يَقُولَ: كَأَنْ جَحَدَ وُجُودَهُ فَيَدْخُلُ تَحْتَ الْكَافِ مَا إذَا جَحَدَ بَعْضَ صِفَاتِهِ، فَتَأَمَّلْ فِي الْمَقَامِ [قَوْلُهُ: أَيْ ظَلَمَ إلَخْ] بِأَنْ لَمْ يُعْطِ مَخْلُوقَاتِهِ حَقَّهَا مِنْ الِاعْتِبَارِ بِهَا وَالِاتِّعَاظِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى صَانِعٍ حَكِيمٍ، وَكَذَا قَوْلُهُ: زَاغَ أَيْ مَالَ فِيهَا عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ الَّذِي هُوَ الِاسْتِدْلَال الْمَذْكُورُ، وَعَطْفُ زَاغَ عَلَى ظَلَمَ لَازِمٌ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ عَطْفَ أَلْحَدَ عَلَى كَفَرَ مِنْ عَطْفِ اللَّازِمِ أَيْضًا وَإِنْ شِئْت قُلْت: مِنْ عَطْفِ السَّبَبِ [قَوْلُهُ: وَوَحْدَانِيِّتِهِ] فِيهِ مُرُورٌ عَلَى أَنَّ دَلِيلَ الْوَحْدَانِيَّةِ عَقْلِيٌّ.
[قَوْلُهُ: وَصِفَاتِهِ] أَيْ مَا عَدَا السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْكَلَامَ فَإِنَّ دَلِيلَهَا سَمْعِيٌّ. [قَوْلُهُ: وَأَلْحَدَ فِي كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ] فَسَّرَ بَعْضُهُمْ أَلْحَدَ بِارْتَابَ وَبَعْضٌ بِجَحَدَ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَلَى تَفْسِيرِ الشَّارِحِ فَنَقُولُ: أَيْ ظَلَمَ فِي كُتُبِهِ، أَيْ لَمْ يُعْطِهَا حَقَّهَا مِنْ الِاعْتِرَافِ بِهَا فَهُوَ مُوَافِقٌ فِي الْمَعْنَى لِلتَّعْبِيرِ بِارْتَابَ وَجَحَدَ، وَأَرَادَ جِنْسَ كُتُبِهِ وَجِنْسَ رُسُلِهِ لِيَصْدُقَ بِالْبَعْضِ، وَمِثْلُ الرُّسُلِ الْأَنْبِيَاءُ كَمَا أَفَادَهُ تت. [قَوْلُهُ: فَمَنْ جَحَدَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ] أَيْ مِنْ الْآيَاتِ وَالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ، وَالْفَاءُ لِلتَّعْلِيلِ أَيْ إنَّمَا كَانَتْ دَارَ خُلُودٍ لِمَنْ أَلْحَدَ إلَخْ؛ لِأَنَّ مَنْ جَحَدَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ وَلَكِنْ إنَّمَا يَتِمُّ هَذَا عَلَى تَقْرِيرِ جَعْلِ الْوَاوِ فِي وَأَلْحَدَ بِمَعْنَى أَوْ، وَالْمُرَادُ جَحَدَ مَا عُلِمَ مِنْ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ كَاَلَّذِي فِي الْقُرْآنِ، وَأَمَّا جَحْدُ شَيْءٍ لَمْ يُعْلَمْ ضَرُورَةً فَهُوَ لَيْسَ بِكُفْرٍ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ مَعْلُومٌ، وَقَضِيَّتُهُ أَنَّ عَدَمَ مَعْرِفَةِ مَا ذُكِرَ تَفْصِيلًا لَيْسَ بِكُفْرٍ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا رُتِّبَ الْكُفْرُ عَلَى الْجَحْدِ أَيْ الْإِنْكَارِ، وَلَكِنْ فِي كَلَامِ الْأَقْفَهْسِيِّ مَا يُفِيدُ الْكُفْرَ عِنْدَ الشَّكِّ، وَكَذَا ظَاهِرُ عِبَارَةِ بَعْضِهِمْ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى مَنْ شَكَّ بَعْدَ أَنْ جَاءَهُ الْخَبَرُ بِهَذَا الْمَعْنَى الثَّابِتِ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ.
[قَوْلُهُ: مَوْجُودَتَانِ] تَفْسِيرٌ لَمَخْلُوقَتَانِ [قَوْلُهُ: الْكِتَابُ] قَالَ تَعَالَى {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ} [آل عمران: 133] فِيهِ دَلَالَتَانِ إحْدَاهُمَا قَوْلُهُ عَرْضُهَا؛ لِأَنَّ الْمَعْدُومَ لَا عَرْضَ لَهُ، وَالثَّانِي قَوْلُهُ: أُعِدَّتْ الَّذِي هُوَ فِعْلٌ مَاضٍ، وَكَذَا قَوْلُهُ فِي النَّارِ
يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ اللَّهَ (جَعَلَهُمْ) بِمَعْنَى صَيَّرَ مَنْ كَفَرَ وَأَلْحَدَ فِي آيَاتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ (مَحْجُوبِينَ) أَيْ مَمْنُوعِينَ (عَنْ رُؤْيَتِهِ) تَعَالَى هَذَا هُوَ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] ؛ لِأَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى أَعْظَمُ الْكَرَامَاتِ وَالتَّشْرِيفِ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ أَهْلًا لِذَلِكَ.
(وَ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ (أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ) أَيْ تَزَايَدَ خَيْرُهُ (وَتَعَالَى) أَيْ تَعَاظَمَ عَنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ (يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) قَالَ تَعَالَى {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22] وَعَدَلَ عَنْ لَفْظِ الْآيَةِ وَعَبَّرَ بِالْمُسْتَقْبَلِ قَصَدَ بِذَلِكَ تَفْسِيرَهَا؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ تُعَبِّرُ بِالْمَاضِي عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ، إذَا تَحَقَّقَ وُقُوعُهُ وَإِسْنَادُ الْمَجِيءِ إلَيْهِ تَعَالَى مَصْرُوفٌ عَنْ ظَاهِرِهِ إجْمَاعًا إذْ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الْجِهَاتُ وَالْأَمْكِنَةُ وَالتَّحَوُّلُ فَالسَّلَفُ الصَّالِحُ قَالُوا: هَذَا مِنْ السِّرِّ الْمَكْتُومِ الَّذِي
ــ
[حاشية العدوي]
أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ.
[قَوْلُهُ: وَالسُّنَّةُ] فَفِي التِّرْمِذِيِّ «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ أَرْسَلَ جِبْرِيلَ إلَى الْجَنَّةِ، فَقَالَ: اُنْظُرْ إلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعْدَدْت إلَى أَهْلِهَا إلَى أَنْ قَالَ: اذْهَبْ إلَى النَّارِ فَانْظُرْ إلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعْدَدْت إلَى أَهْلِهَا» الْحَدِيثَ.
وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَاتَّفَقَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ عَلَى إجْرَائِهَا عَلَى ظَاهِرِهَا مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ. [قَوْلُهُ: فَمَنْ قَالَ خِلَافَ ذَلِكَ] أَيْ اعْتَقَدَ خِلَافَ ذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ، قَضِيَّتُهُ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ كُفَّارٌ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِوُجُودِهِمَا الْآنَ، وَإِنَّمَا يُوجَدَانِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَعَ أَنَّ الرَّاجِحَ أَنَّهُمْ عُصَاةٌ لَا كُفَّارٌ، إلَّا أَنَّ الشَّارِحَ أَفَادَ الْمَقْصُودَ بِقَوْلِهِ: لَا يُعْذَرُ بِجَهْلٍ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ قَالَهُ عَمْدًا بِلَا تَأْوِيلٍ أَوْ جَهْلًا، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَمُؤَوِّلُونَ وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ وُجُودَهُمَا الْآنَ فَإِنْ قَالَهُ عَنْ تَأْوِيلٍ كَالْمُعْتَزِلَةِ فَلَا يُكَفَّرُ، وَإِنْ قَالَهُ عَنْ جَهْلٍ، أَوْ عَمْدًا بِلَا تَأْوِيلٍ فَهُوَ كُفْرٌ أَفَادَ هَذَا التَّقْرِيرَ عج رحمه الله وَأَمَّا مَنْ أَنْكَرَ وُجُودَهُمَا أَصْلًا لَا أَثَبْتَهُمَا الْآنَ وَلَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَلَا شَكَّ فِي كُفْرِهِ [قَوْلُهُ: لَا يُعْذَرُ بِجَهْلٍ] أَيْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْذَرُ بِجَهْلٍ، وَمُفَادُ قَوْلِهِ: قَالَ خِلَافٌ إلَخْ أَنَّ مُرَادَهُ بِالْجَهْلِ الْجَهْلُ الْمُرَكَّبُ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ جَاهِلًا جَهْلًا بَسِيطًا بِأَنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ كَافِرٍ كَمَا هُوَ مُفَادُ قَوْلِهِ: فَمَنْ جَحَدَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: وَأَلْحَدَ إلَخْ] الْوَاوُ بِمَعْنَى أَوْ وَكَذَا مَا بَعْدَهُ أَوْ مِنْ عَطْفِ الْمَلْزُومِ. [قَوْلُهُ: هَذَا هُوَ الْمُعَوَّلُ إلَخْ] إشَارَةٌ إلَى أَنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ فِي الرُّؤْيَةِ فِي الْمَوْقِفِ؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الْخِلَافِ، وَأَمَّا فِي الْجَنَّةِ فَبِاتِّفَاقٍ لَا يَرَوْنَ فِيهَا؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَهَا، وَمُقَابِلُ الرَّاجِحِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَرَاهُ كُلُّ كَافِرٍ مُنَافِقٍ وَغَيْرِهِ، وَقِيلَ: يَرَاهُ الْمُنَافِقُ دُونَ غَيْرِهِ، وَالصَّحِيحُ كَمَا أَفَادَهُ الشَّارِحُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ مُطْلَقًا [قَوْلُهُ: وَالتَّشْرِيفِ] مِنْ عَطْفِ اللَّازِمِ [قَوْلُهُ: وَالْكَافِرُ] أَيْ سَوَاءٌ كَانَ مُنَافِقًا أَمْ لَا. [قَوْلُهُ: لَيْسَ أَهْلًا] أَيْ مُسْتَحِقًّا
[قَوْلُهُ: أَيْ تَعَاظَمَ] بِهَذَا يُعْرَفُ أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُقَدَّمَ تَعَالَى عَلَى تَبَارَكَ؛ لِأَنَّ تَعَالَى عَلَى مَا فُسِّرَ مِنْ بَابِ التَّخْلِيَةِ وَتَبَارَكَ مِنْ بَابِ التَّحْلِيَةِ. [قَوْلُهُ: عَنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ] أَيْ جِنْسِ صِفَاتِهِمْ وَلَوْ صِفَةً وَاحِدَةً، وَالْمُنَاسِبُ أَنْ يَقُولَ: عَنْ الصِّفَاتِ الْحَادِثَةِ كَانَتْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ بِالْفِعْلِ أَوْ صِفَاتٍ أُخَرَ تَتَّصِفُ بِالْحُدُوثِ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ إيجَادَهَا. [قَوْلُهُ: وَعَبَّرَ] أَيْ حَيْثُ عَبَّرَ بِالْمُسْتَقْبَلِ أَيْ بِالْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ. [قَوْلُهُ: قَصَدَ بِذَلِكَ تَفْسِيرَهَا] وَهُوَ أَنَّ جَاءَ الْمَاضِي يُرَادُ مِنْهُ الْمُسْتَقْبَلُ. [قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْعَرَبَ إلَخْ] أَيْ وَالْقُرْآنُ وَارِدٌ عَلَى لُغَةِ الْعَرَبِ وَالْمَعْنَى عَلَى الِاسْتِقْبَالِ.
[قَوْلُهُ: بِالْمَاضِي] أَيْ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي. [قَوْلُهُ: عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ] أَيْ عَنْ الْمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ إذَا تَحَقَّقَ وُقُوعُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مِثْلَهُ مَا إذَا تَرَجَّى الْوُقُوعَ. [قَوْلُهُ: إذْ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الْجِهَاتُ وَالْأَمْكِنَةُ وَالتَّحَوُّلُ] أَيْ الَّتِي هِيَ لَازِمَةٌ لِلْمَجِيءِ، وَلُزُومُ التَّحَوُّلِ لِلْمَجِيءِ مِنْ لُزُومِ الْعَامِّ لِلْخَاصِّ، وَعَطْفُ الْأَمْكِنَةِ عَلَى الْجِهَاتِ مُغَايِرٌ وَقَدْ يَتَّحِدَانِ ذِكْرًا وَيَخْتَلِفَانِ اعْتِبَارًا أَوْ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الشَّيْءِ لَهُ جِهَةٌ أَنْ يَكُونَ فِي مَكَان وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ فِي مَكَان أَنْ يَكُونَ لَهُ جِهَةٌ لِشَيْءِ كَكُرَةِ الْعَالَمِ فَإِنَّهَا فِي مَكَان وَلَيْسَتْ جِهَةً لِشَيْءٍ فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: السِّرِّ] أَيْ الْأَمْرِ الْخَفِيِّ وَقَوْلُهُ الْمَكْتُومِ أَيْ الَّذِي كَتَمَهُ اللَّهُ عَنَّا.
[قَوْلُهُ: لَا
لَا يُفَسَّرُ، وَكَانَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا: اقْرَءُوهَا كَمَا جَاءَتْ بِلَا كَيْفٍ، وَجُمْهُورُ الْمُتَكَلِّمِينَ أَوَّلَهَا فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَعْنَى مَجِيئِهِ تَعَالَى ظُهُورُهُ؛ لِأَنَّ الظُّهُورَ فِي الْعَادَةِ لَا يَكُونُ إلَّا بِمَجِيءٍ وَانْتِقَالٍ، فَعَبَّرَ عَنْ الْمُسَبَّبِ بِاسْمِ السَّبَبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: جَاءَ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ، فَهُوَ مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إلَيْهِ مَقَامَهُ، وَأَوَّلُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ إلَى اسْتِقْرَارِ الْخَلْقِ فِي الدَّارَيْنِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْمَلَكِ لِلْجِنْسِ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى رَبِّكَ وَفِيهِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ يُنْصَبُ عَلَى الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ انْصِبَابَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ مَجِيءَ اللَّهِ تَعَالَى مُغَايِرٌ لِمَجِيءِ الْمَلَكِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَصَفًّا صَفًّا نُصِبَ عَلَى الْحَالِ لَا كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ النُّحَاةِ مِنْ أَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ، وَالْمَعْنَى تَنْزِلُ مَلَائِكَةُ كُلِّ سَمَاءٍ فَيَصْطَفُّونَ صَفًّا بَعْدَ صَفٍّ مُحْدِقِينَ بِالْإِنْسِ وَالْجِنِّ (لِعَرْضِ الْأُمَمِ) مُتَعَلِّقٌ بِيَجِيءُ وَالْعَرْضُ تَمْيِيزُ الْمَعْرُوضِينَ وَالنَّظَرُ فِي أَحْوَالِهِمْ. ع: ظَاهِرُ
ــ
[حاشية العدوي]
يُفَسَّرُ] أَيْ لَا يَنْبَغِي تَفْسِيرُهُ أَيْ وَلَا يُمْكِنُ تَفْسِيرُهُ عَلَى التَّحْقِيقِ، [قَوْلُهُ: وَكَانَ مَالِكٌ] أَيْ مِنْ السَّلَفِ الصَّالِحِ، [قَوْلُهُ: بِلَا كَيْفٍ إلَخْ] أَيْ اقْرَءُوهَا وَأَحِيلُوا ظَاهِرَهَا فَلَا تُشَبِّهُوهُ بِخَلْقِهِ، [قَوْلُهُ: وَجُمْهُورُ الْمُتَكَلِّمِينَ أَوَّلُوهَا] أَيْ الْخَلَفُ هَذَا قَضِيَّةُ مَا اُشْتُهِرَ مِنْ أَنَّ الَّذِينَ يُؤَوِّلُونَ: اُخْتُلِفَ، فَيَكُونُ الْبَعْضُ الَّذِي لَمْ يُؤَوِّلْ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ السَّلَفِ، وَيَكُونُ حَاصِلُهُ أَنَّ غَالِبَ السَّلَفِ لَيْسَ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَبَعْضُهُمْ مِنْهُمْ وَلَا يُؤَوَّلُ كَالْغَالِبِ الَّذِي لَيْسَ مِنْهُمْ وَلَا يُؤَوَّلُ أَيْضًا وَلَعَلَّ الظَّاهِرَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ كُلَّهُمْ مِنْ الْخَلَفِ إلَّا أَنَّ غَالِبَهُمْ يُؤَوِّلُ وَغَيْرُ الْغَالِبِ يُوَافِقُ السَّلَفَ وَيَكُونُ مَا اُشْتُهِرَ مِنْ كَوْنِ الْخَلَفِ يُؤَوِّلُونَ أَيْ غَالِبُهُمْ وَغَيْرُ الْغَالِبِ يُوَافِقُ السَّلَفَ بِتَمَامِهِمْ عَلَى عَدَمِ التَّأْوِيلِ.
[قَوْلُهُ: ظُهُورُهُ] أَيْ ظُهُورُ ذَاتِهِ أَيْ بِحَيْثُ يَرَاهُ الْمُؤْمِنُ فَقَطْ، فِي الْمَوْقِفِ أَيْ هُوَ وَغَيْرُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِ الْكُفَّارِ لَا يَرَوْنَهُ أَوْ يَرَوْنَهُ أَوْ الْمُرَادُ ظُهُورُ آثَارِ قُدْرَتِهِ وَآثَارِهِ: قَهْرُهُ فَيُوَافِقُ قَوْلَ غَيْرِهِ، يُؤَوَّلُ بِظُهُورِ آثَارِ قُدْرَتِهِ فَتَدَبَّرْ [قَوْلُهُ: وَانْتِقَالٍ] عَطْفُ عَامٍّ عَلَى خَاصٍّ، [قَوْلُهُ: وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ جَاءَ أَمْرُهُ إلَخْ] فِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَيْضًا مَجِيءُ الْأَمْرِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ، مَا يُؤْمَرُ وَبِالنَّهْيِ مَا يُنْهَى أَيْ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ، وَعَلَيْهِ يَكُونُ قَوْلُهُ وَالْمَلَكُ عَطْفُ تَفْسِيرٍ، أَوْ يُقَالُ إنَّ هَذَا اللَّفْظَ أَعْنِي مَجِيءَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، تُعُورِفَ فِي مَجِيءِ حَامِلِهِ أَيْ صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً.
[قَوْلُهُ: إلَى اسْتِقْرَارِ إلَخْ] وَقِيلَ إلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، [قَوْلُهُ: لِلْجِنْسِ] أَيْ ضِمْنِ جَمِيعِ أَفْرَادِهِ بِدَلِيلِ مَا يَأْتِي، [قَوْلُهُ: بِنَاءً إلَخْ] أَيْ لَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَلَكَ يُقَدَّرُ لَهُ لَفْظٌ، وَجَاءَ أُخْرَى فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ جَمْعٌ إنَّمَا اللَّفْظُ الْأَوَّلُ مَجَازٌ، وَالثَّانِي حَقِيقَةٌ، [قَوْلُهُ: انْصِبَابَةً وَاحِدَةً] تَأْكِيدٌ ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْفِعْلَ فَيَكُونُ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ وَيُحْتَمَلُ بِنَاءً عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّ الْفِعْلَ، فَلَا يُفِيدُ مَا ذَكَرَ فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: فِي الْحَقِيقَةِ] أَيْ؛ لِأَنَّ مَجِيءَ الْمَلَكِ هُوَ الِانْتِقَالُ الْحِسِّيُّ، الْمَخْصُوصُ وَمَجِيءَ الرَّبِّ غَيْرُهُ أَمْرٌ يَلِيقُ بِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، أَيْ أَنَّ حَقِيقَةَ مَجِيءِ هَذَا مُغَايِرَةٌ لِحَقِيقَةِ مَجِيءِ الْآخَرِ أَيْ وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْعِبَارَةُ فَهِيَ وَاحِدَةٌ وَهِيَ لَفْظٌ جَاءَ وَلَوْ قَالَ أَيْ الَّذِي هُوَ الْحَقِيقَةُ لَكَانَ أَحْسَنَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا كَمَا أَفَدْنَا إنَّمَا يَأْتِي عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ، وَأَمَّا عَلَى طَرِيقَةِ الْخَلَفِ فَاللَّفْظُ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ فِي الطَّرَفَيْنِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ فَتَأَمَّلْ.
[قَوْلُهُ: لَا كَمَا تَوَهَّمَهُ] أَيْ فَإِنَّهُ مَرْدُودٌ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَيْسَ إلَّا صَفٌّ وَاحِدٌ، مَعَ أَنَّهُ سَبْعَةُ صُفُوفٍ، [قَوْلُهُ: تَنْزِلُ مَلَائِكَةُ كُلِّ سَمَاءٍ] أَيْ فَقَدْ وَرَدَ إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَيَأْمُرُهَا اللَّهُ تَعَالَى، فَتَمْتَدُّ كَالْأَدِيمِ فَيَكُونُ فِيهَا مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، ثُمَّ تَنْزِلُ مَلَائِكَةُ سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَطُوفُونَ بِالْخَلْقِ، ثُمَّ تَنْزِلُ مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ فَيَطُوفُونَ بِالْجَمْعِ إلَى آخِرِ السَّبْعِ ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إنْ اسْتَطَعْتُمْ، وَالْخَلْقُ عِنْدَ التَّبْدِيلِ عَلَى الصِّرَاطِ، [قَوْلُهُ: مُحْدِقِينَ بِالْإِنْسِ وَالْجِنِّ] أَيْ وَغَيْرِهِمْ عَلَى مَا
كَلَامِهِ أَنَّ سَائِرَ الْأُمَمِ مِنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ تُعْرَضُ، وَقِيلَ: لَا يُحْشَرُ لِلْعَرْضِ إلَّا مَنْ يُحَاسَبُ وَيُعَاقَبُ يَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ: (وَحِسَابَهَا وَعُقُوبَتَهَا وَثَوَابَهَا) فَالْبَهَائِمُ لَا تُحْشَرُ؛ لِأَنَّهَا لَا تُحَاسَبُ وَلَا تُعَاقَبُ، وَالْحِسَابُ هُوَ أَنْ يُعَدِّدَ عَلَيْهِ كُلَّ مَا فَعَلَ مِنْ حَسَنَةٍ وَمِنْ سَيِّئَةٍ فَيُحَاسَبُ الْمُؤْمِنُ بِالْفَضْلِ وَالْمُنَافِقُ وَالْكَافِرُ بِالْحُجَّةِ وَالْعَدْلِ، وَالْعُقُوبَةُ قِسْمَانِ: يَسِيرَةٌ
ــ
[حاشية العدوي]
سَيَجِيءُ.
[قَوْلُهُ: وَالْعَرْضُ تَمْيِيزٌ إلَخْ] أَيْ تَعْيِينُهُمْ فَعَطْفُ النَّظَرِ مُغَايِرٌ كَالْمَلِكِ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، إذَا جِيءَ لَهُ بِقَوْمٍ فَيُمَيِّزُهُمْ، أَيْ يُعَيِّنُهُمْ وَيُعَرِّفُهُمْ ثُمَّ يَنْظُرُ فِي أَحْوَالِهِمْ وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْعَرْضَ بِهَذَا الْمَعْنَى مُسْتَحِيلٌ؛ لِأَنَّ التَّمْيِيزَ يَسْتَدْعِي سَبْقَ الْجَهْلِ وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ عَلَيْهِ سبحانه وتعالى، وَالْجَوَابُ عَنْ الشَّارِحِ أَنَّ قَصْدَهُ تَفْسِيرُ الْعَرْضِ فِي ذَاتِهِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ خُصُوصِ الْمَقَامِ، وَأَمَّا بِالنَّظَرِ لَهُ فَيُفَسَّرُ بِالطَّرَفِ الثَّانِي فَقَطْ أَيْ الذِّكْرِ هُوَ النَّظَرُ فِي الْأَحْوَالِ كَمَا فَسَّرَ بِهِ تت، وَلَا يَخْفَى أَنَّ تَفْسِيرَ الْعَرْضِ بِمَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ، تَفْسِيرٌ بِغَايَةِ الشَّيْءِ؛ لِأَنَّ تَفْسِيرَهُ بِالْحَقِيقَةِ الْإِظْهَارُ.
قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ عَرَضْت الشَّيْءَ عَرْضًا مِنْ بَابِ ضَرَبَ، فَأَعْرَضَ هُوَ بِالْأَلِفِ أَيْ أَظْهَرْته وَأَبْرَزْته، فَظَهَرَ هُوَ وَبَرَزَ وَالْمُطَاوِعُ مِنْ النَّوَادِرِ الَّتِي تَعَدَّى ثُلَاثِيُّهَا وَقُصِرَ رُبَاعِيُّهَا عَكْسُ الْمُتَعَارَفِ.
[قَوْلُهُ: أَنَّ سَائِرَ الْأُمَمِ] أَيْ طَوَائِفَ الْحَيَوَانَاتِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدُ، فَالْبَهَائِمُ وَيَدُلُّ عَلَيْهَا أَيْضًا كَلَامُ تت، وَقَوْلُهُ مِنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ مِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ وَقَوْلُهُ تُعْرَفُ أَيْ يُنْظَرُ فِي أَحْوَالِهَا، هَذَا مُقْتَضَى كَلَامِهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا يَأْتِي وَقَوْلُهُ لِلْعَرْضِ، أَيْ لِلنَّظَرِ فِي حَالِهِ، وَقَوْلُهُ إلَّا مَنْ يُحَاسَبُ يُعَاقَبُ، أَيْ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُعَاقَبَ وَيُحَاسَبَ وَهُمْ الْآدَمِيُّونَ، أَيْ لَا الْبَهَائِمُ فَقَوْلُهُ بَعْدُ؛ لِأَنَّهَا لَا تُحَاسَبُ إلَخْ، أَيْ لِأَنَّ شَأْنَهَا ذَلِكَ بِخِلَافِ الْآدَمِيِّينَ وَالْجِنِّ، فَإِنَّ شَأْنَهُمَا ذَلِكَ.
وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي ضَعِيفٌ إذْ الصَّحِيحُ كَمَا قَالَ السُّيُوطِيّ، أَنَّ الْبَهَائِمَ أَيْ مُطْلَقُ الْحَيَوَانِ يُحْشَرُ إذْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ حَتَّى أَنَّهُ يُقْتَصُّ لِلْجَمَّاءِ مِنْ الْقَرْنَاءِ فَإِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَبْقَ لِوَاحِدَةٍ عِنْدَ الْأُخْرَى تَبَعَةٌ يَقُولُ اللَّهُ: كُونُوا تُرَابًا فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْت تُرَابًا، أَيْ لَيْتَنِي كُنْت تُرَابًا فِي الدُّنْيَا فَلَمْ أُخْلَقْ وَلَمْ أَكُنْ أَوْ فِي هَذَا الْيَوْمِ، فَلَمْ أُبْعَثْ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَضِيَّةُ هَذَا التَّقْدِيرِ الِاتِّفَاقُ عَلَى عَدَمِ حَشْرِ الْجَمَادِ وَهُنَاكَ كَلَامٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ فَرَاجِعْهُ.
[قَوْلُهُ: وَحِسَابَهَا إلَخْ] تَفْسِيرٌ لِعَرْضِ الْأُمَمِ، [قَوْلُهُ: وَالْحِسَابُ هُوَ أَنْ يُعَدِّدَ عَلَيْهِ كُلَّ مَا فَعَلَ] أَيْ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فَيُكَلِّمُ الْمَوْلَى تَعَالَى عِبَادَهُ فِي شَأْنِ أَعْمَالِهِمْ وَكَيْفِيَّةِ مَا لَهَا مِنْ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ.
قَالَ فَخْرُ الدِّينِ إمَّا بِأَنْ يَسْمَعُوا كَلَامَهُ الْقَدِيمَ أَوْ يَسْمَعُوا صَوْتًا يَدُلُّ عَلَيْهِ، يَتَوَلَّى اللَّهُ تَخْلِيقَهُ فِي أُذُنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ أَوْ فِي مَحَلٍّ يَقْرُبُ مَنْ أُذُنِهِ بِحَيْثُ لَا تَبْلُغُ قُوَّةُ ذَلِكَ الصَّوْتِ مَنْعُ الْغَيْرِ مِنْ سَمَاعِ مَا كُلِّفَ بِهِ اهـ.
فَعَلَى هَذَا الْمُحَاسِبُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ اللَّقَانِيُّ وَعِنْدِي أَنَّ الْحَقَّ، أَيْ مِنْ أَقْوَالٍ ذَكَرَهَا أَنَّ الْخَلْقَ فِي الْمُحَاسَبَةِ مُخْتَلِفَةُ الْأَقْوَالِ فَمِنْهُمْ مَنْ يُحَاسِبُهُ اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ تُحَاسِبُهُ الْمَلَائِكَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُحَاسِبُهُ اللَّهُ وَالْمَلَائِكَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُحَاسِبُهُ أَصْلًا أَيْ فَقَدْ وَرَدَ أَنَّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَعِي مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعُونَ أَلْفًا لَيْسَ عَلَيْهِمْ حِسَابٌ اهـ.
[قَوْلُهُ: وَمِنْ سَيِّئَةٍ] الْوَاوُ بِمَعْنَى أَوْ وَهِيَ لِمَنْعِ الْخُلُوِّ، فَتَجُوزُ الْجَمْعُ وَظَاهِرُ تِلْكَ الْعِبَارَةِ أَنَّهُ لَا يُعَدَّدُ عَلَيْهِ مَا فَعَلَ مِنْ الْمُبَاحَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ.
[قَوْلُهُ: بِالْفَضْلِ] الْبَاءُ فِيهِ وَفِي بِالْعَدْلِ لِلْمُلَابَسَةِ أَيْ حِسَابًا مُلْتَبِسًا بِالْفَضْلِ، فَالْمُؤْمِنُ يَخْلُو بِرَبِّهِ فَيَقُولُ اللَّهُ سبحانه وتعالى: سَتَرْتهَا عَلَيْك فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَك يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْكَافِرُونَ يُحَاسَبُونَ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ وَيُنَادَى بِهِمْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ، أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ. وَمُلَخَّصُهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي حِسَابِ الْمُؤْمِنِينَ سَتْرٌ وَغُفْرَانٌ نَاسَبَ الْفَضْلَ، وَلَمَّا كَانَ فِي حِسَابِ الْكَافِرِ الْهَتْكُ نَاسَبَ الْعَدْلَ، وَعَطْفُ الْعَدْلِ عَلَى مَا قَبْلَهُ مُغَايِرٌ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْحُجَّةِ الْبَيِّنَةُ الشَّاهِدَةُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْحُجَّةِ مَا يُقَامُ عَلَيْهِ مِنْ الْحُجَّةِ وَاخْتُلِفَ فِي الذُّنُوبِ الَّتِي سَتَرَهَا عَلَيْهِ وَغَفَرَهَا، فَقِيلَ ذُنُوبٌ تَابَ مِنْهَا وَلَكِنْ
وَهِيَ مَا يُصِيبُ الْجِسْمَ، وَشَدِيدَةٌ وَهِيَ حَجْبُهُمْ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَتَسَلُّطُ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ، وَالثَّوَابُ الْجَزَاءُ فَيُجَازَى عَنْ الْإِحْسَانِ فِي الْجَنَّةِ وَعَنْ الْإِسَاءَةِ فِي النَّارِ.
(وَ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ شَرْعًا أَنَّهُ (تُوضَعُ) أَيْ تُنْصَبُ (الْمَوَازِينُ لِ) أَجْلِ (وَزْنِ أَعْمَالِ الْعِبَادِ) أَيْ الصَّحَائِفِ الَّتِي فِيهَا أَعْمَالُ الْعِبَادِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} [الأنبياء: 47] الْآيَةَ وَظَاهِرُ كَلَامِهِ الْعُمُومُ فِي الْمُؤْمِنِينَ مُحْسِنِينَ كَانُوا أَوْ مُسِيئِينَ.
وَفِي الْكَافِرِينَ وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَكْثَرِ، وَحِكْمَةُ الْوَزْنِ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى عَالِمًا
ــ
[حاشية العدوي]
لَا يَمْحُوهَا مِنْ الصَّحِيفَةِ، حَتَّى يُوقَفَ فَاعِلُهَا عَلَيْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ مَا عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ، وَقِيلَ صَغَائِرُ اقْتَرَفَهَا وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَمَعْنَى الْحِسَابِ أَنَّ الْبَارِي سبحانه وتعالى يُعَدِّدُ عَلَى الْخَلْقِ أَعْمَالَهُمْ مِنْ إحْسَانٍ وَإِسَاءَةٍ وَيُعَدِّدُ عَلَيْهِمْ نِعَمَهُ ثُمَّ يُقَابِلُ الْبَعْضَ بِالْبَعْضِ فَمَا يَشِفُّ مِنْهَا عَلَى الْآخَرِ اُعْتُبِرَ اهـ، كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ وَبَعْضُهُ بِالْمَعْنَى وَنَقَلَ اللَّقَانِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْفَاسِقَ يُحَاسَبُ بَيْنَ مَعَارِفِهِ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَفْظَعَ إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ، فَنَقُولُ: إنَّ الْفَضْلَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُؤْمِنِ لَيْسَ ثَابِتًا لِكُلِّ مُؤْمِنٍ، وَإِنَّ مَا قَالَهُ هَذَا الْبَعْضُ يُحْمَلُ عَلَى بَعْضِ الْفُسَّاقِ مِمَّنْ أَرَادَ اللَّهُ فَضِيحَتَهُ فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: مَا يُصِيبُ الْجِسْمَ] ظَاهِرُهُ سَوَاءٌ كَانَ بِنَوْعٍ أَوْ أَنْوَاعٍ شَدِيدَةٍ أَوْ خَفِيفَةٍ، فَحِينَئِذٍ تَكُونُ الشِّدَّةُ الْمُقَابِلَةُ لِلْيُسْرِ بِالْحَجْبِ، وَتَكُونُ مَعْنَوِيَّةً أَيْ تَكُونُ الشِّدَّةُ مَعْنَوِيَّةً وَتَكُونُ الْمَعْنَوِيَّةُ أَقْوَى مِنْ الْحِسِّيَّةِ، سَوَاءٌ صَاحَبَهَا عَذَابٌ بِنَوْعٍ أَوْ أَنْوَاعٍ أَمْ لَا، فَيَكُونُ قَوْلُهُ وَتَسْلِيطٌ إلَخْ لَا دَخْلَ لَهُ فِي تَحَقُّقِ الشِّدَّةِ، فَلَا يُنَاسِبُ ذِكْرُهَا [قَوْلُهُ: عَنْ الْإِحْسَانِ] الْمُرَادُ بِهِ مُطْلَقُ طَاعَةِ الْمَوْلَى مَصْدَرُ أَحْسَنَ أَيْ أَتَى بِفِعْلٍ حَسَنٍ كَمَا يُفِيدُهُ الْمِصْبَاحُ، [قَوْلُهُ: فِي الْجَنَّةِ] أَيْ الْمُجَازَاةُ الدَّائِمَةُ وَإِلَّا فَقَدْ تَكُونُ فِي الْقَبْرِ وَفِي الْمَوْقِفِ.
[قَوْلُهُ: وَعَنْ الْإِسَاءَةِ فِي النَّارِ] أَيْ دَارِ الْعِقَابِ لَا يَخْفَى أَنَّ الْجَوَابَ الْمُتَقَدِّمَ لَا يَأْتِي هُنَا؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ إذَا دَخَلَ النَّارَ لَا يُخَلَّدُ وَيُجَابُ بِمَا يَشْمَلُهُمَا، بِأَنْ يُرَادَ الْمُجَازَاةُ الْعُظْمَى فَالْمُجَازَاةُ فِي الْقَبْرِ وَفِي الْمَوْقِفِ دُونَهَا وَفِي الْمَوْضِعَيْنِ بِمَعْنَى الْبَاءِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ الْفَاكِهَانِيِّ، فَالسَّبَبُ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ أَيْ وَمَا يَكُونُ فِيهَا الْإِحْسَانُ، وَفِي دُخُولِ النَّارِ وَمَا يَكُونُ فِيهَا الْإِسَاءَةُ إلَّا أَنَّ الْإِحْسَانَ لَيْسَ سَبَبًا تَامًّا فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، وَالْجَزَاءُ الثَّانِي رَحْمَةُ اللَّهِ كَمَا تَقَدَّمَ لَهُ وَبَعْضٌ أَجَابَ بِأَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ بِعَمَلِهِ الْجَنَّةَ أَيْ الْعَمَلُ الْمُجَرَّدُ عَنْ الْقَبُولِ وقَوْله تَعَالَى:{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32] أَيْ بِالْعَمَلِ الْمُتَقَبَّلِ، وَالْقَبُولُ إنَّمَا يَحْصُلُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى.
[قَوْلُهُ: الصَّحَائِفُ إلَخْ] أَيْ فَالْمَوْزُونُ نَفْسُ الصَّحَائِفِ، أَوْ إنَّ الْأَعْمَالَ تُجَسَّمُ، وَاقْتَصَرَ الشَّارِحُ عَلَى الصَّحَائِفِ؛ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ كُتُبَ الْأَعْمَالِ هِيَ الَّتِي تُوزَنُ، وَقِيلَ تُوزَنُ الذَّوَاتُ لِمَا وَرَدَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«لَيُؤْتَى بِالْعَظِيمِ الثَّقِيلِ لَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ» .
[قَوْلُهُ: وَظَاهِرُ كَلَامِهِ إلَخْ] ظَاهِرُ عِبَارَتِهِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ لَا تُوزَنُ أَعْمَالُهُمْ وَيُوَافِقُهُ فِي شَرْحِ الْجَوْهَرَةِ مِمَّا حَاصِلُهُ أَنَّهُ لَا مِيزَانَ لِمَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ كَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ وَأَهْلِ الصَّبْرِ، نَعَمْ يُخَالِفُهُ مَا ذَكَرَهُ تت، فَإِنَّهُ قَالَ: فَأَعْمَالُ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَالْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ إلَّا أَعْمَالُ الْخَيْرِ تُجْعَلُ فِي كِفَّةِ النُّورِ وَلَا يُوجَدُ لَهُ مَا يُجْعَلُ فِي كِفَّةِ الظُّلْمَةِ، فَتُرْفَعُ كِفَّةُ النُّورِ إلَى أَعْلَى عِلِّيِّينَ، وَأَعْمَالُ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ إلَّا الشَّرُّ، أَيْ مِنْ كُفْرٍ وَسَيِّئَاتٍ تُجْعَلُ فِي كِفَّةِ الظُّلُمَاتِ، وَلَا يُوجَدُ مَا يُجْعَلُ لَهُمْ فِي الْكِفَّةِ الْأُخْرَى فَتَهْبِطُ بِعَمَلِهِ إلَى سِجِّينٍ، أَقُولُ ذَكَرَ بَعْضٌ مَا حَاصِلُهُ، فَلَوْ كَانَ لَهُ أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى نِيَّةٍ كَصِلَةِ الرَّحِمِ وَالْعِتْقِ فَإِنَّهَا تُوضَعُ فِي مِيزَانِهِ فَيَرْجَحُ الْكُفْرُ.
[قَوْلُهُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَكْثَرِ] وَمُقَابِلُهُ أَنَّ الْكَافِرَ لَا يُوزَنُ لَهُ عَمَلٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى، {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105] ، وَأَجَابَ الْأَكْثَرُ بِأَنَّ الْمَعْنَى وَزْنًا نَافِعًا.
[قَوْلُهُ: وَحِكْمَةُ الْوَزْنِ] أَيْ مِنْ حَيْثُ الْإِخْبَارِ بِهِ، وَمِنْ حَيْثُ ذَاتُهُ، فَأَشَارَ الشَّارِحُ إلَى الْأُولَى بِقَوْلِهِ: امْتِحَانُ اللَّهِ أَيْ إخْبَارُ اللَّهِ بِالْإِيمَانِ، أَيْ بِطَلَبِ الْإِيمَانِ
بِكُلِّ شَيْءٍ امْتِحَانُ اللَّهِ عِبَادَهُ بِالْإِيمَانِ فِي الدُّنْيَا وَجَعَلَ ذَلِكَ عَلَامَةً لِأَهْلِ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ فِي الْعُقْبَى، وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْمِيزَانِ فَجُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآخِرَةِ مِيزَانٌ حِسِّيٌّ بَلْ الْمُرَادُ بِهِ الْعَدْلُ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ السَّلَفُ أَنَّهُ مِيزَانٌ حِسِّيٌّ لَهُ كِفَّتَانِ وَلِسَانٌ، وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ جِسْمٌ هَلْ هُوَ مِيزَانٌ وَاحِدٌ أَوْ لِكُلِّ أُمَّةٍ مِيزَانٌ أَوْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِيزَانٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ وَاحِدٌ وَمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ فَلِعَظَمَتِهِ، أَوْ أُرِيدَ بِالْجَمْعِ الْمُفْرَدُ وَالصَّنْجُ يَوْمئِذٍ مَثَاقِيلُ الذَّرِّ وَالْخَرْدَلِ تَحْقِيقًا لِتَمَامِ الْعَدْلِ، وَتُطْرَحُ صَحَائِفُ الْحَسَنَاتِ فِي كِفَّةِ النُّورِ فَتَثْقُلُ بِهَا الْمِيزَانُ بِفَضْلِ
ــ
[حاشية العدوي]
بِالْمِيزَانِ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَأَشَارَ لِلثَّانِي بِقَوْلِهِ عَطْفًا عَلَى امْتِحَانٍ، وَجَعَلَ ذَلِكَ عَلَامَةً إلَخْ.
[قَوْلُهُ: فَجُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ إلَخْ] سَبَبُ إنْكَارِهِمْ الْمِيزَانَ أَنَّ الْأَعْمَالَ أَعْرَاضٌ إنْ أَمْكَنَ إعَادَتُهَا، لَمْ يَكُنْ وَزْنُهَا؛ وَلِأَنَّهَا مَعْلُومَةٌ لِلَّهِ فَوَزْنُهَا عَبَثٌ، وَرُدَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، أَنَّ كُتُبَ الْأَعْمَالِ هِيَ الَّتِي تُوزَنُ فَلَا إشْكَالَ، وَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ أَعْمَالِ الْعِبَادِ مُعَلَّلَةٌ بِالْأَغْرَاضِ، لَعَلَّ فِي الْوَزْنِ حِكْمَةٌ لَا نَطَّلِعُ عَلَيْهَا، وَعَدَمُ اطِّلَاعِنَا عَلَى الْحِكْمَةِ لَا يُوجِبُ الْعَبَثَ.
[قَوْلُهُ: بَلْ الْمُرَادُ بِهِ الْعَدْلُ] أَيْ أَنَّ اللَّهَ يَعْدِلُ بَيْنَ خَلْقِهِ فَلَا يَظْلِمُ أَحَدًا، [قَوْلُهُ: كِفَّتَانِ] قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ كِفَّةُ الْمِيزَانِ بِالْكَسْرِ وَالْعَامَّةُ تَفْتَحُهُ.
[قَوْلُهُ: الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ جِسْمٌ] لَا يَخْفَى أَنَّ الْمَوْضِعَ لِلضَّمِيرِ، فَكَانَ يَقُولُ: وَلَكِنْ اخْتَلَفُوا أَيْ أَنَّ السَّلَفَ بَعْدَ أَنْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ مِيزَانٌ حِسِّيٌّ، اخْتَلَفُوا أَهَلْ هُوَ مِيزَانٌ إلَخْ، وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ جِسْمٌ أَيْ حِسِّيٌّ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّمَا أَظْهَرَ إشَارَةً إلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُخْتَلِفِينَ مِنْ الْخَلَفِ التَّابِعِ لِلسَّلَفِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَتِمُّ إلَّا إذَا ثَبَتَ أَنَّ السَّلَفَ لَمْ يَخْتَلِفُوا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ مَنْ تَبِعَهُمْ فِي هَذَا مِنْ الْخَلَفِ.
