الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 -
(جمع التكسير)
أنْشد فِيهِ الشَّاهِد الرَّابِع وَالتِّسْعُونَ بعد الْخَمْسمِائَةِ وَهُوَ من شَوَاهِد سِيبَوَيْهٍ: الطَّوِيل
(لنا الجفنات الغر يلمعن فِي الضُّحَى
…
وأسيافنا يقطرن من نجدةٍ دَمًا)
على أَنه إِن ثَبت اعْتِرَاض النَّابِغَة على حسان بقوله: قللت حفانك وسيوفك لَكَانَ فِيهِ دليلٌ على أَن الْمَجْمُوع بِالْألف وَالتَّاء جمع قلَّة. وَهَذَا طعنٌ مِنْهُ على هَذِه الْحِكَايَة.
ثمَّ استظهر أَن جمعي السَّلامَة لمُطلق الْجمع من غير نظر إِلَى الْقلَّة وَالْكَثْرَة فيصلحان لَهما.
انْتهى.
وَقد نظمه أَبُو الْحسن الدباج من نحاه إشبيلية ذيلاً لجموع الْقلَّة من التكسير فِي بيتٍ من الْمُتَقَدِّمين وهما:
(بأفعل وبأفعال وأفعلة
…
وفعلةٍ يعرف الْأَدْنَى من الْعدَد)
(وَسَالم الْجمع أَيْضا داخلٌ مَعهَا
…
فَهَذِهِ الْخمس فاحفظها وَلَا تزد)
وَقد صرح سِيبَوَيْهٍ بِأَن الْجمع بِالْألف وَالتَّاء للقلة. وَأول بَيت حسان على أَنه للكثرة وَهَذَا نَصه: وَأما مَا كَانَ على فعلة فَإنَّك إِذا أردْت أدنى الْعدَد جمعتها بِالتَّاءِ وَفتحت الْعين وَذَلِكَ قَوْلك: قَصْعَة وقصعات فَإِذا جَاوَزت أدنى الْعدَد كسرت الِاسْم على فعال وَذَلِكَ قَصْعَة وقصاع.
ثمَّ قَالَ: وَقد يجمعُونَ بِالتَّاءِ وهم يُرِيدُونَ الْكثير قَالَ حسان: لنا الجفنات الغر
…
...
…
...
…
الْبَيْت فَلم يرد أدنى الْعدَد. انْتهى.
قَالَ الأعلم: الشَّاهِد فِي وضع الجفنات وَهِي لما قل من الْعدَد فِي الأَصْل لجريها مجْرى الثَّلَاثَة مَوضِع الجفان الَّتِي هِيَ الْكثير. والغر: الْبيض يُرِيد بَيَاض الشَّحْم.
والأسياف: جمع لأدنى الْعدَد فَوَضعه مَوضِع الْكثير. وصف قومه بالندى والبأس يَقُول: جفاننا معدة للأضياف ومساكين الْحَيّ بِالْغَدَاةِ وسيوفنا يقطرن دَمًا لنجدتنا وَكَثْرَة حروبنا.
انْتهى.)
وَإِلَى مَذْهَب سِيبَوَيْهٍ ذهب الزّجاج قَالَ فِي تَفْسِيره عِنْد قَوْله تَعَالَى: واذْكُرُوا الله فِي أَيَّام معدوداتٍ قَالُوا: هِيَ أَيَّام التَّشْرِيق. ومعدودات يسْتَعْمل كثيرا فِي اللُّغَة للشَّيْء الْقَلِيل.
وكل عدد قل أَو كثر فَهُوَ مَعْدُود وَلَكِن معدودات أول على الْقلَّة لِأَن كل قَلِيل يجمع بِالْألف وَالتَّاء نَحْو: دريهمات وحمامات. وَقد يجوز وَهُوَ حسن كثير أَن يَقع الْألف وَالتَّاء للتكثير.
وَقد روى أَنه عيب على الْقَائِل: لنا الجفنات الغر
…
...
…
. . الْبَيْت فَقيل لَهُ: قللت الجفنات وَلم تقل الجفنان وَهَذَا الْخَبَر عِنْدِي مَصْنُوع لِأَن
الْألف وَالتَّاء قد تَأتي للكثرة قَالَ الله عز وجل: إِن الْمُسلمين وَالْمُسلمَات وَالْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات وَقَالَ: فِي جنَّات.
وَقَالَ: وهم فِي الغرفات آمنون فالمسلمون لَيْسُوا فِي غرفات قَليلَة وَلَكِن إِذا خص الْقَلِيل فِي الْجمع بِالْألف وَالتَّاء دلّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يَلِي التَّثْنِيَة.
وَجَائِز