[قَوْلُهُ: فَلِعَظَمَتِهِ] بَيَّنَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ قِيلَ كِفَّتَانِ كَأَطْبَاقِ السَّمَاوَاتِ إحْدَاهُمَا مِنْ نُورٍ، وَهِيَ الَّتِي تُوزَنُ فِيهَا الْحَسَنَاتُ وَالْأُخْرَى مِنْ ظُلُمَاتٍ، وَهِيَ الَّتِي تُوزَنُ فِيهَا السَّيِّئَاتُ وَقِيلَ لَوْ وُضِعْت السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ فِي إحْدَاهُمَا لَوَسِعَتْهُنَّ.
[قَوْلُهُ: أَوْ أُرِيدَ بِالْجَمْعِ الْمُفْرَدُ] لَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا حَاجَةَ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ حَيْثُ قُلْنَا فَجَمْعٌ لِعَظَمَتِهِ فَقَدْ أَرَادَ بِالْجَمْعِ الْمُفْرَدَ.
[قَوْلُهُ: وَالصَّنْجُ يَوْمئِذٍ إلَخْ] هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ إحْدَى الْكِفَّتَيْنِ تُوضَعُ فِيهَا الصَّنْجُ وَالْكِفَّةُ الثَّانِيَةُ يُوضَعُ فِيهَا الْمَوْزُونُ مِنْ حَسَنَاتٍ أَوْ مِنْ سَيِّئَاتٍ، [قَوْلُهُ: وَالْخَرْدَلُ] الظَّاهِرُ أَنَّ الْوَاوَ بِمَعْنَى أَوْ أَيْ إنَّ الْبَعْضَ مَثَاقِيلُ الذَّرِّ، وَالْبَعْضُ مَثَاقِيلُ الْخَرْدَلِ وَالذَّرُّ قَدْ عَرَفْته وَلَا يَخْفَى مَا بَيْنَهُمَا مِنْ التَّفَاوُتِ، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ ارْتَكَبْنَا، جَعَلَ الْوَاوَ بِمَعْنَى أَوْ يُقَالُ: وَهُوَ الْأَوْلَى إنَّ ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ قِلَّتِهَا جِدًّا فَلَمْ يُرِدْ مِنْ الْكَلَامِ حَقِيقَتَهُ، [قَوْلُهُ: تَحْقِيقًا لِتَمَامِ الْعَدْلِ] أَيْ؛ لِأَنَّ فِي قِلَّةِ الصَّنْجِ وَدِقَّتِهَا، لَا يَتَحَقَّقُ حَيْفٌ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ.
[قَوْلُهُ: وَتُطْرَحُ إلَخْ] لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا يُنَافِي مَا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا صَنْجَ؛ لِأَنَّ مُلَخَّصَهُ أَنَّ إحْدَى الْكِفَّتَيْنِ لِلْحَسَنَاتِ، وَالْأُخْرَى لِلسَّيِّئَاتِ.
وَأَجَابَ عج بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ الصَّنْجَ فِيمَنْ لَهُ حَسَنَاتٌ فَقَطْ أَوْ سَيِّئَاتٌ فَقَطْ، وَأَمَّا مَنْ لَهُ الْأَمْرَانِ مَعًا فَإِحْدَاهُمَا فِي كِفَّةٍ وَالْأُخْرَى فِي الْأُخْرَى، فَحِينَئِذٍ لَا تَنَافِي فِي كَلَامِ الشَّارِحِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةٍ، إلَّا أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ يَرُدُّهُ مَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ مِنْ أَنَّ النَّاسَ فِي الْآخِرَةِ ثَلَاثُ طِبَاقٍ. مُتَّقُونَ لَا كَبَائِرَ لَهُمْ وَمُخْلِطُونَ، وَهُمْ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ الصَّغَائِرَ وَالْكَبَائِرَ، وَكُفَّارٌ، فَالْمُتَّقُونَ تُوضَعُ حَسَنَاتُهُمْ فِي الْكِفَّةِ النَّيِّرَةِ، وَصَغَائِرُهُمْ إنْ كَانَتْ فِي الْأُخْرَى فَتَثْقُلُ النَّيِّرَةُ وَتَرْتَفِعُ الْمُظْلِمَةُ وَأَمَّا الْمُخْلِطُونَ، فَحَسَنَاتُهُمْ تُجْعَلُ فِي النَّيِّرَةِ وَسَيِّئَاتُهُمْ فِي الْمُظْلِمَةِ فَإِنْ تَسَاوَيَا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ، وَإِنْ رَجَحَ أَحَدُهُمَا عُمِلَ بِهِ إمَّا إلَى الْجَنَّةِ أَوْ إلَى النَّارِ. إلَّا أَنْ يَعْفُوَ الْمَوْلَى عز وجل، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُوضَعُ كُفْرُهُ فِي الْمُظْلِمَةِ وَلَا تُوجَدُ لَهُ حَسَنَةٌ تُوضَعُ فِي الْكِفَّةِ الْأُخْرَى وَتَبْقَى فَارِغَةً فَيَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ إلَى النَّارِ اهـ.
أَقُولُ: وَاَلَّذِي يُخْرَجُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ الْإِشْكَالِ الْقَوِيِّ، وَيُجْمَعُ بِهِ بَيْنَ أَطْرَافِ كَلَامِهِمْ أَنَّ النَّاسَ عَلَى أَحْوَالٍ فَالصَّنْجُ فِي حَقِّ أُنَاسٍ وَتَرْكُهَا فِي حَقِّ أُخْرَى وَتَفْوِيضُ ذَلِكَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، [قَوْلُهُ: فَتَثْقُلُ بِهَا الْمِيزَانُ] لَا
اللَّهِ تَعَالَى، وَتُطْرَحُ صَحَائِفُ السَّيِّئَاتِ فِي كِفَّةِ الظُّلْمَةِ فَتَخِفُّ بِهَا الْمِيزَانُ بِعَدْلِ اللَّهِ تَعَالَى (فَمَنْ ثَقُلَتْ) أَيْ رَجُحَتْ (مَوَازِينُهُ) أَيْ مَوْزُونَاتُهُ وَهِيَ الصَّحَائِفُ الَّتِي فِيهَا الْأَعْمَالُ (فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ) أَيْ النَّاجُونَ، وَانْظُرْ لِمَ تُرِكَ قَسِيمُ هَذَا وَهُوَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه: إنَّمَا ثَقُلَتْ مَوَازِينُ مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِاتِّبَاعِهِمْ فِي الدُّنْيَا الْحَقَّ، وَإِنَّمَا خَفَّتْ مَوَازِينُ مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِاتِّبَاعِهِمْ فِي الدُّنْيَا الْبَاطِلَ، وَصِفَةُ الثِّقْلِ الِارْتِفَاعُ.
(وَ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ الْأُمَمَ (يُؤْتَوْنَ)
ــ
[حاشية العدوي]
يَخْفَى أَنْ هَذَا ظَاهِرٌ عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ، مِنْ أَنَّ كُلَّ إنْسَانٍ تُوزَنُ أَعْمَالُهُ وَحْدَهُ حَسَنَاتُهُ فِي كِفَّةٍ وَسَيِّئَاتُهُ فِي كِفَّةٍ وَالْمُتَبَادَرُ مِنْهُ أَنَّ الرُّجْحَانَ حِسِّيٌّ لَا مَعْنَوِيٌّ، وَقِيلَ يُجْعَلُ جَمِيعُ أَعْمَالِ الْعِبَادِ فِي الْمِيزَانِ مَرَّةً وَاحِدَةً الْحَسَنَاتُ فِي كِفَّةِ النُّورِ وَالسَّيِّئَاتُ فِي كِفَّةِ الظُّلْمَةِ، وَيَجْعَلُ اللَّهُ لِكُلِّ إنْسَانٍ عِلْمًا ضَرُورِيًّا يَفْهَمُ بِهِ خِفَّةَ أَعْمَالِهِ وَثِقَلَهَا، وَقِيلَ عَلَامَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ يَقُومُ عَمُودٌ مِنْ كِفَّةِ الظُّلْمَةِ، حَتَّى يَكْسُوَ كِفَّةَ النُّورِ فَإِذَا رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ يَقُومُ عَمُودٌ مِنْ كِفَّةِ النُّورِ، حَتَّى يَكْسُوَ كِفَّةَ الظُّلْمَةِ اهـ، وَالظَّاهِرُ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهَا لَهُ.
قَالَهُ اللَّقَانِيُّ وَعَلَيْهَا فَالرُّجْحَانُ مَعْنَوِيٌّ اهـ، أَقُولُ وَعَلَى هَذَا فَلَا يُعْقَلُ صَنْجٌ أَصْلًا [قَوْلُهُ: بِفَضْلِ اللَّهِ] لَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِ الشَّارِحِ، فَتَثْقُلُ مَعَ هَذَا التَّعْبِيرِ أَعْنِي قَوْلَهُ بِفَضْلِ اللَّهِ يَقْتَضِي أَنَّ الثَّابِتَ لِلْحَسَنَاتِ الثِّقْلُ، عَلَى كُلِّ حَالٍ وَلِلسَّيِّئَاتِ الْخِفَّةُ عَلَى كُلِّ حَالٍ تَسَاوَيَا، أَوْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا أَكْثَرَ وَهُوَ: طَرِيقَةٌ لِبَعْضِهِمْ قَائِلًا: إنْ كَانَ مُؤْمِنٌ يَثْقُلُ مِيزَانُهُ؛ لِأَنَّ إيمَانَهُ يُوزَنُ مَعَ حَسَنَاتِهِ، وَإِنَّ قَوْله تَعَالَى:{فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المؤمنون: 102] أَيْ ابْتِدَاءً أَوْ بَعْدَ تَعْذِيبِهِمْ اهـ.
أَقُولُ وَثَمَرَةُ الْوَزْنِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَمَارَةٌ أَنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ وَاسْتَحْسَنَ هَذَا الْقَوْلَ عج وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى أَنَّ الثِّقْلَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَتْ حَسَنَاتُهُ أَكْثَرَ، وَأَمَّا لَوْ كَانَتْ سَيِّئَاتُهُ أَكْثَرَ فَتُثْقِلُ مِيزَانَهُ بِهَا وَيُحْمَلُ، قَوْلُهُ عز وجل {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون: 103] أَيْ بَعْضُهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ، وَكَذَا يُقَالُ: فِي غَيْرِهَا أَقُولُ وَيُمْكِنُ تَمْشِيَةُ كَلَامِ شَارِحِنَا عَلَيْهِ بِأَنْ نَقُولَ: قَوْلُهُ، فَتَثْقُلُ أَيْ إنْ كَانَتْ حَسَنَاتُهُ أَكْثَرَ وَيَكُونُ التَّعْبِيرُ بِالْفَضْلِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمَوْلَى لَوْ قَدَرَ وَأَرَادَ أَنْ يَخِفَّ مِيزَانُهُ مَعَ كَثْرَةِ حَسَنَاتِهِ، لَمَا كَانَ عَلَيْهِ حَرَجٌ؛ لِأَنَّهُ الْمَالِكُ يَفْعَلُ كَيْفَ يَشَاءُ. [قَوْلُهُ: فِي كِفَّةِ الظُّلْمَةِ] أَيْ عَنْ يَسَارِ الْعَرْشِ جِهَةَ النَّارِ، وَأَمَّا كِفَّةُ النُّورِ فَتُجْعَلُ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ جِهَةَ الْجَنَّةِ، كَمَا قَالَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ.
[قَوْلُهُ: بِعَدْلِ اللَّهِ] فِيهِ شَيْءٌ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَخْفَى أَنَّ الْخِفَّةَ ضِدُّ الثِّقْلِ، فَيَكُونُ خِفَّةُ السَّيِّئَاتِ فَضْلًا؛ لِأَنَّهَا مُلَازِمَةٌ لِثِقَلِ الْحَسَنَاتِ وَالْعَدْلِ فِي ثِقَلِهَا؛ لِأَنَّهُ مُلَازِمٌ لِخِفَّةِ الْحَسَنَاتِ فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: أَيْ مَوْزُونَاتِهِ] مِنْ إطْلَاقِ اسْمِ الْحَالِ وَإِرَادَةِ الْمَحَلِّ فَهُوَ مَجَازٌ مُرْسَلٌ إشَارَةً إلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمَوَازِينِ الْآلَاتِ الَّتِي يُوزَنُ بِهَا، [قَوْلُهُ: وَهِيَ الصَّحَائِفُ] أَيْ وَالْأَجْسَامُ الَّتِي عَلَى عَدَدِ الْأَعْمَالِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ [قَوْلُهُ: فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] أَيْ ابْتِدَاءً أَوْ بَعْدَ التَّعْذِيبِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، [قَوْلُهُ: وَانْظُرْ إلَخْ] قَدْ يُقَالُ: تَرَكَهُ إشَارَةً إلَى سَعَةِ رَجَاءِ فَضْلِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ إلَّا الثِّقْلُ.
وَأَجَابَ بَعْضُ الْأَشْيَاخِ بِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ فَلَا تَرْكَ حَقِيقَةٍ [قَوْلُهُ: وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ] عَلَى الطَّرِيقَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ أَنَّ كُلَّ الْمُؤْمِنِينَ تَثْقُلُ مَوَازِينُهُمْ، تَكُونُ الْآيَةُ مَحْمُولَةً عَلَى الْكُفْرِ وَإِمَّا عَلَى الْأُولَى وَهِيَ أَنَّ الَّذِي تَثْقُلُ مَوَازِينُهُ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ، فَهِيَ فِي الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ وَتُؤَوَّلُ إمَّا بِمَا تَقَدَّمَ وَإِمَّا بِأَنَّ الْخُلُودَ يُطْلَقُ عَلَى طُولِ الْمُكْثِ وَيَكُونُ اللَّفْظُ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ أَشَارَ لَهُ تت.
[قَوْلُهُ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ إلَخْ] كَلَامُهُ يَنْزِلُ عَلَى الطَّرِيقَتَيْنِ فَإِنَّ حَمَلَ الْحَقَّ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ وَالْبَاطِلَ عَلَى الْكُفْرِ كَانَ آتِيًا عَلَى الطَّرِيقَةِ الثَّانِيَةِ، وَإِنْ حَمَلَ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ كَانَ آتِيًا عَلَى الطَّرِيقَةِ الْأُولَى. [قَوْلُهُ: وَصِفَةُ الثِّقْلِ الِارْتِفَاعُ] أَيْ عَلَى عَكْسِ مِيزَانِ الدُّنْيَا، وَهَذَا ضَعِيفٌ
أَيْ يُعْطَوْنَ (صَحَائِفَهُمْ) جَمْعُ صَحِيفَةٍ وَهِيَ الْكُتُبُ الَّتِي كَتَبَتْ الْمَلَائِكَةُ فِيهَا أَعْمَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا (بِأَعْمَالِهِمْ) أَيْ مُصَاحِبَةً لِأَعْمَالِهِمْ فَإِذَا أُعْطُوهَا يَخْلُقُ اللَّهُ لَهُمْ عِلْمًا ضَرُورِيًّا يَفْهَمُونَ بِهِ مَا فِيهَا مِمَّا فَعَلُوهُ فِي الدُّنْيَا (فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ) وَهُوَ الْمُؤْمِنُ الطَّائِعُ إجْمَاعًا وَالْعَاصِي عِنْدَ الْأَكْثَرِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ يَأْخُذُهُ قَبْلَ دُخُولِهِ النَّارَ، وَيَكُون ذَلِكَ عَلَامَةً لِعَدَمِ خُلُودِهِ فِيهَا وَمِنْ لُطْفِهِ بِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ وَفَضْلِهِ عَلَيْهِ أَنْ جَعَلَ كِتَابَهُ بِيَدِهِ وَلَا يُعْطِيهِ لَهُ عَلَى يَدِ مَلَكٍ وَلَا نَبِيٍّ حَتَّى
ــ
[حاشية العدوي]
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَلَى صِفَةِ مِيزَانِ الدُّنْيَا، كَمَا صَدَّرَ بِهِ تت وَارْتَضَاهُ اللَّقَانِيُّ فِي شَرْحِ الْجَوْهَرَةِ. تَتِمَّةٌ
الْمِيزَانُ بِيَدِ جِبْرِيلَ آخِذٌ بِعَمُودِهِ يَنْظُرُ إلَى لِسَانِهِ.
[قَوْلُهُ: أَنَّ الْأُمَمَ إلَخْ] أَيْ بَعْضُ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، لِمَا وَرَدَ أَنَّ قَوْمًا يَقُومُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ إلَى قُصُورِهِمْ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَأَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَلَا كُتُبَ لَهُمْ لِعِصْمَتِهِمْ وَعَدَمِ مُجَازَاتِهِمْ عَلَى حَسَنَاتِهِمْ، وَلَوْ قُلْنَا بِتَكْلِيفِهِمْ كَذَا قَالَ اللَّقَانِيُّ وَهُوَ يُنَاقِضُ مَالَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: يُعْطَوْنَ صَحَائِفَهُمْ] لَا يَخْفَى أَنَّ أَخْذَ الصُّحُفِ بَعْدَ الْعَرْضِ وَقَبْلَ السُّؤَالِ وَالْحِسَابِ وَكَانَ الْأَوْلَى لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يُقَدِّمَ أَخْذَ الصُّحُفِ عَلَى الْوَزْنِ؛ لِأَنَّ الْوَزْنَ بَعْدَ الْحِسَابِ، وَالْحِسَابَ بَعْدَ أَخْذِ الصُّحُفِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَنْ يُؤْتَى الصُّحُفَ، وَخُلَاصَةُ مَا قَالُوا أَنَّ الرِّيحَ تُطَيِّرُهَا مِنْ خِزَانَةٍ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَلَا تُخْطِئُ صَحِيفَةٌ عُنُقَ صَاحِبِهَا وَبَعْدَ ذَلِكَ يَأْخُذُهَا الْمَلِكُ مِنْ الْعُنُقِ فَيَدْفَعُهَا لِصَاحِبِهَا [قَوْلُهُ: وَهِيَ الْكُتُبُ] تَفْسِيرٌ لِلصَّحَائِفِ الَّذِي هُوَ الْجَمْعُ لَا لِلْمُفْرَدِ الَّذِي هُوَ صَحِيفَةٌ، ثُمَّ: أَقُولُ لَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ يُؤْتَوْنَ صَحَائِفَهُمْ فِيهِ مُقَابَلَةُ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ فَتَقْتَضِي الْقِسْمَةُ عَلَى الْآحَادِ فَيُفِيدُ أَنَّ لِكُلِّ مُكَلَّفٍ صَحِيفَةً وَاحِدَةً وَيَشْهَدُ لَهُ الْأَحَادِيثُ، فَإِنَّهَا صَرِيحَةُ الظَّوَاهِرِ فِي ذَلِكَ كَمَا ذَكَرَهُ اللَّقَانِيُّ [قَوْلُهُ: الَّتِي كَتَبَتْ الْمَلَائِكَةُ فِيهَا أَعْمَالَهُمْ إلَخْ] قَدْ عَلِمْت أَنَّ لِكُلِّ مُكَلَّفٍ صَحِيفَةً وَاحِدَةً وَحِينَئِذٍ فَالْكَلَامُ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ مُكَلَّفٍ تُرْفَعُ لَهُ صَحِيفَةٌ فِي اللَّيْلِ وَصَحِيفَةٌ فِي النَّهَارِ وَلَا شَكَّ فِي كَثْرَتِهَا هَكَذَا اسْتَشْكَلَ اللَّقَانِيُّ وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَجْمَعُ تِلْكَ الصُّحُفَ فِي وَاحِدَةٍ بِاتِّصَالِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ فَصَحَّ مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ لِكُلِّ مُكَلَّفٍ صَحِيفَةً وَاحِدَةً أَيْ بَعْدَ الْجَمْعِ، الْجَوَابُ الثَّانِي أَنَّ فِي عِبَارَةِ الشَّارِحِ حَذْفًا وَالتَّقْدِيرُ وَهِيَ مَا نُقِلَ مِنْ الْكُتُبِ أَيْ أَنَّ مَا كَتَبَتْهُ الْمَلَائِكَةُ لِلْإِنْسَانِ يُنْقَلُ فِي صَحِيفَةٍ وَاحِدَةٍ فَصَحَّ مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ لِكُلِّ عَبْدٍ صَحِيفَةً، وَإِنْ كَانَ يُرْفَعُ لَهُ صَحِيفَةٌ فِي اللَّيْلِ وَصَحِيفَةٌ فِي النَّهَارِ، وَأَشَارَ لِهَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ اللَّقَانِيُّ بَعْدَ اسْتِشْكَالِهِ الْمُتَقَدِّمِ، وَفِي كَلَامِ شَارِحِنَا الْمَذْكُورِ إشَارَةٌ إلَى ضَعْفِ مَا قِيلَ إنَّهَا صُحُفٌ يَكْتُبُهَا الْعَبْدُ فِي قَبْرِهِ يُنَادِيهِ مَلَكٌ اسْمُهُ رُومَانُ يَقُولُ يَا عَبْدَ اللَّهِ اُكْتُبْ عَمَلَك، فَيَقُولُ لَيْسَ مَعِي قِرْطَاسٌ وَلَا دَوَاةٌ فَيَقُولُ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ كَفَنُك قِرْطَاسُك وَمِدَادُك رِيقُك وَقَلَمُكَ أُصْبُعُك، فَيَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ كَفَنِهِ فَيَكْتُبُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ كَاتِبٍ فِي الدُّنْيَا وَيَذْكُرُ حِينَئِذٍ حَسَنَاتِهِ وَسَيِّئَاتِهِ كَيَوْمٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ يَطْوِي الْمَلَكُ تِلْكَ الرُّقْعَةَ وَيَجْعَلُهَا فِي عُنُقِهِ.
[قَوْلُهُ: يَخْلُقُ اللَّهُ إلَخْ] أَيْ فَالْقِرَاءَةُ مَجَازٌ عَبَّرَ بِهَا عَنْ عِلْمِ كُلِّ أَحَدٍ بِمَا لَهُ وَعَلَيْهِ.
قَالَ بَعْضُهُمْ وَظَاهِرُ النَّصِّ أَنَّ الْقِرَاءَةَ حَقِيقِيَّةٌ.
[قَوْلُهُ: يَفْهَمُونَ بِهِ مَا فِيهَا] أَيْ يَفْهَمُونَ بِذَلِكَ الْعِلْمِ مَا فِيهَا وَالظَّاهِرُ أَنْ يَقُولَ خَلَقَ اللَّهُ لَهُمْ عِلْمًا ضَرُورِيًّا بِمَا فِيهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الْمَوْلَى سبحانه وتعالى يَخْلُقُ لَهُمْ عِلْمًا ضَرُورِيًّا ثُمَّ يَعْلَمُونَ مَا فِيهَا بِذَلِكَ الْعِلْمِ، أَيْ بِحَيْثُ يَتَجَدَّدُ لَهُمْ عِلْمَانِ أَحَدُهُمَا سَبَبٌ فِي الْآخَرِ فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: وَهُوَ الْمُؤْمِنُ الطَّائِعُ] وَأَوَّلُ مَنْ يَأْخُذُ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَقِيلَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسْوَدِ وَأَبُو بَكْرٍ زَفَّتْ بِهِ الْمَلَائِكَة لِلْجَنَّةِ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ.
[قَوْلُهُ: وَالْعَاصِي عِنْدَ الْأَكْثَرِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ] وَقِيلَ بِشِمَالِهِ عَلَى مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَقِيلَ بِالْوَقْفِ وَقَالَ الْأَقْفَهْسِيُّ وَلَا قَائِلَ بِأَنَّهُ يَأْخُذُهُ بِشِمَالِهِ.
[قَوْلُهُ: يَأْخُذُهُ قَبْلَ دُخُولِهِ النَّارَ] وَقِيلَ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْ النَّارِ، نَقَلَهُ الشَّارِحُ فِي الْعَقِيدَةِ [قَوْلُهُ: وَفَضْلِهِ] عَطْفُ تَفْسِيرٍ عَلَى لُطْفِهِ.
[قَوْلُهُ: وَلَا يُعْطِيهِ لَهُ عَلَى يَدِ مَلَكٍ إلَخْ] هَذَا مَحَطُّ الْفَائِدَةِ دُونَ قَوْلِهِ أَنْ جَعَلَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لَمَّا ذَكَرَ اللَّقَانِيُّ أَنَّ هَذَا إنَّمَا هُوَ
لَا يَطَّلِعَ عَلَى سِرِّهِ أَحَدٌ، (فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا) أَيْ سَهْلًا هَيِّنًا لَا يُنَاقَشُ فِيهِ وَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُ بِمَا يَسُوءُهُ (وَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ) وَهُمْ الْكُفَّارُ إجْمَاعًا (فَأُولَئِكَ يَصْلَوْنَ سَعِيرًا) التِّلَاوَةُ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا، الْإِصْلَاءُ الِاحْتِرَاقُ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ قَوْله تَعَالَى {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} [الحاقة: 25] أَنَّ الْكَافِرَ تُغَلُّ يُمْنَاهُ إلَى عُنُقِهِ وَيُثْقَبُ صَدْرُهُ، فَيُدْخِلُ شِمَالَهُ مِنْهُ فَيَأْخُذُ بِهَا كِتَابَهُ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ فَإِنَّهُ الْجَوَادُ الْكَرِيمُ.
(وَ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ (أَنَّ الصِّرَاطَ) أَيْ وُجُودُهُ فِي الْجُمْلَةِ وَالْمُرُورُ عَلَيْهِ (حَقٌّ) قَالَ تَعَالَى {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد: 11] قَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ: الْعَقَبَةُ الصِّرَاطُ يُضْرَبُ عَلَى جَهَنَّمَ كَحَدِّ السَّيْفِ،
ــ
[حاشية العدوي]
خَاصٌّ بِحَالِ عَاصٍ لَا يُعَذَّبُ، وَأَمَّا جَعْلُ الْكِتَابِ بِالْيَمِينِ فَعَامٌّ فِي كُلِّ مُؤْمِنٍ وَلَوْ أَرَادَ اللَّهُ تَعْذِيبَهُ، فَإِنْ قُلْت هَذَا، أَيْ مَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ مِنْ أَنَّهُ لَا يُعْطِيهِ عَلَى يَدِ مَلَكِ يُنَافِي مَا قَدَّمْته مِنْ أَنَّ الْمَلَكَ يَأْخُذُهُ مِنْ عُنُقِهِ فَيَضَعُهُ فِي يَدِهِ، قُلْت: لَا مُنَافَاةَ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ لَا يُعْطِيهِ لَهُ عَلَى يَدِ مَلَكٍ أَيْ بِحَيْثُ يَطَّلِعُ عَلَى مَا فِيهِ [قَوْلُهُ: هَيِّنًا] هُوَ عَيْنُ قَوْلِهِ سَهْلًا، وَقَوْلُهُ لَا يُنَاقَشُ فِيهِ بَيَانٌ لِمَا قَبْلَهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا، أَيْ إنَّمَا كَانَ سَهْلًا هَيِّنًا لِعَدَمِ الْمُنَاقَشَةِ [قَوْلُهُ: وَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُ بِمَا يَسُوءُهُ] يَقْتَضِي أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْعَاصِيَ لَا يُعَذَّبُ وَهُوَ خِلَافُ الْوَاقِعِ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ كَمَا أَفَادَهُ عج أَنَّ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى بَعْضِ مَنْ يُؤْتَى كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ مِمَّنْ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ تَعْذِيبَهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ وَيَنْقَلِبُ إلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا فَإِمَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ، وَإِمَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَالْمَعْنَى وَيَنْقَلِبُ إلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا، أَيْ ابْتِدَاءً عَلَى الْأَوَّلِ أَوْ وَلَوْ بَعْدَمَا اسْتَوْفَى مَا عَلَيْهِ مِنْ الْعَذَابِ عَلَى الثَّانِي، وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ إنَّهُ بَاقٍ عَلَى عُمُومِهِ وَمَعْنَاهُ لَا يَتَعَرَّضُ لَهُ بِمَا يَسُوءُهُ إسَاءَةً تَامَّةً، وَهِيَ الْإِسَاءَةُ الَّتِي مَعَهَا الْخُلُودُ ثُمَّ بَعْدَ كَتْبِي هَذَا الْجَوَابَ وَجَدْت الْفَاكِهَانِيَّ أَفَادَهُ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
[قَوْلُهُ: سَعِيرًا] اسْمٌ لِطَبَقَةٍ مِنْ طِبَاقِ النَّارِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ أَطْلَقَهُ هُنَا عَلَى النَّارِ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ.
[قَوْلُهُ: التِّلَاوَةُ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا] يَقُولُ يَا ثُبُورَاهُ وَهُوَ الْهَلَاكُ.
[قَوْلُهُ: الْإِصْلَاءُ الِاحْتِرَاقُ] لَا يَخْفَى أَنَّ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا الَّذِي قَالَهُ فَأُولَئِكَ يَحْتَرِقُونَ نَارًا أَيْ فِي نَارٍ وَوَافَقَ تت الشَّارِحَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: وَالْإِصْلَاءُ الِاحْتِرَاقُ وَهَذَا عَلَى ضَمِّ يَاءِ يُصْلَوْنَ، وَإِنْ قُرِئَ بِفَتْحِهَا فَهُوَ بِمَعْنَى الْإِشْوَاءِ شَاةٌ مَصْلِيَّةٌ مَشْوِيَّةٌ اهـ، وَالْمُنَاسِبُ لِلشَّارِحِ أَنْ يَقُولَ: وَالْإِصْلَاءُ الْإِحْرَاقُ مَصْدَرُ أَحْرَقَ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ يُبْنَى مِنْهُ الْمَفْعُولُ بِخِلَافِ احْتَرَقَ فَلَازِمٌ فَلَا يُبْنَى مِنْهُ الْمَفْعُولُ.
قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ أَحْرَقَتْهُ النَّارُ إحْرَاقًا ثُمَّ قَالَ وَاحْتَرَقَ الشَّيْءُ بِالنَّارِ وَتَحَرَّقَ اهـ، وَقَدْ تَفَطَّنَ لِذَلِكَ عج فَقَالَ وَالْإِصْلَاءُ الْإِحْرَاقُ.
[قَوْلُهُ: تُغَلُّ يُمْنَاهُ إلَى عُنُقِهِ] أَيْ تُضَمُّ إلَى عُنُقِهِ أَيْ بِآلَةٍ كَمَا يُسْتَفَادُ مِنْ ظَاهِرِ بَعْضِ النُّصُوصِ، [قَوْلُهُ: أَعَاذَنَا اللَّهُ] أَيْ حَفِظَنَا اللَّهُ [قَوْلُهُ: بِمَنِّهِ] أَيْ حَالَةِ كَوْنِ الْحِفْظِ مُلْتَبِسًا بِمَنِّهِ، مِنْ الْتِبَاسِ الْخَاصِّ بِالْعَامِّ أَوْ الْبَاءُ بِمَعْنَى مِنْ أَيْ حَالَةِ كَوْنِ ذَلِكَ مِنْ أَفْرَادِ مَنِّهِ وَكَرَمِهِ وَعَطْفُ الْكَرَمِ عَلَى الْمَنِّ، عَطْفُ تَفْسِيرٍ [قَوْلُهُ: فَإِنَّهُ الْجَوَادُ الْكَرِيمُ] عِلَّةٌ لِطَلَبِ الْإِعَاذَةِ مِنْهُ.
[قَوْلُهُ: الْكَرِيمُ] هُوَ عَيْنُ جَوَادٍ قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ، جَادَ الرَّجُلُ يَجُودُ مِنْ بَابِ قَالَ يَقُولُ جُودًا بِالضَّمِّ تَكَرَّمَ فَهُوَ جَوَادٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْكَرِيمُ هُوَ الْجَوَادُ فَالْغَنِيُّ الَّذِي لَا يَنْفَكُّ عَطَاؤُهُ اهـ. فَتَأَمَّلْ.
[قَوْلُهُ: أَيْ وُجُودُهُ فِي الْجُمْلَةِ] أَيْ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ وُجُودِهِ الْآنَ أَوْ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ [قَوْلُهُ: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ] الْمُرَادُ هَلَّا عَلَا الْعَقَبَةَ يَعْنِي فَهَلَّا أَنْفَقَ مَالَهُ فِيمَا يَجُوزُ بِهِ الْعَقَبَةَ مِنْ فَكِّ الرِّقَابِ إلَخْ، وَالِاقْتِحَامُ الدُّخُولُ فِي الْأَمْرِ الشَّدِيدِ [قَوْلُهُ: كَحَدِّ السَّيْفِ إلَخْ] سَيَأْتِي فِي رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّهُ أَحَدُّ مِنْ السَّيْفِ فَهُمَا مُتَغَايِرَانِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّهُ دَقِيقٌ جِدًّا فَالْمَقْصُودُ مِنْ الْعِبَارَتَيْنِ وَاحِدٌ، أَقُولُ لَا يَخْفَى أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَجْرَوْهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، كَمَا قَالَ الْكَمَالُ أَيْ مِنْ كَوْنِهِ أَدَقَّ مِنْ الشَّعْرَةِ وَأَحَدَّ مِنْ السَّيْفِ، وَكَذَلِكَ الْقُرْطُبِيُّ وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْقَرَافِيُّ قَائِلًا: لَمْ يَصِحَّ فِي الصِّرَاطِ أَنَّهُ أَدَقُّ مِنْ الشَّعْرَةِ وَأَحَدُّ مِنْ السَّيْفِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَرِيضٌ وَفِيهِ طَرِيقَانِ يُمْنَى وَيُسْرَى فَأَهْلُ السَّعَادَةِ يُسْلَكُ بِهِمْ ذَاتُ الْيَمِينِ وَأَهْلُ
مَسِيرَتُهُ ثَلَاثَةُ آلَافِ عَامٍ أَلْفُ سَنَةٍ صُعُودٌ وَأَلْفُ سَنَةٍ اسْتِوَاءٌ وَأَلْفُ سَنَةٍ هُبُوطٌ، وَفِي مُسْلِمٍ مَرْفُوعًا:«يُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَهَنَّمَ» " الْحَدِيثَ.
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: بَلَغَنِي أَنَّ الْجِسْرَ أَرَقُّ مِنْ الشَّعْرِ وَأَحَدُّ مِنْ السَّيْفِ، وَجَوَّزَ الْقَاضِي عِيَاضٌ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا الْآنَ كَجَهَنَّمَ، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: يُضْرَبُ أَيْ يُؤْذَنُ بِالْمُرُورِ عَلَيْهِ، أَوْ يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى حِينَ يَضْرِبُهُ عَلَى جَهَنَّمَ وَوَقْتُ الْمُرُورِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْحِسَابِ، فَمَنْ تَعَدَّاهُ نَجَا جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْ النَّاجِينَ.
قَالَ الْحَلِيمِيُّ: لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ يَبْقَى إلَى خُرُوجِ الْمُوَحِّدِينَ مِنْ النَّارِ لِيَجُوزُوا عَلَيْهِ إلَى الْجَنَّةِ أَوْ يُزَالُ ثُمَّ يُعَادُ لَهُمْ أَوْ لَا يُعَادُ أَوْ تَصْعَدُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ إلَى السُّورِ الَّذِي فِي الْأَعْرَافِ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ:(يَجُوزُهُ الْعِبَادُ بِقَدْرِ) أَيْ عَلَى قَدْرِ (أَعْمَالِهِمْ) الَّتِي كَانُوا يَفْعَلُونَهَا فِي الدُّنْيَا شُمُولُ ذَلِكَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَمُرُّونَ عَلَى الصِّرَاطِ؛ لِأَنَّهُمْ لِلنَّارِ، وَالْأَوَّلُ ظَاهِرُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّهُ جِسْرٌ يُضْرَبُ عَلَى ظَهْرَانَيْ جَهَنَّمَ تَمُرُّ عَلَيْهِ جَمِيعُ
ــ
[حاشية العدوي]
الشَّقَاوَةِ ذَاتُ الشِّمَالِ، وَفِيهِ طَاقَاتٌ كُلُّ طَاقَةٍ تَنْفُذُ إلَى طَبَقَةٍ مِنْ طَبَقَاتِ جَهَنَّمَ، وَجَهَنَّمُ بَيْنَ الْخَلَائِقِ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ، وَالْجِسْرُ عَلَى مَتْنِهَا مَنْصُوبٌ فَلَا يَدْخُلُ أَحَدٌ الْجَنَّةَ حَتَّى يَمُرَّ عَلَى جَهَنَّمَ اهـ.
وَفِي كَلَامِ عج وَاللَّقَانِيِّ مَيْلٌ إلَيْهِ وَلَفْظُ عج وَالظَّوَاهِرُ تَدُلُّ لِمَا قَالَهُ الْقَرَافِيُّ، فَلَا يَعْدِلُ عَنْهَا لِقَوْلِ أَبِي سَعْدٍ، [قَوْلُهُ: مَسِيرَتُهُ ثَلَاثَةٌ إلَخْ] هَذَا حَالُهُ فِي حَدِّ ذَاتِهِ [قَوْلُهُ: يُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَهَنَّمَ] قَالَ الْقَسْطَلَّانِيُّ: بِفَتْحِ الظَّاءِ وَسُكُونِ الْهَاءِ وَفَتْحِ النُّونِ أَيْ ظَهْرٌ فَزِيدَتْ الْأَلْفُ وَالنُّونُ لِلْمُبَالَغَةِ وَالْيَاءُ لِصِحَّةِ دُخُولٍ بَيْنَ عَلَى مُتَعَدِّدٍ وَقِيلَ لَفْظُ ظَهْرَانَيْ مُقْحَمٌ [قَوْلُهُ: الْحَدِيثَ] قَالَ الرَّسُولُ بَعْدَمَا تَقَدَّمَ، «فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي أَوَّلَ مَنْ يَجُوزُهُ» وَلَا يَتَكَلَّمُ يَوْمئِذٍ إلَّا الرُّسُلُ وَدَعْوَى الرُّسُلِ يَوْمئِذٍ اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ إلَخْ [قَوْلُهُ: بَلَغَنِي أَنَّ الْجِسْرَ إلَخْ] بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِهَا كَمَا فِي التَّحْقِيقِ.
[قَوْلُهُ: وَجَوَّزَ الْقَاضِي عِيَاضٌ إلَخْ] أَيْ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ الْوَاقِعُ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ وُجُودُهُ الْآنَ أَوْ وُجُودُهُ حِينَ يُضْرَبُ، أَيْ لَمْ يُعَيِّنْ وَاحِدًا وَغَيْرُهُ كَالْفَاكِهَانِيِّ جَزَمَ بَلْ جَزَمَ ابْنُ الْفَاكِهَانِيِّ بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ وَلَفْظُهُ وَالصِّرَاطُ الَّذِي وَصَفْنَاهُ، مَوْجُودٌ وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ صِدْقٌ اهـ، [قَوْلُهُ: وَيَكُونُ مَعْنَى إلَخْ] لَا يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا وَلَا يُضْرَبُ إلَّا بَعْدُ.
[قَوْلُهُ: وَيَخْلُقُهُ إلَخْ] مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا الْآنَ وَيَجُوزُ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَخْلُقَهُ قَبْلَ أَنْ يَضْرِبَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَخْلُوقًا الْآنَ [قَوْلُهُ: قَالَ الْحَلِيمِيُّ] نِسْبَةً إلَى حَلِيمَةَ السَّعْدِيَّةِ مُرْضِعَتُهُ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ فَتْحُ الْحَاءِ، [قَوْلُهُ: لَمْ يَثْبُتْ] أَيْ لَمْ يَثْبُتْ وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ [قَوْلُهُ: أَوْ لَا يُعَادُ] وَعَلَيْهِ فَاَللَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَذْهَبُوا إلَى الْجَنَّةِ بِدُونِ صِرَاطٍ، بِطَيَرَانٍ أَوْ تَرْفَعُهُمْ الْمَلَائِكَةُ إلَى الْجَنَّةِ [قَوْلُهُ: أَوْ تَصْعَدُ إلَخْ] لَا يَخْفَى أَنَّهُ مِنْ أَفْرَادِ الزَّوَالِ الْمُحْتَمَلِ لِكَوْنِهِ يُعَادُ أَوْ لَا يُعَادُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ ثَمَرَةٌ لِذَلِكَ إلَّا لِكَوْنِهِ يُزَالُ لِذَلِكَ الْمَوْضِعِ ثُمَّ يَعُودُ حِينَ خُرُوجِ الْمُوَحِّدِينَ مِنْ النَّارِ.
[قَوْلُهُ: الَّذِي فِي الْأَعْرَافِ] الْمُنَاسِبُ أَنْ يَقُولَ إلَى السُّورِ الَّذِي هُوَ الْأَعْرَافُ كَمَا فِي عِبَارَةِ عج، حَيْثُ قَالَ وَهُوَ أَيْ الْأَعْرَافُ سُوَرٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ.
[قَوْلُهُ: الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ] وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ وَكُلُّ الْكُفَّارِ يَسْقُطُونَ فِي النَّارِ.
[قَوْلُهُ: وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ] عَبَّرَ بِزَعَمَ لِكَوْنِهِ غَيْرَ صَحِيحٍ لِمُخَالَفَتِهِ لِظَاهِرِ الصَّحِيحَيْنِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مُجَرَّدَ الْقَوْلِ، أَيْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ قَوْلَهُ لَا يَمُرُّونَ أَيْ لَا يَمُرُّونَ عَلَيْهِ بِتَمَامِهِ، فَلَا يُنَافِي أَنَّهُمْ يَمُرُّونَ عَلَى بَعْضِهِ ثُمَّ يَسْقُطُونَ فَلَا يُخَالِفُ مَا قَبْلَهُ.
[قَوْلُهُ: ظَاهِرُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ] إنَّمَا عَبَّرَ بِظَاهِرٍ دُونَ نَصٍّ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ جَمِيعَ مِنْ بَابِ الْكُلِّ الْمَجْمُوعِيِّ أَيْ بَعْضِهِمْ تَجَوُّزًا كَمَا أَفَادَهُ بَعْضُ شُيُوخِنَا.
[قَوْلُهُ: تَمُرُّ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْخَلَائِقِ] أَيْ فِي الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ وَبَعْضَ الْمُؤْمِنِينَ يَسْقُطُونَ فِي الْأَثْنَاءِ كَمَا أَفَادَهُ اللَّقَانِيُّ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ فَإِنَّهُ لَا يَمُرُّ عَلَى الصِّرَاطِ كَمَا أَفَادَهُ السُّيُوطِيّ، وَكَذَا طَوَائِفُ مِنْ الْكُفَّارِ بَعْضُهُمْ يُلْتَقَطُ مِنْ الْمَوْقِفِ إلَى النَّارِ، وَبَعْضُهُمْ يَخْرُجُ مِنْ قَبْرِهِ إلَيْهَا، وَذَكَرَ اللَّقَانِيُّ عَنْ الْغَزَالِيِّ أَنَّ
الْخَلَائِقِ» (فَنَاجُونَ) أَيْ فَائِزُونَ مُخَلَّصُونَ (مُتَفَاوِتُونَ) أَيْ مُتَفَاضِلُونَ (فِي سُرْعَةِ النَّجَاةِ) أَيْ الْعَجَلَةِ (عَلَيْهِ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ) مُتَعَلِّقٌ بِنَاجُونَ التَّقْدِيرُ فَنَاجُونَ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ عَلَى الصِّرَاطِ مُتَفَاوِتُونَ فِي سُرْعَةِ النَّجَاةِ (وَقَوْمٌ أَوْبَقَتْهُمْ) أَيْ أَهْلَكَتْهُمْ (فِيهَا) أَيْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ (أَعْمَالُهُمْ) وَالظَّاهِرُ أَيْضًا أَنَّهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِي سُقُوطِهِمْ فِي النَّارِ، وَيَدُلُّ لِمَا قَالَ مَا فِي مُسْلِمٍ:«فَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ كَطَرْفِ الْعَيْنِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ وَكَالطَّيْرِ وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ فَنَاجٍ مُسْلِمٌ وَمَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ وَمَكْدُوشٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ» الْمَكْدُوشُ بِشِينٍ مُعْجَمَةٍ الْمَدْفُوعُ.
(وَ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ (الْإِيمَانُ) أَيْ
ــ
[حاشية العدوي]
الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ وَالسَّبْعِينَ أَلْفًا يَمُرُّونَ عَلَى الصِّرَاطِ فَرَاجِعْهُ [قَوْلُهُ: فَنَاجُونَ إلَخْ] لَا يَخْفَى أَنَّ مُقَابِلَهُ قَوْلُهُ بَعْدُ، وَقَوْمٌ أَوْبَقَتْهُمْ.
[قَوْلُهُ: مُخْلِصُونَ إلَخْ] مِنْ أَخْلَصَ فِي الْعَمَلِ أَيْ فَائِزُونَ؛ لِأَنَّهُمْ مُخْلِصُونَ.
[قَوْلُهُ: فِي سُرْعَةٍ] إذَا حَقَّقْت النَّظَرَ تَعْلَمُ أَنَّ الصَّوَابَ إسْقَاطُ سُرْعَةٍ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ نَاجُونَ أَيْ مِنْ السُّقُوطِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَهَذَا صَادِقٌ بِأَنْ تَكُونَ سُرْعَةٌ فِي الْمُرُورِ أَوْ لَا، فَلَوْ قَالَ فَنَاجُونَ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ مُتَفَاوِتُونَ فِي النَّجَاةِ، أَيْ الْمُتَحَقِّقَةِ مَعَ السُّرْعَةِ وَعَدَمِهَا لَكَانَ أَوْلَى، [قَوْلُهُ: أَيْ الْعَجَلَةِ] تَفْسِيرٌ لِسُرْعَةِ النَّجَاةِ أَيْ الْخُلُوصِ.
[قَوْلُهُ: التَّقْدِيرُ فَنَاجُونَ إلَخْ] أَيْ فَنَاجُونَ مُبْتَدَأٌ وَمِنْ نَارِ جَهَنَّمَ مُتَعَلِّقٌ بِهِ وَقَوْلُهُ مُتَفَاوِتُونَ خَبَرٌ وَقَوْلُ الشَّارِحِ عَلَى الصِّرَاطِ أَيْ حَالَةِ كَوْنِهِمْ عَلَى الصِّرَاطِ.
[قَوْلُهُ: وَالظَّاهِرُ أَيْضًا أَنَّهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِي سُقُوطِهِمْ إلَخْ] أَيْ فِي سُرْعَةِ الْوُقُوعِ وَالْإِبْطَاءِ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ الْأَقْفَهْسِيُّ، وَعِبَارَةُ التَّحْقِيقِ أَتَمُّ وَنَصُّهُ: وَالظَّاهِرُ أَيْضًا أَنَّهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِي سُقُوطِهِمْ فِي النَّارِ، وَفِي وَصْفِ مَا يَنَالُهُمْ فِيهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ وَالْإِهَانَةِ وَسُفْلِ الدَّرَجَاتِ وَيُسْرِهَا عَلَى أَهْلِ التَّوْحِيد الْخَارِجِينَ مِنْهَا بَعْدَ الْعِقَابِ.
[قَوْلُهُ: فَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ كَطَرْفِ الْعَيْنِ] بِسُكُونِ الرَّاءِ أَيْ نَظَرِهَا [قَوْلُهُ: وَكَأَجَاوِيدَ إلَخْ] ذَكَرَ فِي الْقَامُوسِ، أَنَّ جَوَادًا مِنْ الْخَيْلِ يُجْمَعُ عَلَى جِيَادٍ وَلَمْ يَذْكُرْ مُفْرَدَ أَجَاوِيدَ فَلَا أَدْرِي هَلْ هُوَ جَمْعُ الْجَمْعِ الَّذِي هُوَ جِيَادٌ أَوْ جَمْعٌ آخَرُ لِلْمُفْرَدِ الَّذِي هُوَ جَوَادٌ. وَلَمْ أَرَ ذَلِكَ أَيْضًا فِي الْمِصْبَاحِ وَلَا فِي مُخْتَارِ الصِّحَاحِ وَلَا فِي غَيْرِهِمَا [قَوْلُهُ: وَالرِّكَابُ] هِيَ الْإِبِلُ أَيْ مَا يُرْكَبُ مِنْ الْإِبِلِ غَلَبَ فِيهِ كَمَا غَلَبَ الرَّاكِبُ عَلَى رَاكِبِهِ الْوَاحِدَةُ رَاحِلَةٌ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهَا كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ، أَيْ وَمِنْهُمْ مَنْ يَجُوزُهُ عَدْوًا وَمِنْهُمْ مَنْ يَجُوزُهُ مَشْيًا وَمِنْهُمْ حَبْوًا وَمِنْهُمْ عَلَى الْبَطْنِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُهُمْ، وَفِي كَلَامِ الْغَزَالِيِّ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَجُوزُهُ عَلَى مِائَةِ عَامٍ وَآخَرُ يَجُوزُهُ عَلَى أَلْفِ عَامٍ.
[قَوْلُهُ: مُسَلَّمٌ] تَوْضِيحٌ لِنَاجٍ أَيْ مِنْهُمْ النَّاجِي وَهُوَ الْمُسَلَّمُ مِنْ خَدْشِ الْكَلَالِيبِ وَمُسَلَّمٌ بِضَمِّ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ.
[قَوْلُهُ: وَمَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ] أَيْ تَخْدِشُهُ الْكَلَالِيبُ وَيَسْقُطُ وَيَقُومُ وَيُجَاوِزُهُ بَعْدَ أَعْوَامٍ كَمَا أَفَادَهُ اللَّقَانِيُّ وَكَذَا أَفَادَهُ بَعْضُ مَنْ كَتَبَ عَلَى مُسَلَّمٍ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ النَّاجِينَ مِنْ الْوُقُوعِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَهِيَ جَمْعُ كُلَّابِ بِالضَّمِّ أَوْ كَلُّوبٍ بِالْفَتْحِ وَشَدِّ اللَّامِ حَدِيدَةٌ مُعْوَجَّةُ الرَّأْسِ أَوْ عُودٌ فِي رَأْسِهِ اعْوِجَاجٌ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُنَاوِيُّ.
[قَوْلُهُ: بِشِينٍ مُعْجَمَةٍ] عِيَاضٌ بِسِينٍ مُهْمَلَةٍ لِأَكْثَرِ الرُّوَاةِ.
قَالَ فِي مُخْتَصَرِ النِّهَايَةِ مَكْدُوسٌ فِي النَّارِ أَيْ مَدْفُوعٌ وَتَكَدَّسَ الْإِنْسَانُ إذَا دُفِعَ مِنْ وَرَائِهِ وَيُرْوَى بِالْمُعْجَمَةِ مِنْ الْكَدْشِ وَهُوَ السَّوْقُ الشَّدِيدُ اهـ.
الْمُرَادُ مِنْهُ أَقُولُ وَقَضِيَّةُ الْحَدِيثِ هَذَا أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ مَنْ تَخْدِشُهُ الْكُلَّابُ وَتَجْذِبُهُ إلَى أَنْ يَسْقُطَ فِي النَّارِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ: فِيهِ مَدْفُوعٌ فِي النَّارِ بَلْ مَجْذُوبٌ إلَيْهَا إلَّا أَنْ يُقَالَ: أَرَادَ بِالْمَدْفُوعِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا وَهَذَا فِي قُوَّةِ الْمَدْفُوعِ ثُمَّ بَعْدَ كَتْبِي هَذَا رَأَيْت الْفَاكِهَانِيَّ ذَكَرَ هَذَا الْقِسْمَ حَيْثُ قَالَ فَمِنْ جَائِزٍ عَلَيْهِ كَالْبَرْقِ الْخَاطِفِ إلَى أَنْ قَالَ وَعَلَى الْبَطْنِ فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ وَمَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ وَمَكْدُوشٌ فِي النَّارِ مُخْتَطَفٌ بِكَلَالِيبَ ثُمَّ قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَعَانِي: إنَّ مُرُورَ الْخَلَائِقِ وَتَفَاوُتَهُمْ بِحَسَبِ تَفَاوُتِهِمْ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْ حُرُمَاتِ اللَّهِ، إذَا خَطَرَتْ فِي قُلُوبِهِمْ فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ أَسْرَعَ إعْرَاضًا عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ كَانَ أَسْرَعَ مُرُورًا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، حَتَّى يَكُونَ أَحَدُكُمْ كَالْبُرَاقِ اهـ.
[قَوْلُهُ: وَمِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ] الصَّوَابُ حَذْفُ اعْتِقَادِهِ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَتَّصِفُ بِكَوْنِهِ يُعْتَقَدُ؛ لِأَنَّ الَّذِي يُعْتَقَدُ إنَّمَا هُوَ مُتَعَلِّقُهُ، وَحَيْثُ قُلْنَا
التَّصْدِيقُ (بِ) وُجُودِ (حَوْضِ رَسُولِ اللَّهِ) نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم تَرِدُهُ) أَيْ تَأْتِيهِ (أُمَّتُهُ) أَيْ أَتْبَاعُهُ حِينَ خُرُوجِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ عِطَاشًا يَشْرَبُونَ مِنْهُ (لَا يَظْمَأُ) أَيْ لَا يَعْطَشُ (مَنْ شَرِبَ مِنْهُ أَبَدًا وَيُذَادُ) بِذَالٍ مُعْجَمَةٍ ثُمَّ دَالٍ مُهْمَلَةٍ يُطْرَدُ وَيُبْعَدُ عَنْهُ (مَنْ بَدَّلَ) بِالِارْتِدَادِ (وَغَيَّرَ) فِي الْعَقَائِدِ كَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ أَوْ بِالْمَعَاصِي لَكِنَّ الْمُبَدِّلَ بِالِارْتِدَادِ يَخْلُدُ فِي النَّارِ، وَالْمُبَدِّلَ بِالْمَعَاصِي فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَمْضِيَ فِيهِ مُرَادُهُ، وَرَوَى مُسْلِمٌ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إنِّي عَلَى
ــ
[حاشية العدوي]
يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ فَمَنْ جَحَدَهُ يُبَدَّعُ وَيُفَسَّقُ وَلَا يَبْلُغُ بِهِ الْكُفْرَ كَمَا ذَكَرَهُ اللَّقَانِيُّ.
[قَوْلُهُ: بِوُجُودِ حَوْضِ رَسُولِ اللَّهِ] هُوَ جِسْمٌ مَخْصُوصٌ يَصُبُّ فِيهِ مِيزَابَانِ مِنْ الْجَنَّةِ وَالْأَمِينُ عَلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْحَوْضَ خَاصٌّ بِنَبِيِّنَا، وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالٍ ثَانِيهَا: لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضٌ ثَالِثُهَا لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضٌ إلَّا صَالِحًا فَحَوْضُهُ ضَرْعُ نَاقَتِهِ.
قَالَ عج فَإِنْ قِيلَ: الْقَوْلُ بِالْخُصُوصِ يَرُدُّهُ مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضًا وَأَنَّهُمْ يَتَبَاهَوْنَ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ وَارِدَةً إلَخْ، أُجِيبُ بِأَنَّ أَبَا عِيسَى قَالَ فِيهِ أَنَّهُ حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
[قَوْلُهُ: أَيْ أَتْبَاعُهُ] أَيْ أُمَّةُ الْإِجَابَةِ قَالَ بَعْضُهُمْ: يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا الِاخْتِصَاصِ فَلَا تَرِدُهُ أُمَّةٌ غَيْرُهُ مُوَافِقًا لِقَوْلِ اللَّقَانِيِّ، قُلْت الْأَحَادِيثُ طَافِحَةُ الظَّوَاهِرِ بِأَنَّهُ لَا يَرِدُهُ غَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ اهـ.
أَيْ فَيَشْرَبُ مِنْهُ مَنْ كَانَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَوْ كَانَ مِنْ الْمُعَذَّبِينَ بِالنَّارِ، وَحِينَئِذٍ يُعَذَّبُ فِيهَا بِغَيْرِ الْعَطَشِ، كَمَا أَفَادَهُ تت [قَوْلُهُ: حِينَ خُرُوجِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ] ظَاهِرُهُ أَنَّ وُرُودَهُ قَبْلَ الْمِيزَانِ وَالْحِسَابِ وَالصِّرَاطِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ كَمَا قَالَ عج، وَقِيلَ إنَّ الْمِيزَانَ قَبْلَ الْحَوْضِ وَهَذَا كُلُّهُ كَمَا أَفَادَهُ اللَّقَانِيُّ، عَلَى أَنَّ الْحَوْضَ قَبْلَ الصِّرَاطِ وَقِيلَ: إنَّهُ بَعْدَهُ وَقِيلَ لَهُ حَوْضَانِ حَوْضٌ قَبْلَهُ وَحَوْضٌ بَعْدَهُ.
تَتِمَّةٌ أَوَّلُ مَا يَرِدُ عَلَى الْحَوْضِ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ.
[قَوْلُهُ: عِطَاشًا] بِكَسْرِ الْعَيْنِ جَمْعُ عَطْشَانَ لِلْمُذَكَّرِ وَعَطْشَى لِلْمُؤَنَّثِ، كَمَا أَفَادَهُ الْمِصْبَاحُ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِي الْعَطَشِ، وَظَاهِرُ الْعِبَارَةِ أَنَّ الْعَطَشَ ثَابِتٌ لِلْكُلِّ لَا يُسْتَثْنَى أَحَدٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْغَالِبِ.
[قَوْلُهُ: لَا يَعْطَشُ إلَخْ] ؛ لِأَنَّ شَرَابَ الْجَنَّةِ وَكَذَا أَكْلُهَا إنَّمَا هُوَ تَلَذُّذٌ صِرْفٌ وَشَهْوَةٌ لَا عَنْ جُوعٍ وَعَطَشٍ وَلَا نَوْمَ فِيهَا، وَلَا بَوْلَ وَلَا غَائِطَ وَإِنَّمَا رَشْحُهُمْ الْمِسْكُ كَمَا أَفَادَهُ تت [قَوْلُهُ: وَيَبْعُدُ] عَطْفُ مُرَادِفٍ [قَوْلُهُ: بِالِارْتِدَادِ] الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ أَيْ بَدَّلَ دِينَهُ بِسَبَبِ ارْتِدَادِهِ فَارْتَدَّ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُؤْمِنًا [قَوْلُهُ: وَغَيَّرَ فِي الْعَقَائِدِ إلَخْ] قَدْ حَمَلَ الشَّارِحُ كَمَا رَأَيْت التَّبْدِيلَ عَلَى الْمُرْتَدِّ وَالتَّغْيِيرَ عَلَى الْمُبْتَدِعِ وَهُوَ قَوْلٌ حَكَاهُ فِي شَرْحِ الْعَقِيدَةِ مُصَدِّرًا بِأَنَّ التَّبْدِيلَ وَالتَّغْيِيرَ لَفْظَانِ مُتَرَادِفَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ الْكُفْرُ وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ وَغَيَّرَ بِمَعْنَى أَوْ.
[قَوْلُهُ: كَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ] أَيْ كَالْقَدَرِيِّ وَالْجَبْرِيِّ وَالرَّافِضِيِّ وَإِنْ غُفِرَ لَهُمْ إذَا كَانَتْ عَقِيدَتُهُمْ غَيْرَ مُكَفِّرَةٍ كَمَا فِي عج لِعِظَمِ جُرْمِهِمْ، وَأَوْلَى إذَا كَانَتْ مُكَفِّرَةً كَمُنْكَرِي عِلْمِهِ.
[قَوْلُهُ: أَوْ بِالْمَعَاصِي] مَعْطُوفٌ عَلَى فِي الْعَقَائِدِ، أَيْ الْمَعَاصِي بِالْكَبَائِرِ أَيْ إنْ لَمْ يَعْفُ عَنْهُمْ وَإِلَّا شَرِبُوا مِنْهُ، هَذَا مَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْقُرْطُبِيُّ وَكَلَامُ شَارِحِ الْعَقِيدَةِ يُفِيدُ الْقَوْلَ الْآخَرَ وَهُوَ أَنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ لَا يُذَادُونَ وَإِنْ دَخَلُوا النَّارَ أَيْ وَيُعَذَّبُونَ فِيهَا بِدُونِ الْعَطَشِ، وَفِي كَلَامِ جَمَاعَةٍ أَنَّ الْمَطْرُودَ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ وَالظَّلَمَةِ الْمُسْرِفُونَ فِي الْجَوْرِ وَالْمُعْلِنُونَ بِالْكَبَائِرِ، أَقُولُ فَقَضِيَّةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا تَلَبَّسَ بِالْكَبِيرَةِ مِنْ غَيْرِ إعْلَانٍ وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَلَا مِنْ الظَّلَمَةِ إنَّهُ لَا يُذَادُ.
[قَوْلُهُ: وَالْمُبَدِّلُ بِالْمَعَاصِي فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ] وَسَكَتَ عَنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ؛ لِأَنَّهُمْ تَارَةً تُكَفِّرُهُمْ بِدْعَتُهُمْ فَيُخَلَّدُونَ وَتَارَةً لَا، فَهُمْ فِي الْمَشِيئَةِ، وَمَعْنَى الْمَشِيئَةِ أَيْ إنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ النَّارَ وَإِنْ شَاءَ سَامَحَهُ.
[قَوْلُهُ: حَتَّى يَمْضِيَ فِيهِ مُرَادُهُ] لَا يَخْفَى أَنَّ الْإِرَادَةَ هِيَ نَفْسُ الْمَشِيئَةِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى وَالْمُبَدِّلُ بِالْمَعَاصِي فِي الْمَشِيئَةِ حَتَّى يَمْضِيَ فِيهِ الْمَشِيءُ أَيْ الْمُرَادُ، وَلَا صِحَّةَ لَهُ فَالْمُنَاسِبُ لَهُ أَنْ يَقُولَ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ إنْ شَاءَ عَاقَبَهُ حَتَّى يَمْضِيَ فِيهِ مُرَادُهُ،
الْحَوْضِ حَتَّى أَنْظُرَ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ مِنْكُمْ، وَسَيُؤْخَذُ أُنَاسٌ دُونِي فَأَقُولُ يَا رَبِّ مِنِّي وَمِنْ أُمَّتِي، فَيُقَالُ: أَمَا شَعَرْت مَا عَمِلُوا بَعْدَك؟ وَاَللَّهِ مَا بَرِحُوا بَعْدَك يَرْجِعُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِك أَنَّ الْحَوْضَ عَلَى وَجْهِ هَذِهِ الْأَرْضِ وَإِنَّمَا يَكُونُ وُجُودُهُ فِي الْأَرْضِ الْمُبَدَّلَةِ وَهِيَ أَرْضٌ بَيْضَاءُ كَالْفِضَّةِ لَمْ يُسْفَكْ فِيهَا دَمٌ وَلَمْ يُظْلَمْ عَلَى ظَهْرِهَا أَحَدٌ قَطُّ» ".
(فَائِدَةٌ) فِي التِّرْمِذِيِّ مَرْفُوعًا: «إنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضًا وَإِنَّهُمْ لَيَتَبَاهَوْنَ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ وَارِدَةً، وَأَنَا أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ وَارِدَةً» .
وَقَدْ اتَّفَقَ الشُّيُوخُ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الشَّيْخِ (وَأَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَإِخْلَاصٌ بِالْقَلْبِ وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ) لَمْ
ــ
[حاشية العدوي]
قَوْلُهُ: مِنِّي إلَخْ] مِنْ الْأُولَى اتِّصَالِيَّةٌ أَيْ هُمْ مُتَّصِلُونَ بِي، وَالثَّانِيَةُ تَبْعِيضِيَّةٌ، أَيْ بَعْضُ أُمَّتِي وَالْمُرَادُ وَاحِدٌ وَأَنَّهُمْ مِنْ أَتْبَاعِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَعْنَى مِنِّي أَيْ أَتْبَاعِي فَيَكُونُ عَيْنَ مَا بَعْدَهُ، فَإِنْ قُلْت: قَوْلُهُ مِنِّي وَمِنْ أُمَّتِي، كَيْفَ ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُمْ إنْ ارْتَدُّوا فَقَدْ خَرَجُوا مِنْ أُمَّتِي بِارْتِدَادِهِمْ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ كُلَّ مَنْ تَوَضَّأَ يُحْشَرُ بِالْغُرَّةِ وَالتَّحْجِيلِ فَيَظُنُّ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُمْ مِنْ أُمَّتِهِ لِوُجُودِ الْغُرَّةِ فِيهِمْ، وَخُلَاصَتُهُ أَنَّ الْمُنَافِقَ وَالْمُرْتَدَّ يُحْشَرَانِ بِالْغُرَّةِ وَالتَّحْجِيلِ فَيَظُنُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمْ مِنْ أُمَّتِهِ، وَلَا بُعْدَ فِي حَشْرِهِمْ بِالْغُرَّةِ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ، ثُمَّ تَزُولُ عَنْهُمْ بَعْدَ الْحَاجَةِ إلَى الْوُرُودِ نَكَالًا بِهِمْ وَمَكْرًا بِهِمْ لِيَزْدَادُوا حَسْرَةً اهـ.
[قَوْلُهُ: أَمَا شَعَرْت] مِنْ بَابِ قَعَدَ أَيْ عَلِمْت كَمَا قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ.
[قَوْلُهُ: وَاَللَّهِ مَا بَرِحُوا بَعْدَك] أَيْ مَا زَالُوا بَعْدَك يَرْجِعُونَ، فَقَوْلُهُ يَرْجِعُونَ خَبَرُ بَرِحَ اسْتَشْكَلَ مَعَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ وَمَمَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ تُعْرَضُ عَلَيَّ أَعْمَالُكُمْ فَمَا كَانَ مِنْ حَسَنٍ حَمِدْت اللَّهَ عَلَيْهِ وَمَا كَانَ مِنْ سَيِّئٍ اسْتَغْفَرْت اللَّهَ لَكُمْ» وَمَعَ مَا رَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ لَيْسَ مِنْ يَوْمٍ إلَّا وَتُعْرَضُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَعْمَالُ أُمَّتِهِ غُدْوَةً وَعَشِيًّا فَيَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَأَعْمَالِهِمْ اهـ.
[قَوْلُهُ: يَرْجِعُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ] أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ إلَى السَّيِّئَةِ أَوْ مِنْ الْإِسْلَامِ إلَى الْكُفْرِ كَذَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ، أَقُولُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ النُّكْتَةَ فِي التَّعْبِيرِ الْمَذْكُورِ الْإِشَارَةُ إلَى أَنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ كَانَتْ مُسْتَمِرَّةً فِيهِمْ، وَالظَّاهِرُ أَيْضًا أَنْ هَذَا لَا يَشْمَلُ الْمُنَافِقَ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ.
[قَوْلُهُ: وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِك إلَخْ] لَا يَخْفَى أَنَّ الْخُطُورَ بِالْبَالِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ طَلَبٌ وَلَا تَكْلِيفٌ، فَأَرَادَ بِهِ لَا تَعْتَقِدُ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِتِلْكَ الْعِبَارَةِ مُبَالَغَةً فِي التَّنْفِيرِ.
قَالَ اللَّقَانِيُّ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى مَنْ ذَكَرَ خِلَافًا فِي وُجُودِهِ الْيَوْمَ أَوْ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَا عَلَى مَنْ قَطَعَ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ. نَعَمْ مَنْ قَالَ: إنَّهُ الْكَوْثَرُ فَهُوَ مَوْجُودٌ الْيَوْمَ وَالْكَوْثَرُ فِي الْجَنَّةِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ.
وَقَالَ أَيْضًا وَلَمْ أَقِفْ إلَى الْآنَ عَلَى أَنَّ السَّبْعِينَ أَلْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ يَشْرَبُونَ مِنْ الْحَوْضِ.
[قَوْلُهُ: وَإِنَّهُمْ لَيَتَبَاهَوْنَ] أَيْ يَفْتَخِرُونَ يُحْتَمَلُ بِالْمَقَالِ وَالْحَالِ أَوْ بِالْحَالِ فَقَطْ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْهَاءِ، وَقَوْلُهُ أَيُّهُمْ فِي الْعِبَارَةِ حَذْفٌ وَالتَّقْدِيرُ، وَأَنَّهُمْ لَيَتَبَاهَوْنَ بِمَدْلُولِ جَوَابِ أَيِّهِمْ أَكْثَرُ وَارِدَةً، ثُمَّ هَذَا مُشْكِلٌ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ مُحَمَّدًا أَكْثَرَ أُمَّةً وَهُوَ يَعْلَمُ ذَلِكَ فَكَيْفَ يُعَبِّرُ بِأَرْجُو؟
وَالْجَوَابُ عَنْ الثَّانِي أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْأَدَبِ اللَّائِقِ بِجَلَالِهِ صلى الله عليه وسلم[قَوْلُهُ: وَارِدَةً] أَيْ جَمَاعَةً وَارِدَةً كَمَا يُفِيدُهُ الْمِصْبَاحُ.
خَاتِمَةٌ فِي جُمْلَةِ مَا قِيلَ فِي وَصْفِهِ قِيلَ مَسِيرَتُهُ شَهْرٌ، وَقِيلَ شَهْرَانِ وَقِيلَ ثَلَاثَةٌ، وَعَرْضُهُ وَطُولُهُ سَوَاءٌ، حَافَتَاهُ الزَّبَرْجَدُ آنِيَتُهُ مِنْ فِضَّةٍ عَدَدَ نُجُومِ السَّمَاءِ، لَهُ مِيزَابَانِ مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنْ اللَّبَنِ وَأَلْيَنُ مِنْ الزُّبْدِ وَأَبْرَدُ مِنْ الثَّلْجِ وَأَحْلَى مِنْ الْعَسَلِ.
[قَوْلُهُ: قَوْلٌ بِاللِّسَانِ] لَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَهُ بِاللِّسَانِ تَأْكِيدٌ وَكَذَا قَوْلُهُ بِالْقَلْبِ وَأَرَادَ بِالْإِخْلَاصِ التَّصْدِيقَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ بِالْجَوَارِحِ فَهُوَ تَأْسِيسٌ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ قَدْ يَكُونُ بِالْقَلْبِ فَقَطْ وَقَدْ يَكُونُ بِالْبَدَنِ فَقَطْ وَقَدْ يَكُونُ بِهِمَا كَالْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ،
يَأْتِ بِهِ عَلَى أَنَّهُ مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ وَإِنْ أَوْهَمَ كَلَامُهُ ذَلِكَ لِعَطْفِهِ عَلَى مَا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ مَنْ آمَنَ بِقَلْبِهِ وَنَطَقَ بِلِسَانِهِ وَعَمِلَ بِجَوَارِحِهِ وَلَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّ الْإِيمَانَ مَجْمُوعُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ تَوْطِئَةً لِبَيَانِ أَرْبَعَةِ فَوَائِدَ، أَشَارَ إلَى أَوَّلِهَا بِقَوْلِهِ (يَزِيدُ) أَيْ الْإِيمَانُ مِنْ حَيْثُ هُوَ (بِ) سَبَبِ (زِيَادَةِ الْأَعْمَالِ وَيَنْقُصُ بِ) سَبَبِ (نَقْصِ الْأَعْمَالِ فَيَكُونُ فِيهَا) أَيْ الْأَعْمَالِ (النَّقْصُ وَبِهَا الزِّيَادَةُ) مَا ذَكَرَهُ مِنْ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ بِاعْتِبَارِ الثَّمَرَاتِ هُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَخَلَفِهَا وَهُوَ آخِرُ قَوْلِ مَالِكٍ، وَكَانَ أَوَّلًا يَقُولُ: يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ،
ــ
[حاشية العدوي]
قَوْلُهُ: وَلَمْ يَعْتَقِدْ إلَخْ] وَكَذَا إنْ لَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّهَا إيمَانٌ وَعِبَارَتُهُ تُصَدَّقُ بِهِ قَالَهُ عج.
[قَوْلُهُ: إنَّهُ مُؤْمِنٌ] أَيْ مُؤْمِنٌ كَامِلٌ لَمْ يَرْتَكِبْ إثْمًا [قَوْلُهُ: وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ تَوْطِئَةً] أَوْ إنَّمَا ذَكَرَهُ لِبَيَانِ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ، فَإِنْ قُلْت لَا يَصِحُّ قَوْلُهُ تَوْطِئَةً؛ لِأَنَّ بَيَانَ الْفَوَائِدِ الْأَرْبَعَةِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ عِنْدَ التَّأَمُّلِ الصَّادِقِ، قُلْت لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ بَيَانَ الْفَوَائِدِ الْأَرْبَعَةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ ذَاتُهَا، بَلْ بَيَانُهَا بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ أَجْزَاءَ الْإِيمَانِ، فَمَعْنَى الْفَائِدَةِ الْأُولَى يَزِيدُ الْإِيمَانُ بِزِيَادَةِ الْعَمَلِ الَّذِي هُوَ أَحَدُ أَجْزَائِهِ، وَمَعْنَى الْفَائِدَةِ الثَّانِيَةِ: لَا يَكْمُلُ قَوْلُ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ أَحَدُ أَجْزَائِهِ إلَّا بِالْعَمَلِ الَّذِي هُوَ جُزْؤُهُ الْآخَرُ، وَمَعْنَى الثَّالِثَةِ لَا يَكْمُلُ قَوْلٌ وَلَا عَمَلَ اللَّذَانِ هُمَا أَجْزَاءُ الْإِيمَانِ إلَّا بِالنِّيَّةِ، وَكَذَا يُقَالُ: فِي الْأَخِيرَةِ بِاعْتِبَارِهِمَا فَتَدَبَّرْ [قَوْلُهُ: مِنْ حَيْثُ هُوَ] أَيْ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ مَحَلِّهِ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ فِي إيمَانِ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ، وَحَاصِلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ إيمَانَ الْأَنْبِيَاءِ يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ وَإِيمَانُ الْمَلَائِكَةِ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ.
[قَوْلُهُ: بِسَبَبِ زِيَادَةِ الْأَعْمَالِ] فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْعِبَارَةَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ وَالْمُنَاسِبُ حَذْفُهُ، وَيُصَرِّحُ هَكَذَا فَيَقُولُ الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ أَيْ بِسَبَبِ إلَخْ، وَبَعْدَ هَذَا الْمَلْحَظُ تَكُونُ لِلتَّعْدِيَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مُرَادَهُ وَأَنَّ الْعِبَارَةَ لَيْسَتْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَقَوْلُهُ نَقْصُ الْأَعْمَالِ إظْهَارٌ فِي مَوْضِعِ الْإِضْمَارِ ارْتَكَبَهُ إيضَاحًا لِلْمُبْتَدِئِ، لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِي الْإِيمَانِ الْكَامِلِ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ سَبَبِ الْجُزْءِ لِلْكُلِّ فَيَكُونُ السَّبَبُ وَهُوَ زِيَادَةُ الْأَعْمَالِ دَاخِلًا فِي الْمَاهِيَّةِ لَا خَارِجًا أَيْ مَاهِيَّةِ الْإِيمَانِ الْكَامِلِ.
[قَوْلُهُ: فَيَكُونُ فِيهَا النَّقْصُ] يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَلَى حَقِيقَتِهَا، وَأَنْ تَكُونَ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَهُوَ الْأَنْسَبُ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ فِي زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنَقْصِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ الْأَعْمَالُ الْمَنْدُوبَةُ لَا الْوَاجِبَةُ؛ لِأَنَّهُ مَتَى اخْتَلَّ شَيْءٌ مِنْهَا انْتَفَى كَوْنُهُ إيمَانًا كَامِلًا بَلْ وَيَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مُؤْمِنًا أَصْلًا عِنْدَ الْمُعْتَزِلِيِّ.
[قَوْلُهُ: بِاعْتِبَارِ الثَّمَرَاتِ] أَرَادَ بِهَا الْأَعْمَالَ وَصَرَّحَ بِهِ تت، فَيَكُونُ حِينَئِذٍ مُرَادُهُ بِالْإِيمَانِ التَّصْدِيقَ فَقَطْ وَأَنَّ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ مِنْ حَيْثُ الثَّمَرَاتِ الَّتِي هِيَ الْأَعْمَالُ، فَفِي الْعِبَارَةِ مُخَالَفَةٌ؛ لِأَنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ أَوَّلًا صَرِيحٌ فِي أَنَّ مُرَادَهُ الْإِيمَانُ الْكَامِلُ الَّذِي الْأَعْمَالُ جُزْءٌ مِنْهُ وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ مُرَادَهُ بِالْإِيمَانِ التَّصْدِيقُ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ ثَمَرَةٌ بِاعْتِبَارِهِ.
[قَوْلُهُ: وَكَانَ أَوَّلًا] أَيْ كَانَ فِي بَدْءِ أَمْرِهِ يَقُولُ يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، وَآخِرِ أَمْرِهِ وَافَقَ السَّلَفَ فِي الْقَبُولِ لِلنَّقْصِ وَالزِّيَادَةِ كَمَا يُسْتَفَادُ مِنْ كَلَامِ الْقَسْطَلَّانِيِّ، وَصَرَّحَ بِهِ تت، وَلَا يَخْفَى عَلَيْك بَعْدَ مَا قَرَّرْنَاهُ لَك مِنْ أَنَّ الزِّيَادَةَ وَالنَّقْصَ بِاعْتِبَارِ الْعَمَلِ، أَنَّ مَا قَالَهُ مَالِكٌ مُشْكِلٌ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مَا قَالَهُ الْقَسْطَلَّانِيُّ وَنَصُّهُ، وَأَمَّا تَوَقُّفُ مَالِكٍ عَنْ الْقَوْلِ بِنُقْصَانِهِ فَخَشْيَةَ أَنْ يُتَأَوَّلَ عَلَيْهِ مُوَافَقَةُ الْخَوَارِجِ اهـ.
الْمُرَادُ مِنْهُ إذْ ذَهَبَتْ الْخَوَارِجُ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الطَّاعَاتُ بِأَسْرِهَا فَرْضًا كَانَتْ أَوْ نَفْلًا، وَيُكَفِّرُونَ أَهْلَ الْمَعَاصِي مِنْ الْمُؤْمِنِينَ بِالذُّنُوبِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي شَرْحِ الْعَقِيدَةِ وَيُجَابُ أَيْضًا بِأَنَّ تَحَاشِيَهُ لِلْإِطْلَاقِ الشَّرْعِيِّ، كَمَا أَفَادَهُ تت لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا} [الفتح: 4] {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13] وَلَمْ يَرِدْ نَقْصُهُ، الْقَوْلُ الثَّالِثُ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ وَهُوَ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ؛ لِأَنَّهُ مَتَى قَبِلَ الزِّيَادَةَ وَالنَّقْصَ كَانَ شَكًّا وَكُفْرًا قَالَ تت، وَأَرَادَ الْأَوَّلُونَ أَنَّ الْمُرَادَ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ بِاعْتِبَارِ زِيَادَةِ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ، وَهِيَ الْأَعْمَالُ، وَنُقْصَانُهَا لَا نَفْسَ التَّصْدِيقِ اهـ.
وَاَلَّذِي يَتَّضِحُ لَنَا مِنْ تَقْرِيرِهِمْ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ وَأَنَّ مَنْ يَقُولُ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ إنَّمَا أَرَادَ فِي
وَظَاهِرُ كَلَامِ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ الْمَشْهُورُ، وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْإِيمَانِ عَلَى الْأَعْمَالِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ.
قَالَ تَعَالَى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ صَلَاتُكُمْ ثُمَّ أَشَارَ إلَى الْفَائِدَةِ الثَّانِيَةِ بِقَوْلِهِ (وَلَا يَكْمُلُ) قِيلَ مَعْنَاهُ لَا يَصِحُّ (قَوْلُ الْإِيمَانِ) وَهُوَ التَّلَفُّظُ بِالشَّهَادَتَيْنِ (إلَّا بِالْعَمَلِ) أَيْ بِعَمَلِ الْجَوَارِحِ، وَمَا ذَكَرَهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْعَمَلَ دَاخِلٌ فِي حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَقِيلَ: الْكَمَالُ فِي كَلَامِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْعَمَلَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ أَوَّلَ الْبَابِ، وَعَلَيْهِ إذَا عَمِلَ كَانَ إيمَانُهُ كَامِلًا مُنَجِّيًا لَهُ مِنْ النَّارِ، وَإِذَا لَمْ يَعْمَلْ صَحَّ إيمَانُهُ وَكَانَ غَيْرَ كَامِلٍ.
ثُمَّ أَشَارَ إلَى الْفَائِدَةِ الثَّالِثَةِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يَكْمُلُ) بِمَعْنَى لَا يَصِحُّ (قَوْلٌ وَلَا عَمَلٌ) صَحِيحٌ مِمَّا هُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى نِيَّةٍ (إلَّا بِنِيَّةٍ) أَيْ قَصْدٍ وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا بِقَوْلِنَا مِمَّا هُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى نِيَّةٍ؛ لِأَنَّ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ مَا لَا يَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ كَزَوَالِ النَّجَاسَةِ وَرَدِّ الْوَدَائِعِ وَالْغُصُوبِ وَالْأَذَانِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، ثُمَّ أَشَارَ إلَى الْفَائِدَةِ الرَّابِعَةِ بِقَوْلِهِ:(وَلَا) أَيْ وَلَا يَكْمُلُ بِمَعْنَى لَا يَصِحُّ (قَوْلٌ وَلَا عَمَلٌ وَلَا نِيَّةٌ إلَّا بِمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ) النَّبَوِيَّةِ وَمُوَافَقَتِهَا
ــ
[حاشية العدوي]
الثَّمَرَاتِ لَا نَفْسِ التَّصْدِيقِ، وَمَنْ قَالَ بِعَدَمِهِمَا أَرَادَ نَفْسَ التَّصْدِيقِ، هَذَا وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ التَّصْدِيقَ فِي حَدِّ ذَاتِهِ يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ فِي النَّقْصِ، بِكَثْرَةِ النَّظَرِ وَتَظَاهُرِ الْأَدِلَّةِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ قَبُولِهِ النَّقْصَ وَالزِّيَادَةَ أَنْ يَكُونَ شَكًّا وَكُفْرًا كَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ.
[قَوْلُهُ: أَنَّهُ الْمَشْهُورُ] أَيْ الْمَشْهُورُ عَنْهُ هُوَ قَوْلُهُ الْأَوَّلُ كَمَا أَفَادَهُ تت.
[قَوْلُهُ: عَلَى الْأَعْمَالِ] أَيْ عَلَى مَا يَعُمُّ الْأَعْمَالَ أَيْ عَلَى الثَّلَاثَةِ الَّتِي الْأَعْمَالُ جُزْءٌ مِنْهَا، هَذَا هُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا تَقَدَّمَ إلَّا أَنَّهُ يُنَافِيهِ الِاسْتِدْلَال بِالْآيَةِ فَإِنَّ الَّذِي فِيهَا إطْلَاقُ الْإِيمَانِ عَلَى الْأَعْمَالِ فَقَطْ، إلَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ اسْتِدْلَالٌ فِي الْجُمْلَةِ [قَوْلُهُ: عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ] ظَاهِرُهُ أَنَّ فِيهِ خِلَافًا عِنْدَ غَيْرِهِمْ وَانْظُرْهُ [قَوْلُهُ: قِيلَ مَعْنَاهُ لَا يَصِحُّ] هَذَا الْحَمْلُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ فَلَا يُنَاسِبُ الْحَمْلَ عَلَيْهِ بَلْ الصَّوَابُ إبْقَاءُ الْعِبَارَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا مِنْ أَنَّ الْعَمَلَ شَرْطُ كَمَالٍ [قَوْلُهُ: الْإِيمَانِ] أَيْ الْقَوْلُ الْمَنْسُوبُ لِلْإِيمَانِ مِنْ نِسْبَةِ الْجُزْءِ لِلْكُلِّ [قَوْلُهُ: وَهُوَ التَّلَفُّظُ بِالشَّهَادَتَيْنِ] أَيْ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ قَالَهُ عج وَأَرَادَ بِالتَّلَفُّظِ بِهِمَا حَرَكَةَ اللِّسَانِ بِهِمَا.
[قَوْلُهُ: دَاخِلٌ فِي حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ] أَيْ أَصْلِ الْإِيمَانِ أَيْ الْإِيمَانِ الَّذِي بِهِ النَّجَاةُ مِنْ الْعَذَابِ الْمُخَلِّدِ [قَوْلُهُ: وَقِيلَ الْكَمَالُ] هَذَا هُوَ الصَّوَابُ.
[قَوْلُهُ: غَيْرُ دَاخِلٍ فِي حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ] أَيْ الْإِيمَانِ الَّذِي بِهِ النَّجَاةُ مِنْ الْعَذَابِ الْمُخَلِّدِ فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ الْكَامِلِ. [قَوْلُهُ: مُنَجِّيًا لَهُ مِنْ النَّارِ] أَيْ بِحَيْثُ لَا يَدْخُلُهَا أَبَدًا، وَقَوْلُهُ صَحَّ إيمَانُهُ أَيْ فَلَا يَخْلُدُ فِي النَّارِ. [قَوْلُهُ: صَحِيحٌ] الْأَوْلَى إسْقَاطُهُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا يَصِحُّ مُسَلَّطٌ عَلَيْهِ، فَالتَّقْدِيرُ وَلَا يَصِحُّ عَمَلٌ إلَّا بِنِيَّةٍ فَلَا مَعْنَى قَوْلِهِ صَحِيحٌ. [قَوْلُهُ: كَزَوَالِ النَّجَاسَةِ وَرَدِّ الْوَدَائِعِ وَالْغُصُوبِ] مِثَالٌ لِلْفِعْلِ وَالْغُصُوبُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْوَدَائِعِ وَهُوَ جَمْعُ غَصْبٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَغْصُوبُ.
[قَوْلُهُ: وَالْأَذَانِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ] مِثَالٌ لِلْقَوْلِ وَذَكَرَ الْفَقِيهُ سَنَدٌ أَنَّ الْأَذَانَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ النِّيَّةِ، وَلَمْ نَرَ مَنْ نَقَلَ غَيْرَهُ كَمَا قَالَهُ عج، أَقُولُ وَلَا يَخْفَى أَنَّ حَمْلَ النِّيَّةِ عَلَى الْقَصْدِ لَا يُنَاسِبُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَمْلَ مِنْ بَابِ الْفُرُوعِ وَلَمْ يَكُنْ الْكَلَامُ فِيهَا، فَالْمُنَاسِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْإِخْلَاصِ أَيْ لَا يَصِحُّ قَوْلٌ وَلَا عَمَلٌ إلَّا بِإِخْلَاصٍ، فَقَدْ قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: بَعْدَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ إلَّا بِنِيَّةٍ مَا نَصُّهُ، أَيْ مُخْلَصَةً لِلَّهِ عز وجل وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الْإِخْلَاصَ فِي الْعِبَادَاتِ فَرْضٌ، وَهُوَ أَنْ يَبْتَدِئَ الْأَعْمَالَ لِلَّهِ فَإِنْ ابْتَدَأَ الْعَمَلَ لِغَيْرِ اللَّهِ فَسَدَ بِاتِّفَاقٍ، فَإِذَا ابْتَدَأَهُ لِلَّهِ وَأَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ عَلَيْهِ فَلَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ، وَإِذَا ابْتَدَأَهُ لِلَّهِ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَيْهِ فَأَتَمَّهُ لِغَيْرِ اللَّهِ وَلَمْ يَدْفَعْ ذَلِكَ مِنْ قَلْبِهِ فَمَا بَعْدُ يَبْطُلُ بِاتِّفَاقٍ، وَمَا قَبْلُ قَوْلَانِ وَالْمَشْهُورُ الْبُطْلَانُ، وَأَمَّا إذَا دَفَعَ ذَلِكَ فَلَا بُطْلَانَ بِاتِّفَاقٍ اهـ مُلَخَّصًا
[قَوْلُهُ: السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ] أَيْ شَرِيعَتُهُ أَيْ أَحْكَامُهُ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، بِمَعْنَى أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَغَيْرِهِمَا وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ، فَالْوَصْفُ بِقَوْلِهِ النَّبَوِيَّةِ كَاشِفٌ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهَا أَيْ
اتِّبَاعَهُ صلى الله عليه وسلم فِيمَا جَاءَ بِهِ، وَاتِّبَاعَ السَّلَفِ الصَّالِحِ قَالَ تَعَالَى {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] وَقَالَ عليه الصلاة والسلام: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي» الْحَدِيثَ. فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْقَوْلَ وَالْعَمَلَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَا مَعْرُوضَيْنِ عَلَى السُّنَّةِ، فَمَا وَافَقَهَا فَهُوَ الْمَطْلُوبُ وَمَا خَالَفَهَا لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ وَكَانَ مَعْصِيَةً أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا.
(وَ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّهُ (لَا يُكَفَّرُ أَحَدٌ بِذَنْبٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ) أَيْ الْإِسْلَامِ. ك: مَا قَالَهُ هُوَ مَذْهَبُ جَمِيعِ أَهْلِ السُّنَّةِ سَلَفًا وَخَلَفًا خِلَافًا لِلْخَوَارِجِ، حَيْثُ قَالُوا: كُلُّ ذَنْبٍ كَبِيرَةٌ وَكُلُّ كَبِيرَةٍ مُحْبِطَةٌ لِلْعَمَلِ وَمُرْتَكِبُهَا كَافِرٌ، وَخِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ حَيْثُ قَالُوا: كُلُّ كَبِيرَةٍ مُحْبِطَةٌ لِلْعَمَلِ وَمُرْتَكِبُهَا لَهُ مَنْزِلَةٌ بَيْنَ مَنْزِلَتَيْنِ لَا يُسَمَّى مُؤْمِنًا وَلَا كَافِرًا، وَإِنَّمَا يُقَالُ لَهُ فَاسِقٌ وَهَذَا بِنَاءٌ مِنْهُمْ عَلَى تَحْسِينِ الْعَقْلِ وَتَقْبِيحِهِ اهـ.
(وَ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ (أَنَّ
ــ
[حاشية العدوي]
بِالسُّنَّةِ الطَّرِيقَةَ كَانَ مُخَصَّصًا [قَوْلُهُ: فِيمَا جَاءَ بِهِ] لَا يَخْفَى أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ هُوَ سُنَّتُهُ فَهُوَ إظْهَارٌ فِي مَوْضِعِ الْإِضْمَارِ وَالتَّقْدِيرُ وَمُوَافَقَتُهَا إتْبَاعَهُ فِيهَا أَيْ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهَا وَمَعْنَى مَا جَاءَ بِهِ أَيْ صَرِيحًا وَإِلَّا فَاتِّبَاعُ السَّلَفِ الصَّالِحِ اتِّبَاعٌ لَهُ فِيمَا جَاءَ بِهِ ضِمْنًا؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْأَحْكَامَ الَّتِي ظَهَرَتْ عَلَى أَيْدِيهِمْ إنَّمَا اسْتَنْبَطُوهَا مِمَّا جَاءَ بِهِ صَرِيحًا، فَلَوْ أُرِيدَ بِمَا جَاءَ بِهِ صَرِيحًا أَوْ ضِمْنًا لَمَا اُحْتِيجَ إلَى قَوْلِهِ، وَاتِّبَاعُ السَّلَفِ الصَّالِحِ، إلَّا أَنَّ تِلْكَ الْأَحْكَامَ لَمَّا ظَهَرَتْ عَلَى أَيْدِيهِمْ نُسِبَتْ لَهُمْ.
[قَوْلُهُ: وَاتِّبَاعُ السَّلَفِ الصَّالِحِ] قَدْ ظَهَرَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّ الْوَاوَ بِمَعْنَى أَوْ. [قَوْلُهُ: قَالَ تَعَالَى إلَخْ] دَلِيلٌ لِلْأَوَّلِ وَقَوْلُهُ وَقَالَ عليه الصلاة والسلام دَلِيلٌ لِلثَّانِي، إلَّا أَنَّ الدَّلِيلَ أَخَصُّ مِنْ الْمُدَّعَى؛ لِأَنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ أَعَمُّ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ. [قَوْلُهُ: الْحَدِيثَ إلَخْ] تَمَامُهُ «الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّوَاجِذُ قِيلَ الْأَضْرَاسُ وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ هُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ.
[قَوْلُهُ: وَالْعَمَلَ] يُرَادُ بِهِ مَا يَشْمَلُ النِّيَّةَ. [قَوْلُهُ: فَمَا وَافَقَهَا] أَيْ فَأَيُّ شَيْءٍ مِنْ الْعَمَلِ وَافَقَهَا فَهُوَ الْمَطْلُوبُ. [قَوْلُهُ: أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا] أَيْ وَهُوَ الْمَكْرُوهُ وَخِلَافُ الْأَوْلَى.
[قَوْلُهُ: بِذَنْبٍ] قَالَ عج بِذَنْبٍ أَيْ ذَنْبٍ يَبْقَى مَعَهُ الْإِيمَانُ فَالذَّنْبُ الْمُخِلُّ بِالْإِيمَانِ يَكْفُرُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ أَيْ كَرَمْيِ مُصْحَفٍ بِقَذَرٍ وَكَمَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ كَالْأَجْسَامِ، وَأَمَّا مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ جِسْمٌ لَا كَالْأَجْسَامِ فَلَا يَكْفُرُ إلَّا أَنَّهُ عَاصٍ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى سبحانه وتعالى لَيْسَ بِجِسْمٍ. [قَوْلُهُ: أَيْ الْإِسْلَامِ] صَلَّى أَوْ لَمْ يُصَلِّ [قَوْلُهُ: سَلَفًا وَخَلَفًا] اُعْتُرِضَ بِأَنَّ ابْنَ حَبِيبٍ وَابْنَ عَبْدَ الْحَكَمِ وَغَيْرَهُمَا يَقُولُونَ بِتَكْفِيرِ تَارِكِ الصَّلَاةِ عَمْدًا أَوْ تَفْرِيطًا وَكَذَا الزَّكَاةُ وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ نَقَلَهُ تت، وَالشَّارِحُ فِي التَّحْقِيقِ. [قَوْلُهُ: لِلْخَوَارِجِ] قَالَ فِي التَّحْقِيقِ وَمِنْهُمْ أَيْ وَمِنْ الْمُبْتَدَعَةِ الْخَوَارِجُ الَّذِينَ يَخْرُجُونَ عَنْ الْإِمَامِ الْعَادِلِ وَيُنْكِرُونَ أَمْرَهُ وَوِلَايَتَهُ وَأَوَّلُ مَنْ سُمِّيَ بِذَلِكَ الْخَارِجُونَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تبارك وتعالى عَنْهُمَا - اهـ.
[قَوْلُهُ: كُلُّ ذَنْبٍ كَبِيرَةٌ] أَيْ فَيَقُولُونَ إنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ كَافِرٌ، وَإِنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ عز وجل، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] وَغَيْرِهَا.
وَالْجَوَابُ أَنَّهَا مَتْرُوكَةُ الظَّاهِرِ لِلنُّصُوصِ الْقَاطِعَةِ عَلَى أَنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ لَيْسَ بِكَافِرٍ [قَوْلُهُ: وَخِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ] سَبَبُ تَسْمِيَتِهِمْ بِذَلِكَ أَنَّ رَئِيسَهُمْ وَاصِلُ بْنُ عَطَاءٍ، اعْتَزَلَ مَجْلِسَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ يَقُولُ إنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ وَلَا كَافِرٍ وَيُثْبِتُ الْمَنْزِلَةَ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ، فَقَالَ الْحَسَنُ اعْتَزَلَنَا وَاصِلٌ فَسُمُّوا مُعْتَزِلَةً وَهُمْ سَمَّوْا أَنْفُسَهُمْ أَصْحَابَ الْعَدْلِ وَالتَّوْحِيدِ لِقَوْلِهِمْ بِوُجُوبِ ثَوَابِ الْمُطِيعِ وَعِقَابِ الْعَاصِي عَلَى اللَّهِ عز وجل، وَنَفْيِ الصِّفَاتِ الْقَدِيمَةِ.
[قَوْلُهُ: وَهَذَا بِنَاءً مِنْهُمْ إلَخْ] أَيْ وَقَدْ تَقَرَّرَ بُطْلَانُهُ وَلَوْ سُلِّمَ ذَلِكَ فَالْعَقْلُ لَا يُوجِبُ إحْبَاطَ خِدْمَةِ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ مِائَةَ سَنَةٍ بِزَلَّةٍ وَاحِدَةٍ، فِي الشَّاهِدِ فَكَذَلِكَ فِي الْغَائِبِ وَلِأَنَّ الذَّنْبَ لَوْ كَانَ الْإِصْرَارُ عَلَيْهِ مُحْبِطًا لِلطَّاعَاتِ لَوَجَبَ أَنْ لَا تَصِحَّ مَعَهُ طَاعَةٌ كَالرِّدَّةِ وَالْخُرُوجِ عَنْ الْمِلَّةِ وَذَلِكَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ وَشَارِبَ الْخَمْرِ تَصِحُّ صَلَاتُهُ وَصَوْمُهُ وَحَجُّهُ وَيُتَرَحَّمُ
الشُّهَدَاءَ) أَيْ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ جَمْعُ شَهِيدٍ، وَهُوَ مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي جِهَادِ الْكُفَّارِ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى (أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أَيْ فِي جَنَّةِ رَبِّهِمْ (يُرْزَقُونَ) مِثْلُ مَا يُرْزَقُ الْأَحْيَاءُ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ دَلِيلُهُ قَوْله تَعَالَى " {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] " سُمُّوا شُهَدَاءَ؛ لِأَنَّ أَرْوَاحَهُمْ أُحْضِرَتْ دَارَ السَّلَامِ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ. فَإِنَّ أَرْوَاحَهُمْ لَا تَصِلُ إلَى الْجَنَّةِ، فَالشَّهِيدُ بِمَعْنَى الشَّاهِدِ أَيْ الْحَاضِرِ لِلْجَنَّةِ، وَخُصُّوا
ــ
[حاشية العدوي]
عَلَيْهِ.
قَالَهُ فِي شَرْحِ الْعَقِيدَةِ وَيُرَدُّ عَلَيْهِمْ أَيْضًا، مَا وَجْهُ كَوْنِ الْعَقْلِ يَجْعَلُهُ وَاسِطَةً بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ دُونَ أَنْ يَجْعَلُهُ كَافِرًا كَالْخَوَارِجِ أَوْ يَبْقَى مُسْلِمًا كَأَهْلِ السُّنَّةِ.
[قَوْلُهُ: أَيْ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ] تَبِعَ ابْنَ عَطِيَّةَ حَيْثُ قَالَ، وَلَا خَفَاءَ فِي مَوْتِهِمْ وَأَنَّ أَجْسَامَهُمْ فِي التُّرَابِ وَأَرْوَاحَهُمْ كَأَرْوَاحِ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا فُضِّلُوا عَلَى غَيْرِهِمْ بِالرِّزْقِ فِي الْجَنَّةِ مِنْ وَقْتِ الْقَتْلِ حَتَّى كَأَنَّ حَيَاةَ الدُّنْيَا دَائِمَةٌ لَهُمْ، إلَّا أَنَّهُ مَرْدُودٌ بِأَنَّ الْمُتَّصِفَ بِالْحَيَاةِ أَجْسَادُ الشُّهَدَاءِ، وَأَنَّ حَيَاتَهُمْ حَقِيقِيَّةٌ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ، وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ لَكِنَّ حَيَاتَهُمْ لَيْسَ كَحَيَاتِهِمْ فِي الدُّنْيَا كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ، مِنْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ أَجْسَادَهُمْ لَا تَعُودُ إلَيْهَا الْحَيَاةُ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ تِلْكَ الْحَيَاةَ لَا تَمْتَنِعُ مِنْ إطْلَاقِ اسْمِ الْمَيِّتِ عَلَيْهِ بَلْ حَيَاةٌ غَيْرُ مَعْقُولَةٍ لِلْبَشَرِ فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: فِي جِهَادِ الْكُفَّارِ] بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، بَدَلُ بَعْضٍ؛ لِأَنَّ سَبِيلَ اللَّهِ بِمَعْنَى طَاعَةِ اللَّهِ وَهِيَ أَعَمُّ مِنْ جِهَادِ الْكُفَّارِ [قَوْلُهُ: كَلِمَةُ اللَّهِ] أَيْ مِنْ غَيْرِ ارْتِكَابِ مَأْثَمٍ؛ لِأَنَّهُمْ الْمُجَاهِدُونَ شَرْعًا قَالَ عج: وَأَمَّا مَنْ قَتَلَهُ الْكُفَّارُ وَقَدْ قَاتَلَ لِلْغَنِيمَةِ وَنَحْوِهَا فَلَا تَكُونُ لَهُ هَذِهِ الْخَصِيصَةُ، وَقَدْ ذَكَرَ نَحْوَهُ الشَّاذِلِيُّ قَبْلَ هَذَا الْمَحَلِّ اهـ، كَلَامُهُ، أَقُولُ وَبَعْضُهُمْ أَلْحَقَ بِهِمْ مَنْ قَاتَلَ لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ ذَاهِبًا إلَى أَنَّ إرَادَةَ الْغَنِيمَةِ أَوْ الْوُقُوعِ فِي الْمَعْصِيَةِ لَا تُنَافِي حُصُولَ الشَّهَادَةِ.
[قَوْلُهُ: أَيْ فِي جَنَّةِ رَبِّهِمْ] أَيْ فَلَيْسَتْ الْعِنْدِيَّةُ مُرَادًا مِنْهَا ظَاهِرُهَا. [قَوْلُهُ: يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ] أَيْ فَالْأَرْوَاحُ تَتَلَذَّذُ تَلَذُّذًا جُسْمَانِيًّا كَمَا قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي كِتَابِ سِرَاجِ الْمُرِيدِينَ، يَجُوزُ أَنْ تُودَعَ الرُّوحُ فِي جَوْفِ طَيْرٍ أَوْ تَكُونُ عَلَى هَيْئَةِ الطَّيْرِ وَيَصِلُ إلَيْهَا الْغِذَاءُ، وَإِنْ كَانَتْ وَدِيعَةً فِي جَوْفِهِ إلَى أَنْ قَالَ وَيَكُونُ هَذَا مَخْصُوصًا بِالشُّهَدَاءِ، نَقَلَهُ السُّيُوطِيّ ثُمَّ نَقَلَ السُّيُوطِيّ أَيْضًا مَا نَصُّهُ وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي شَرْحِ سِرَاجِ الْمُرِيدِينَ إجْمَاعَ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعَجَّلُ الْأَكْلُ وَالنَّعِيمُ إلَّا لِلشُّهَدَاءِ اهـ.
بَلْ قَالَ الْعَلَّامَةُ الرَّمْلِيُّ فِي فَتَاوِيهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَيَاةَ بِاعْتِبَارِ الْجِسْمِ، فِيمَا يَظْهَرُ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالشُّهَدَاءَ يَأْكُلُونَ فِي قُبُورِهِمْ وَيَشْرَبُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَصُومُونَ وَيَحُجُّونَ، وَوَقَعَ الْخِلَافُ فِي نِكَاحِهِمْ نِسَاءَهُمْ وَيُثَابُونَ عَلَى صَلَاتِهِمْ وَحَجِّهِمْ وَلَا كُلْفَةَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، بَلْ يَتَلَذَّذُونَ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّكْلِيفِ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ انْقَطَعَ بِالْمَوْتِ، بَلْ مِنْ قَبِيلِ الْكَرَامَةِ لَهُمْ، وَرَفْعِ دَرَجَاتِهِمْ بِذَلِكَ اهـ.
وَفِي السِّرِّ الْمَصُونِ لِسَيِّدِي أَبِي الْمَوَاهِبِ الشَّاذِلِيِّ أَنَّ الشُّهَدَاءَ يَنْكِحُونَ فَإِنَّهُ قَالَ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ الشُّهَدَاءِ بِأَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، وَحَمَلَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى حَقِيقَتِهِ أَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَنْكِحُونَ حَقِيقَةً، قَائِلُ غَيْرِ هَذَا صَرَفَ الْآيَةَ عَنْ ظَاهِرِهَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ تُلْجِئُ إلَى ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ يَنْكِحُونَ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِنِسَائِهِمْ كَمَا قَالَ الرَّمْلِيُّ ذَكَرَهُ عج وَقَدْ عَلِمْت مِمَّا تَقَدَّمَ مَا تَتَنَعَّمُ بِهِ الشُّهَدَاءُ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَإِنَّمَا يُنَعَّمُ بِغَيْرِ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ بِأَنْ يُمْلَأَ عَلَيْهِ قَبْرُهُ خَضِرًا وَيُفْسَحَ لَهُ فِيهِ كَمَا قَالَ اللَّقَانِيُّ.
[قَوْلُهُ: لِأَنَّ أَرْوَاحَهُمْ إلَخْ] أَيْ أَوْ لِأَنَّهُمْ شَهِدَ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ أَوْ لِأَنَّ دَمَهُ يَشْهَدُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَفَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، [قَوْلُهُ: أَحْضَرْت] أَيْ إلَّا مَنْ عَلَيْهِ حُقُوقٌ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ وَكَانَ لَا يَجِبُ عَلَى السُّلْطَانِ قَضَاؤُهُ فَإِنَّ رُوحَهُ تُحْبَسُ عَنْ الْجَنَّةِ، هَذَا خُلَاصَةُ كَلَامِ اللَّقَانِيِّ.
[قَوْلُهُ: دَارَ السَّلَامِ] أَيْ الْجَنَّةَ سُمِّيَتْ بِهَا لِسَلَامَةِ أَهْلِهَا عَنْ كُلِّ أَلَمٍ وَآفَةٍ وَلِأَنَّ خَزَنَةَ الْجَنَّةِ يَقُولُونَ لِأَهْلِهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ، هَذَا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ فِي وَجْهِ التَّسْمِيَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ خُصُوصَ الْجَنَّةِ الْمُسَمَّاةِ بِدَارِ السَّلَامِ، وَرُبَّمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدُ لَا تَصِلُ إلَى الْجَنَّةِ، نَعَمْ يُسْأَلُ وَيُقَالُ فِي أَيْ جَنَّةٍ مِنْ الْجِنَانِ مَقَرُّهُمْ. [قَوْلُهُ: بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ إلَخْ] لَا
بِأَشْيَاءَ مِنْهَا أَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهُمْ فِي أَوَّلِ الْمُلَاقَاةِ وَأَنَّ الْأَرْضَ لَا تَأْكُلُ أَجْسَادَهُمْ كَالْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْمُؤَذِّنِينَ، وَأَنَّهُمْ لَا يُسْأَلُونَ فِي قُبُورِهِمْ.
وَمِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ عَلَى مَا قَالَ ع قَوْلُهُ: (وَأَرْوَاحُ أَهْلِ السَّعَادَةِ) أَيْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَهُمْ
ــ
[حاشية العدوي]
يَخْفَى أَنْ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرَ الشُّهَدَاءِ إنَّمَا تَرَى مَقْعَدَهَا فِي الْجَنَّةِ وَهِيَ فِي قَبْرِهَا أَوْ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ وَلَا تَدْخُلُ الْجَنَّةَ كَذَا ذَكَرَ عج، أَقُولُ وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا وَقَعَ فِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ أَنَّ أَرْوَاحَ السُّعَدَاءِ أَيْ وَلَوْ غَيْرَ شُهَدَاءَ فِي الْجَنَّةِ إلَّا أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ قَوْلَهُ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ أَيْ كُلِّ الْمُغَايِرِينَ فَلَا يُنَافِي أَنَّ بَعْضَهُمْ فِي الْجَنَّةِ، [قَوْلُهُ: فَالشَّهِيدُ إلَخْ] لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا يُفِيدُ أَنَّ فَعِيلًا بِمَعْنَى فَاعِلٍ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُنَاسِبُ الْمُفَرَّعَ عَلَيْهِ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ فَإِنَّ أَرْوَاحَهُمْ إلَخْ؛ لِأَنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ فَعِيلًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، فَلَوْ أَتَى بِأَوْ لَكَانَ أَفْضَلَ لِيُفِيدَ أَنَّهُ يَصِحُّ كُلٌّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ [قَوْلُهُ: مِنْهَا إلَخْ] أَيْ وَمِنْهَا الْأَمْنُ مِنْ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْهَا أَنْ يُتَوَّجَ بِتَاجِ الْكَرَامَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ يَشْفَعُ فِي اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ مِنْ أَقَارِبِهِ.
[قَوْلُهُ: أَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهُمْ فِي أَوَّلِ الْمُلَاقَاةِ. . . إلَخْ] أَيْ مُلَاقَاةِ الْمَوْلَى سبحانه وتعالى يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ، وَظَاهِرُهُ كَظَاهِرِ كَلَامِهِمْ وَالْحَدِيثُ كُلُّ ذَنْبٍ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرَةٍ أَيْ إلَّا حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ كَمَا ذَكَرَهُ اللَّقَانِيُّ عَنْ حَدِيثٍ وَهُوَ يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إلَّا الدِّينَ، وَالْمُرَادُ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ كَمَا قَالَ رحمه الله وَرَأَيْتُهُ فِي ذَلِكَ تَابِعًا لِمَنْ كَتَبَ عَلَى مُسْلِمٍ ثُمَّ قَالَ أَيْ اللَّقَانِيُّ: غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَقِفْ عَلَى مُقْتَضَى هَذَا الظَّاهِرِ مُصَرَّحًا بِهِ لِأَحَدٍ غَيْرَ مَا قَالَهُ الْجَلَالُ وَنَصُّ الْجَلَالِ قُلْت، وَعِنْدِي أَنَّ مَقْصُودَ الْحَدِيثِ الْإِخْبَارُ، بِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ أَعْنِي قَتْلَ الْمُؤْمِنِ الْكَافِرَ يُكَفِّرُ مَا مَضَى مِنْ ذُنُوبِهِ كُلِّهَا كَبَائِرِهَا وَصَغَائِرِهَا دُونَ مَا يَسْتَقْبِلُ مِنْهَا، فَإِنْ مَاتَ عَنْ قُرْبٍ أَوْ بُعْدٍ مُدَّةً وَقَدْ سَدَّدَ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ لَمْ يُعَذَّبْ وَإِنْ لَمْ يُسَدِّدْ أُوخِذَ بِمَا جَنَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا بِمَا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَفَّرَ عَنْهُ اهـ.
قَالَ اللَّقَانِيُّ: فَإِذَا قَالَ: بِأَنَّ قَتْلَ الْمُسْلِمِ كَافِرًا يُكَفِّرُ ذُنُوبَهُ الصَّغَائِرَ وَالْكَبَائِرَ، فَلْيَقُلْ بِأَنَّ الْمُسْلِمَ الَّذِي أَرَاقَ الْكَافِرُ دَمَهُ يُكَفِّرُ ذُنُوبَهُ الصَّغَائِرَ وَالْكَبَائِرَ مِنْ بَابِ أَوْلَى، وَقَدْ قِيلَ فِي الْحَجِّ إنَّهُ يُكَفِّرُ الْكَبَائِرَ، فَتَكُونُ مُسْتَثْنَاةً مِنْ قَوْلِهِمْ الْكَبَائِرُ لَا يُكَفِّرُهَا إلَّا التَّوْبَةُ اهـ.
وَقَالَ عج نَاقِلًا عَنْ حَدِيثِ شَهِيدِ الْبَرِّ: يُغْفَرُ لَهُ كُلُّ ذَنْبٍ إلَّا الدَّيْنَ وَالْأَمَانَةَ، وَشَهِيدُ الْبَحْرِ يُغْفَرُ لَهُ كُلُّ ذَنْبٍ وَالدَّيْنُ وَالْأَمَانَةُ اهـ. [قَوْلُهُ: وَأَنَّ الْأَرْضَ لَا تَأْكُلُ أَجْسَادَهُمْ إلَخْ] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا لَيْسَ خَاصًّا بِهَذِهِ الْأُمَّةِ لِمَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَهَكَذَا حُكْمُ مَنْ تَقَدَّمَنَا مِنْ الْأُمَمِ، مِمَّنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ قُتِلَ عَلَى الْحَقِّ اهـ.
[قَوْلُهُ: وَالْعُلَمَاءُ] يَعْنِي الْعَامِلِينَ كَمَا ذَكَرَهُ عج، [قَوْلُهُ: وَالْمُؤَذِّنِينَ] أَيْ احْتِسَابًا فَفِي الْحَدِيثِ: «الْمُؤَذِّنُ الْمُحْتَسِبُ كَالشَّهِيدِ الْمُتَشَحِّطِ فِي دَمِهِ، وَإِذَا مَاتَ لَمْ يُدَوَّدْ فِي قَبْرِهِ» ، وَزِيدَ قَارِئُ الْقُرْآنِ الْعَامِلُ بِهِ وَمَنْ مَاتَ مُرَابِطًا وَمَنْ مَاتَ مَطْعُونًا صَابِرًا مُحْتَسِبًا وَالْمُكْثِرُونَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَالْمَحْبُوبُونَ لِلَّهِ وَالصِّدِّيقُونَ.
قَالَ الْجَلَالُ أَفَاضِلُ أَصْحَابِ النَّبِيِّينَ اهـ.
[قَوْلُهُ: عَلَى مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ] قَابَلَ فِي التَّحْقِيقِ كَلَامَ ابْنِ عُمَرَ هَذَا بِقَوْلِهِ وَقَالَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ زَرُّوقٌ الْكَلَامُ فِي الْأَرْوَاحِ مُنْدَرِجٌ فِي الْكَلَامِ عَلَى الشُّهَدَاءِ أَيْ فَالتَّكَلُّمُ عَلَى وُجُوبِ اعْتِقَادِ حَيَاةِ أَرْوَاحِ الشُّهَدَاءِ تَكَلُّمٌ عَلَى حَيَاةِ بَقِيَّةِ أَرْوَاحِ غَيْرِهِمْ، أَيْ فَلَيْسَ ذَلِكَ عَقِيدَةً مُسْتَقِلَّةً، فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَقَوْلُهُ وَمِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَيْ اسْتِقْلَالًا [قَوْلُهُ: وَأَرْوَاحٌ إلَخْ] ظَاهِرُهُ أَنَّ التَّنْعِيمَ وَالْعَذَابَ لِلرُّوحِ فَقَطْ وَهُوَ غَيْرُ مَرْضِيٍّ، تَبِعَ فِيهِ ابْنُ حَزْمٍ وَابْنُ هُبَيْرَةَ الْقَائِلِينَ أَنَّ التَّنْعِيمَ وَالْعَذَابَ لِلرُّوحِ فَقَطْ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُمَا لِلرُّوحِ وَالْبَدَنِ جَمِيعًا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ السُّنَّةِ كَمَا قَالَ الْجَلَالُ تَبَعًا لِشَيْخِهِ ابْنِ حَجَرٍ وَالتَّنْعِيمُ وَالْعَذَابُ، إمَّا لِجَمِيعِ الْبَدَنِ أَوْ لِجُزْئِهِ إمَّا بَعْدَ إعَادَةِ الرُّوحِ فِيهِ كَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ، وَإِمَّا؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ فِي جَمِيعِ الْأَجْزَاءِ أَوْ بَعْضِهَا نَوْعًا مِنْ الْحَيَاةِ قَدْرَ مَا تُدْرِكُ بِهِ أَلَمَ الْعَذَابِ أَوْ لَذَّةَ التَّنْعِيمِ.
وَهَذَا لَا يَسْتَلْزِمُ إعَادَةَ الرُّوحِ فِي بَدَنِهِ، وَلَا أَنْ يَتَحَرَّكَ وَيَضْطَرِبَ أَوْ يُرَى أَثَرُ الْعَذَابِ عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرَهُ آخَرُ وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ الْمُصَنِّفِ: بِأَنَّهُ إنَّمَا أَسْنَدَ التَّنْعِيمَ وَالْعَذَابَ لِلرُّوحِ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّهَا مُتَّصِلَةٌ بِالْأَجْسَامِ، فَيَلْزَمُ مِنْ تَنْعِيمِ أَوْ تَعْذِيبِ الْأَرْوَاحِ
الْمُؤْمِنُونَ مُحْسِنُهُمْ وَمُسِيئُهُمْ (بَاقِيَةٌ) أَيْ غَيْرُ فَانِيَةٍ إذْ الْمَوْتُ لَيْسَ بِفِنَاءٍ مَحْضٍ وَإِنَّمَا هُوَ انْتِقَالٌ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ (نَاعِمَةٌ) أَيْ مُنَعَّمَةٌ بِرُؤْيَتِهَا لِمَقْعَدِهَا فِي الْجَنَّةِ (إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أَيْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (وَأَرْوَاحُ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ) وَهُمْ الْكُفَّارُ (مُعَذَّبَةٌ) بِرُؤْيَتِهَا لِمَقْعَدِهَا فِي النَّارِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ (إلَى يَوْمِ الدِّينِ) أَيْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْأَرْوَاحُ
ــ
[حاشية العدوي]
تَنْعِيمُ أَوْ تَعْذِيبُ الْأَجْسَادِ وَلَا يَخْتَصُّ تَنْعِيمُ الْقَبْرِ بِمُؤْمِنِي هَذِهِ الْأُمَّةِ كَمَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ، كَمَا لَا يَخْتَصُّ بِالْمُكَلَّفِينَ كَمَا أَفَادَهُ اللَّقَانِيُّ. [قَوْلُهُ: أَيْ أَهْلِ الْجَنَّةِ] أَيْ وَلَوْ بَعْدَ الْعَذَابِ وَاعْلَمْ أَنَّ السَّعَادَةَ الْمَوْتُ عَلَى الْإِسْلَامِ فَتَفْسِيرُهَا بِالْجَنَّةِ تَفْسِيرُ الشَّيْءِ بِلَازِمِهِ وَالشَّقَاوَةُ الْمَوْتُ عَلَى الْكُفْرِ. [قَوْلُهُ: مُحْسِنُهُمْ وَمُسِيئُهُمْ] قَالَ عج يُفِيدُ كَغَيْرِهِ مِنْ شُرَّاحِ الْكِتَابِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْعَاصِيَ لَا يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ، أَيْ لِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ نَاعِمَةً وَهُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ حَدِيثِ «إنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ» وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى عَذَابِ الْقَبْرِ وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِأَهْلِ السَّعَادَةِ النَّاجُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْعَذَابِ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَنْجُ فَيُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ، فَإِنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ لِمَنْ أَرَادَ اللَّهُ تَعْذِيبَهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ثَابِتٌ بِالْأَدِلَّةِ الصَّحِيحَةِ، فَمَنْ حَمَلَ أَهْلَ السَّعَادَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْمُحْسِنِ وَالْمُسِيءِ، وَحَمَلَ أَهْلَ الشَّقَاوَةِ عَلَى الْكَافِرِينَ كَأَبِي الْحَسَنِ وتت فِيهِ نَظَرٌ.
فَإِنْ قُلْت قَوْلُ الشَّارِحِ أَيْ مُنَعَّمَةٌ بِرُؤْيَتِهَا لِمَقْعَدِهَا إلَخْ، قَدْ فَسَّرَهُ الطِّيبِيُّ بِالتَّبْشِيرِ بِالْجَنَّةِ وَهَذَا يَجْرِي فِي الْمُؤْمِنِ مُطْلَقًا فَصَحَّ مَا قَالَهُ الشَّارِحُ، قُلْت قَالَ عج، لَا يَصِحُّ لِبُعْدِهِ مِنْ الْعِبَارَةِ وَلِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لِلتَّقْيِيدِ بِقَوْلِهِ إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، فَالْمُخَلِّصُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ حَمْلُ أَهْلِ السَّعَادَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِ الطَّائِعِ، وَحَمْلُ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ عَلَى الْكَافِرِ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمُصَنِّفُ سَاكِتًا عَنْ الْمُؤْمِنِ الْعَاصِي، وَلَا يَلْزَمُ عَلَى ذَلِكَ شَيْءٌ اهـ، كَلَامُ عج أَقُولُ لَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِ الرُّؤْيَةِ عَلَى حَقِيقَتِهَا وَتَفْسِيرُ الطِّيبِيُّ لَيْسَ بِلَازِمٍ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا نَذْكُرُهُ قَرِيبًا، فَكَلَامُ الشَّارِحِ صَحِيحٌ. [قَوْلُهُ: أَيْ غَيْرُ فَانِيَةٍ] قَالَ عج: هَذَا مَا اسْتَظْهَرَهُ السُّبْكِيُّ فَهِيَ مِمَّا اسْتَثْنَاهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ إلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ [قَوْلُهُ: لَيْسَ بِفَنَاءٍ مَحْضٍ] أَيْ لَيْسَ مُلْتَبِسًا بِفِنَاءٍ مَحْضٍ أَيْ لِلرُّوحِ، وَقَوْلُهُ وَإِنَّمَا هُوَ أَيْ الْمَوْتُ ذُو انْتِقَالٍ أَيْ لِلرُّوحِ مِنْ حَالٍ وَهِيَ كَوْنُهَا قَارَّةً فِي الْجِسْمِ إلَى حَالٍ وَهِيَ كَوْنُهَا حَالَّةً فِي الْبَرْزَخِ.
[قَوْلُهُ: بِرُؤْيَتِهَا إلَخْ] أَيْ رُؤْيَتِهَا فِي الْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ فَقَطْ كَمَا فِي الْحَدِيثِ، إذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ إلَخْ، لَكِنْ هَلْ الْمُرَادُ بِعَرْضِ مَقْعَدِهِ فِي الْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ غَدَاةَ كُلِّ يَوْمٍ وَعَشِيَّةَ كُلِّ يَوْمٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ غَدَاةُ يَوْمٍ وَاحِدٍ وَعَشِيَّةُ يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَعَلَيْهِ فَلَا يُنَعَّمُ الْمُؤْمِنُ فِي قَبْرِهِ إلَّا يَوْمًا وَاحِدًا وَلَا يُعَذَّبُ الْكَافِرُ فِيهِ إلَّا يَوْمًا وَاحِدًا، احْتِمَالَانِ ذَكَرَهُمَا فِي حَاشِيَةِ الْجَامِعِ، أَقُولُ وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ يُقَوِّي الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: ثُمَّ إنَّ ظَاهِرَ الْأَحَادِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَقْعَدَ الَّذِي يُعْرَضُ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ حَقِيقَةً لَا مِثْلَهُ، وَكَلَامُ الطِّيبِيِّ يُفِيدُ أَنَّ الَّذِي يُعْرَضُ عَلَيْهِ مِثْلَهُ اهـ.
وَاَلَّذِي يَنْبَغِي الْمَصِيرُ إلَيْهِ الْأَوَّلُ إذْ لَا مَانِعَ يَمْنَعُهُ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ مَا حَاصِلُهُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الَّذِي أَرَادَ اللَّهُ تَعْذِيبَهُ، أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ مِنْ الْجَنَّةِ يُحْتَمَلُ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ مِنْ النَّارِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُك، مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ حَيْثُ عَصَيْت، ثُمَّ أَقُولُ أَيْضًا وَظَاهِرُ عِبَارَةِ الشَّارِحِ أَنَّ التَّنْعِيمَ لَيْسَ إلَّا بِرُؤْيَةِ الْمَقْعَدِ فِي الْجَنَّةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ مِنْ نَعِيمِهِ كَمَا أَفَادَهُ اللَّقَانِيُّ تَوْسِيعُهُ فَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ يُفْسَحُ لِلْمُؤْمِنِ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا فِي مِثْلِهَا وَفِي أُخْرَى مَدُّ الْبَصَرِ.
وَفِي أُخْرَى أَنَّ الْغَرِيبَ يُفْسَحُ لَهُ فِيهِ إلَى بَلَدِهِ وَمِنْ نَعِيمِهِ جَعْلُ قِنْدِيلٍ فِيهِ وَإِمْلَاؤُهُ خَضِرًا بِفَتْحِ الْخَاءِ وَكَسْرِ الضَّادِ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يُمْلَأُ عَلَيْهِ نِعَمًا غَضَّةً نَاعِمَةً اهـ.
وَظَاهِرُ أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّقَانِيُّ فِي الْمُؤْمِنِ الطَّائِعِ لَا فِي مُطْلَقِ مُؤْمِنٍ، بِخِلَافِ رُؤْيَةِ الْمَقْعَدِ فِي الْجَنَّةِ فَفِي كُلِّ مُؤْمِنٍ وَلَوْ عَاصِيًا.
[قَوْلُهُ: إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ] ظَاهِرُهُ أَنَّ ذَلِكَ النَّعِيمَ، وَهُوَ رُؤْيَةُ الْمَقْعَدِ فِي الْجَنَّةِ يَنْقَطِعُ فِي الْمَوْقِفِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّنْعِيمَ بِالْقِنْدِيلِ وَنَحْوِهِ مُنْقَطِعٌ أَيْضًا فِي الْمَوْقِفِ وَيُنَعَّمُ بِنِعَمٍ أُخَرَ. [قَوْلُهُ: مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ] لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا جَمْعٌ فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يُعَذَّبُ بِجَمْعٍ لَا بِنَوْعٍ وَلَا بِنَوْعَيْنِ، وَهَلْ
جَمْعُ رُوحٍ وَهِيَ مُرَادِفَةٌ لِلنَّفْسِ عَلَى الصَّحِيحِ وَهِيَ مُحْدَثَةٌ مَخْلُوقَةٌ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَاخْتُلِفَ هَلْ هِيَ مَخْلُوقَةٌ قَبْلَ الْجَسَدِ أَوْ بَعْدَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ حَقِيقَتُهَا غَيْرُ مَعْلُومَةٍ عَلَى مَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَكْثَرُ السَّلَفِ، وَهِيَ مِمَّا
ــ
[حاشية العدوي]
الْأَنْوَاعُ فِي الْكُفَّارِ مُتَّحِدَةٌ أَوْ إنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ قُوَّةً وَضَعْفًا بِحَسَبِ الْكُفَّارِ، تَفْوِيضُ ذَلِكَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى. [قَوْلُهُ: إلَى يَوْمِ الدِّينِ] أَيْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَيْ مَا عَدَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَتَهَا وَجَمِيعَ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَمَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ كَمَا قَالَ النَّسَفِيُّ فِي بَحْرِ الْكَلَامِ أَنَّ الْكُفَّارَ يُرْفَعُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَتَهَا وَجَمِيعَ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَلِمَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ إنَّ لِلْكُفَّارِ هَجْعَةً، أَيْ بَيْن النَّفْخَتَيْنِ يَجِدُونَ فِيهَا طَعْمَ النَّوْمِ، فَإِذَا صِيحَ بِأَهْلِ الْقُبُورِ قَالُوا: يَا وَيْلَنَا، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ الْعَاصِي فَقَدْ قَالَ النَّسَفِيُّ إنَّهُ يُرْفَعُ عَنْهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ وَيَوْمَهَا، ثُمَّ لَا يَعُودُ إلَيْهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَإِذَا مَاتَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ لَيْلَتَهَا يَكُونُ لَهُ الْعَذَابُ سَاعَةً وَاحِدَةً.
قَالَ عج قَالَ شَيْخُنَا: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عُصَاةَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يُعَذَّبُونَ سِوَى جُمُعَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ دُونِهَا وَأَنَّهُمْ إذَا وَصَلُوا إلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ انْقَطَعَ، ثُمَّ يَعُودُ قَالَ وَهُوَ يَحْتَاجُ لِدَلِيلٍ، قُلْت وَحَدِيثُ حُمَيْدٍ يُفِيدُ أَنَّ مَنْ مَاتَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ لَيْلَتَهَا لَا يُعَذَّبُ وَيَتَبَادَرُ مِنْهُ، أَنَّهُ لَا يَعُودُ إلَيْهِ الْعَذَابُ فَهُوَ يُوَافِقُ مَا لِلنَّسَفِيِّ، فِي عَدَمِ الْعَوْدِ اهـ.
الْمَقْصُودُ مِنْ كَلَامِ عج أَقُولُ وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا يُخَالِفُ، مَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ الْقَيِّمِ مِنْ أَنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ قِسْمَانِ دَائِمٌ وَهُوَ عَذَابُ الْكُفَّارِ وَبَعْضِ الْعُصَاةِ، وَمُنْقَطِعٌ وَهُوَ عَذَابُ مَنْ خَفَّتْ جَرَائِمُهُمْ مِنْ الْعُصَاةِ فَإِنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ بِحَسَبِهَا ثُمَّ يُرْفَعُ عَنْهُمْ بِدُعَاءٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ اهـ، قُلْت وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ حَدِيثَ حُمَيْدٍ وَهُوَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ مُسْلِمَةٍ يَمُوتُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ أَوْ يَوْمَهَا إلَّا وُقِيَ عَذَابَ الْقَبْرِ وَفِتْنَةَ الْقَبْرِ وَلَقِيَ اللَّهَ وَلَا حِسَابَ عَلَيْهِ وَجَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَعَهُ شُهُودٌ يَشْهَدُونَ لَهُ» اهـ.
وَارِدٌ فِي بَعْضِ الْعُصَاةِ وَهُوَ مَنْ مَاتَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ أَوْ يَوْمَهَا وَيُحْمَلُ قَوْلُ النَّسَفِيِّ ثُمَّ لَا يَعُودُ عَلَى بَعْضِهِمْ لَا كُلِّهِمْ وَيُحْمَلُ كَلَامُ ابْنِ الْقَيِّمِ عَلَى بَعْضٍ آخَرَ فَيَلْتَئِمُ مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ.
تَتِمَّةٌ قَالَ تت: قَوْلُهُ إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ مَعَ قَوْلِهِ إلَى يَوْمِ إلَخْ الْمُغَايَرَةُ بَيْنهمَا لِلتَّفَنُّنِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذَا الْعَذَابَ الْمَخْصُوصَ إلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَإِذَا جَاءَ يَوْمُ الْبَعْثِ عُذِّبَ عَذَابًا آخَرَ. [قَوْلُهُ: وَهِيَ مُرَادِفَةٌ إلَخْ] وَمُقَابِلُ هَذَا الصَّحِيحِ مَا قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ هُمَا شَيْئَانِ فَالرُّوحُ هُوَ النَّفْسُ الْمُتَرَدِّدُ فِي الْإِنْسَانِ وَالنَّفْسُ هِيَ الَّتِي يُقَالُ: لَهَا جَسَدٌ مُجَسَّدَةً لَهَا يَدَانِ وَرِجْلَانِ وَعَيْنَانِ وَرَأْسٌ، وَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَلْتَذُّ وَتَفْرَحُ وَتَتَأَلَّمُ وَتَحْزَنُ وَأَنَّهَا الَّتِي تُتَوَفَّى فِي الْمَنَامِ وَتَخْرُجُ وَتَسْرَحُ وَتَرَى الرُّؤْيَا إلَى آخِرِ كَلَامِهِ. [قَوْلُهُ: مَخْلُوقَةٌ] تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ مُحْدَثَةٌ.
[قَوْلُهُ: بِإِجْمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ] لَا يَخْفَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِأَهْلِ السُّنَّةِ مَا قَابَلَ الْمُعْتَزِلَةِ؛ لِأَنَّهُمْ يُوَافِقُونَا عَلَى أَنَّ الْأَرْوَاحَ حَادِثَةٌ، فَمُرَادُهُ هُنَا بِأَهْلِ السُّنَّةِ الْإِسْلَامِيُّونَ؛ لِأَنَّ الْمُخَالِفَ فِي ذَلِكَ كَافِرٌ الَّذِينَ هُمْ الزَّنَادِقَةُ كَمَا أَشَارَ لَهُ تت. [قَوْلُهُ: عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ] الْأَوَّلُ جَزَمَ بِهِ ابْنُ حَزْمٍ مُدَّعِيًا فِيهِ الْإِجْمَاعَ وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثٍ إسْنَادُهُ ضَعِيفٌ جِدًّا وَهُوَ «أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ أَرْوَاحَ الْعِبَادِ قَبْلَ الْعِبَادِ بِأَلْفَيْ عَامٍ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ» وَاسْتَدَلَّ لِلثَّانِي بِخَبَرِ ابْنِ مَسْعُودٍ، «إنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ ثُمَّ يُرْسَلُ إلَيْهِ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ» ، وَأُجِيبُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ نَفْخِ الرُّوحِ وَخَلْقِهِ فَالرُّوحُ مَخْلُوقَةٌ مِنْ زَمَنٍ طَوِيلٍ وَأُرْسِلَتْ بَعْدَ تَصْوِيرِ الْبَدَنِ مَعَ الْمَلَكِ لِإِدْخَالِهَا فِي الْبَدَنِ كَمَا ذَكَرَهُ تت إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ، فَقَوْلُ الشَّارِحِ قَبْلَ الْجَسَدِ أَيْ قَبْلَ جِنْسِ الْجَسَدِ وَقَوْلُهُ وَبَعْدَهُ أَيْ بَعْدَ جَسَدِهَا الْمُعَيَّنِ لَهَا [قَوْلُهُ: حَقِيقَتُهَا غَيْرُ مَعْلُومَةٍ] أَيْ لِكُلِّ أَحَدٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ وَهِيَ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ وَلِذَلِكَ يُنْدَبُ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْخَوْضِ فِي حَقِيقَتِهَا بِالْجِنْسِ وَالنَّوْعِ، فَلَا يَنْبَغِي التَّكَلُّمُ عَنْهَا بِأَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا مَوْجُودَةٌ، وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ هِيَ الْمُخْتَارَةُ كَمَا قَالَهُ اللَّقَانِيُّ: نَعَمْ مُقْتَضَى الِاسْتِئْثَارِ أَنَّهُ كَانَ يَجِبُ الْإِمْسَاكُ لَا يُنْدَبُ، وَقِيلَ: إنَّهَا جِسْمٌ لَطِيفٌ مُشْتَبِكٌ
اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ وَمَقَرُّ الرُّوحِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ الْقَلْبُ وَبَعْدَ الْوَفَاةِ مُخْتَلَفٌ فَأَرْوَاحُ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الْجَنَّةِ، وَأَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ فِي حَوَاصِلِ طُيُورٍ خُضْرٍ تَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ وَتَشْرَبُ مِنْ أَنْهَارِهَا، وَأَرْوَاحُ السُّعَدَاءِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَفْنِيَةِ الْقُبُورِ وَتَسْرَحُ حَيْثُ شَاءَتْ.
(وَ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ (أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُفْتَنُونَ) أَيْ يُخْتَبَرُونَ (فِي قُبُورِهِمْ) الْمُرَادُ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ سُؤَالُ الْمَلَكَيْنِ مُنْكَرٌ بِفَتْحِ الْكَافِ وَنَكِيرٌ فَقَوْل الشَّيْخِ: (وَيُسْأَلُونَ) تَفْسِيرٌ لِيُفْتَنُونَ
ــ
[حاشية العدوي]
بِالْأَجْسَامِ الْكَثِيفَةِ اشْتِبَاكَ الْمَاءِ بِالْعُودِ الْأَخْضَرِ قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَقِيلَ غَيْرَ ذَلِكَ. [قَوْلُهُ: وَهِيَ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ] أَيْ فَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا نَبِيٌّ وَلَا وَلِيٌّ وَلَا مَلَكٌ.
قَالَ اللَّقَانِيُّ: وَالْحَقُّ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقْبِضْ نَبِيَّهُ حَتَّى أَطْلَعَهُ عَلَى كُلِّ مَا أَبْهَمَهُ عَنْهُ إلَّا أَنَّهُ أَمَرَهُ بِكَتْمِ بَعْضٍ وَالْإِعْلَامِ بِبَعْضٍ. [قَوْلُهُ: وَمَقَرُّ الرُّوحِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ إلَخْ] الصَّوَابُ عَدَمُ الْجَزْمِ بِكَوْنِهَا فِي مَحَلٍّ مَخْصُوصٍ مِنْ الْبَدَنِ كَمَا أَفَادَهُ الْعُلَمَاءُ، وَإِنْ جَزَمَ الْغَزَالِيُّ بِأَنَّ مَحَلَّهَا الْقَلْبُ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّقَانِيُّ: وَالْحَقُّ عَلَى طَرِيقِ الْوَقْفِ أَيْ الْوَقْفِ عَنْ مَحَلِّ اسْتِقْرَارِهَا، وَعَلَى طَرِيقِ التَّعْيِينِ تَجْرِي هَذِهِ الْأَقْوَالُ أَيْ كَوْنُ مَحَلِّهَا الْبَطْنُ أَوْ بِقُرْبِ الْقَلْبِ أَوْ بِالْقَلْبِ، ثُمَّ قَالَ اللَّقَانِيُّ: وَالصَّوَابُ أَنَّ مَحَلَّهَا الْجَسَدُ كُلُّهُ اهـ.
أَيْ إنْ مَرَرْنَا عَلَى طَرِيقِ التَّعْيِينِ [قَوْلُهُ: فِي الْجَنَّةِ] لَمْ يُبَيِّنْ أَيَّ جَنَّةٍ، وَاَلَّذِي يَأْتِي عَلَى مَا نَقُولُ مِنْ أَنَّ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ تَصِلُ إلَى عِلِّيِّينَ أَنْ تَكُونَ أَرْوَاحُ الْأَنْبِيَاءِ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ؛ لِأَنَّهُمْ أَعْظَمُ. [قَوْلُهُ: فِي حَوَاصِلِ طُيُورٍ إلَخْ] فِي بِمَعْنَى عَلَى كَقَوْلِهِ {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] أَوْ لَا مَانِعَ مِنْ بَقَائِهَا عَلَى ظَاهِرِهَا وَيُوَسِّعُهَا اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى تَكُونَ أَوْسَعَ مِنْ الْفَضَاءِ، فَإِنْ قُلْت: كَيْفَ يَصِلُ لَهَا الْغِذَاءُ وَهِيَ فِيهَا عَلَى هَذَا؟ قُلْت: مِنْ خَلْقِهَا كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَبِذَلِكَ انْدَفَعَ مَا يُقَالُ: إنَّهَا إذَا كَانَتْ فِي الْحَوَاصِلِ تَكُونُ مَحْصُورَةً.
[قَوْلُهُ: عَلَى أَفْنِيَةِ الْقُبُورِ] أَيْ لَا عَلَى الدَّوَامِ، وَالْأَفْنِيَةُ جَمْعُ فِنَاءٍ مِثْلُ كِتَابِ الْوَصِيدِ وَهُوَ سِعَةٌ أَمَامَ الْبَيْتِ، وَقِيلَ: مَا امْتَدَّ مِنْ جَوَانِبِهَا قَالَهُ فِي الْمِصْبَاحِ. وَالْمُرَادُ هُنَا مَا حَوْلَ الْقَبْرِ. وَقِيلَ: إنَّهَا فِي الْبَرْزَخِ عِنْدَ آدَمَ عليه السلام فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْإِسْرَاءِ حِينَ رَأَى صلى الله عليه وسلم عَنْ يَمِينِ آدَمَ أَهْلَ السَّعَادَةِ، وَعَنْ يَسَارِهِ أَهْلَ الشَّقَاوَةِ، وَفِي الْهِدَايَةِ لِمَكِّيٍّ: أَنَّ أَرْوَاحَ الْكُفَّارِ فِي سِجِّينٍ وَهِيَ الْأَرْضُ السَّابِعَةُ السُّفْلَى.
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ فِي عِلِّيِّينَ وَأَرْوَاحُ الْكُفَّارِ فِي سِجِّينٍ، وَقِيلَ: مِنْ الْقَبْرِ إلَى عِلِّيِّينَ لِأَرْوَاحِ أَهْلِ السَّعَادَةِ أَقُولُ حَامِدًا الْمَوْلَى: يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ تِلْكَ الْأَقْوَالِ بِالْقَوْلِ الْأَخِيرِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ مَنْ قَالَ: بِالْأَفْنِيَةِ أَيْ قَدْ تَكُونُ عَلَى الْأَفْنِيَةِ وَتَجُولُ فِي الْمَلَكُوتِ، فَمِنْهُمْ مِنْ يَصِلُ إلَى عِلِّيِّينَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ «عَنْ يَمِينِ آدَمَ أَهْلُ السَّعَادَةِ» أَنَّهَا اجْتَمَعَتْ إذْ ذَاكَ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ أَنَّهَا فِي حِذَاءِ يَمِينِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ كُلُّهَا مُسْتَقِرَّةً فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَكَذَا يُقَالُ: فِي أَهْلِ الشَّقَاوَةِ، وَخُلَاصَتُهُ أَنَّ أَرْوَاحَ أَهْلِ السَّعَادَةِ تَتَفَاوَتُ فِي جِهَةِ الْعُلُوِّ إلَى أَنْ تَصِلَ إلَى عِلِّيِّينَ، وَأَرْوَاحُ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ تَتَفَاوَتُ إلَى جِهَةِ السُّفْلِ إلَى سِجِّينٍ، وَرُبَّمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَالَهُ الشَّارِحُ فِي تَحْقِيقِ الْمَبَانِي، وَنَصُّهُ قَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ: وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْأَرْوَاحِ سَعِيدُهَا وَشَقِيُّهَا مُسْتَقَرٌّ وَاحِدٌ وَلِكُلِّهَا عَلَى اخْتِلَافِ مَحَلِّهَا وَتَبَايُنِ مُقَارِّهَا اتِّصَالٌ بِأَجْسَادِهَا فِي قُبُورِهَا لِيَحْصُلَ لَهُمْ مِنْ النَّعِيمِ أَوْ الْعَذَابِ مَا كُتِبَ لَهُمْ اهـ.
[قَوْلُهُ: وَمِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ إلَخْ] فَلَوْ أَنْكَرَ هَذَا الْوَاجِبَ وَهُوَ سُؤَالُ الْمَلَكَيْنِ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ، فَإِنْ لَمْ يَتُبْ لَمْ يُقْتَلْ وَيُضْرَبُ كَمَا قَالَ ابْنُ الْحَاجِّ.
[قَوْلُهُ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إلَخْ] ظَاهِرُهُ شُمُولُهُ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ وَلَوْ مِنْ الْجِنِّ وَهُوَ كَذَلِكَ، فَقَدْ جَزَمَ بِهِ السُّيُوطِيّ مُعَلِّلًا ذَلِكَ بِتَكْلِيفِهِمْ وَعُمُومِ أَدِلَّةِ السُّؤَالِ، وَجَزَمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِاخْتِصَاصِ السُّؤَالِ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ.
وَقَالَ عج: وَالصَّحِيحُ أَنَّ السُّؤَالَ خَاصٌّ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ الْأُمَمِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ شَامِلٌ لِلْأُمَمِ السَّابِقَةِ أَيْ قَوْلُ ابْنِ الْقَيِّمِ الْقَائِلِ: كُلُّ نَبِيٍّ مَعَ أُمَّتِهِ كَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ. [قَوْلُهُ: الْمُرَادُ بِهِ] أَيْ بِالِافْتِتَانِ الْمَأْخُوذِ مِنْ قَوْلُهُ يُفْتَنُونَ [قَوْلُهُ: سُؤَالُ الْمَلَكَيْنِ] لَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يُطَابِقُ قَوْلَهُ أَيْ
وَدَلِيلُ مَا قَالَ قَوْله تَعَالَى {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [إبراهيم: 27] وَهُوَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ (وَفِي الْآخِرَةِ) السُّؤَالُ فِي الْقَبْرِ.
(تَنْبِيهَاتٌ)
الْأَوَّلُ: ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ أَنَّ الْكَافِرَ لَا يُسْأَلُ وَهُوَ كَذَلِكَ عِنْدَ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَابْنُ الْقَيِّمِ: بَلْ يُسْأَلُ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُنَافِقَ يُسْأَلُ.
الثَّانِي: قَوْلُهُ فِي قُبُورِهِمْ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ لَا مَفْهُومَ لَهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَيِّتٍ يُسْأَلُ قُبِرَ أَوْ لَمْ يُقْبَرْ تَفَرَّقَتْ أَجْزَاؤُهُ أَوْ لَا خُصَّ مِنْ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الشُّهَدَاءُ.
الثَّالِثُ: الْأَخْبَارُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفِتْنَةَ مَرَّةً وَاحِدَةً وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يُفْتَنُ سَبْعًا وَالْمُنَافِقَ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا.
الرَّابِعُ: سُئِلَ ابْنُ حَجَرٍ: هَلْ تَلْبِسُ
ــ
[حاشية العدوي]
يُخْتَبَرُونَ؛ لِأَنَّهُ الِامْتِحَانُ وَهُوَ حَاصِلٌ بِالسُّؤَالِ لَا أَنَّهُ نَفْسُ السُّؤَالِ فَفِي الْعِبَارَةِ تَسَمُّحٌ. [قَوْلُهُ: مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ] سُمِّيَا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ خَلْقَهُمَا لَا يُشْبِهُ خَلْقَ أَحَدِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ بَلْ لَهُمَا خَلْقٌ بَدِيعٌ وَلَيْسَ فِي خَلْقِهِمَا أُنْسٌ لِلنَّاظِرِينَ، فَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «أَنَّهُمَا أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ أَعْيُنُهُمَا كَالْبَرْقِ وَصَوْتُهُمَا كَالرَّعْدِ إذَا تَكَلَّمَا خَرَجَ مِنْ أَفْوَاهِهِمَا النَّارُ» .
قَالَ الْعُلَمَاءُ: جَعَلَهُمَا اللَّهُ تَكْرِمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَهَتْكًا لِلْكَافِرِينَ بِيَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِرْزَبَّةٌ لَوْ وُضِعَتْ عَلَى جِبَالِ الدُّنْيَا لَذَابَتْ مِنْهَا، وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ مِنْهَا:«أَنَّ الْمَرْءَ إذَا مَاتَ أُجْلِسَ فِي قَبْرِهِ فَيُقَالُ لَهُ: مَنْ رَبُّك وَمَا دِينُك وَمَنْ نَبِيُّك؟ فَيَقُولُ: رَبِّي اللَّهُ وَدِينِي الْإِسْلَامُ وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ، فَيُوَسَّعُ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ إذَا أُدْخِلَ فِي قَبْرِهِ أُجْلِسَ قِيلَ لَهُ: مَنْ رَبُّك وَمَا دِينُك وَمَنْ نَبِيُّك؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي فَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ وَيُعَذَّبُ فِيهِ» . وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «يُضْرَبُ بِمِطْرَاقٍ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيه إلَّا الثَّقَلَانِ» ، وَاعْلَمْ أَنَّ السُّؤَالَ مُخْتَلِفٌ بِحَسَبِ الْأَشْخَاصِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَسْأَلَانِهِ مَعًا وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْأَلُهُ أَحَدُهُمَا. [قَوْلُهُ: وَهُوَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ] أَيْ مَعَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَ ذَلِكَ كَمَا أَفَادَهُ عج [قَوْلُهُ: السُّؤَالُ فِي الْقَبْرِ] أَيْ جَوَابُ السُّؤَالِ فِي الْقَبْرِ فَلَا بُدَّ مِنْ حَذْفِ ذَلِكَ الْمُضَافِ [قَوْلُهُ: وَهُوَ كَذَلِكَ عِنْدَ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ] وَاعْتَمَدَهُ السُّيُوطِيّ [قَوْلُهُ: وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَابْنُ الْقَيِّمِ بَلْ يُسْأَلُ] وَصَحَّحَهُ بَعْضُهُمْ فَلَا يَنْبَغِي الشَّكُّ فِي سُؤَالِهِمْ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ بَعْضٌ؛ لِأَنَّ السُّؤَالَ فِتْنَةٌ وَعَذَابٌ، وَهُمْ بِذَلِكَ أَحْرَى مِنْ الْمُسْلِمِ. [قَوْلُهُ: أَنَّ الْمُنَافِقَ يُسْأَلُ] أَيْ فَالْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِينَ وَلَوْ ظَاهِرًا [قَوْلُهُ: خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ] أَيْ أَوْ يُقَالُ قَبْرُ كُلِّ إنْسَانٍ مَكَانَهُ الَّذِي حَلَّ فِيهِ كَمَا أَفَادَهُ تت. [قَوْلُهُ: لَا مَفْهُومَ لَهُ] الْأَوْلَى الْإِتْيَانُ بِالْفَاءِ التَّفْرِيعِيَّةِ مِنْ أَنَّ مَنْ تَفَرَّقَتْ أَجْزَاؤُهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ تَعَالَى الْحَيَاةَ فِي الْأَجْزَاءِ أَيْ وَيُعِيدَهُ كَمَا كَانَ كَمَا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّ سُؤَالَهُ بَعْدَ جَمْعِ أَجْزَائِهِ لَا فِي حَالِ تَفَرُّقِهَا.
[قَوْلُهُ: مِنْهُمْ الشُّهَدَاءُ] وَلَوْ شُهَدَاءُ آخِرَةٍ فَقَطْ، أَيْ وَمِنْهُمْ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرَابِطُونَ وَالْمَيِّتُ بِالطَّاعُونِ أَوْ فِي زَمَنِهِ وَلَوْ بِغَيْرِ طَعْنٍ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، وَالْمَيِّتُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ وَيَدْخُلُ بِزَوَالِ شَمْسِ الْخَمِيسِ وَيَوْمِهَا، وَالْمَلَائِكَةُ وَقَارِئُ سُورَةِ تَبَارَكَ الْمُلْكِ كُلَّ لَيْلَةٍ وَقَارِئُ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ فِي زَمَنِ مَوْتِهِ، وَتَوَقَّفَ الْفَاكِهَانِيُّ فِي أَهْلِ الْفَتْرَةِ وَالْمَجَانِينِ وَالْبُلْهِ وَفِي الْأَطْفَالِ قَوْلَانِ.
قَالَ اللَّقَانِيُّ: وَأَقُولُ الْحَقُّ عِنْدِي فِي مَسْأَلَةِ الْأَطْفَالِ الْوَقْفُ إذْ لَيْسَ فِيهَا خَبَرٌ مَقْطُوعٌ بِهِ اهـ.
[قَوْلُهُ: وَعَنْ بَعْضِهِمْ] كَلَامُهُ يُؤْذَنُ بِضَعْفِهِ، وَفِي كَلَامِ السُّيُوطِيِّ وَشَارِحِهِ مَا يُفِيدُ اعْتِمَادُهُ لِنَقْلِهِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ، وَلَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ وَقِيلَ: ثَلَاثًا فَالْأَقْوَالُ ثَلَاثَةٌ.
قَالَ شَارِحُ السُّيُوطِيِّ: وَحِكْمَةُ الثَّلَاثِ أَوْ السَّبْعِ أَنَّ الشَّارِعَ نَاظِرٌ إلَيْهَا فَمَا أُمِرَ بِتَكْرِيرِهِ فَهُوَ فِي الْغَالِبِ ثَلَاثًا فَإِذَا أَرَادَ الْمُبَالَغَةَ فِي تَكَرُّرِهِ كُرِّرَ سَبْعًا، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْفِتْنَةُ أَشَدَّ شَيْءٍ يُعْرَضُ عَلَى الْمُؤْمِنِ جُعِلَ تَكْرِيرُهَا سَبْعًا؛ لِأَنَّهُ أَشَدُّ نَوْعَيْ التَّكْرِيرِ وَأَبْلَغُهُ، وَفِيهِ مُنَاسَبَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الْحِسَابَ يَقَعُ فِي الْمَوْقِفِ عَلَى سَبْعِ قَنَاطِرَ، وَيُرْوَى سَبْعِ عَقَبَاتٍ فَكَانَ السُّؤَالُ فِي الْقَبْرِ فِي سَبْعَةِ أَيَّامٍ عَلَى نَمَطِ السُّؤَالِ فِي الْمَوْقِفِ فِي سَبْعَةِ أَمْكِنَةٍ اهـ.
[قَوْلُهُ: وَالْمُنَافِقُ] زَادَ تت: وَالْكَافِرُ قَالَ ابْنُ نَاجِي: وَلَا غَرَابَةَ فِي سُؤَالِهِمَا مَرَّةً وَاحِدَةً
الرُّوحُ الْجُثَّةَ كَمَا كَانَتْ؟
فَأَجَابَ: نَعَمْ لَكِنْ ظَاهِرُ الْخَبَرِ أَنَّهَا تَحِلُّ فِي نِصْفِهِ الْأَعْلَى.
الْخَامِسُ: ضَغْطَةُ الْقَبْرِ وَهِيَ الْتِقَاءُ حَافَّتَيْهِ عَلَى جَسَدِ الْمَيِّتِ لَمْ يَنْجُ مِنْهَا أَحَدٌ كَمَا أَخْبَرَ عليه الصلاة والسلام إلَّا فَاطِمَةُ بِنْتُ أَسَدٍ، وَمَنْ قَرَأَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ كَمَا وَرَدَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام.
(وَ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ (أَنَّ عَلَى الْعِبَادِ) إنْسِهِمْ وَجِنِّهِمْ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ ذُكُورًا وَإِنَاثًا أَحْرَارًا وَأَرِقَّاءَ مِنْ وَقْتِ
ــ
[حاشية العدوي]
لِلْجَمِّ الْغَفِيرِ فِي أَقَالِيمَ مُخْتَلِفَةٍ، فَيُخَيَّلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ أَنَّهُ الْمُخَاطَبُ دُونَ غَيْرِهِ، وَيَحْجُبُ اللَّهُ سَمْعَهُ مِنْ مُخَاطَبَةِ الْمَوْتَى لَهُمْ. [قَوْلُهُ: صَبَاحًا] الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا وَوَقَعَ التَّعْبِيرُ بِهِ أَيْ بِالْيَوْمِ مِرَارًا فِي عِبَارَةِ شَارِحِ السُّيُوطِيِّ، وَذَكَرَ السُّيُوطِيّ أَنَّهُ لَمْ يَقِفْ عَلَى تَعْيِينِ وَقْتِ السُّؤَالِ فِي غَيْرِ يَوْمِ الدَّفْنِ. [قَوْلُهُ: لَكِنَّ ظَاهِرَ الْخَبَرِ أَنَّهَا تَحِلُّ إلَخْ] حَاصِلُهُ أَنَّ ابْنَ حَجَرٍ يَقُولُ: إنَّ الرُّوحَ تُعَادُ لِلْبَدَنِ وَقْتَ السُّؤَالِ إلَّا أَنَّهَا وَإِنْ عَادَتْ إلَى الْبَدَنِ لَا لِكُلِّهِ بَلْ لِنِصْفِهِ الْأَعْلَى كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْخَبَرِ، وَلَعَلَّهُ قَصَدَ قَوْلَهُ فِي الْحَدِيثِ «فَيُقْعِدَانِهِ» فَإِنَّ شَارِحَ السُّيُوطِيِّ ذَكَرَ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً، وَظَهَرَ لِي مِنْهَا أَنَّ الظُّهُورَ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ.
[قَوْلُهُ: لَمْ يَنْجُ مِنْهَا أَحَدٌ] أَيْ حَتَّى الْأَطْفَالَ، فَعَنْ أَنَسٍ أَنْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَا عُفِيَ أَحَدٌ مِنْ ضَغْطَةِ الْقَبْرِ إلَّا فَاطِمَةُ بِنْتُ أَسَدٍ أَيْ أُمُّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الْقَاسِمُ أَيْ ابْنُهُ؟ وَلَا إبْرَاهِيمُ» وَكَانَ أَصْغَرَهُمَا، نَعَمْ يُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الْعُمُومِ الْأَنْبِيَاءُ فَلَا يُضْغَطُونَ فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَهُ: كَمَا وَرَدَ رَاجِعٌ لِلْأَمْرَيْنِ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَسَدٍ وَمَنْ قَرَأَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] فَإِنْ قُلْت: مَا السِّرُّ فِي سَلَامَةِ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَسَدٍ مِنْ ضَغْطَةِ الْقَبْرِ؟ قُلْت: حُصُولُ بَرَكَةِ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم لَهَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُهُمْ، وَذَلِكَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَزَلَ قَبْرَهَا وَنَزَعَ قَمِيصَهُ صلى الله عليه وسلم وَتَمَعَّكَ فِي لَحْدِهَا ثُمَّ خَرَجَ، فَسَأَلُوهُ عَنْ نَزْعِ قَمِيصِهِ وَتَمَعُّكِهِ فِي لَحْدِهَا فَقَالَ: أَرَدْت أَنْ لَا تَمَسَّهَا النَّارُ أَبَدًا إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَأَنْ يُوَسَّعَ عَلَيْهَا قَبْرُهَا» وَقَالَ مَا تَقَدَّمَ عَنْهُ.
تَتِمَّةٌ يَحْتَاجُ الْحَالُ إلَيْهَا هُوَ أَنَّ النَّسَفِيَّ قَالَ: الْمُؤْمِنُ لَا يَكُونُ لَهُ عَذَابٌ فِي الْقَبْرِ وَتَكُونُ لَهُ الضَّغْطَةُ، فَيَجِدُ هَوْلَ ذَلِكَ وَخَوْفَهُ لِمَا أَنَّهُ تَنَعَّمَ بِنِعَمِ اللَّهِ وَلَمْ يَشْكُرْ وَوَرَدَ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: كَانَ يُقَالُ: ضَمَّةُ الْقَبْرِ إنَّهَا أُمُّهُمْ وَمِنْهَا خُلِقُوا فَغَابُوا عَنْهَا الْغَيْبَةَ الطَّوِيلَةَ، فَلَمَّا رُدُّوا إلَيْهَا ضَمَّتْهُمْ ضَمَّةَ الْوَالِدَةِ الَّتِي غَابَ عَنْهَا وَلَدُهَا ثُمَّ قَدِمَ عَلَيْهَا، فَمَنْ كَانَ مُطِيعًا لِلَّهِ تَعَالَى ضَمَّتْهُ بِرِفْقٍ وَرَأْفَةٍ، وَمَنْ كَانَ عَاصِيًا ضَمَّتْهُ بِعُنْفٍ سُخْطًا عَلَيْهِ، وَوَرَدَ أَيْضًا وَإِنَّ ضَغْطَةَ الْقَبْرِ كَالْأُمِّ الشَّفُوقَةِ يَشْكُو إلَيْهَا ابْنُهَا الصُّدَاعَ فَتَغْمُرُ رَأْسَهُ غَمْرًا رَفِيقًا هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلطَّائِعِ، وَأَمَّا الْعَاصِي وَلَوْ مُؤْمِنًا فَقَدْ يُضْغَطُ حَتَّى تَخْتَلِفَ أَضْلَاعُهُ، أَقُولُ: فَإِذَا عَلِمْت ذَلِكَ يَظْهَرُ لَك أَنَّ ثَمَرَةَ قِرَاءَةِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] السَّلَامَةُ مِنْ الضَّغْطَةِ الَّتِي بِهَا اخْتِلَافُ الْأَضْلَاعِ، وَأَمَّا الضَّمَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالطَّائِعِ فَلَا خَوْفَ مَعَهَا كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ مَعَهَا الشَّفَقَةَ وَالرَّأْفَةَ، فَيَظْهَرُ مِنْ ذَلِكَ مُخَالَفَتُهُ لِكَلَامِ النَّسَفِيِّ، وَيَرِدُ حِينَئِذٍ أَنْ يُقَالَ: مَا وَجْهُ اسْتِثْنَاءِ الْأَنْبِيَاءِ؟ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّ الْخَوْفَ مَعَهَا أَوَّلًا فَلَا مُخَالَفَةَ فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: وَمَنْ قَرَأَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] إلَخْ] أَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ قَرَأَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي يَمُوتُ فِيهِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] لَمْ يُفْتَنْ فِي قَبْرِهِ وَأَمِنَ مِنْ ضَغْطَةِ الْقَبْرِ وَحَمَلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَكُفِّهَا حَتَّى يَجُوزَ الصِّرَاطَ إلَى الْجَنَّةِ» اهـ.
[قَوْلُهُ: إنْسِهِمْ وَجِنِّهِمْ] سَكَتَ عَنْ الْمَلَائِكَةِ لَكِنَّ الْجُزُولِيَّ اسْتَبْعَدَ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِمْ حَفَظَةٌ لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ التَّسَلْسُلِ. [قَوْلُهُ: وَكَافِرِهِمْ] لَا يَخْفَى أَنْ هَذَا جَارٍ عَلَى تَكْلِيفِ الْكُفَّارِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، فَإِنْ قُلْت: مَا الَّذِي يَكْتُبُهُ كَاتِبُ الْيَمِينِ مَعَ أَنَّهُ لَا حَسَنَةَ لِلْكَافِرِ قُلْت: لِلْعُلَمَاءِ مَقَالَتَانِ:
الْأَوْلَى: أَنَّ الَّذِي يَكْتُبُ هُوَ صَاحِبُ الشِّمَالِ بِإِذْنِ صَاحِبِ الْيَمِينِ، وَيَكُونُ شَاهِدًا عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكْتُبْ كَمَا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ.
الثَّانِيَةُ: أَنَّ كَاتِبَ الْيَمِينِ يَكْتُبُ حَسَنَاتِ
التَّكْلِيفِ (حَفَظَةً) جَمْعُ حَافِظٍ كَكِتَابٍ وَكَتَبَةٍ (يَكْتُبُونَ أَعْمَالَهُمْ) وَأَقْوَالَهُمْ حَتَّى الْمُبَاحَ وَالْأَنِينَ فِي الْمَرَضِ وَعَمَلِ الْقَلْبِ يَجْعَلُ اللَّهَ لَهُمْ عَلَامَةً عَلَى عَمَلِ الْقَلْبِ يُمَيِّزُونَ بِذَلِكَ بَيْنَ الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ، وَالْأَصْلُ فِيمَا ذُكِرَ قَوْله تَعَالَى
ــ
[حاشية العدوي]
الْكَافِرِ وَإِنْ كَانَ لَا يُثَابُ؛ لِأَنَّ الْكَتْبَ لَا يَتَضَمَّنُ ثَوَابًا وَلَا عِقَابًا وَهِيَ لِلَّقَانِيِّ مُسْتَظْهِرًا لَهَا، وَأَنَا أَقُولُ: لَا مَانِعَ مِنْ كَتْبِ حَسَنَاتِهِ وَثَمَرَتُهَا مَا يَلْحَقُهُ مِنْ تَخْفِيفِ عَذَابٍ غَيْرِ الْكُفْرِ. [قَوْلُهُ: مِنْ وَقْتِ التَّكْلِيفِ إلَخْ] أَمَّا الْإِنْسُ فَوَقْتُ تَكْلِيفِهِمْ الْبُلُوغُ، وَأَمَّا الْجِنُّ فَقَالَ عج: إنَّهُمْ كُلِّفُوا مِنْ أَوَّلِ الْفِطْرَةِ إلَّا أَنَّ الصَّوَابَ عَدَمُ التَّقْيِيدِ بِوَقْتِ التَّكْلِيفِ؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ كَتْبُ حَسَنَاتِ الصَّبِيِّ دُونَ سَيِّئَاتِهِ، وَاسْتَظْهَرَ عج أَنَّ الْكَاتِبَ لِحَسَنَاتِهِ هُوَ الْكَاتِبُ لِلْمُكَلَّفِ وَهُوَ أَحَدُ الْحَافِظِينَ، وَيُحْتَمَلُ غَيْرُهُ وَلَا حَفَظَةَ عَلَى الْمَجْنُونِ؛ لِأَنَّهُ لَا عَمَلَ لَهُ يُكْتَبُ. [قَوْلُهُ: يَكْتُبُونَ إلَخْ] قَالَ عج: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْكِتَابَةَ الَّتِي تَكْتُبُهَا الْمَلَائِكَةُ لَيْسَتْ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْغَزَالِيَّ ذَكَرَ عَنْ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَنَّ الْمَكْتُوبَ عَلَيْهِ لَيْسَ حُرُوفًا.
قَالَ: وَإِنَّمَا ثُبُوتُ الْمَعْلُومَاتِ فِيهِ كَثُبُوتِهَا فِي الْعَقْلِ اهـ.
[قَوْلُهُ: وَأَقْوَالُهُمْ] إشَارَةً إلَى أَنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ قَاصِرٌ وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّهُ أَرَادَ بِالْأَعْمَالِ مَا يَشْمَلُ الْأَقْوَالَ. [قَوْلُهُ: حَتَّى الْمُبَاحَ] أَيْ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا أَيْ فَيَكْتُبُهُ كَاتِبُ السَّيِّئَاتِ، وَقِيلَ: لَا يَكْتُبُونَهُ وَكَذَا الْخِلَافُ فِي الصَّغَائِرِ الْمَغْفُورَةِ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، وَالصَّحِيحُ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْكُتُبِ، وَفَائِدَةُ كَتْبِ الْمُبَاحِ كَمَا فِي عج رَجَاءُ الْكَفِّ عَنْهُ فَإِنَّهُ يُعْرَضُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَعَرْضُ مِثْلِ ذَلِكَ عَلَيْهِ لَا يَلِيقُ، فَإِذَا اسْتَحْضَرَ الْعَبْدُ ذَلِكَ رُبَّمَا انْكَفَّ عَنْهُ.
أَقُولُ: وَيُقَالُ ذَلِكَ بِالْأَوْلَى فِي الصَّغَائِرِ الْمَغْفُورَةِ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ.
[قَوْلُهُ: وَالْأَنِينَ فِي الْمَرَضِ] أَيْ لِمَا رَوَاهُ الْعُلَمَاءُ أَنَّهُمْ يَكْتُبُونَ كُلَّ شَيْءٍ صَدَرَ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِ الْقَصْدِ، أَوْ الذُّهُولِ فِي الصِّحَّةِ أَوْ الْمَرَضِ، وَالْأَنِينُ التَّصْوِيتُ كَمَا يُفِيدُهُ الْمِصْبَاحُ، وَظَاهِرُهُ سَوَاءٌ كَانَ لَهُ مَعْنًى أَمْ لَا.
[قَوْلُهُ: وَعَمَلَ الْقَلْبِ] مَنْصُوبٌ؛ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُبَاحِ، فَإِنْ قُلْت: مَا الْمُرَادُ بِعَمَلِ الْقَلْبِ؟ قُلْت: هُوَ النَّدَمُ وَالْهَمُّ وَالْعَزْمُ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا نُقِلَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَيَأْتِي قَرِيبًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مِثْلَهُ الْعُجْبُ وَنَحْوُهُ أَوْ أَوْلَى فَتَدَبَّرْ. وَحَاصِلُ مَا فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ أَنَّ مَا يَقَعُ فِي النَّفْسِ خَمْسُ مَرَاتِبَ: هَاجِسٌ وَهُوَ مَا يُلْقَى فِيهَا، وَخَاطِرٌ وَهُوَ جَرَيَانُهُ فِيهَا، وَحَدِيثُ نَفْسٍ وَهُوَ تَرَدُّدُهَا هَلْ تَفْعَلُ أَمْ لَا، وَهَمٌّ وَهُوَ تَرْجِيحُ قَصْدِ الْفِعْلِ، وَعَزْمٌ وَهُوَ قُوَّةُ ذَلِكَ الْقَصْدِ وَالْجَزْمِ.
أَمَّا الثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ فَلَا كَتْبَ فِيهَا، وَأَمَّا الرَّابِعَةُ فَتَفْتَرِقُ الْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ فَالْحَسَنَةُ تُكْتَبُ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْهَا مَانِعٌ؛ لِأَنَّ تَرْكَهَا لِنَحْوِ كَسَلٍ، وَالسَّيِّئَةُ لَا تُكْتَبُ وَلَوْ كَانَ الْهَمُّ بِهَا فِي الْمُحَرَّمِ، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ تَرَكَهَا خَوْفَ النَّاسِ أَوْ رِيَاءً أَوْ كَسَلًا أَوْ عَدَمَ شَهْوَةٍ لَمْ يُكْتَبْ لَهُ حَسَنَةٌ، وَإِنْ تَرَكَهَا خَوْفًا مِنْ اللَّهِ أَوْ رَغْبَةً فِيمَا عِنْدَهُ كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ، وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ كَمَا ذَكَرَ اللَّقَانِيُّ أَنَّ مَنْ تَرَكَ عَمَلَ السَّيِّئَةِ خَوْفَ النَّاسِ أَوْ رِيَاءً أَثِمَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْمَخْلُوقِ عَلَى خَوْفِ اللَّهِ حَرَامٌ وَكَذَلِكَ الرِّيَاءُ، وَأَنَّ فِعْلَ تِلْكَ السَّيِّئَةِ الَّتِي هَمَّ بِهَا كُتِبَ الْفِعْلُ وَحْدَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً، وَالْهَمُّ مَرْفُوعٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
وَأَمَّا الْخَامِسُ فَيُكْتَبُ مُطْلَقًا حَسَنَةً وَسَيِّئَةً مَا لَمْ يَكُنْ التَّرْكُ لِخَوْفِ اللَّهِ فَإِنْ تَرَكَهَا حِسْبَةً لَهُ كُتِبَتْ حَسَنَةً بِالْأَوْلَى مِنْ الْهَمِّ وَالْعَزْمِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَإِنْ كُتِبَتْ سَيِّئَةً لَكِنَّهَا لَا تُسَاوِيهَا، فَعَزْمُ كُلٍّ مِنْ الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ لَا يُسَاوِي فِعْلَهَا وَإِنَّمَا هُوَ مُطْلَقُ ذَنْبِ وَسَيِّئَةٍ أُخْرَى، وَالْعَزْمُ عَلَى الْحَسَنَةِ يُسَاوِي الْهَمَّ بِهَا الْوَارِدُ فِي خَبَرِ وَمَنْ هَمَّ بِهَا وَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً أَيْ غَيْرَ نَاقِصَةٍ فِي عِظَمِ الْقَدْرِ لَا التَّضْعِيفِ إلَى الْعَشْرِ، ثُمَّ أَقُولُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعَزْمَ وَإِنْ سَاوَى الْهَمَّ فِي عَدَمِ التَّضْعِيفِ إلَّا أَنَّهُمَا مُتَفَاوِتَانِ كَيْفِيَّةً فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: يَجْعَلُ اللَّهُ إلَخْ] جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، وَقَوْلُهُ: عَمَلَ الْقَلْبِ إظْهَارٌ فِي مَوْضِعِ الْإِضْمَارِ وَالْأَصْلُ يَجْعَلُ اللَّهُ لَهُمْ عَلَامَةً عَلَيْهِ. [قَوْلُهُ: يُمَيِّزُونَ بِذَلِكَ] ذُكِرَ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهَا بِمَعْنَى شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْمُنَاسِبَ أَنْ يَقُولَ بِهَا أَيْ بِالْعَلَامَةِ، وَتِلْكَ الْعَلَامَةُ قِيلَ هِيَ
{وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} [الانفطار: 10]{كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار: 11]{يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 12] وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّحِيحَيْنِ: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ» الْحَدِيثَ. وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ فَمَنْ جَحَدَهُ أَوْ كَذَّبَ بِهِ أَوْ شَكَّ فِيهِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَسُمُّوا حَفَظَةً لِحِفْظِهِمْ مَا يَصْدُرُ مِنْ الْإِنْسَانِ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ وَعِلْمِهِمْ بِهِ وَلِحِفْظِهِمْ الْآدَمِيِّينَ مِنْ الْجِنِّ
ــ
[حاشية العدوي]
رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ تَحْصُلُ عِنْدَ صُدُورِ الْحَسَنِ عَنْ الْقَلْبِ وَرَائِحَةٌ خَبِيثَةٌ تَصْدُرُ صُدُورَ السَّيِّئِ فَقَدْ سُئِلَ سُفْيَانُ كَيْفَ تَعْلَمُ الْمَلَائِكَةُ أَنَّ الْعَبْدَ قَدْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ أَوْ سَيِّئَةٍ قَالَ: إذَا هَمَّ بِحَسَنَةٍ وَجَدُوا رِيحَ الْمِسْكِ، وَإِذَا هَمَّ بِسَيِّئَةٍ وَجَدُوا رِيحَ النَّتِنِ اهـ.
قَالَ الْهَيْتَمِيُّ: وَلَا يَحْصُلُ بِذَلِكَ تَعْيِينُ الْحَسَنِ مَا هُوَ وَلَا تَعْيِينُ السَّيِّئِ مَا هُوَ فِيمَا يَظْهَرُ أَوْ أَنَّ ذَلِكَ أَيْ التَّعْيِينَ بِإِلْهَامٍ أَوْ بِكَشْفٍ عَنْ الْقَلْبِ، وَمَا يَحْدُثُ فِيهِ كَمَا يَقَعُ لِبَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ كَذَا ذَكَرَ اللَّقَانِيُّ.
ثُمَّ أَقُولُ: وَلَا تَظْهَرُ ثَمَرَةُ الرَّائِحَةِ فِي الْهَمِّ، إذَا كَانَ بِسَيِّئَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُكْتَبُ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الثَّمَرَةُ فِي الْكَتْبِ حَسَنَةً إذَا تَرَكَهَا خَوْفًا مِنْ اللَّهِ وَرَغْبَةً فِيمَا عِنْدَهُ فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: مَلَائِكَةٌ] فَاعِلٌ يَتَعَاقَبُونَ وَهِيَ لُغَةُ مَنْ يُلْحِقُ الْفِعْلَ عَلَامَةَ التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ [قَوْلُهُ: الْحَدِيثَ] تَمَامُهُ «وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فَيَسْأَلُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
أَقُولُ لَا يَخْفَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ تَصْرِيحٌ بِكَتْبِ مَا يَصْدُرُ مِنْهُ، فَلَا يَظْهَرُ الِاسْتِدْلَال بِهِ. وَظَاهِرُ عِبَارَةِ الشَّارِحِ حَيْثُ اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ ذَهَبَ إلَى أَنَّهُمَا مَلَكَانِ بِالنَّوْعِ لَا بِالشَّخْصِ، فَلِكُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مَلَكَانِ فَهُمَا أَرْبَعَةٌ اثْنَانِ بِاللَّيْلِ وَاثْنَانِ بِالنَّهَارِ، وَعَلَيْهِ فَمَلَكَا اللَّيْلِ اثْنَانِ مُعَيَّنَانِ دَائِمًا وَكَذَلِكَ مَلَكَا النَّهَارِ كَمَا ذَكَرَهُ عج وَقِيلَ: هُمَا مَلَكَانِ يَلْزَمَانِ الْعَبْدَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بَعْدَ أَنْ تَرَدَّدَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَلَكَيْ الْإِنْسَانِ لَا يَتَغَيَّرَانِ عَلَيْهِ مَا دَامَ حَيًّا، وَيُوَضِّحُهُ قَوْلُ أَحَدِ الْمَلَكَيْنِ لِلْآخَرِ: إذَا لَمْ يَسْتَغْفِرْ دَاخِلَ السِّتِّ سَاعَاتٍ بَعْدَ عَمَلِ السَّيِّئَةِ اُكْتُبْ أَرَاحَنَا اللَّهُ مِنْهُ فَبِئْسَ الْقَرِينُ مَا أَقَلَّ مُرَاقَبَتَهُ لِلَّهِ عز وجل وَأَقَلَّ اسْتِحْيَاءَهُ، وَلَا يُقَالُ: ذَلِكَ لِمَنْ يَكُونَانِ مَعَهُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ خِلَافُ لِسَانِ الْعَرَبِ اهـ.
قَالَ عج: وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُمَا يَجْتَمِعَانِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ وَقْتِ الصُّعُودِ، قُلْت: وَرَأَيْت لِلْحَافِظِ السُّيُوطِيِّ مَا يُفِيدُ أَنَّ مَلَائِكَةَ النَّهَارِ تَصْعَدُ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ وَحِينَئِذٍ فَمَلَائِكَةُ اللَّيْلِ تَكْتُبُ مِنْ هَذَا الْوَقْتِ لِلْغُرُوبِ اهـ.
وَاجْتِمَاعُهُمْ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ لُطْفٌ مِنْ اللَّهِ لِأَجْلِ أَنْ تَكُونَ شَهَادَتُهُمْ لَهُمْ بِمَا يَشْهَدُونَ مِنْ طَاعَتِهِمْ. [قَوْلُهُ: أَوْ كَذَّبَ بِهِ] التَّكْذِيبُ جَحْدٌ فَلَا حَاجَةَ لَهُ، فَقَدْ قَالَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ: مَنْ كَذَّبَ بِذَلِكَ الْحُكْمِ أَوْ شَكَّ فِيهِ فَهُوَ كَافِرٌ لِثُبُوتِهِ بِالْكِتَابِ.
قَالَ تَعَالَى إلَى آخِرِ مَا قَالَ شَارِحُنَا، وَأَمَّا مَنْ جَهِلَهُ فَهُوَ كَافِرٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ كَمَا قَالَ الْأَقْفَهْسِيُّ.
وَقَالَ الْأُصُولِيُّونَ: لَيْسَ بِكَافِرٍ وَصَوَّبَهُ اللَّقَانِيُّ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُتَرَدِّدَ الْمَحْكُومَ بِكُفْرِهِ هُوَ مَنْ تَرَدَّدَ بَعْدَ عِلْمِهِ بِتَصْرِيحِ الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ بِهِ أَوْ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْجَاهِلِ فَإِنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِذَلِكَ. [قَوْلُهُ: فَهُوَ كَافِرٌ إلَخْ] لَا يَخْفَى أَنْ هَذَا التَّكْفِيرَ الْمُتَرَتِّبَ عَلَى الْجَحْدِ أَوْ الشَّكِّ إنَّمَا جَاءَ مِنْ حَيْثُ وُرُودُ الْقُرْآنِ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَى كَوْنِهِ وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ أَوْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ إنَّمَا يَلْزَمُ مَنْ أَنْكَرَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ مَعْلُومًا مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ الْمُتَحَقِّقِ فِي الْقُرْآنِ لِتَوَاتُرِهِ لَا مِنْ مُجَرَّدِ وُرُودِ الْحَدِيثِ أَوْ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ [قَوْلُهُ: وَعِلْمِهِمْ بِهِ] الْمُنَاسِبُ إسْقَاطُهُ إذْ الْمُفِيدُ لِلْمُرَادِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ لِحِفْظِهِمْ. [قَوْلُهُ: وَلِحِفْظِهِمْ الْآدَمِيِّينَ مِنْ الْجِنِّ] لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَأْتِي عَلَى أَنَّ الْكَاتِبَيْنِ هُمَا الْحَافِظَانِ مِنْ الْجِنِّ، وَأَمَّا إنْ قُلْنَا إنَّهُمَا لَا يَتَصَرَّفَانِ إلَّا فِي تَقْدِيرِ مَا يَصْدُرُ مِنْ الْإِنْسَانِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ فَهُمَا حَفَظَةٌ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ لَا غَيْرُ، ذَكَرَ هَذَا الشَّارِحُ فِي شَرْحِهِ لِلْعَقِيدَةِ.
وَمَحَلُّهُمْ مِنْ الْإِنْسَانِ شَفَتُهُ، وَقَلَمُهُمْ لِسَانُهُ وَمِدَادُهُمْ رِيقُهُ، لَا يُفَارِقُونَ الْعَبْدَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ إلَّا عِنْدَ الْخَلَاءِ وَعِنْدَ الْجِمَاعِ، فَإِذَا مَاتَ الْمُؤْمِنُ قَعَدَ مَلَكَاهُ عَلَى قَبْرِهِ يَسْتَغْفِرَانِ لَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
(تَنْبِيهٌ) قَوْلُهُ حَفَظَةً جَمَعَهُمْ بِاعْتِبَارِ عَدَدِ الْعِبَادِ.
(وَ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّهُ (لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ) أَيْ مِنْ أَعْمَالِ الْعِبَادِ (عَنْ عِلْمِ رَبِّهِمْ) صَرَّحَ بِذَلِكَ دَفْعًا لِمَا قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّ فَائِدَةَ كَتْبِ الْحَفَظَةِ أَنَّهُ تَعَالَى يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِ الْعِبَادِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا فَائِدَةُ تَوْكِيلِهِمْ لُطْفٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِعِبَادِهِ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا عَلِمُوا أَنَّ مَلَائِكَةً تَحْفَظُ عَلَيْهِمْ أَفْعَالَهُمْ وَيَكْتُبُونَهَا انْزَجَرُوا عَنْ الْمَعَاصِي وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ إذَا جَحَدُوا.
(وَ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ (أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ) اسْمُهُ عِزْرَائِيلُ وَقِيلَ
ــ
[حاشية العدوي]
ثُمَّ أَقُولُ: وَإِذَا كَانُوا يَحْفَظُونَهُ مِنْ الْجِنِّ فَيَكُونُونَ مِنْ وَقْتِ الْوِلَادَةِ فَلَا يَظْهَرُ قَوْلُهُ سَابِقًا مِنْ وَقْتِ التَّكْلِيفِ وَمُوَافِقٌ لِمَا قُلْنَا قَوْلُهُ بَعْدُ لَا يُفَارِقُونَ الْعَبْدَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ.
[قَوْلُهُ: شَفَتُهُ] فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالتَّثْنِيَةِ مُوَافِقًا لِمَا فِي اللَّقَانِيِّ، وَفِي نُسْخَةٍ شَفَتُهُ بِالْإِفْرَادِ فَيُرَادُ الْجِنْسُ فَيُوَافِقُ الْأَوْلَى، وَهَذَا قَوْلٌ وَقِيلَ: عَاتِقَاهُ فَكَاتِبُ الْحَسَنَاتِ عَلَى الْأَيْمَنِ وَالسَّيِّئَاتِ عَلَى الْأَيْسَرِ، وَقِيلَ: ذَقَنُهُ، وَقِيلَ: عَنْفَقَتُهُ، وَهِيَ الْوَفْرَةُ الَّتِي تَحْتَ الشَّفَةِ. [قَوْلُهُ: وَقَلَمُهُمْ لِسَانُهُ] حَكَاهُ اللَّقَانِيُّ بِقِيلٍ، ثُمَّ قَالَ: وَالْحَقُّ التَّوَقُّفُ عَنْ تَعْيِينِ كُلِّ ذَلِكَ لِعَدَمِ الْقَاطِعِ اهـ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَكْتُبُونَ عَمَلَ الْعَبْدِ فِي رِقٍّ. [قَوْلُهُ: إلَّا عِنْدَ الْخَلَاءِ إلَخْ] وَظَاهِرُهُ بَوْلًا أَوْ غَائِطًا، وَيَجْعَلُ اللَّهُ لَهُمَا عَلَامَةً عَلَى نَوْعِ مَا يَصْدُرُ مِنْهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ.
أَقُولُ: وَقَضِيَّةُ كَوْنِهِمْ حَفَظَةً مِنْ الْجِنِّ أَنْ لَا يُفَارِقُونَهُ وَلَوْ فِي الْخَلَاءِ وَعِنْدَ الْجِمَاعِ خَوْفَ الْإِصَابَةِ مِنْ الْجِنِّ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، إلَّا أَنْ يُقَالَ: جَعَلَ الشَّارِعُ الِاسْتِعَاذَةَ عِوَضًا عَنْ حِفْظِهِمْ فِي الْخَلَاءِ، وَكَذَا التَّسْمِيَةَ عِوَضًا عَنْ حِفْظِهِمْ فِي حَالِ الْجِمَاعِ فَتَدَبَّرْ. وَكَاتِبُ الْحَسَنَاتِ أَمِينٌ عَلَى كَاتِبِ السَّيِّئَاتِ لَا يُمْكِنُهُ مِنْ كَتْبِ السَّيِّئَةِ إلَّا بَعْدَ مُضِيِّ سِتِّ سَاعَاتٍ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْكَفَّارَاتِ، وَيُبَادِرُ لِكَتْبِ الْحَسَنَاتِ قَالَ بَعْضٌ: فَإِنْ اسْتَغْفَرَ فِي دَاخِلِ السَّاعَاتِ كَتَبَهَا كَاتِبُ الْيَمِينِ حَسَنَةً، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ اسْتِغْفَارٌ وَلَا تَوْبَةٌ كَتَبَهَا صَاحِبُ الشِّمَالِ سَيِّئَةً وَاحِدَةً، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ السَّاعَاتُ الْفَلَكِيَّةُ قَالَهُ تت وَغَيْرُهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ يَنْتَظِرُ سَبْعَ سَاعَاتٍ وَيَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِمْهَالِ أَنَّهُ إذَا ارْتَكَبَ كَبِيرَةً وَمَاتَ قَبْلَ مُضِيِّ مُدَّةِ الِانْتِظَارِ وَلَمْ يَتُبْ لَمْ يُكْتَبْ عَلَيْهِ قَالَهُ عج. [قَوْلُهُ: فَإِذَا مَاتَ الْمُؤْمِنُ] وَأَمَّا لَوْ كَانَ كَافِرًا فَإِنَّهُمَا يَقْعُدَانِ عَلَى قَبْرِهِ يَلْعَنَانِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. [قَوْلُهُ: يَسْتَغْفِرَانِ لَهُ] وَكَذَا يُسَبِّحَانِ وَيُهَلِّلَانِ وَيُكَبِّرَانِ وَيُكْتَبُ ثَوَابُهُ لِلْمَيِّتِ وَانْظُرْ هَلْ يَرْجِعَانِ إلَيْهِ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ قَبْرِهِ وَلَا يَزَالَانِ مَعَهُ فِي الْجَنَّةِ أَوْ إلَيْهَا وَقِيلَ: إذَا جَاءَ وَقْتُ النَّزْعِ فَإِنْ صُوحِبَا بِحُسْنٍ وَدَّعَاهُ وَدَعَيَا لَهُ بِخَيْرٍ وَقَبَّلَاهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَيَنْصَرِفَانِ إلَى مَقْعَدِهِمَا الَّذِي كَانَا فِيهِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَحْفِظَاهُ، وَإِنْ صُوحِبَا بِشَرٍّ قَالَا: لَا جَزَاكَ اللَّهُ عَنْ نَفْسِك وَلَا عَنَّا خَيْرًا فَبِئْسَ الْقَرِينُ كُنْت [قَوْلُهُ: جَمَعَهُمْ بِاعْتِبَارِ عَدَدٍ لِلْعِبَادِ] أَيْ بِاعْتِبَارِ عَدَدِ هُوَ الْعِبَادُ، فَالْإِضَافَةُ لِلْبَيَانِ أَيْ فَهُمَا مَلَكَانِ بِالشَّخْصِ فَقَطْ، وَجَمَعَهُمْ بِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ وَعَلَى أَنَّهُمْ أَرْبَعَةٌ وَعَلَيْهِ كَلَامُهُ أَوَّلًا كَمَا بَيَّنَّا، فَالْجَمْعُ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَيَكُونُ فِي كَلَامِهِ الْإِشَارَةُ إلَى الْقَوْلَيْنِ.
[قَوْلُهُ: لُطْفٌ إلَخْ] خُلَاصَتُهُ أَنَّ فَائِدَةَ الْكَتْبِ أَمْرَانِ، إحْدَاهُمَا: دُنْيَوِيَّةٌ وَهِيَ الِانْكِفَافُ عَنْ الْمَعَاصِي فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَثَانِيَتُهَا: أُخْرَوِيَّةٌ وَهِيَ إقَامَةُ الْحُجَّةِ إذَا جَحَدُوا أَيْ أَنْكَرُوا، وَقَالُوا: مَا عَلِمْنَا وَفِي التَّعْبِيرِ بِإِذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ يَقَعُ مِنْهُمْ الْجَحْدُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} [فصلت: 21] وَأَرَادَ بِالْأَفْعَالِ مَا يَشْمَلُ عَمَلَ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَعَطْفُ الْكَتْبِ عَلَى مَا قَبْلَهُ تَفْسِيرٌ. [قَوْلُهُ: وَإِقَامَةِ
عَبْدُ الْجَبَّارِ (يَقْبِضُ الْأَرْوَاحَ) كُلَّهَا أَرْوَاحَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةِ (بِإِذْنِ رَبِّهِ) قَالَ تَعَالَى {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11] وَفِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ مَلَكِ الْمَوْتِ: «وَاَللَّهِ لَوْ أَرَدْت قَبْضَ رُوحِ بَعُوضَةٍ مَا قَدَرْت عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يَأْذَنُ بِقَبْضِهَا» ، فَإِنْ قِيلَ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ إسْنَادُ التَّوَفِّي إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَى الْمَلَائِكَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42] وَقَالَ تَعَالَى {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام: 61] فَالْجَوَابُ أَنَّ إضَافَةَ التَّوَفِّي إلَى اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ الْفَاعِلُ حَقِيقَةً وَإِلَى مَلَكِ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّهُ الْمُبَاشِرُ لِلْقَبْضِ وَإِلَى الْمَلَائِكَةِ؛ لِأَنَّهُمْ أَعْوَانُهُ يَأْخُذُونَ فِي جَذْبِهَا مِنْ الْبَدَنِ فَهُوَ قَابِضٌ وَهُمْ مُعَالِجُونَ.
(وَ)
ــ
[حاشية العدوي]
الْحُجَّةِ] عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ لُطْفٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى.
[قَوْلُهُ: وَقِيلَ عَبْدُ الْجَبَّارِ إلَخْ] لَا خِلَافَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ لِمَا قَالَهُ الْجُزُولِيُّ أَنَّ عِزْرَائِيلَ مَعْنَاهُ بِالْعَرَبِيَّةِ عَبْدُ الْجَبَّارِ فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: كُلَّهَا] أُتِيَ بِهِ دَفْعًا لِمَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ أَلْ فِي الْأَرْوَاحِ لِلْجِنْسِ [قَوْلُهُ: أَرْوَاحُ الْإِنْس وَالْجِنِّ] أَيْ وَالشُّهَدَاءِ وَلَوْ شَهِيدَ بَحْرٍ، وَكَذَا غَيْرُهُمْ مِنْ كُلِّ مَا لَهُ رُوحٌ مِنْ الْبَهَائِمِ وَالطُّيُورِ وَلَوْ بَرَاغِيثَ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَاَللَّهِ لَوْ أَرَدْت قَبْضَ رُوحِ بَعُوضَةٍ بَلْ يَقْبِضُ رُوحَ نَفْسِهِ، وَقِيلَ: إنَّمَا يَقْبِضُهَا اللَّهُ تَعَالَى كَمَا قِيلَ: إنَّهُ يَقْبِضُ رُوحَ شُهَدَاءِ الْبَحْرِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عج. وَذُكِرَ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ مَنْ قَرَأَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةِ فَرْضٍ آيَةَ الْكُرْسِيِّ وَكَذَا أَهْلُ الْجُوعِ فِي الدُّنْيَا، وَذَكَرَ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا فَإِنْ قُلْت: إذَا مَاتَ خَلْقٌ كَثِيرٌ فِي أَمَاكِنَ مُتَعَدِّدَةٍ كَيْفَ يَتَوَلَّى قَبْضَ الْجَمِيعِ قُلْت، ذَكَرُوا أَنَّ الدُّنْيَا بَيْنَ يَدَيْ مَلَكِ الْمَوْتِ كَالْقَصْعَةِ بَيْنَ يَدَيْ الْآكِلِ وَرِجْلَاهُ فِي تُخُومِ الْأَرْضِ السُّفْلَى وَرَأْسُهُ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَوَجْهُهُ مُقَابِلُ اللَّوْحِ.
[قَوْلُهُ: بِإِذْنِ رَبِّهِ] أَيْ بِأَمْرِ رَبِّهِ. [قَوْلُهُ: بَعُوضَةٍ] فِي الْقَامُوسِ الْبَقَّةُ لَعَلَّ قَصْدَ مَلَكِ الْمَوْتِ مُطْلَقُ الْحَيَوَانِ الدَّقِيقِ الْجِسْمِ لَا خُصُوصَ الْبَقَّةِ، وَإِلَّا فَمَا وَجْهُ التَّخْصِيصِ وَهُنَاكَ مَا هُوَ مِثْلُهَا فِي الدِّقَّةِ كَالنَّمْلَةِ. [قَوْلُهُ: هُوَ الَّذِي يَأْذَنُ بِقَبْضِهَا] ظَاهِرُهُ أَنَّ كُلَّ رُوحٍ يَتَعَلَّقُ بِهَا إذْنٌ جَدِيدٌ، وَرَأَيْت مَا يُقَوِّيهِ وَمِنْ ذَلِكَ مَا يُقَالُ: إنَّ صَكًّا يَنْزِلُ عَلَى مَلَكِ الْمَوْتِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فِيهِ اسْمُ مَنْ أُمِرَ بِقَبْضِ رُوحِهِ وَالْمَوْضِعُ الَّذِي يُقْبَضُ فِيهِ، لَكِنْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِ وَجْهِهِ مُقَابِلٌ اللَّوْحَ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَكْتَفِي بِالنَّظَرِ لِمَا فِيهِ مِنْ فَرَاغِ أَجَلِ الْعَبْدِ فَلَا يَحْتَاجُ لِإِذْنٍ جَدِيدٍ، فَإِنْ قُلْت: إنَّ اللَّوْحَ يَقَعُ فِيهِ التَّغْيِيرُ وَالتَّبْدِيلُ فَيَظْهَرُ ثَمَرَةٌ لِلْإِذْنِ الْجَدِيدِ قُلْت: لَا ثَمَرَةَ حِينَئِذٍ لِلنَّظَرِ فِي اللَّوْحِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ يَعْتَمِدُ عَلَى مَا فِي اللَّوْحِ مَا لَمْ يَقَعْ تَغْيِيرٌ أَوْ يَنْزِلُ أَمْرٌ جَدِيدٌ فَلَا يَكُونُ الْأَمْرُ الْجَدِيدُ عَامًّا بَلْ مَحْمُولٌ عَلَى الْبَعْضِ.
[قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ الْفَاعِلُ حَقِيقَةً إلَخْ] لَا يَخْفَى أَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْفِعْلَ يُسْنَدُ حَقِيقَةً عَقْلِيَّةً لِمَنْ قَامَ بِهِ لَا لِمَنْ أَوْجَدَهُ كَقَامَ زَيْدٌ فَلَا يُقَالُ: قَامَ اللَّهُ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُوجِدُ لِلْقِيَامِ، وَكَذَا التَّوَفِّي الَّذِي هُوَ قَبْضُ الرُّوحِ إنَّمَا قَامَ بِالْمَلَكِ إسْنَادُ التَّوَفِّي إلَيْهِ حَقِيقَةٌ عَقْلِيَّةٌ، وَيَكُونُ إسْنَادُهُ لِلْمَوْلَى تَعَالَى غَيْرَ جَائِزٍ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ بِهِ وَإِنْ كَانَ خَلَقَهُ، نَعَمْ إنْ تَجَوَّزَ بِهِ عَنْ خَلْقِهِ لِقِيَامِ قَرِينَةٍ عَلَى ذَلِكَ صَحَّ، فَلَا يَكُونُ حَقِيقَةً وَهُوَ مُنَافٍ لِقَضِيَّةِ قَوْلِهِ لِأَنَّهُ الْفَاعِلُ حَقِيقَةً.
[قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ الْمُبَاشِرُ لِلْقَبْضِ] لَا يَخْفَى أَنَّ مُقْتَضَى الْمُقَابَلَةِ أَنَّهُ لَيْسَ فَاعِلًا حَقِيقَةً مَعَ أَنَّهُ فَاعِلٌ حَقِيقَةً بِاعْتِبَارِ قِيَامِ الْفِعْلِ بِهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالْفَاعِلِ مَنْ أَوْجَدَ الْفِعْلَ وَخَلَقَهُ فَهُوَ اللَّهُ بِدُونِ رَيْبٍ إلَّا أَنَّ الْإِسْنَادَاتِ الْحَقِيقِيَّةَ وَالْمَجَازِيَّةَ لَيْسَتْ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ مَنْ قَامَ بِهِ الْفِعْلُ الَّتِي الْإِسْنَادَاتُ بِاعْتِبَارِهِ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا فَلَا يَكُونُ الْمَوْلَى فَاعِلًا حَقِيقَةً فَلَا يُتَخَلَّصُ إلَّا بِجَعْلِ الْمُتَوَفَّى مُشْتَرِكًا بَيْنَ الْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ، أَعْنِي الْإِيجَادَ وَالْمُبَاشَرَةَ وَالْجَذْبَ فَإِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ الِاشْتِرَاكُ اتَّضَحَ الْحَالُ. [قَوْلُهُ: لِأَنَّهُمْ أَعْوَانُهُ] أَيْ فَيَكُونُ إسْنَادُ التَّوَفِّي إلَيْهِمْ عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ، أَوْ اسْتَعْمَلَ تَوَفَّتْهُ فِي تَسَبَّبَتْ فِي وَفَاتِهِ فَيَكُونُ مَجَازًا لُغَوِيًّا، وَلَمْ يُبَيِّنْ
مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ (أَنَّ خَيْرَ) أَيْ أَفْضَلَ (الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِينَ رَأَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَآمَنُوا بِهِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] قِيلَ خَاطَبَهُمْ خِطَابَ مُشَافَهَةٍ أَيْ أَنْتُمْ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ جَمِيعُ أُمَّتِهِ أَيْ كُنْتُمْ فِي الْأَزَلِ (ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّحِيحَيْنِ: «خَيْرُكُمْ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» قَالَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ: فَلَا أَدْرِي أَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ قَرْنِهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا؟ وَتَقْيِيدُ الْمُصَنِّفِ الْخَيْرِيَّةَ بِالْإِيمَانِ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَيِّنٌ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْكُفَّارِ كَانُوا فِي الْقَرْنِ الْأَوَّلِ، وَرَأَوْهُ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ تَنْفَعْهُمْ رُؤْيَتُهُمْ لَهُ صلى الله عليه وسلم لِعَدَمِ إيمَانِهِمْ بِهِ صلى الله عليه وسلم وَاخْتُلِفَ فِي الْقَرْنِ مَا هُوَ فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْجِيلُ، وَاخْتَارَهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ
ــ
[حاشية العدوي]
عِدَّةَ هَؤُلَاءِ الْأَعْوَانِ وَهَلْ هِيَ مُسْتَوِيَةٌ فِي جم جَمِيعِ الْأَشْخَاصِ أَوْ مُخْتَلِفَةٌ. [قَوْلُهُ: فَهُوَ قَابِضٌ إلَخْ] قَضِيَّتُهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ جَاذِبًا، إلَّا أَنَّ الرُّوحَ إذَا قَرُبَتْ مِنْ الْخُرُوجِ يَتَوَلَّى ذَلِكَ بِدُونِ جَذْبٍ وَيُفِيدُ ذَلِكَ مَا قَالَهُ الشَّعْرَانِيُّ فِي مُخْتَصَرِ تَذْكِرَةِ الْقُرْطُبِيِّ حِكَايَةً عَنْ مَلَكِ الْمَوْتِ حَيْثُ قَالَ: الدُّنْيَا كُلُّهَا بَيْنَ رُكْبَتَيَّ وَجَمِيعُ الْخَلَائِقِ بَيْنَ عَيْنَيَّ وَيَدَايَ تَبْلُغَانِ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ، فَإِذَا نَفِدَ أَجَلُ عَبْدٍ نَظَرْت إلَيْهِ فَإِذَا نَظَرْت إلَيْهِ عَرَفَتْ أَعْوَانِي مِنْ الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُ مَقْبُوضٌ وَبَطَشُوا بِهِ يُعَالِجُونَ نَزْعَ رُوحِهِ، فَإِذَا بَلَغُوا بِالرُّوحِ الْحُلْقُومَ عَلِمْت ذَلِكَ وَلَمْ يَخْفَ عَلَيَّ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِهِ، فَمَدَدْت يَدَيَّ إلَيْهِ فَانْتَزَعْتهَا مِنْ جَسَدِهِ.
[قَوْلُهُ: وَمِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ خَيْرَ إلَخْ] أَيْ عَلَى تَقْدِيرِ خُطُورِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالْبَالِ أَوْ ذِكْرِهِمْ بِاللِّسَانِ وَإِلَّا فَلَيْسَتْ هَذِهِ التَّفْصِيلَاتُ مِمَّا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ اكْتِسَابُهُ أَوْ اعْتِقَادُهُ، بَلْ لَوْ غَفَلَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُطْلَقًا لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي الدِّينِ. نَعَمْ مَتَى خَطَرَتْ بِالْبَالِ أَوْ تَحَدَّثَ فِيهَا اللِّسَانُ وَجَبَ الْإِنْصَافُ وَتَوْفِيَةُ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ كَمَا أَفَادَهُ اللَّقَانِيُّ [قَوْلُهُ: رَأَوْا] أَيْ اجْتَمَعُوا بِهِ؛ لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ صَارَتْ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً فِي الِاجْتِمَاعِ، فَيَدْخُلُ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُمْيَانِ [قَوْلُهُ:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]] أَيْ أُظْهِرَتْ لِلنَّاسِ أَيْ مِنْ النَّاسِ، وَالْمَعْنَى مَا أَظْهَرَ اللَّهُ مِنْ النَّاسِ أُمَّةً خَيْرًا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم كَمَا فِي الْخَازِنِ.
[قَوْلُهُ: خِطَابَ مُشَافَهَةٍ] لَا يَخْفَى أَنَّ الْخِطَابَ تَوْجِيهُ الْكَلَامِ إلَى حَاضِرٍ فَهُوَ يَقْتَضِي الْمُشَافَهَةَ فَقَوْلُهُ: مُشَافَهَةً لِلتَّأْكِيدِ أَوْ أَنَّهُ أَرَادَ خِطَابًا حَقِيقَةً لَا مَجَازًا. [قَوْلُهُ: وَقِيلَ الْمُرَادُ جَمِيعُ أُمَّتِهِ] أَيْ فَلَا يَكُونُ خِطَابَ مُشَافَهَةٍ هَذَا قَضِيَّةُ كَلَامِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُرَادٍ إذْ هُوَ خِطَابُ مُشَافَهَةٍ عَلَى الْوَجْهَيْنِ إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ لَا تَغْلِيبَ فِيهِ بِخِلَافِ الثَّانِي فَفِيهِ تَغْلِيبُ الْمَوْجُودِ عَلَى غَيْرِهِ. [قَوْلُهُ: فَفِي الْأَزَلِ] أَيْ أَوْ فِي اللَّوْحِ أَوْ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ، أَوْ الْمَعْنَى وَجَدْتُمْ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، ثُمَّ أَقُولُ: وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذِهِ الْأَوْجُهَ جَارِيَةٌ عَلَى الْوَجْهَيْنِ أَعْنِي خُصُوصَ الصَّحْبِ أَوْ جَمِيعَ الْأُمَّةِ خِلَافًا لِمَا تُوهِمُهُ عِبَارَتُهُ، فَتَأَمَّلْ. [قَوْلُهُ: لِأَنَّ كَثِيرًا] أَيْ فَذَكَرَهُ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنَّ مَنْ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ خَيْرٌ مِمَّنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي.
قَالَ عج: فَإِنْ قُلْت: خَيْرٌ اسْمُ تَفْضِيلٍ فَيَقْتَضِي أَنَّهُمْ شَارَكَهُمْ غَيْرُهُمْ فِي الْخَيْرِيَّةِ وَزَادُوهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ فِيهَا، وَهَذَا إنَّمَا يَأْتِي فِي الْمُسْلِمِينَ لَا فِي الْكُفَّارِ إذْ هُمْ لَا خَيْرَ فِيهِمْ أَلْبَتَّةَ، فَلَا حَاجَةَ إلَى قَوْلِهِ: وَآمَنُوا بِهِ قُلْت: لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْخَيْرِيَّةَ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مُتَعَلِّقَةً بِغَيْرِ الدِّينِ كَالْأَحْسَنِيَّةِ وَهَذَا يُوجَدُ فِي الْكُفَّارِ، فَلَوْ حَذَفَ وَآمَنُوا لَاقْتَضَى خَيْرِيَّةَ كُفَّارِ أَهْلِ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ عَلَى كُفَّارِ أَهْلِ الْقَرْنِ الثَّانِي وَهَذَا لَيْسَ مُرَادًا أَلْبَتَّةَ، وَإِنْ جَعَلَ قَوْلَهُ: وَآمَنُوا لَيْسَ أَمْرًا زَائِدًا عَلَى مَا قَبْلَهُ فَلَا إشْكَالَ اهـ.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَفْضَلِيَّةَ الْقَرْنِ الثَّانِي عَلَى الثَّالِثِ كَمَا قَالَ فِي شَرْحِ مُلَخَّصِ الْمَقَاصِدِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْجُمْلَةِ لَا الْآحَادِ بِمَعْنَى جُمْلَةِ الْقَرْنِ الثَّانِي أَفْضَلُ وَأَكْثَرُ خَيْرًا وَبَرَكَةً مِنْ جُمْلَةِ الْقَرْنِ الثَّالِثِ وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُ آحَادِ الثَّالِثِ أَفْضَلَ مِنْ آحَادِ الثَّانِي بَلْ ذَلِكَ كَثِيرٌ، وَأَمَّا الْقَرْنُ الْأَوَّلُ وَهُمْ الصَّحَابَةُ فَقِيلَ: فَضَّلَهُ عَلَى مَنْ بَعْدَهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْجُمْلَةِ وَالْآحَادِ وَقِيلَ: بِالنِّسْبَةِ لِلْجُمْلَةِ فَقَطْ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ التَّابِعِينَ أَوْ مَنْ بَعْدَهُمْ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي فِي الْإِكْمَالِ قَالَ: لِأَنَّ مَزِيَّةَ الصُّحْبَةِ لَا يُوَازِي بِهَا عَمَلٌ، وَالثَّانِي قَوْلُ أَبِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَاسْتَحْسَنَهُ عج.
[قَوْلُهُ: فَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ الْجِيلُ
الشَّيْخِ فَالْقَرْنُ الْأَوَّلُ الصَّحَابَةُ حَتَّى يَنْقَرِضُوا.
وَالثَّانِي التَّابِعُونَ حَتَّى يَنْقَرِضُوا، وَالثَّالِثُ تَابِعُ التَّابِعِينَ حَتَّى يَنْقَرِضُوا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ السُّنُونَ، وَاخْتُلِفَ فِي تَحْدِيدِهِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مِائَةٌ وَاخْتُلِفَ هَلْ مَا بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْمَمْدُوحَةِ سَوَاءٌ أَوْ مُتَفَاضِلُونَ، قَوْلَانِ، فَإِنْ قِيلَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ تَفْضِيلِ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ يُعَارِضُهُ مَا رُوِيَ بِإِسْنَادٍ رُوَاتِهِ ثِقَاتٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ هَلْ أَحَدٌ خَيْرٌ مِنَّا؟ قَالَ:«نَعَمْ قَوْمٌ يَجِيئُونَ بَعْدَكُمْ فَيَجِدُونَ كِتَابًا بَيْنَ لَوْحَيْنِ فَيُؤْمِنُونَ بِمَا فِيهِ وَيُؤْمِنُونَ بِي وَلَمْ يَرَوْنِي وَيُصَدِّقُونَ بِمَا جِئْت وَيَعْمَلُونَ بِمَا فِيهِ فَهُمْ خَيْرٌ مِنْكُمْ» قُلْت: أُجِيبُ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَفْضِيلِهِمْ فِي جِهَةٍ مِنْ الْجِهَاتِ تَفْضِيلُهُمْ مُطْلَقًا.
(تَنْبِيهٌ)
الْخَيْرِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ إمَّا بِاعْتِبَارِ الْبَاطِنِ وَكَثْرَةِ الثَّوَابِ وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ، وَذَلِكَ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِخَبَرٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِالتَّفَاوُتِ فِي خِصَالِ الْفَضَائِلِ، فَمَنْ كَثُرَتْ فِيهِ فَهُوَ أَفْضَلُ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ فَكَمْ مِنْ قَلِيلِ الْعَمَلِ أَفْضَلُ مِنْ كَثِيرِهِ.
ــ
[حاشية العدوي]
إلَخْ] هَذَا الْقَوْلُ هُوَ الرَّاجِحُ كَمَا اعْتَمَدَهُ عج وَمَا بَعْدَهُ ضَعِيفٌ، وَمُفَادُ هَذَا أَنَّ الْجِيلَ هُوَ نَفْسُ الصَّحَابَةِ وَيُؤَيِّدُهُ فِي الْجُمْلَةِ قَوْلُ الْمِصْبَاحِ الْجِيلُ الْأُمَّةُ. [قَوْلُهُ: وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مِائَةٌ إلَخْ] وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ قِيلَ عَشَرَةٌ، وَقِيلَ: عِشْرُونَ. وَقِيلَ: غَيْرَ ذَلِكَ وَدَلِيلُ الْأَصَحِّ مَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى رَأْسِ يَتِيمٍ وَقَالَ لَهُ: عِشْ قَرْنًا» فَعَاشَ مِائَةَ عَامٍ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَنْ وُجِدَ فِي الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ وَلَمْ يَكُنْ تَابِعِيًّا خَيْرٌ مِمَّنْ وُجِدَ فِي الثَّالِثَةِ وَلَوْ تَابِعِيًّا. [قَوْلُهُ: الْمَمْدُوحَةِ] دَخَلَ فِيهَا الرَّابِعُ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ قَالَ ك: وَاخْتُلِفَ فِي تَفْضِيلِ الرَّابِعِ لِشَكِّ الرَّاوِي فِيهِ [قَوْلُهُ: أَوْ مُتَفَاضِلُونَ] أَيْ كُلُّ قَرْنٍ أَفْضَلُ مِنْ الَّذِي بَعْدَهُ وَهُوَ الظَّاهِرُ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«مَا مِنْ عَامٍ أَوْ مَا مِنْ يَوْمٍ إلَّا وَاَلَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ» . وَرُوِيَ «فِي كُلِّ عَامٍ تُرْذَلُونَ» .
[قَوْلُهُ: بَيْنَ لَوْحَيْنِ] الْمُرَادُ بِهِمَا دَفَّتَا الْمُصْحَفِ. [قَوْلُهُ: وَيُؤْمِنُونَ بِي] هَذَا دَاخِلٌ فِي الْإِيمَانِ بِمَا فِيهِ، وَقَوْلُهُ: وَيُصَدِّقُونِ بِمَا جِئْت بِهِ هَذَا أَعَمُّ مِمَّا تَقَدَّمَ. [قَوْلُهُ: فِي جِهَةٍ مِنْ الْجِهَاتِ] وَهُوَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ وَلَمْ يَرَوْهُ؛ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الْحُكْمِ بِمُشْتَقٍّ يُؤْذِنُ بِالْعِلِّيَّةِ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: فَهُمْ خَيْرٌ مِنْكُمْ لِمَا ذُكِرَ وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا التَّفْضِيلَ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ الطَّائِعِينَ. [قَوْلُهُ: بِاعْتِبَارِ الْبَاطِنِ] أَيْ وَالظَّاهِرِ. [قَوْلُهُ: وَكَثْرَةِ الثَّوَابِ إلَخْ] تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ بِاعْتِبَارِ الْبَاطِنِ. [قَوْلُهُ: وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ إلَخْ] أَيْ وَرَفْعِ الْمَرَاتِبِ وَعَطْفُهُ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ؛ لِأَنَّ الثَّوَابَ مِقْدَارٌ مِنْ الْجَزَاءِ يُعْطِيهِ اللَّهُ فِي نَظِيرِ أَعْمَالِهِمْ وَهُوَ قَدْ يَكُونُ رَفْعَ دَرَجَاتٍ وَغَيْرَهَا، هَذَا إذَا أُرِيدَ مِنْ رَفْعِ الْمَرَاتِبِ إعْطَاءُ مَنَازِلَ عَالِيَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ بِأَنْ يُرَادَ كَثْرَةُ النِّعَمِ وَعِظَمُ الْإِحْسَانِ، وَيَكُونُ مُرَادِفًا ثُمَّ بَعْدَ كَتْبِي هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ وَجَدْت بَعْضَ مَنْ كَتَبَ عَلَى مُسْلِمٍ ذَكَرَهُمَا فَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
[قَوْلُهُ: وَذَلِكَ] أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ كَثْرَةِ الثَّوَابِ إلَخْ. [قَوْلُهُ: إلَّا بِخَبَرٍ مَقْطُوعٍ بِهِ] أَيْ بِقَوْلٍ وَارِدٍ عَنْ الرَّسُولِ تَحَقَّقَ وُرُودُهُ عَنْهُ بِالتَّوَاتُرِ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ لَا يَكُونُ إلَّا بِهِ، وَارْتَضَى اللَّقَانِيُّ هَذَا الطَّرَفَ وَهُوَ أَنَّ الْأَفْضَلِيَّةَ بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ الثَّوَابِ، وَحَاصِلُ كَلَامِهِ أَنَّ الْأَفْضَلِيَّةَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى خَبَرٍ مَقْطُوعٍ بِهِ كَمَا قَالَ شَارِحُنَا بَلْ يُعْلَمُ مِنْ كَوْنِهِمْ آوَوْا وَنَصَرُوا وَجَاهَدُوا وَصَبَرُوا وَتَصَدَّقُوا بِأَمْوَالِهِمْ عَلَى فَاقَةٍ وَبَاعُوا النُّفُوسَ فِي صُحْبَتِهِ. [قَوْلُهُ: وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ إلَخْ] حَاصِلُ ذَلِكَ الِاحْتِمَالِ أَنَّهُ لَا تَثْبُتُ الْأَفْضَلِيَّةُ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْقَرْنِ عَلَى مَنْ بَعْدَهُ، بَلْ مَنْ كَانَتْ خِصَالُهُ أَكْثَرُ أَفْضَلَ مِمَّنْ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَحِينَئِذٍ فَمَنْ كَانَتْ خِصَالُهُ مِنْ الَّذِي بَعْدَهُ أَكْثَرُ أَفْضَلَ مِنْ الَّذِي خِصَالُهُ أَقَلُّ مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ. فَقَوْلُهُ: فَلَا يَحْصُلُ إلَخْ أَيْ وَإِذَا كَانَ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ فَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ أَيْ مَا
(وَ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ قَطْعًا أَوْ ظَنًّا أَنَّ أَفْضَلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ صَحَابَةُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةُ بِفَتْحِ الصَّادِ الْأَصْحَابُ جَمْعُ صَاحِبٍ وَهُوَ مَنْ لَقِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مُسْلِمًا ثُمَّ مَاتَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ عُدُولٌ مَنْ لَابَسَ الْفِتَنَ، وَغَيْرُهُمْ بِإِجْمَاعٍ مَنْ يَعْتَدُّ بِهِ، وَأَوَّلُهُمْ إسْلَامًا عَلَى الصَّحِيحِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه: وَ (أَفْضَل
ــ
[حاشية العدوي]
ذُكِرَ مِنْ أَنَّ الْخَيْرِيَّةَ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ، وَقَوْلُهُ: بِالتَّفَاوُتِ أَيْ بِالتَّزَايُدِ وَقَوْلُهُ: فِي خِصَالِ الْفَضَائِلِ أَيْ فِي خِصَالٍ هِيَ الْفَضَائِلُ فَالْإِضَافَةُ لِلْبَيَانِ، وَأَرَادَ بِالْفَضَائِلِ مَا يَشْمَلُ الْفَوَاضِلَ، وَهِيَ النِّعَمُ الْمُتَعَدِّيَةُ. وَقَوْلُهُ: فَمَنْ كَثُرَتْ أَيْ فَحِينَئِذٍ مِنْ كَثُرَتْ فِيهِ إلَخْ.
وَحَاصِلُهُ: أَنَّ الشَّارِحَ مُتَرَدِّدٌ فِي الْخَيْرِيَّةِ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ اللَّقَانِيَّ اعْتَبَرَ الْأَوَّلَ فَلْيُعَوِّلْ عَلَيْهِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ:«لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ ثَوَابَهُ فِي ذَلِكَ ثَوَابَ نَفَقَةِ أَحَدِ أَصْحَابِي مُدًّا وَلَا نِصْفَ مُدٍّ» [قَوْلُهُ: فَكَمْ] الْفَاءُ لِلتَّعْلِيلِ أَيْ تَعْلِيلِ كَوْنِ الْأَفْضَلِيَّةِ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ.
[قَوْلُهُ: قَطْعًا أَوْ ظَنًّا] وَيَتَرَتَّبُ عَلَى كَوْنِهِ قَطْعِيًّا أَنَّ التَّفْضِيلَ فِي الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ، وَعَلَى كَوْنِهِ ظَنِّيًّا أَنَّهُ فِي الظَّاهِرِ فَقَطْ كَمَا يُفِيدُهُ اللَّقَانِيُّ وَحِينَئِذٍ فَتَكُونُ أَوْ هُنَا لِلتَّرَدُّدِ كَالْأَوَّلِ، وَيَتَرَجَّحُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الْقَطْعُ لِمَا عَلِمْت مِنْ أَنَّ اللَّقَانِيَّ رَجَّحَ الْبَاطِنَ، وَأَمَّا التَّفْضِيلُ بَيْنَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَكَذَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ وَأَهْلِ بَدْرٍ وَغَيْرِهِمْ، فَوَقَعَ الْخِلَافُ كَمَا أَفَادَهُ اللَّقَانِيُّ فَقِيلَ: قَطْعِيٌّ وَهُوَ الْحَقُّ، وَقِيلَ: ظَنِّيٌّ وَهَلْ هُوَ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ وَهُوَ الْحَقُّ. أَوْ فِي الظَّاهِرِ فَقَطْ كَمَا أَفَادَهُ اللَّقَانِيُّ. [قَوْلُهُ: وَالصَّحَابَةُ إلَخْ] هُوَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ.
[قَوْلُهُ: الْأَصْحَابُ] قَالَ فِي شَرْحِ الْعَقِيدَةِ: وَجَمْعُ الْأَصْحَابِ أَصَاحِيبُ [قَوْلُهُ: جَمْعُ صَاحِبٍ] رَدَّهُ ابْنُ عَبْدِ الْحَقِّ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ أَصْحَابًا جَمْعٌ لِصَحْبٍ وَوَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ هَلْ هُوَ أَيْ صَحْبٌ جَمْعٌ لِصَاحِبٍ بِمَعْنَى الصَّحَابِيِّ أَوْ اسْمُ جَمْعٍ لَهُ قَوْلَانِ:
الْأَوَّلُ: لِلْأَخْفَشِ وَالثَّانِي لِسِيبَوَيْهِ، وَلَيْسَ أَيْ أَصْحَابُ جَمْعًا لِصَاحِبٍ؛ لِأَنَّ فَاعِلًا لَمْ يَثْبُتْ جَمْعُهُ عَلَى أَفْعَالٍ كَمَا ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ. [قَوْلُهُ: وَهُوَ مَنْ لَقِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم] قَالَ فِي شَرْحِ النُّخْبَةِ: الْمُرَادُ بِاللِّقَاءِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ الْمُجَالَسَةِ وَالْمُمَاشَاةِ وَوُصُولِ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ وَإِنْ لَمْ يُكَلِّمْهُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ رُؤْيَةُ أَحَدِهِمَا الْآخَرَ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ أَمْ بِغَيْرِهِ.
[قَوْلُهُ: ثُمَّ مَاتَ عَلَى الْإِسْلَامِ] اُحْتُرِزَ بِذَلِكَ مِمَّا إذَا اجْتَمَعَ بِهِ مُؤْمِنًا ثُمَّ مَاتَ مُرْتَدًّا كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَطَلٍ فَلَيْسَ بِصَحَابِيِّ بِاتِّفَاقٍ، وَأَمَّا مَنْ ارْتَدَّ بَعْدَ صُحْبَتِهِ ثُمَّ آمَنَ فَقَضِيَّةُ مَذْهَبِنَا مِنْ أَنَّ الرِّدَّةَ تُحْبِطُ الْعَمَلَ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى صَحَابِيًّا إلَّا إنْ عَادَ لِلْإِسْلَامِ وَلَقِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ثَانِيًا مُسْلِمًا كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، وَقَضِيَّةُ مَذْهَبِ مَنْ لَا يَرَى الْإِحْبَاطَ إلَّا بِالْمَوْتِ كَالشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يُسَمَّى صَحَابِيًّا إذَا عَادَ لِلْإِسْلَامِ بَعْدَ مَوْتِهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا فِي الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ فَإِنَّهُ كَانَ مِمَّنْ ارْتَدَّ، وَأُتِيَ بِهِ إلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه أَسِيرًا فَعَادَ إلَى الْإِسْلَامِ فَقَبِلَ مِنْهُ ذَلِكَ وَزَوَّجَهُ أُخْتَهُ، وَاشْتِرَاطُ الْمَوْتِ عَلَى الْإِسْلَامِ بِالنِّسْبَةِ لِلصَّحَابِيِّ الَّذِي يُتَرَضَّى عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَتُقْبَلُ رِوَايَتُهُ فَلَا يَرِدُ مَا قِيلَ: إنَّ الْمُنَاسِبَ إسْقَاطُ قَوْلِهِ: ثُمَّ مَاتَ عَلَى الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَلَا تَتَحَقَّقَ الصُّحْبَةُ لِأَحَدٍ فِي حَيَاتِهِ [قَوْلُهُ: عُدُولٌ] أَيْ فَلَا يُبْحَثُ عَنْ عَدَالَتِهِمْ كَمَا قَالَ الْمَحَلِّيُّ لَا فِي رِوَايَةٍ وَلَا فِي شَهَادَةٍ؛ لِأَنَّهُمْ خَيْرُ الْأُمَّةِ، وَمَنْ طَرَأَ لَهُ مِنْهُمْ قَادِحٌ كَسَرِقَةٍ أَوْ زِنًا عُمِلَ بِمُقْتَضَاهُ كَمَا وَرَدَ.
[قَوْلُهُ: وَغَيْرُهُمْ] أَيْ كَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمْ، فَهَؤُلَاءِ لَمْ يَدْخُلُوا فِي الْحُرُوبِ لَا مَعَ عَلِيٍّ وَلَا مَعَ مُعَاوِيَةَ، وَرَاعَى مَعْنَى مَنْ فَجَمَعَ، وَلَوْ رَاعَى اللَّفْظَ لَقَالَ وَغَيْرُهُ.
[قَوْلُهُ: بِإِجْمَاعِ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ] وَمُقَابِلُهُ أَقْوَالٌ قِيلَ: إنَّهُمْ كَغَيْرِهِمْ يُبْحَثُ عَنْ عَدَالَتِهِمْ فِي الرِّوَايَةِ وَالشَّهَادَةِ إلَّا مَنْ يَكُونُ ظَاهِرَ الْعَدَالَةِ أَوْ مَقْطُوعَهَا كَالشَّيْخَيْنِ، وَقِيلَ: هُمْ عُدُولٌ إلَى قَتْلِ عُثْمَانَ فَيُبْحَثُ عَنْ عَدَالَتِهِمْ مِنْ حِينِ قَتْلِهِ لِوُقُوعِ الْفِتَنِ بَيْنَهُمْ مِنْ حِينَئِذٍ، وَفِيهِمْ مَنْ انْعَزَلَ عَنْهُمْ حَالَةَ الْفِتْنَةِ، وَقِيلَ: هُمْ عُدُولٌ إلَّا مَنْ قَاتَلَ عَلِيًّا فَهُمْ فُسَّاقٌ لِخُرُوجِهِمْ عَلَى الْإِمَامِ الْحَقِّ وَرُدَّ بِأَنَّهُمْ مُجْتَهِدُونَ.
[قَوْلُهُ: عَلَى الصَّحِيحِ أَبُو بَكْرٍ] مُقَابِلُ الصَّحِيحِ أَقْوَالٌ، قِيلَ: خَدِيجَةُ وَهُوَ الصَّوَابُ عِنْدَ جَمَاعَةٍ، وَادَّعَى بَعْضُهُمْ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ،
الصَّحَابَةِ) أَهْلُ الْحُدَيْبِيَةِ الَّذِينَ بَايَعُوهُ رضي الله عنهم وَأَفْضَلُهُمْ أَهْلُ بَدْرٍ، وَأَفْضَلُهُمْ الْعَشَرَةُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدٌ وَسَعِيدٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَأَبُو عُبَيْدَةَ عَامِرُ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَفْضَلُهُمْ (الْخُلَفَاءُ) الْأَرْبَعَةُ جَمْعُ خَلِيفَةٍ، سُمُّوا خُلَفَاءَ؛ لِأَنَّهُمْ خَلَفُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْأَحْكَامِ. (الرَّاشِدُونَ) جَمْعُ رَاشِدٍ (الْمَهْدِيُّونَ) جَمْعُ هَادٍ، وَاللَّفْظَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ؛ لِأَنَّك تَقُولُ: أَرْشَدَك أَيْ هَدَاك، وَتَقُولُ: هَدَاك اللَّهُ أَيْ أَرْشَدَك، وَالْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ
ــ
[حاشية العدوي]
وَقِيلَ: عَلِيٌّ وَقِيلَ: زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَقِيلَ: بِلَالٌ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَالْأَوْرَعُ أَنْ يُقَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الرِّجَالِ أَبُو بَكْرٍ، وَمِنْ الصِّبْيَانِ عَلِيٌّ، وَمِنْ النِّسَاءِ خَدِيجَةُ، وَمِنْ الْمَوَالِي زَيْدٌ، وَمِنْ الْعَبِيدِ بِلَالٌ اهـ.
فَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ الْأَقْوَالِ: [قَوْلُهُ: وَأَفْضَلُ الصَّحَابَةُ أَهْلُ الْحُدَيْبِيَةِ] أَيْ بَعْدَ عِيسَى بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ صَحَابِيٌّ كَمَا قَالَهُ السُّيُوطِيّ وَغَيْرُهُ. [قَوْلُهُ: الَّذِينَ بَايَعُوهُ رضي الله عنهم] إشَارَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 18] إلَخْ.
[قَوْلُهُ: وَأَفْضَلُهُمْ أَهْلُ بَدْرٍ] أَيْ أَفْضَلُ الْحُدَيْبِيِّينَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي التَّحْقِيقِ. [قَوْلُهُ: وَأَفْضَلُهُمْ الْعَشَرَةُ] أَيْ أَفْضَلُ أَهْلِ بَدْرٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِيهِ أَيْضًا إذَا تَقَرَّرَ لَك مَا ذَكَرْته فَاعْلَمْ أَنَّ كَلَامَ الشَّارِحِ غَيْرُ مُنَاسِبٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ مَا عَدَا أَهْلَ بَدْرٍ أَفْضَلُ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ الَّذِينَ لَمْ يَحْضُرُوا الْحُدَيْبِيَةَ، وَأَنَّ أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ أَفْضَلُ مِنْ أَهْلِ أُحُدٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْحَقِّ فِي نَظْمِ النُّقَايَةِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ تَرْتِيبَ الْأَرْبَعَةِ فِي الْفَضْلِ:
فَالسِّتَّةُ الْبَاقُونَ ثُمَّ أَهْلُ
…
بَدْرٍ فَأَهْلُ أُحُدٍ فَكُلُّ
مَنْ بَايَعَ النَّبِيَّ تَحْتَ الشَّجَرَةِ
…
فَسَائِرُ الصَّحَابَةِ الْمُفْتَخِرَةِ
فَمَنْ بَقِيَ مِنْ أُمَّةِ النَّبِيِّ
…
عَلَى اخْتِلَافِ وَصْفِهِ الْجَلِيِّ
انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ [قَوْلُهُ: وَأَفْضَلُهُمْ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ] أَيْ فَمَرْتَبَةُ السِّتَّةِ تَلِي مَرْتَبَةَ الْأَخِيرِ مِنْ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ كَمَا ذَكَرَهُ اللَّقَانِيُّ قَائِلًا: وَانْظُرْ مَنْ الْأَفْضَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ السِّتَّةِ وَمَنْ يَلِيهِ، فَإِنِّي مَا رَأَيْته اهـ.
[قَوْلُهُ: جَمْعُ خَلِيفَةٍ إلَخْ] وَهُوَ كُلُّ مَنْ صَارَ عِوَضًا عَنْ غَيْرِهِ فِي شَيْءٍ، فَإِنْ خَلَفَهُ فِي شَرٍّ قِيلَ فِيهِ خَلْفٌ وَإِنْ خَلَفَهُ فِي خَيْرٍ، قِيلَ: فِيهِ خَلِيفَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} [ص: 26] وَقَالَ تَعَالَى {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} [مريم: 59] كَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ [قَوْلُهُ: جَمْعُ رَاشِدٍ] وَهُوَ الْمُسَدَّدُ فِي نَفْسِهِ الْمُوَفَّقُ فِي أَمْرِهِ كَمَا قَالَهُ تت.
[قَوْلُهُ: جَمْعُ هَادٍ] كَذَا فِي تت، وَالْمُنَاسِبُ أَنْ يَقُولَ جَمْعُ مَهْدِيٍّ لَا هَادٍ. [قَوْلُهُ: وَاللَّفْظَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ] فِيهِ نَظَرٌ لِمَا قَالَهُ عج، وَيُوَافِقُهُ الْمِصْبَاحُ وَنَصُّ عج وَإِنَّمَا قُدِّمَ الْوَصْفُ بِالرُّشْدِ؛ لِأَنَّهُ أَعَمُّ؛ لِأَنَّهُ مُصْلِحٌ لِلدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْهُدَى يَخُصُّ الدِّينَ اهـ.
[قَوْلُهُ: لِأَنَّك تَقُولُ إلَخْ] لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا يُوَافِقُهُ مَا قَالَهُ فِي تَحْقِيقِ الْمَبَانِي حَيْثُ يَقُولُ: وَهُمَا اسْمُ مَفْعُولٍ لَا اسْمُ فَاعِلٍ أَيْ الَّذِي هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأَرْشَدَهُمْ.
قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ، زَادَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: وَانْظُرْ هَلْ يُقَالُ اسْمُ فَاعِلٍ بِمَعْنَى اسْمِ مَفْعُولٍ أَمْ لَا اهـ.
أَقُولُ: وَالظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ أَيْ بِالنَّظَرِ لِلْمُتَبَادَرِ مِنْ ذَلِكَ الْحِلِّ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْ
مُتَفَاوِتُونَ فِي الْفَضِيلَةِ فَأَفْضَلُهُمْ (أَبُو بَكْرٍ) الصِّدِّيقُ رضي الله عنه وَلِيَ الْخِلَافَةَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَكَانَتْ مُدَّتُهُ سَنَتَيْنِ، وَقِيلَ: وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَمَاتَ وَسِنُّهُ كَسِنِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (ثُمَّ) يَلِيهِ فِي الْفَضِيلَةِ (عُمَرُ) بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه وَلِيَ الْخِلَافَةَ بِاسْتِخْلَافِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما، وَأَجْمَعَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى خِلَافَتِهِ وَكَانَتْ مُدَّتُهُ عَشْرَةَ أَعْوَامٍ وَكَسْرًا، تُوُفِّيَ وَسِنُّهُ كَسِنِّ أَبِي بَكْرٍ. (ثُمَّ) يَلِيه فِي الْفَضِيلَةِ (عُثْمَانُ) بْنُ عَفَّانَ رضي الله عنه وَلِيَ الْخِلَافَةَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ ثَلَاثَ عَشَرَةَ سَنَةً ثُمَّ قُتِلَ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا (ثُمَّ) يَلِيهِ فِي الْفَضِيلَةِ (عَلِيٌّ) بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه وَلِيَ الْخِلَافَةَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ أَرْبَعَةَ أَعْوَامٍ وَقِيلَ: خَمْسُ سِنِينَ تُوُفِّيَ بِالْكُوفَةِ قَتَلَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلْجَمٍ وَدُفِنَ فِي مِحْرَابِ مَسْجِدِهَا. (رضي الله عنهم) وَعَنَّا بِهِمْ (أَجْمَعِينَ) وَقَدْ أَشَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
ــ
[حاشية العدوي]
رَاشِدٍ وَهَادٍ اسْمُ فَاعِلٍ حَقِيقَةً وَإِنْ كَانَ الْوَصْفُ الَّذِي صَارَ بِهِ اسْمَ فَاعِلٍ أَثَرًا عَنْ غَيْرِهِ، فَمَعْنَى رَاشِدٍ وَهَادٍ ذَاتٌ اتَّصَفَتْ بِالرُّشْدِ وَالْهَدْي.
[قَوْلُهُ: أَيْ هَدَاك إلَخْ] قَضِيَّةُ الْمِصْبَاحِ أَنَّهُ يُقَالُ: أَيْ أَصْلَحَك قَائِلًا وَهُوَ أَيْ الصَّلَاحُ إصَابَةُ الصَّوَابِ اهـ.
وَظَاهِرُهُ فِي دِينٍ أَوْ دُنْيَا. [قَوْلُهُ: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ] صَدَّقَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي النُّبُوَّةِ بِغَيْرِ تَلَعْثُمٍ، وَفِي الْمِعْرَاجِ بِلَا تَرَدُّدٍ وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ. [قَوْلُهُ: وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ] زَادَ بَعْضُهُمْ وَعَشَرَةَ أَيَّامٍ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَدَلَ الْعَشَرَةِ تِسْعُ لَيَالٍ. [قَوْلُهُ: وَمَاتَ] أَيْ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ لِثَمَانٍ بَلَغَتْ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشَرَةَ مِنْ الْهِجْرَةِ، وَكَانَ سَبَبُ مَوْتِهِ شِدَّةُ وَجْدِهِ وَحُزْنِهِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [قَوْلُهُ: وَسِنُّهُ كَسِنِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم] أَيْ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً. [قَوْلُهُ: بِاسْتِخْلَافِ أَبِي بَكْرٍ] وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه لَمَّا أَيِسَ مِنْ حَيَاتِهِ دَعَا عُثْمَانَ وَأَمْلَى عَلَيْهِ كِتَابَ وَصِيَّةٍ بِالْخِلَافَةِ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، فَلَمَّا كَتَبَ خَتَمَ أَبُو بَكْرٍ الصَّحِيفَةَ وَأَمَرَ عُثْمَانَ فَخَرَجَ بِالْكِتَابِ مَخْتُومًا فَبَايَعَ النَّاسُ وَرَضُوا بِهِ وَمِنْ ذَلِكَ يُعْلَمُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَهُوَ أَنَّ الْخَلِيفَةَ إذَا أَوْصَى بِالْخِلَافَةِ لِأَحَدٍ تُتَّبَعُ وَصِيَّتُهُ [قَوْلُهُ: وَكَسْرًا] وَالْكَسْرُ عِنْدَ الْحِسَابِ جُزْءٌ غَيْرُ تَامٍّ مِنْ أَجْزَاءِ الْوَاحِدِ كَالنِّصْفِ وَالْعُشْرِ إلَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا دُونَ السَّنَةِ، وَلَمْ يُعَيِّنْ الشَّارِحُ ذَلِكَ الْكَسْرَ وَبَعْضٌ عَيَّنَهُ فَقَالَ: وَمُدَّةُ خِلَافَتِهِ عَشْرُ سِنِينَ وَسِتَّةُ أَشْهُرٍ وَثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ، وَقِيلَ بَدَلَ الثَّمَانِيَةِ خَمْسُ لَيَالٍ. [قَوْلُهُ: تُوُفِّيَ] أَيْ عُمَرُ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْهِجْرَةِ فِي ذِي الْحِجَّةِ لِأَرْبَعَ عَشَرَةَ لَيْلَةَ مَضَتْ مِنْهُ فِي السَّنَةِ الْمَذْكُورَةِ. [قَوْلُهُ: وَسِنُّهُ كَسِنِّ أَبِي بَكْرٍ] لَمْ يَقُلْ كَسِنِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلْإِشَارَةِ إلَى أَنَّهُ يَلِي أَبَا بَكْرٍ فِي الْفَضْلِ كَمَا ذُكِرَ. [قَوْلُهُ: وَلِيَ الْخِلَافَةُ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ] وَلَمْ يَحْصُلْ مِنْ عُمَرَ اسْتِخْلَافٌ لَهُ كَمَا وَقَعَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ، وَكَذَا لَمْ يَقَعْ مِنْ عُثْمَانَ اسْتِخْلَافٌ لِعَلِيٍّ. [قَوْلُهُ: وَعُدْوَانًا] الْعُدْوَانُ هُوَ الظُّلْمُ فَهُوَ عَطْفُ مُرَادِفٍ قُتِلَ عَلِيٌّ رضي الله عنه وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ بَعْدَ الْعَصْرِ وَدُفِنَ يَوْمَ السَّبْتِ قَبْلَ الظُّهْرِ وَقِيلَ غَيْرَ ذَلِكَ.
[قَوْلُهُ: بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ] أَيْ كُلِّهِمْ فَإِنْ قُلْت: يَرُدُّ ذَلِكَ مَا سَيَأْتِي مِنْ مُنَازَعَةِ مُعَاوِيَةَ لَهُ قُلْت: أَفَادَ السَّعْدُ أَنَّ مُنَازَعَةَ مُعَاوِيَةَ لَمْ تَكُنْ عَنْ نِزَاعٍ فِي خِلَافَتِهِ بَلْ عَنْ خَطَأٍ فِي الِاجْتِهَادِ، وَسَيَأْتِي مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ. [قَوْلُهُ: مُلْجَمٍ] قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ: اسْمُ مَفْعُولٍ اهـ. فَهُوَ بِفَتْحِ الْجِيمِ.
[قَوْلُهُ: وَدُفِنَ فِي مِحْرَابِ مَسْجِدِهَا] وَقِيلَ: بِقَصْرِ الْأُمَرَاءِ وَقِيلَ: لَا يُعْرَفُ قَبْرُهُ وَقِيلَ غَيْرَ ذَلِكَ. [قَوْلُهُ: وَعَنَّا بِهِمْ] أَيْ وَرَضِيَ عَنَّا بِسَبَبِهِمْ، أَيْ بِالْحُبِّ أَوْ التَّوَسُّلِ. [قَوْلُهُ: الْخِلَافَةُ] هِيَ النِّيَابَةُ عَنْهُ فِي عُمُومِ مَصَالِحَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ إقَامَةِ الدِّينِ وَصِيَانَةِ الْمُسْلِمِينَ بِحَيْثُ يَجِبُ عَلَى كَافَّةِ الْخَلْقِ الِاتِّبَاعُ لَهُمْ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِمْ مُخَالَفَتُهُمْ.
وَقَالَ عج: وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الْخِلَافَةَ حَقُّ الْخِلَافَةِ وَهِيَ خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ، إنَّمَا هِيَ خِلَافَةُ الَّذِينَ صَدَقُوا هَذَا الِاسْمَ بِأَعْمَالِهِمْ وَعَمِلُوا بِسُنَّتِهِ بَعْدَهُ، وَأَمَّا إذَا خَالَفُوا سُنَّتَهُ وَبَدَّلُوا سِيرَتَهُ فَهُمْ حِينَئِذٍ مُلُوكٌ وَإِنْ كَانَ
إلَى مُدَّةِ خِلَافَتِهِمْ بِقَوْلِهِ: «الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَضُوضًا» وَلِهَذَا قَالَ مُعَاوِيَةُ رضي الله عنه لَمَّا وَلِيَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الثَّلَاثِينَ سَنَةً: أَنَا أَوَّلُ الْمُلُوكِ. ع: اُنْظُرْ هَلْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: (وَأَنْ لَا يُذْكَرَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الرَّسُولِ) صلى الله عليه وسلم (إلَّا بِأَحْسَنَ ذِكْرٍ) مَعْنَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «إذَا ذُكِرَ أَصْحَابِي فَأَمْسِكُوا» أَوْ أَرَادَ التَّوْطِئَةَ لِقَوْلِهِ: (وَالْإِمْسَاكُ) أَيْ الْكَفُّ وَالسُّكُوتُ (عَمَّا شَجَرَ) أَيْ وَقَعَ (بَيْنَهُمْ) مِنْ النِّزَاعِ وَالْقِتَالِ (وَأَنَّهُمْ أَحَقُّ) أَيْ أَوْجَبُ (النَّاسِ أَنْ يُلْتَمَسَ) أَيْ
ــ
[حاشية العدوي]
أَسْمَاؤُهُمْ خُلَفَاءَ اهـ.
[قَوْلُهُ: ثَلَاثُونَ سَنَةً] قَالَ السُّيُوطِيّ: الثَّلَاثُونَ لَا تَزِيدُ عَلَى مُدَّةِ خِلَافَةِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ كَمَا حَرَّرْتُهُ، فَمُدَّةُ خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ سَنَتَانِ وَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةُ أَيَّامٍ، وَمُدَّةُ خِلَافَةِ عُمَرَ عَشَرُ سِنِينَ وَسِتَّةُ أَشْهُرٍ وَثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ، وَمُدَّةُ خِلَافَةِ عُثْمَانَ إحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً وَأَحَدَ عَشْرَ شَهْرًا وَتِسْعَةُ أَيَّامٍ، وَمُدَّةُ خِلَافَةِ عَلِيٍّ أَرْبَعُ سِنِينَ وَتِسْعَةُ أَشْهُرٍ وَسَبْعَةُ أَيَّامٍ، هَذَا هُوَ التَّحْرِيرُ.
قَالَ اللَّقَانِيُّ: قُلْت: مِمَّا لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ أَنَّ هَذَا الَّذِي حَرَّرَهُ يَنْقُصُ عَلَى الثَّلَاثِينَ إذْ هُوَ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ عَامًا وَسِتَّةُ أَشْهُرٍ وَأَرْبَعَةُ أَيَّامٍ وَلَا يَكْمُلُ دَوْرُ الثَّلَاثِينَ إلَّا بِأَيَّامِ خِلَافَةِ الْحَسَنِ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. ثُمَّ إنَّ الْحَسَنَ سَلَّمَ الْأَمْرَ إلَى مُعَاوِيَةَ وَحَقَّقَ اللَّهُ بِذَلِكَ قَوْلَ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ» : [قَوْلُهُ: ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا] بِتَثْلِيثِ الْمِيمِ أَيْ خِلَافَةً نَاقِصَةً يَشُوبُهَا الزَّلَلُ وَعَدَمُ خُلُوصِهَا مَنِّ الْخَلَلِ. [قَوْلُهُ: أَنَا أَوَّلُ الْمُلُوكِ] فِيهِ اعْتِرَافٌ بِوُقُوعِ الْخَلَلِ فِي خِلَافَتِهِ كَمَا هُوَ قَضِيَّةُ مَا تَقَدَّمَ. [قَوْلُهُ: عَضُوضًا] بِفَتْحِ الْعَيْنِ مِنْ عَضَّ. مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ يَتَعَسَّفُونَ عَلَى الرَّعِيَّةِ فَكَأَنَّهُمْ يَعَضُّونَهُمْ بِالْأَسْنَانِ. [قَوْلُهُ: اُنْظُرْ هَلْ أَرَادَ مَعْنًى إلَخْ] أَيْ فَلَمْ يَذْكُرْهُ لِكَوْنِهِ مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ.
أَقُولُ: لَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُهُ لِذَلِكَ أَيْ إذَا خَطَرَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِالْبَالِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْتَقِدُوا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَلَا يُذْكَرُوا إلَّا بِأَحْسَنِ الذِّكْرِ أَيْ لَا أَنْ يَعْتَقِدُوا أَنَّهُ يَلِيقُ بِهِمْ أَنْ يُذْكَرُوا بِقَبِيحٍ، لَكِنْ قَضِيَّةُ التَّعْبِيرِ بِأَحْسَنَ عَدَمُ ذِكْرِهِمْ بِالْأَقْبَحِ وَبِالْقَبِيحِ وَبِالْمَكْرُوهِ وَبِخِلَافِ الْأَوْلَى وَبِالْمُبَاحِ وَبِالْحَسَنِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ ذِكْرَهُمْ بِالْقَبِيحِ، إمَّا كُفْرٌ كَأَنْ قَالَ: إنَّهُمْ عَلَى ضَلَالَةٍ وَكُفْرٍ؛ لِأَنَّهُ أَنْكَرَ مَعْلُومًا مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَهَلْ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ كَالْمُرْتَدِّ أَوْ لَا كَالزِّنْدِيقِ خِلَافٌ، وَإِمَّا مَعْصِيَةٌ إنْ ذَكَرَهُمْ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ فَيُحَدُّ وَيُنَكَّلُ بَعْدَ ذَلِكَ النَّكَالِ الشَّدِيدِ، وَكَذَا إنْ ذَكَرَهُمْ بِقَبِيحٍ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ إلَّا أَنَّهُ يُجْلَدُ الْجَلْدَ الشَّدِيدَ وَيُخَلَّدُ فِي السِّجْنِ إلَى أَنْ يَمُوتَ، وَأَمَّا ذِكْرُهُمْ بِالْمَكْرُوهِ فَمَكْرُوهٌ وَبِخِلَافِ الْأَوْلَى فَخِلَافُ الْأَوْلَى وَكَذَا بِالْمُبَاحِ إلَّا أَنَّهُ أَضْعَفُ مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ، وَكَذَا بِالْحُسْنِ حَيْثُ أَمْكَنَ الْأَحْسَنُ وَهُوَ أَيْضًا أَضْعَفُ مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ عَلَى الظَّاهِرِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ أَيْ مِنْ قَوْلِي وَأَمَّا ذِكْرُهُمْ بِالْمَكْرُوهِ إلَخْ. [قَوْلُهُ: فَأَمْسِكُوا] بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ مِنْ أَمْسَكَ أَيْ وُجُوبًا عَنْ الْقَبِيحِ بِأَقْسَامِهِ وَنَدْبًا أَكِيدًا عَنْ الْمَكْرُوهِ وَغَيْرَ أَكِيدٍ عَنْ الْمُبَاحِ وَالْحَسَنِ، وَإِنْ اُخْتُلِفَ بِالنِّسْبَةِ لَهُمَا هَذَا مَا ظَهَرَ لِي. [قَوْلُهُ: أَوْ أَرَادَ التَّوْطِئَةَ] أَيْ فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ عَدَمَ ذِكْرِ مَا وَقَعَ بَيْنَهُمْ مِنْ التَّشَاجُرِ.
[قَوْلُهُ: وَالسُّكُوتُ] عَطْفُ خَاصٍّ عَلَى عَامٍّ [قَوْلُهُ: وَالْقِتَالُ] عَطْفٌ مُغَايِرٌ إنْ خَصَّ النِّزَاعَ بِالْأَقْوَالِ، وَعَطْفُ خَاصٍّ عَلَى عَامٍّ إنْ أُرِيدَ بِالنِّزَاعِ مَا هُوَ أَعَمُّ.
تَنْبِيهٌ: الْإِمْسَاكُ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ وَاجِبٌ.
[قَوْلُهُ: وَأَنَّهُمْ أَحَقُّ] بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَيْ مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّهُمْ أَحَقُّ. [قَوْلُهُ: أَيْ أَوْجَبُ النَّاسِ] أَيْ أَنَّهُمْ أَشَدُّ وُجُوبًا مِنْ النَّاسِ فِي الْتِمَاسِ أَحْسَنِ الْمَخَارِجِ أَيْ فَوُجُوبُ الْتِمَاسِ أَحْسَنِ الْمَخَارِجِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ، إلَّا أَنَّهُمْ تَمَيَّزُوا بِأَشَدِّيَّتِهِ وَلَا تَفْهَمْ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْتِمَاسُ الْحَسَنِ الَّذِي لَيْسَ بِأَحْسَنَ حَرَامًا؛ لِأَنَّنَا نُرِيدُ بِالْأَحْسَنِ الْحَسَنَ
يُطْلَبَ (لَهُمْ أَحْسَنُ الْمَخَارِجِ) أَيْ التَّأْوِيلَاتِ.
(وَ) أَحَقُّ أَنْ (يُظَنَّ) بِمَعْنَى يُتَيَقَّنُ (بِهِمْ أَحْسَنُ الْمَذَاهِبِ) أَيْ الْآرَاءِ الْمُتَّبَعَةِ فِي الدِّينِ. حَاصِلُ مَا قَالَ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَتَأَوَّلَ مَا نُقِلَ عَنْهُمْ نَقْلًا صَحِيحًا مِمَّا وَقَعَ مِنْهُمْ مِنْ قِتَالٍ وَخِلَافٍ أَحْسَنَ التَّأْوِيلِ، فَيُؤَوِّلُ مَا وَقَعَ بَيْنَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ رضي الله عنهما أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه طَلَبَ انْعِقَادَ الْبَيْعَةِ أَوَّلًا إذْ لَا تُقَامُ الْحُدُودُ وَلَا يَسْتَقِيمُ أَمْرُ النَّاسِ إلَّا بِالْإِمَامِ، وَطَلَبَ مُعَاوِيَةُ رضي الله عنه الْقِصَاصَ مِنْ الَّذِينَ
ــ
[حاشية العدوي]
وَهُوَ مَا كَانَ مُخَلَّصًا مِنْ وَرْطَةِ الْقُبْحِ [قَوْلُهُ: أَيْ يُطْلَبَ] الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالطَّلَبِ التَّحْصِيلَ. [قَوْلُهُ: أَيْ التَّأْوِيلَاتِ] أَيْ فَالْمَخَارِجُ جَمْعُ مَخْرَجٍ بِمَعْنَى التَّأْوِيلِ، ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَخْرَجٌ مَصْدَرًا مِيمِيًّا بِمَعْنَى الْخُرُوجِ، فَالتَّأْوِيلُ خُرُوجٌ مِنْ وَرْطَةِ الْقَدْحِ عَلَى ضَرْبٍ مِنْ التَّسَمُّحِ، أَوْ اسْمَ مَكَان أَيْ مَكَانَ الْخُرُوجِ إذْ لَا يَخْفَى أَنَّ التَّأْوِيلَ مَوْضِعُ الْخُرُوجِ مِنْ وَرْطَةِ الْقَدْحِ [قَوْلُهُ: وَأَحَقُّ إلَخْ] الَّذِي قِيلَ فِي أَحَقِّ الْمُتَقَدِّمِ يُقَالُ: فِي هَذَا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْأَوَّلَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا بَيْنَهُمْ، وَأَمَّا هَذَا فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِهِمْ مَعَ غَيْرِهِمْ فَهُوَ عَطْفُ مُغَايِرٍ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ جَعَلَهُ عَيْنَ الْأَوَّلِ.
نَعَمْ يَبْقَى إشْكَالٌ: وَهُوَ أَنَّ تَيَقُّنَ أَحْسَنِيَّةِ الْمَذَاهِبِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الصَّحْبِ وَغَيْرِهِمْ، فَمَنْ الَّذِي يَتَّصِفُ بِأَصْلِ الْحَسَنِ فَالْمُخَلِّصُ أَنْ يُرَادَ بِالْأَحْسَنِ الْحَسَنُ.
[قَوْلُهُ: بِمَعْنَى يَتَيَقَّنَ] أَيْ فَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ الظَّنِّ حَقِيقَتُهُ بَلْ الْيَقِينُ عَلَى حَدِّ قَوْله تَعَالَى {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 46] وَالْيَقِينُ هُوَ الْجَزْمُ النَّاشِئُ عَنْ دَلِيلٍ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْجَزْمَ لَهُ دَلِيلٌ وَهُوَ «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:«لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا» إلَخْ [قَوْلُهُ: بِهِمْ] مُتَعَلِّقٌ بِيَظُنُّ أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ بِظَنِّ أَحْسَنِ الْمَذَاهِبِ مُلْتَبِسًا بِهِمْ. [قَوْلُهُ: أَيْ الْآرَاءُ] جَمْعُ رَأْيٍ بِمَعْنَى الْحُكْمِ الَّذِي رَأَوْهُ وَاعْتَقَدُوهُ وَكَأَنَّهُ قَالَ: وَأَحَقُّ أَنْ يَتَيَقَّنَ بِهِمْ أَحْسَنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي اسْتَنْبَطُوهَا وَاسْتَخْرَجُوهَا بِاجْتِهَادِهِمْ. [قَوْلُهُ: الْمُتَّبَعَةُ] إسْنَادُ الِاتِّبَاعِ لَهَا مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، وَإِنَّمَا الْمُتَّبَعُ أَصْحَابُهَا.
[قَوْلُهُ: فِي الدِّينِ] ظَرْفٌ لِلْآرَاءِ مِنْ ظَرْفِيَّةِ الْكُلِّ الَّذِي هُوَ الدِّينُ لِلْجُزْءِ الَّذِي هُوَ الْآرَاءُ؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الْمُسْتَخْرَجَةَ لَهُمْ بَعْضُ الدِّينِ أَوْ فِي بِمَعْنَى مِنْ التَّبْعِيضِيَّةِ.
[قَوْلُهُ: حَاصِلُ مَا قَالَ إلَخْ] هَذَا يُؤْذِنُ بِأَنَّ قَوْلَهُ: وَأَحَقُّ أَنْ يُظَنَّ هُوَ عَيْنُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَقَدْ عَلِمْت مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّهُ خِلَافُهُ بَلْ هَذَا الْحَاصِلُ حَاصِلٌ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ: أَحَقُّ أَنْ يُلْتَمَسَ لَهُمْ أَحْسَنُ الْمَخَارِجِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْمَعْطُوفِ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ وَأَحَقُّ أَنْ يُظَنَّ إلَخْ [قَوْلُهُ: يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ] وَكَذَا كُلُّ كَافِرٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مُخَاطَبٌ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ [قَوْلُهُ: نَقْلًا صَحِيحًا] أَيْ أَوْ حَسَنًا أَوْ أَرَادَ بِهِ مَا يَعُمُّ الْحَسَنَ لَا إنْ كَانَ ضَعِيفًا فَإِنَّهُ يُرَدُّ. [قَوْلُهُ: وَخِلَافٍ] أَيْ اخْتِلَافٍ وَهُوَ عَطْفُ مُغَايِرٍ. [قَوْلُهُ: أَحْسَنَ] أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ لَيْسَ عَلَى بَابِهِ فَالْمُرَادُ تَأْوِيلًا حَسَنًا [قَوْلُهُ: فَيَتَأَوَّلُ مَا وَقَعَ بَيْنَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ] أَيْ مِنْ الْقِتَالِ الَّذِي قُتِلَ بِسَبَبِهِ مِنْهُمْ جَمٌّ غَفِيرٌ كَمَا فِي وَقْعَةِ صِفِّينَ، اسْمُ مَوْضِعٍ أَوْ مَاءٍ بِالشَّامِ، وَلَمْ يُقَاتِلْ عَلِيٌّ فِيهَا حَتَّى قُتِلَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ فَجَرَّدَ ذَا الْفَقَارِ وَقَتَلَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَلْفًا وَسِتَّمِائَةٍ، وَصِفِّينُ بِكَسْرِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتٍ وَبَعْدَهَا نُونٌ، وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَرْضٌ عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ بِالْقُرْبِ مِنْ مَدِينَةِ الرَّقَّةِ اهـ.
[قَوْلُهُ: انْعِقَادَ الْبَيْعَةِ] أَيْ حُصُولَ الْمُبَايَعَةِ وَالطَّاعَةِ لِإِنْسَانٍ يُجْعَلُ خَلِيفَةً.
[قَوْلُهُ: إذْ لَا تُقَامُ الْحُدُودُ] ؛ لِأَنَّ إقَامَةَ الْحُدُودِ شَأْنُهَا عَظِيمٌ، فَلَوْ تَوَلَّاهَا غَيْرُ الْإِمَامِ لَوَقَعَ مِنْ النِّزَاعِ مَا لَا يُحْصَى إذْ لَا يَرْضَى أَحَدٌ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ [قَوْلُهُ: وَلَا يَسْتَقِيمُ أَمْرُ النَّاسِ] هَذَا أَعَمُّ مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ فَهُوَ عَطْفُ عَامٍّ عَلَى خَاصٍّ، أَيْ لَا يَسْتَقِيمُ أَمْرُ النَّاسِ مِنْ تَنْفِيذِ أَحْكَامِهِمْ وَسَدِّ ثُغُورِهِمْ وَتَجْهِيزِ جُيُوشِهِمْ وَأَخْذِ صَدَقَاتِهِمْ وَقَهْرِ الْمُتَغَلِّبَةِ وَالْمُتَلَصِّصَةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَإِقَامَةِ الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ وَقَطْعِ الْمُنَازَعَاتِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ الْعِبَادِ وَقِسْمَةِ الْغَنَائِمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. [قَوْلُهُ: وَطَلَبَ مُعَاوِيَةُ الْقِصَاصَ إلَخْ] وَذَلِكَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ طَلَبَ بِدَمِ عُثْمَانَ رضي الله عنه لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ بُنُوَّةِ الْعُمُومَةِ، وَقَصَدَ أَنْ يُسَلِّمَ عَلِيٌّ رضي الله عنه قَتَلَةَ عُثْمَانَ إلَيْهِ عَلَى الْفَوْرِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إنْ أَرْسَلَهُمْ إلَيْهِ
قَتَلُوا عُثْمَانَ رضي الله عنه فَوَقَعَ مَا وَقَعَ وَلَكِنْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْحَقِّ عَلَى أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه اجْتَهَدَ وَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَأَنَّ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه اجْتَهَدَ وَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ.
تَنْبِيهٌ:
لَا تَنَاقُضَ بَيْنَ قَوْلِهِ: وَالْإِمْسَاكُ إلَى آخِرِهِ وَقَوْلِهِ: وَأَنْ يُلْتَمَسَ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ فِي حَقِّ الْعَامَّةِ، وَالثَّانِي فِي حَقِّ الْعُلَمَاءِ إذْ فَرْضُهُمْ الْبَيَانُ وَإِزَالَةُ الْإِشْكَالِ.
(وَالطَّاعَةُ) أَيْ الِانْقِيَادُ وَاجِبٌ (لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ) بِالِاعْتِقَادِ وَالْفِعْلِ بِامْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَالنَّهْيِ عَنْ الزَّوَاجِرِ،
ــ
[حاشية العدوي]
بَايَعَ لَهُ وَرَأَى عَلِيٌّ رضي الله عنه أَنَّ الْمُبَادَرَةَ بِتَسْلِيمِهِمْ مَعَ كَثْرَةِ عَشَائِرِهِمْ وَاخْتِلَاطِهِمْ بِالْعَسْكَرِ تُؤَدِّي إلَى اضْطِرَابِ أَمْرِ الْإِمَامَةِ وَتَفَاقُمِ الْفِتَنِ، وَأَنَّ الْإِمْهَالَ بِتَسْلِيمِهِمْ لِيَتَحَقَّق تَمَكُّنُهُ هُوَ الصَّوَابُ فَحَقِّقْ الْأَمْرَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ اعْتِقَادِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه لَمْ يَكُنْ خَلِيفَةً فِي أَيَّامِ عَلِيٍّ رضي الله عنه غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ لَهُ أَجْرًا وَاحِدًا، وَاخْتَلَفُوا فِي إمَامَتِهِ بَعْدَ مَوْتِ عَلِيٍّ رضي الله عنه. [قَوْلُهُ: لَكِنْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْحَقِّ] اُنْظُرْ هَلْ لَهُ مَفْهُومٌ وَهُوَ أَنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ فَلْيُحَرَّرْ، وَأَهْلُ الْحَقِّ عِبَارَةٌ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أَشَاعِرَةٍ وَمَاتُرِيدِيَّةٍ، أَوْ الْمُرَادُ بِهِمْ مَنْ كَانَ عَلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَشْمَلُ مَنْ كَانَ قَبْلَ ظُهُورِ الشَّيْخَيْنِ أَعْنِي أَبَا الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيَّ وَأَبَا مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيَّ.
[قَوْلُهُ: فَلَهُ أَجْرَانِ إلَخْ] لَا يَخْفَى أَنَّ الْأَجْرَ عَلَى الِاجْتِهَادِ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ لَهُ فَيُؤْجَرُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْإِصَابَةُ فَلَيْسَتْ بِاخْتِيَارِيَّةٍ لَهُ فَمَا وَجْهُ تَرْتِيبِ الْأَجْرِ عَلَيْهَا؟ قُلْت: هِيَ أَثَرُ اجْتِهَادِهِ فَنُزِّلَتْ مَنْزِلَتُهُ. [قَوْلُهُ: فَإِنَّ الْأَوَّلَ فِي حَقِّ الْعَامَّةِ إلَخْ] أَيْ أَوْ يُقَالُ: الْمَطْلُوبُ ابْتِدَاءُ الْإِمْسَاكِ مِنْ الْمُكَلَّفِ، فَإِذَا وَقَعَ وَنَزَلَ وَتَكَلَّمَ فَالْوَاجِبُ أَنْ يَلْتَمِسَ لَهُمْ أَحْسَنَ الْمَخَارِجِ كُلٌّ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ وَالسَّامِعِ، وَجَوَابُ الشَّارِحِ لَا يُفِيدُ نَهْيَ الْخَاصَّةِ عَنْ التَّكَلُّمِ فِي ذَلِكَ ابْتِدَاءً بِخِلَافِ هَذَا الْجَوَابِ.
قَالَ عج: وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنْ يُقَالَ قَوْلُهُ: وَالْإِمْسَاكُ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَهُمْ مَعْنَاهُ حَيْثُ كَانَ ذِكْرُ مَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ لَيْسَ فِيهِ رَفْعُ اللَّوْمِ عَنْهُمْ وَإِلَّا لَمْ يُطْلَبْ الْإِمْسَاكُ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، بَلْ رُبَّمَا يُطْلَبُ ذِكْرُهُ اهـ.
[قَوْلُهُ: الْبَيَانُ إلَخْ] الْبَيَانُ بِمَعْنَى التَّبْيِينِ وَهُوَ إخْرَاجُ الشَّيْءِ مِنْ حَيِّزِ الْإِشْكَالِ إلَى حَيِّزِ التَّجَلِّي، فَعَطْفُ الْإِزَالَةِ عَطْفُ لَازِمٍ عَلَى مَلْزُومٍ.
[قَوْلُهُ: أَيْ الِانْقِيَادُ] مَنْ طَاعَ يَطُوعُ إذْ انْقَادَ. [قَوْلُهُ: وَاجِبٌ] هَذَا هُوَ الصَّوَابُ خِلَافًا لِقَوْلِ الزَّنَاتِيِّ مَنْدُوبٌ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْخَبَرَ مَحْذُوفٌ، وَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُصَرِّحَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ كَوْنٌ خَاصٌّ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَيُجَابُ بِأَنَّهُ اتَّكَلَ عَلَى الْأَدِلَّةِ الْخَارِجِيَّةِ كَقَوْلِهِ {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] إلَخْ. [قَوْلُهُ: بِالِاعْتِقَادِ] الْبَاءُ لِلتَّصْوِيرِ أَيْ إنَّ الطَّاعَةَ مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ، فَمَتَى انْتَفَى أَحَدُهُمَا فَهُوَ عَاصٍ أَيْ اعْتِقَادُ أَنَّهُمْ أَئِمَّةٌ وَأَنَّ طَاعَتَهُمْ وَاجِبَةٌ، وَأَرَادَ بِالْفِعْلِ مَا يَشْمَلُ الْقَوْلَ. [قَوْلُهُ: بِامْتِثَالِ الْأَوَامِرِ إلَخْ] تَصْوِيرٌ لِلْفِعْلِ، فَالِامْتِثَالُ هُوَ الطَّاعَةُ كَمَا يُفِيدُهُ الْمِصْبَاحُ، وَحِينَئِذٍ فَإِيقَاعُ الْإِطَاعَةِ عَلَى الْأَوَامِرِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ؛ لِأَنَّ الْمُطَاعَ حَقِيقَةً ذُو الْأَمْرِ.
[قَوْلُهُ: وَالنَّهْيُ عَنْ الزَّوَاجِرِ] لَا يَخْفَى أَنَّ النَّهْيَ مِنْ صِفَاتِ الْأَئِمَّةِ لَا مِنْ صِفَاتِ رَعِيَّتِهِمْ، فَيُجَابُ بِأَنَّهُ ضَمَّنَ النَّهْيَ مَعْنَى الْكَفِّ وَالْمَعْنَى، وَالْكَفُّ عَنْ الزَّوَاجِرِ أَيْ مَزْجُورَاتِهِمْ؛ لِأَنَّ الزَّوَاجِرَ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَوَانِعِ، وَالْكَفُّ لَيْسَ عَنْهَا بَلْ عَنْ مَزْجُورَاتِهِمْ أَيْ مَمْنُوعَاتِهِمْ أَيْ الْأَشْيَاءِ الَّتِي مَنَعُوهَا وَهَذَا كُلُّهُ ظَاهِرٌ إذَا أَمَرُوا وَنَهَوْا بِمَا يُوَافِقُ الشَّرِيعَةَ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ بِأَنْ أَمَرُوا بِمَعْصِيَةٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهَا مَثَلًا فَإِنَّهَا تَحْرُمُ إطَاعَتُهُمْ فِي ذَلِكَ إلَّا أَنَّ الْمَأْمُورَ حِينَئِذٍ يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُكْرَهِ فِي إتْيَانِهَا وَتَرْكِهَا، وَفِعْلُ الْمَكْرُوهِ لَا يُوصَفُ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ لَكِنْ يَجْرِي فِيهِ تَفْصِيلُ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوهِ الْإِكْرَاهِ، فَفِي سَبِّ مُسْلِمٍ غَيْرِ صَحَابِيٍّ مَثَلًا يَكْفِي فِيهِ الْإِكْرَاهُ بِخَوْفِ وُقُوعِ مُؤْلِمٍ مَنْ قَتْلٍ أَوْ ضَرْبٍ، وَلَوْ قَالَ: أَوْ سَجْنٍ أَوْ قَيْدٍ أَوْ صَفْعٍ، وَأَمَّا الْإِكْرَاهُ عَلَى الْكُفْرِ وَسَبِّهِ عليه السلام وَقَذْفُ الْمُسْلِمِ وَسَبُّ الصَّحَابِيِّ مَثَلًا فَلَا يَكْفِي فِي الْإِقْدَامِ إلَّا الْإِكْرَاهُ بِخَوْفِ إيقَاعِ الْقَتْلِ بِالْمُكْرَهِ، وَصَبْرُهُ أَجْمَلُ، وَأَمَّا قَتْلُ الْمُسْلِمِ وَقَطْعُهُ وَالزِّنَا بِامْرَأَةٍ مُكْرَهَةٍ أَوْ ذَاتِ زَوْجٍ
وَفَسَّرَ الْأَئِمَّةَ بِقَوْلِهِ: (مِنْ وُلَاةِ أُمُورِهِمْ) أَيْ أَحْكَامِهِمْ (وَعُلَمَائِهِمْ) فَجَمَعَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ فِي تَأْوِيلِ أُولِي الْأَمْرِ مِنْ قَوْله تَعَالَى {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِهِمْ الْعُلَمَاءُ الْعَامِلُونَ بِعِلْمِهِمْ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنْكَرِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِهِمْ أُمَرَاءُ الْحَقِّ الْعَامِلُونَ بِأَمْرِ اللَّهِ وَأَمْرِ السُّنَّةِ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَالْجَائِرُونَ لَا يُطَاعُونَ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ، وَمِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: مَنْ رَأَى مِنْكُمْ فِي اعْوِجَاجًا يَعْنِي عَنْ الْحَقِّ فَلْيُذَكِّرْنِي، فَقَامَ إلَيْهِ بِلَالٌ أَوْ سَلْمَانُ فَقَالَ: لَوْ رَأَيْنَا فِيك اعْوِجَاجًا لَقَوَّمْنَاك بِسُيُوفِنَا. فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مَنْ إذَا رَأَى فِي اعْوِجَاجًا قَوَّمَنِي بِسَيْفِهِ.
(وَ) كَذَلِكَ (اتِّبَاعُ السَّلَفِ الصَّالِحِ) وَهُمْ الصَّحَابَةُ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَفِيمَا تَأَوَّلُوهُ وَاسْتَنْبَطُوهُ عَنْ اجْتِهَادِهِمْ، (وَاقْتِفَاءُ آثَارِهِمْ)
ــ
[حاشية العدوي]
فَلَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا وَلَوْ قُتِلَ، أَفَادَ ذَلِكَ اللَّقَانِيُّ فِي شَرْحِهِ الْكَبِيرِ.
وَأَمَّا إذَا أَمَرُوا بِمَكْرُوهٍ فَفِيهِ خِلَافُ الْوُجُوبِ عِنْدَ ابْنِ عَرَفَةَ حَيْثُ لَمْ تَكُنْ الْكَرَاهَةُ مُجْمَعًا عَلَيْهَا وَعَدَمُهُ عِنْدَ الْقُرْطُبِيِّ.
قَالَ: فَلَوْ أَمَرُوا بِجَائِزٍ صَارَتْ طَاعَتُهُمْ فِيهِ وَاجِبَةٌ، وَلَمَا حَلَّتْ مُخَالَفَتُهُمْ فَلَوْ أَمَرُوا بِمَا زَجَرَ الشَّارِعُ عَنْهُ زَجْرَ تَنْزِيهٍ لَا تَحْرِيمٍ فَالْأَظْهَرُ جَوَازُ الْمُخَالَفَةِ إلَّا أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ فَلَهُ أَنْ يَمْتَثِلَ اهـ.
[قَوْلُهُ: أَيْ حُكَّامِهِمْ] كَذَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ الَّتِي يُظَنُّ بِهَا الصِّحَّةُ بِدُونِ هَمْزٍ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ وَشَرْحِ الْعَقِيدَةِ وَتَحْقِيقِ الْمَبَانِي وَبَعْضُ الشُّرَّاحِ أَحْكَامِهِمْ فَيَكُونُ تَفْسِيرًا لِلْأُمُورِ الَّذِي هُوَ الْمُضَافُ إلَيْهِ.
[قَوْلُهُ: الْعُلَمَاءُ الْعَامِلُونَ] وَهُمْ قِسْمَانِ: مُجْتَهِدٌ وَمُقَلِّدٌ، فَالْمُجْتَهِدُ فَرْضُهُ مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ، وَالْمُقَلِّدُ يَجِبُ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ أَهْلِ الْعِلْمِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ فِي الْعَقَائِدِ.
[قَوْلُهُ: الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ] وَصْفٌ لَازِمٌ بِالذِّكْرِ لِشَرَفِهِ وَأَنَّهُ أَثَرُ الْعِلْمِ الْأَثَرُ الْأَعْظَمُ، وَكَذَا يُقَالُ: فِيمَا بَعْدَهُ. [قَوْلُهُ: أُمَرَاءُ الْحَقِّ] أَيْ الْأُمَرَاءُ الْمَنْسُوبُونَ لِلْحَقِّ لِعَمَلِهِمْ بِهِ، فَقَوْلُهُ: الْعَامِلُونَ إلَخْ تَوْضِيحٌ لِذَلِكَ وَأَرَادَ بِأَمْرِ اللَّهِ مَا صَرَّحَ بِهِ فِي كِتَابِهِ وَأَمْرِ السُّنَّةِ مَا أَمَرَ بِهِ نَبِيُّهُ صلى الله عليه وسلم مِمَّا لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ الْكِتَابُ وَإِسْنَادُ الْأَمْرِ لِلسُّنَّةِ مَجَازٌ؛ لِأَنَّ الْآمِرَ صَاحِبُهَا الَّذِي هُوَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم وَقَوْلُهُ: الْآمِرُونَ إلَخْ يَأْتِي مَا تَقَدَّمَ هُنَا [قَوْلُهُ: وَالْجَائِرُونَ لَا يُطَاعُونَ] أَيْ لَا تَجُوزُ طَاعَتُهُمْ.
قَالَ تت: وَلَا تَجِبُ طَاعَةُ وُلَاةِ الْجَوْرِ إلَّا لِخَوْفِ الْقِتَالِ وَالنِّزَاعِ فَيُطَاعُ عِنْدَ ذَلِكَ. [قَوْلُهُ: لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم] الْمُنَاسِبُ إيرَادُ ذَلِكَ الْحَدِيثِ فِيمَا إذَا أَمَرَ مَنْ اجْتَمَعَتْ فِيهِ شُرُوطُ الْإِمَامَةِ الَّتِي مِنْهَا الْعَدَالَةُ بِمَعْصِيَةٍ مِنْ أَنَّهُ لَا تَجِبُ طَاعَتُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ» إلَخْ.
وَأَمَّا الْجَائِرُ الَّذِي لَيْسَ بِعَادِلٍ فَهَذَا لَا تَجِبُ طَاعَتُهُ وَلَوْ فِي الْجَائِزِ كَمَا يُسْتَفَادُ مِنْ عِبَارَةِ تت. [قَوْلُهُ: وَمِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ] أَيْ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّهُ لَا طَاعَةَ لِلْمَخْلُوقِ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ. [قَوْلُهُ: قَوْلُ عُمَرَ] أَيْ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ عِنْدَ التَّأَمُّلِ. [قَوْلُهُ: فَلْيُذَكِّرْنِي] أَيْ مَا رَأَى فِي [قَوْلُهُ: فَقَامَ إلَيْهِ بِلَالٌ أَوْ سَلْمَانُ] أَوْ لَيْسَتْ لِلشَّكِّ بَلْ لِحِكَايَةِ الْخِلَافِ [قَوْلُهُ: لَوْ رَأَيْنَا فِيك اعْوِجَاجًا] أَيْ مَيْلًا عَنْ الْحَقِّ. [قَوْلُهُ: لَقَوَّمْنَاك] أَيْ لَجَعَلْنَاك مُسْتَقِيمًا عَلَى الْحَقِّ بِسُيُوفِنَا بِحَيْثُ نَقْهَرُك بِالسُّيُوفِ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ.
[قَوْلُهُ: وَكَذَلِكَ إلَخْ] فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ اتِّبَاعَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ كَذَلِكَ أَيْ وَاجِبٌ، فَيَكُونُ حَلَّ إعْرَابٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَلَّ مَعْنًى إشَارَةً إلَى أَنَّ الْخَبَرَ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ وَاتِّبَاعُ السَّلَفِ الصَّالِحِ وَاجِبٌ. [قَوْلُهُ: السَّلَفِ الصَّالِحِ] أَيْ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ كَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ.
[قَوْلُهُ: وَهُمْ الصَّحَابَةُ إلَخْ] قَصَرَهُ عَلَى الصَّحَابَةِ لِمَا قَالَ ابْنُ نَاجِي: السَّلَفُ الصَّالِحُ وَصْفٌ لَازِمٌ يَخْتَصُّ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ بِالصَّحَابَةِ وَلَا يُشَارِكُهُمْ غَيْرُهُمْ فِيهِ وَأَلْ فِي الصَّالِحِ لِلْجِنْسِ فَصَحَّ وَصْفُهُ لِلسَّلَفِ، وَالصَّالِحُ هُوَ الْقَائِمُ بِحُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ الْعِبَادِ وَالصَّحَابَةُ أَوْلَى النَّاسِ فِي ذَلِكَ. [قَوْلُهُ: فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ] سَوَاءٌ تَلَقَّوْهَا مِنْهُ صلى الله عليه وسلم أَوْ لَا بِأَنْ كَانَتْ بِاسْتِنْبَاطٍ وَاجْتِهَادٍ فَعَطْفُ قَوْلِهِ: وَفِيمَا تَأَوَّلُوهُ وَاسْتَنْبَطُوهُ عَطْفُ
أَيْ اتِّبَاعُهُمْ وَاجِبٌ فَإِنْ أَطَاعَ بِظَاهِرِهِ دُونَ بَاطِنِهِ فَإِنَّهُ عَاصٍ وَلَيْسَ بِمُطِيعٍ (وَ) كَذَلِكَ (الِاسْتِغْفَارُ) أَيْ طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ (لَهُمْ) وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر: 10] وَلِأَنَّهُمْ
ــ
[حاشية العدوي]
خَاصٍّ عَلَى عَامٍّ. فَإِنْ قُلْت: مَا نُكْتَتُهُ؟ قُلْت: نُكْتَتُهُ الْإِشَارَةُ إلَى أَنَّهُ يَجِبُ تَقْلِيدُهُمْ أَيْضًا فِي ذَلِكَ خِلَافًا لِلْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي قَوْلِهِمْ وَفِعْلِهِمْ النَّاشِئِ عَنْ اجْتِهَادِهِمْ، فَذَهَبَ مَالِكٌ رضي الله عنه وَمَنْ وَافَقَهُ إلَى وُجُوبِ تَقْلِيدِ الْمُجْتَهِدِ لِلصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ، وَذَهَبَ غَيْرُهُمْ إلَى عَدَمِ جَوَازِهِ وَلَا نِزَاعَ فِي تَقْلِيدِ غَيْرِ الْمُجْتَهِدِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ أَيْ إذَا عَرَفَ تَفْصِيلَ مَذْهَبِهِمْ كَتَقْلِيدِهِ بَقِيَّةَ الْمُجْتَهِدِينَ، فَظَهَرَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ عِنْدَ مَالِكٍ وَمَنْ وَافَقَهُ وَكَذَا الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ» .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: أَوْ فِعْلُهُمْ الَّذِي تَلَقَّوْهُ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم فَلَا خِلَافَ بَيْنَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي وُجُوبِ اتِّبَاعِهِمْ فِيهِ لِلْمُجْتَهِدِ وَالْمُقَلِّدِ وَكَذَا لَا خِلَافَ فِي عَدَمِ وُجُوبِ اتِّبَاعِ مَا تَأَوَّلَهُ التَّابِعُونَ وَاسْتَنْبَطُوهُ لِلْمُجْتَهِدِ فَمَا وَقَعَ فِي عِبَارَةِ بَعْضِهِمْ مِمَّا يُوهِمُ خِلَافَ ذَلِكَ يُحْمَلُ عَلَى مَا تَلَقَّوْهُ عَنْ الصَّحَابَةِ لَا عَلَى مَا كَانَ مِنْ اجْتِهَادٍ وَاسْتِنْبَاطٍ مِنْهُمْ هَذَا خُلَاصَةُ مَا فِي عج. [قَوْلُهُ: وَفِيمَا تَأَوَّلُوهُ] لَا يَخْفَى أَنَّ التَّأْوِيلَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ فَعَطْفُ الِاسْتِنْبَاطِ عَلَيْهِ الَّذِي هُوَ اسْتِخْرَاجُ الْحُكْمِ بِالِاجْتِهَادِ كَمَا أَفَادَهُ الْمِصْبَاحُ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمَوْصُوفَ بِكَوْنِهِ مُتَأَوَّلًا هُوَ اللَّفْظُ وَلَيْسَ الِاتِّبَاعُ فِيهِ بَلْ الِاتِّبَاعُ فِي الْمَعْنَى الَّذِي حُمِلَ اللَّفْظُ عَلَيْهِ، فَنَخْرُجُ مِنْ وَرْطَةِ ذَلِكَ بِأَنْ يُقَدَّرَ مُضَافٌ وَالتَّقْدِيرُ وَفِي مَعْنَى اللَّفْظِ الَّذِي تَأَوَّلُوهُ أَيْ صَرَفُوهُ عَنْ ظَاهِرِهِ، أَيْ الْمَعْنَى الْحَاصِلِ بِذَلِكَ الصَّرْفِ. [قَوْلُهُ: عَنْ اجْتِهَادِهِمْ] الِاجْتِهَادُ بَذْلُ الْوُسْعِ فِي تَحْصِيلِ الْحُكْمِ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالتَّقْدِيرُ حَالَةَ كَوْنِ الْمَعْنَى الَّذِي تَأَوَّلُوهُ وَاسْتَنْبَطُوهُ نَاشِئًا عَنْ اجْتِهَادِهِمْ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ مُؤَكَّدَةٌ.
[قَوْلُهُ: أَيْ اتِّبَاعُهُمْ] فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاقْتِفَاءِ الِاتِّبَاعُ، وَأَنَّ إسْنَادَ الِاقْتِفَاءِ إلَى الْآثَارِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ وَحَقِيقَتُهُ إسْنَادُهُ لَهُمْ لَا لِآثَارِهِمْ الَّتِي هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ قَوْلُهُ: وَاقْتِفَاءٌ إلَخْ عَيْنُ مَا قَبْلَهُ فَهُوَ تَأْكِيدٌ لَهُ، وَبَعْضُ الْأَشْيَاخِ فَرَّقَ بِأَنَّ الِاتِّبَاعَ يَصْدُقُ وَلَوْ بِبَعْضِ الْوُجُوهِ، وَالِاقْتِفَاءُ الِاتِّبَاعُ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ. [قَوْلُهُ: وَاجِبٌ] لَمْ يَقُلْ وَكَذَلِكَ اقْتِفَاءُ إلَخْ نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ وَمَا يَأْتِي لِلتَّفَنُّنِ.
[قَوْلُهُ: وَكَذَلِكَ الِاسْتِغْفَارُ] يَأْتِي مَا تَقَدَّمَ [قَوْلُهُ: لَهُمْ] أَيْ لِلسَّلَفِ الصَّالِحِ لَكِنْ لَا بِقَيْدِ الصَّحَابَةِ بَلْ الْأَعَمُّ أَيْ مَنْ سَلَفَنَا بِالْإِيمَانِ مُطْلَقًا فَفِي الْعِبَارَةِ اسْتِخْدَامٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ اسْتَعْمَلَ أَوَّلًا السَّلَفَ الصَّالِحَ فِي مَعْنًى وَهُوَ الصَّحَابَةُ وَأَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَيْهِ بِمَعْنًى آخَرَ أَفَادَهُ عج رحمه الله[قَوْلُهُ: وَاجِبٌ] تَصْرِيحٌ بِمَضْمُونِ قَوْلِهِ كَذَلِكَ قَالَ عج، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ يَجِبُ مَرَّةً فِي الْعُمْرِ كَالشَّهَادَتَيْنِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْحَمْدِ لِلَّهِ، وَهَلْ لَا بُدَّ فِي الْخُرُوجِ مِنْ عُهْدَةِ ذَلِكَ مِنْ النِّيَّةِ أَوْ يَكْفِي الْإِتْيَانُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ؟ وَقَدْ ذَكَرَ السَّنُوسِيُّ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ عُهْدَةِ الشَّهَادَتَيْنِ إلَّا مَعَ فِعْلِهِمَا بِالنِّيَّةِ فَقَالَ: اعْلَمْ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَذْكُرَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ مَرَّةً فِي الْعُمْرِ يَنْوِي بِذَكَرِهِمَا الْوُجُوبَ، فَإِنْ تَرَكَ ذَلِكَ فَهُوَ عَاصٍ وَإِيمَانُهُ صَحِيحٌ اهـ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوَاجِبَ مَا يُفِيدُ مَعْنَى لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ لَا خُصُوصَ اللَّفْظِ الْمَذْكُورِ عَلَى مَا مَرَّ فِي مَبْحَثِ الْإِيمَانِ اهـ. وَكَلَامُ عج هَذَا يُفِيدُ أَنَّ الْمُرَادَ بِكَوْنِهِ وَاجِبًا أَنَّهُ يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ وَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ. [قَوْلُهُ: لِقَوْلِهِ تَعَالَى] دَلِيلٌ لِوُجُوبِ الِاسْتِغْفَارِ، وَفِيهِ أَمْرَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا أَمْرٌ بِأَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِمَنْ قَبْلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ الْوُجُوبُ، بَلْ إنَّمَا فِيهَا دُعَاءُ مَنْ بَعْدَهُمْ لَهُمْ بِأَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ.
الثَّانِي: أَنَّ الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ فِي الْآيَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ كَمَا فَسَّرَهُ بِهِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ لِسَبْقِهِمَا فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر: 8] ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِمْ الْأَنْصَارَ بِقَوْلِهِ {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ} [الحشر: 9] ثُمَّ قَالَ {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] فَاللَّفْظُ خَاصٌّ بِهِمْ. [قَوْلُهُ: وَلِإِخْوَانِنَا] أَيْ فِي الدِّينِ.
[قَوْلُهُ: وَلِأَنَّهُمْ
وَضَّحُوا لَنَا السَّبِيلَ فَجَزَاهُمْ اللَّهُ عَنَّا أَحْسَنَ جَزَاءٍ.
(وَ) كَذَلِكَ (تَرْكُ الْمِرَاءِ وَالْجِدَالِ فِي الدِّينِ) وَاجِبٌ، وَالْمُرَادُ جَحْدُ الْحَقِّ بَعْدَ ظُهُورِهِ وَدَفْعُهُ بِالْبَاطِلِ، وَالْجِدَالُ مُنَاظَرَةُ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَإِنَّمَا مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الْبَسْطِ مَعَهُمْ وَالطَّعْنِ فِي الصَّحَابَةُ وَإِيقَاعِ الشُّبْهَةِ فِي الْقَلْبِ.
قَالَ مَالِكٌ رضي الله عنه: إنَّ هَذَا الْجِدَالَ لَيْسَ مِنْ الدِّينِ
ــ
[حاشية العدوي]
وَضَّحُوا لَنَا السَّبِيلَ] هَذِهِ الْعِلَّةُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ سَلَفَ مِنْ الْأُمَّةِ، وَوَضَّحَ الطَّرِيقَ فَيَشْمَلُ الصَّحَابَةَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَلَا يَشْمَلُ مَنْ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ تَوْضِيحٌ مِمَّنْ ذُكِرَ فَلَا يُفِيدُ الْمُدَّعَى الَّذِي هُوَ وُجُوبُ طَلَبِ الِاسْتِغْفَارِ لِلسَّلَفِ الصَّالِحِ الْمُتَبَادَرِ مِنْهُ الْإِطْلَاقُ، فَإِنْ قُلْت: لَا يُنْتِجُ كَوْنُهُمْ وَضَّحُوا السَّبِيلَ وُجُوبَ الِاسْتِغْفَارِ، قُلْت: يُنْتِجُ بِشَهَادَةِ مَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: إذَا لَمْ تَشْكُرْ مَنْ هِيَ عَلَى يَدِهِ لَمْ تَشْكُرْنِي إنْ حُمِلَ خُصُوصُ الشُّكْرِ عَلَى الدُّعَاءِ لَهُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ تَأْثَمُ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّ شُكْرَ الْمُنْعِمِ وَاجِبٌ.
[قَوْلُهُ: الْمِرَاءِ] بِالْمَدِّ كَمَا فِي اللَّقَانِيِّ وَنُسْخَةٌ مُعْتَمَدَةٌ مِنْ الصِّحَاحِ. [قَوْلُهُ: فِي الدِّينِ] اُحْتُرِزَ بِذَلِكَ مِمَّا إذَا كَانَ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُمَا جَائِزَانِ فِي أَحْوَالِهَا كَمَا ذَكَرَهُ اللَّقَانِيُّ عَنْ بَعْضِ شُرَّاحِ هَذَا الْمَتْنِ، وَتَأَمَّلْ ذَلِكَ مَعَ تَفْسِيرِ الشَّارِحِ الْآتِي ذِكْرُهُ [قَوْلُهُ: وَالْمِرَاءُ] جَحْدُ الْحَقِّ إلَخْ هَذَا مَعْنَاهُ اصْطِلَاحًا، وَأَمَّا مَعْنَاهُ لُغَةً فَهُوَ الِاسْتِخْرَاجُ مِنْ مَرَيْتُ الْفَرَسَ إذَا اسْتَخْرَجْتُ مَا عِنْدَهَا مِنْ الْجَرْيِ أَوْ غَيْرِهِ، فَكَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَمَارِيَيْنِ يَمْرِي مَا عِنْدَ صَاحِبِهِ أَيْ يَسْتَخْرِجُ، هَكَذَا ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمِرَاءَ بِتَفْسِيرِهِ لَيْسَ فِيهِ اسْتِخْرَاجٌ؛ لِأَنَّهُ كَمَا قَالَ: جَحْدُ الْحَقِّ بَعْدَ ظُهُورِهِ وَلَيْسَ اسْتِخْرَاجًا حِينَئِذٍ، فَلَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَالِاصْطِلَاحِيِّ، وَكَذَلِكَ لَا يَخْفَى أَنَّهُ بِهَذَا التَّفْسِيرِ لَا يَكُونُ حَرَامًا فَتَأَمَّلْ. [قَوْلُهُ: جَحْدُ الْحَقِّ] أَيْ إنْكَارُ الْحَقِّ. وَقَوْلُهُ: بَعْدَ ظُهُورِهِ لَا حَاجَةَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ: فِي إنْكَارِ الْحَقِّ جَحْدٌ إلَّا بَعْدَ الظُّهُورِ كَمَا أَفَادَهُ الْمِصْبَاحُ، فَهُوَ تَصْرِيحٌ بِمَا عُلِمَ الْتِزَامًا. [قَوْلُهُ: وَدَفْعُهُ] لَازِمٌ لِمَا قَبْلَهُ أَوْ عَيْنَهُ وَقَوْلُهُ: بِالْبَاطِلِ تَأْكِيدٌ. [قَوْلُهُ: وَالْجِدَالُ مُنَاظَرَةُ أَهْلِ الْبِدَعِ إلَخْ] لَا يَخْفَى أَنَّهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ حَرَامٌ لِمَا ذَكَرَهُ وَهُوَ التَّأْدِيَةُ لِلطَّعْنِ إلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ، لَكِنَّ هَذَا إذَا كَانَتْ التَّأْدِيَةُ الْمَذْكُورَةُ يُجْزَمُ بِهَا أَوْ يُظَنُّ، وَانْظُرْ فِي حَالَةِ الشَّكِّ، وَالظَّاهِرُ الْحُرْمَةُ تَغْلِيبًا لِجَانِبِ الْحَظْرِ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ بَيْنَ الْمِرَاءِ وَالْجِدَالِ التَّبَايُنَ عَلَى كَلَامِهِ وَأَنَّهُمَا حَرَامَانِ وَلَيْسَ لَهُمَا حَالَةٌ جَائِزَةٌ.
[قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الْبَسْطِ مَعَهُمْ] أَيْ يُؤَدِّي إلَى تَوْسِعَةِ الْكَلَامِ مَعَهُمْ وَهِيَ مُضِرَّةٌ [قَوْلُهُ: وَالطَّعْنِ فِي الصَّحَابَةِ] أَيْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لَا فِي كُلِّهَا. [قَوْلُهُ: وَإِيقَاعِ الشُّبْهَةِ فِي الْقَلْبِ] الشُّبْهَةُ مَا يُظَنُّ دَلِيلًا وَلَيْسَ بِدَلِيلٍ، أَيْ فَيُعْتَقَدُ حَقِيقَتُهَا فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ صِحَّةُ دَعْوَاهُمْ عِنْدَ النَّاشِئَةِ مِنْ تِلْكَ الشُّبْهَةِ. [قَوْلُهُ: إنَّ هَذَا الْجِدَالَ] الْمُشَارَ إلَيْهِ مُنَاظَرَةُ أَهْلِ الْبِدَعِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ عَبْدِ الْوَهَّابِ [قَوْلُهُ: لَيْسَ مِنْ الدِّينِ] أَيْ بَلْ مَا يُنَافِي الدِّينَ كَمَا تَبَيَّنَ مِمَّا تَقَرَّرَ [قَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْجِدَالِ] أَيْ لَا بِالْمَعْنَى الْمُتَقَدِّمِ بَلْ بِمَعْنًى آخَرَ ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ حَيْثُ قَالَ: الْجِدَالُ مُقَابَلَةُ الْحُجَّةِ بِالْحُجَّةِ، وَعَلَيْهِ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ لَا لِإِظْهَارِ حَقٍّ فَهُوَ مَذْمُومٌ، وَإِنْ كَانَ لِإِظْهَارِ حَقٍّ فَهُوَ مَحْمُودٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] وَخُلَاصَةُ الْمَقَامِ أَنَّ بَيْنَ الْمِرَاءِ وَالْجِدَالِ التَّبَايُنَ عَلَى مَا فُسِّرَ أَوَّلًا وَلَا يَكُونَانِ إلَّا حَرَامَيْنِ، وَعَلَى كَلَامِ ابْنِ الْأَثِيرِ الَّذِي يُشِيرُ لَهُ الشَّارِحُ هُنَا تَارَةً وَيَكُونُ حَرَامًا وَتَارَةً يَكُونُ غَيْرَ حَرَامٍ بَلْ مَحْمُودٌ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَا حَاصِلُهُ: أَنَّ الْجِدَالَ تَارَةً يَكُونُ حَرَامًا إنْ اسْتَلْزَمَ مَفْسَدَةً، وَتَارَةً مَنْدُوبًا أَوْ وَاجِبًا إنْ اسْتَلْزَمَ مَصْلَحَةً بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ، وَتَارَةً مُبَاحًا إنْ لَمْ يَسْتَلْزِمْهُمَا، وَفَسَّرَ تت الْجِدَالَ بِأَنَّهُ تَفَاوُضٌ يَجْرِي بَيْنَ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا لِتَحْقِيقِ حَقٍّ أَوْ إبْطَالِ بَاطِلٍ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا حَاصِلُهُ أَنَّهُ اُخْتُلِفَ فَقِيلَ: الْمِرَاءُ هُوَ نَفْسُ الْجِدَالِ الْمُفَسَّرِ بِمَا ذُكِرَ، وَقِيلَ: الْمِرَاءُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ وَالْجِدَالُ مَعَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ.
أَقُولُ: وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فِي كَلَامِ تت يَكُونَانِ بِحَسَبِ الْحَقِيقَةِ مُتَرَادِفَيْنِ وَإِنْ اخْتَلَفَا بِحَسَبِ الْمَنَاظِرِ مَعَهُ.
فِي شَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْجِدَالِ إظْهَارَ الْحَقِّ دُونَ التَّعَنُّتِ وَالْعِنَادِ وَالْإِظْهَارُ عَلَى الْخَصْمِ وَنِسْبَةُ شَرَفِ الْعِلْمِ لِنَفْسِهِ فَذَاكَ جَائِزٌ، وَقِيلَ: مَنْدُوبٌ، وَلِلْمُذَاكَرَةِ الْجَائِزَةِ آدَابٌ مِنْهَا تَجَنُّبُ الِاضْطِرَابِ مَا عَدَا اللِّسَانِ مِنْ الْجَوَارِحِ، وَالِاعْتِدَالُ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ وَخَفْضِهِ وَحُسْنُ الْإِصْغَاءِ إلَى كَلَامِ صَاحِبِهِ، وَأَنْ يَجْعَلَ الْكَلَامَ مُنَاوَبَةً لَا مُنَاهَبَةً، وَالثَّبَاتُ عَلَى الدَّعْوَى إنْ كَانَ مُجِيبًا، وَالْإِصْرَارُ عَلَى السُّؤَالِ إنْ كَانَ سَائِلًا وَالِاحْتِرَازُ عَنْ التَّعَنُّتِ وَالتَّعَصُّبِ وَالضَّحِكِ وَاللَّجَاجِ وَنَحْوِ ذَلِكَ
(وَ) كَذَلِكَ (تَرْكُ كُلِّ مَا أَحْدَثَهُ الْمُحْدِثُونَ) وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ
ــ
[حاشية العدوي]
وَأَقُولُ أَيْضًا: وَعَلَى كَلَامِ تت لَا يَكُونَانِ حَرَامَيْنِ أَيْ إلَّا إذَا صَاحَبَهُمَا وَجْهٌ مُحَرِّمٌ كَإِظْهَارِ شَرَفِ الْعِلْمِ لِنَفْسِهِ وَالْجَهْلِ لِغَيْرِهِ.
[قَوْلُهُ: إبْطَالُ حَقٍّ] مَثَلًا فَيَكُونُ حَرَامًا [قَوْلُهُ: دُونَ التَّعَنُّتِ] التَّعَنُّتُ إدْخَالُ الْأَذَى كَمَا أَفَادَهُ الْمِصْبَاحُ، ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُحْتَرَزُ قَوْلِهِ: إظْهَارُ الْحَقِّ أَيْ فَإِنْ قَصَدَ التَّعَنُّتَ أَوْ غَيْرَهُ مِمَّا ذُكِرَ فَيَحْرُمُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ إظْهَارِ الْحَقِّ أَيْ حَالَةَ كَوْنِهِ مُتَجَاوِزَ التَّعَنُّتِ إلَخْ. أَيْ لَمْ يَكُنْ مُصَاحِبًا بِمَا ذُكِرَ، وَأَمَّا لَوْ صَاحَبَ إظْهَارَ الْحَقِّ وَاحِدٌ مِمَّا ذُكِرَ فَيَحْرُمُ، وَهَذَا الثَّانِي هُوَ الْأَحْسَنُ؛ لِأَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ حُرْمَةِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْمُنْفَرِدُ عَنْ إظْهَارِ الْحَقِّ بِالْأَوْلَى فَتَدَبَّرْ.
[قَوْلُهُ: وَالْعِنَادِ] الْعِنَادُ ارْتِكَابُ الْخِلَافِ وَالْعِصْيَانِ كَمَا أَفَادَهُ الْمِصْبَاحُ أَيْضًا فَهُوَ يَرْجِعُ لِلْأَوَّلِ. [قَوْلُهُ: وَالْإِظْهَارُ عَلَى الْخَصْمِ] أَيْ الِاسْتِعْلَاءُ عَلَيْهِ، أَيْ فَإِذَا كَانَ لِوَاحِدٍ مِنْ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ فَلَا يَكُونُ جَائِزًا بَلْ حَرَامًا. [قَوْلُهُ: وَنِسْبَةُ شَرَفِ الْعِلْمِ لِنَفْسِهِ] أَيْ وَتَجْهِيلُ غَيْرِهِ أَوْ نِسْبَةُ شَرَفِ الْعِلْمِ لِنَفْسِهِ مَعَ كِبْرٍ أَوْ رِيَاءٍ.
[قَوْلُهُ: فَذَاكَ جَائِزٌ] لَا يَخْفَى بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ مَعَ هَذَا الْقَصْدِ بَلْ رُبَّمَا يُقَالُ: لَا وَجْهَ لَهُ أَصْلًا فَلَا وَجْهَ لِكَوْنِهِ يُقَدِّمُهُ بَلْ لَا وَجْهَ لِذِكْرِهِ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ الْقَوْلُ الثَّانِي الَّذِي هُوَ النَّدْبُ وَقَدْ يَجِبُ كَمَا أَفَادَهُ بَعْضُهُمْ، وَيُمْكِنُ تَوْجِيهُ وَجْهٍ لَهُ بِأَنَّ مَقَامَ الْمُنَاظَرَةِ خَطَرٌ فَهُوَ وَإِنْ قَصَدَ ذَلِكَ الْمَقْصِدَ رُبَّمَا غَلَبَ عَلَيْهِ الِاتِّصَافُ بِوَجْهٍ مُحَرِّمٍ كَمَحَبَّةِ غَلَبَتِهِ عَلَى خَصْمِهِ لَا إظْهَارِ الْحَقِّ حَيْثُ كَانَ. [قَوْلُهُ: وَالْجَائِزَةِ] أَيْ الْمَأْذُونِ فِيهَا فَلَا يُنَافِي أَنَّهَا مَنْدُوبَةٌ؛ لِأَنَّهَا وَسِيلَةٌ لِلْوُقُوفِ عَلَى الصَّوَابِ وَزِيَادَةِ الْعِلْمِ.
[قَوْلُهُ: آدَابٌ] الظَّاهِرُ أَنَّهَا آدَابٌ شَرْعِيَّةٌ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الثَّوَابُ وَالْآدَابُ جَمْعُ أَدَبٍ، وَأَرَادَ بِهِ مَا يَشْمَلُ الْوَاجِبَ كَمَا يَظْهَرُ مِمَّا سَيَأْتِي. [قَوْلُهُ: مِنْهَا إلَخْ] أَيْ وَمِنْهَا أَلَّا يَتَكَلَّمَ فِيمَا لَمْ يَقَعْ لَهُ عِلْمُهُ وَلَا بِمَوْضِعٍ يَهَابُهُ وَلَا جَمَاعَةً تَشْهَدُ بِالزُّورِ لِخَصْمِهِ وَيَرُدُّونَ كَلَامَهُ. [قَوْلُهُ: مَا عَدَا اللِّسَانَ] أَيْ مَا عَدَا اضْطِرَابَ اللِّسَانِ أَيْ تَحَرُّكَهُ، وَقَوْلُهُ: مِنْ الْجَوَارِحِ مُتَعَلِّقٌ بِالِاضْطِرَابِ أَيْ تَجَنُّبُ الِاضْطِرَابِ مِنْ الْجَوَارِحِ مَا عَدَا اللِّسَانِ.
[قَوْلُهُ: وَحُسْنُ الْإِصْغَاءِ إلَخْ] أَيْ وَالْإِصْغَاءُ الْحَسَنُ إلَى كَلَامِ إلَخْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ وَصْفٌ مُخَصِّصٌ؛ لِأَنَّ مِنْ الْإِصْغَاءِ مَا لَيْسَ بِحَسَنٍ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: مُنَاوَبَةً أَيْ هَذَا مَرَّةً وَهَذَا مَرَّةً.
[قَوْلُهُ: لَا مُنَاهَبَةً] أَيْ بِحَيْثُ يَتَكَلَّمُ مَا اسْتَطَاعَ كَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ إلَّا هُوَ. [قَوْلُهُ: وَالثَّبَاتُ عَلَى الدَّعْوَى] أَيْ إنَّ هَذَا الْمُجِيبَ لِسَائِلِهِ يَثْبُتُ عَلَى دَعْوَاهُ الْأُولَى الَّتِي نَاقَشَهُ السَّائِلُ أَيْ الْبَاحِثُ فِي دَلِيلِهَا فَلَا يَنْتَقِلُ لِدَعْوَى أُخْرَى. [قَوْلُهُ: وَالْإِصْرَارُ عَلَى السُّؤَالِ] أَيْ إذَا كَانَ سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ وَحَصَلَ مِنْ صَاحِبِهِ الْجَوَابُ عَنْهُ فَلَا يَنْتَقِلُ عَنْ سُؤَالِهِ، وَيَقُولُ: لَمْ أَسْأَلْ بِهَذَا. [قَوْلُهُ: التَّعَنُّتُ] قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ: وَتَعَنُّتُهُ أَدْخَلَ عَلَيْهِ الْأَذَى اهـ. أَيْ يَتَحَرَّزُ مِنْ كَوْنِهِ يُدْخِلُ عَلَى مَنَاظِرِهِ الْأَذَى مِمَّنْ نِسْبَةُ الْخَطَأِ إلَيْهِ وَتَكَلُّمِهِ بِالْفُحْشِ. [قَوْلُهُ: وَالتَّعَصُّبِ] أَيْ نُصْرَةُ كَلَامِهِ.
[قَوْلُهُ: وَاللَّجَاجِ] فِي الْمِصْبَاحِ مَا يُفِيدُ أَنَّ مَعْنَاهُ الْمُلَازَمَةُ وَالْمُوَاظَبَةُ، فَلَعَلَّ الْمُرَادَ كَثْرَةُ السُّؤَالِ بِكُلِّ مَا يَبْدُو؛ لِأَنَّ التَّكَلُّمَ بِكُلِّ مَا يَبْدُو يُورِثُ السَّآمَةَ وَيُحِيلُ الطِّبَاعَ، بَلْ إذَا سَأَلَ يَكُونُ بِشَيْءٍ لَهُ صِحَّةٌ وَوَجْهٌ يُقْبَلُ عِنْدَ الْحَاضِرِينَ. [قَوْلُهُ: وَنَحْوِ ذَلِكَ] أَيْ مِنْ قَصْدِ الْمُغَالَبَةِ وَالِانْتِقَامِ وَالرِّيَاءِ وَالْمُبَاهَاةِ.
[قَوْلُهُ: وَاجِبٌ إلَخْ] تَصْرِيحٌ بِمَضْمُونٍ قَوْلِهِ: كَذَلِكَ، وَكَلَامُ الشَّارِحِ هَذَا يَأْتِي عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ إنَّ الْبِدْعَةَ مَا
أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» وَمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ هُنَا لَا يُعَارِضُهُ مَا يَأْتِي فِي الْأَقْضِيَةِ، تَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَقْضِيَةٌ بِقَدْرِ مَا أَحْدَثُوا مِنْ الْفُجُورِ؛ لِأَنَّ مَا هُنَاكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا اسْتَنَدَ إلَى كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ، وَمَا هُنَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا لَمْ يَسْتَنِدْ إلَى وَاحِدٍ مِنْهَا (وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ نَبِيِّهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا) وَهَذَا آخِرُ الْكَلَامِ عَلَى مَا تَنْطِقُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ وَتَعْتَقِدُهُ الْقُلُوبُ.
وَأَمَّا مَا تَعْمَلُهُ الْجَوَارِحُ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ فَشَرَعَ فِي بَيَانِهِ فَقَالَ:
ــ
[حاشية العدوي]
لَمْ يَقَعْ فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم وَدَلَّ الشَّرْعُ عَلَى حُرْمَتِهِ، وَقِيلَ: هِيَ مَا لَمْ يَقَعْ فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم سَوَاءٌ دَلَّ الشَّرْعُ عَلَى حُرْمَتِهِ أَوْ وُجُوبِهِ أَوْ نَدْبِهِ أَوْ كَرَاهَتِهِ أَوْ إبَاحَتِهِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَنْ قَالَ إنَّ الْبِدْعَةَ تَعْتَرِيهَا الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ كَابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَالْقَرَافِيِّ وَغَيْرُهُمَا وَهَذَا أَقْرَبُ لِمَعْنَاهَا لُغَةً؛ لِأَنَّهَا فِي اللُّغَةِ مَا فُعِلَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ، فَالْأَحْسَنُ لِشَارِحِنَا أَنْ يَذْهَبَ لِهَذَا الْقَوْلِ وَيُقَدِّرَ بَدَلَ قَوْلِهِ: وَاجِبٌ مَطْلُوبٌ، وَيُحْمَلُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ عَلَى الْبِدْعَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَالْمَكْرُوهَةِ وَخِلَافِ الْأَوْلَى، فَالْبِدْعَةُ الْمُحَرَّمَةُ كَمَذْهَبِ الْقَدَرِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ، وَالْبِدْعَةُ الْوَاجِبَةُ كَتَدْوِينِ الشَّرِيعَةِ حَيْثُ خِيفَ عَلَيْهَا الضَّيَاعُ، وَالْبِدْعَةُ الْمَنْدُوبَةُ كَإِحْدَاثِ الرُّبُطِ وَالْمَدَارِسِ، وَالْبِدْعَةُ الْمَكْرُوهَةُ كَأَذَانِ جَمَاعَةٍ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ، وَالْبِدْعَةُ الْمُبَاحَةُ كَالتَّوَغُّلِ فِي لَذِيذِ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ وَالْأَكْلِ بِالْمَعَالِقِ. [قَوْلُهُ: فَهُوَ رَدٌّ] أَيْ مَرْدُودٌ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى إحْدَاثِ أَمْرٍ مُحَرَّمٍ أَوْ مَكْرُوهٍ أَوْ خِلَافِ الْأَوْلَى. [قَوْلُهُ: تَحْدُثُ إلَخْ] بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ مَا يَأْتِي أَوْ خَبَرٌ لِمُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ كَتَحْلِيفٍ عَلَى مُصْحَفٍ أَوْ بِالطَّلَاقِ لِكَوْنِهِ يَتَهَاوَنُ فِي الْحَلِفِ بِاَللَّهِ أَيْ يَحْلِفُ بِاَللَّهِ كَاذِبًا، وَلَوْ حَلَفَ بِمُصْحَفٍ أَوْ بِطَلَاقٍ لَا يَجْتَرِئُ عَلَى ذَلِكَ كَاذِبًا.
[قَوْلُهُ: مَا اسْتَنَدَ إلَى كِتَابٍ إلَخْ] أَيْ بِأَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مَنْصُوصًا فِي كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ مُجْمَعًا عَلَيْهِ أَوْ مَقِيسًا عَلَى حُكْمٍ فِي سُنَّةٍ أَوْ كِتَابٍ أَوْ ثَابِتًا بِإِجْمَاعٍ هَذَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْهُ، إلَّا أَنَّ فِيهِ نَظَرًا؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ بِتِلْكَ الْمَثَابَةِ لَمْ يَكُنْ مُحْدِثًا فَلَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: تَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَقْضِيَةٌ، فَالْأَحْسَنُ أَنْ يَقُولَ؛ لِأَنَّ مَا يَأْتِي مَحْمُولٌ عَلَى مُحْدَثٍ لَا تَأْبَاهُ قَوَاعِدُ الشَّرِيعَةِ، وَمَا هُنَا عَلَى مَا تَأْبَاهُ قَوَاعِدُ الشَّرِيعَةِ. [قَوْلُهُ: نَبِيُّهُ] فِيهِ أَنَّ الرِّسَالَةَ أَشْرَفُ مِنْ النُّبُوَّةِ فَالْمُنَاسِبُ الْوَصْفُ بِهَا، وَيُجَابُ بِأَنَّهُ تَبِعَ فِي ذَلِكَ الْقُرْآنَ حَيْثُ قَالَ {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] إلَخْ.
وَإِنْ وَرَدَ السُّؤَالُ بَعْدُ فِي حِكْمَةِ اخْتِيَارِهِ فِي الْآيَةِ. [قَوْلُهُ: وَعَلَى آلِهِ] أَيْ أَتْبَاعِهِ، فَعَطْفُ مَا بَعْدَهُ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ وَالنُّكْتَةُ ظَاهِرَةٌ وَكَانَ الْأَوْلَى ذِكْرُ الصَّحْبِ. [قَوْلُهُ: وَهَذَا آخِرُ الْكَلَامِ عَلَى مَا تَنْطِقُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ] أَيْ كَالشَّهَادَتَيْنِ، وَقَوْلُهُ: وَتَعْتَقِدُهُ الْقُلُوبُ أَيْ مِنْ الْأَحْكَامِ الِاعْتِقَادِيَّةِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا وُجُوبُ تَرْكِ كُلِّ مَا أَحْدَثَهُ إلَخْ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ فَإِذَا خَطَرَ ذَلِكَ بِالْبَالِ فَيَجِبُ عَلَيْك اعْتِقَادُهُ دُونَ اعْتِقَادِ ضِدِّهِ.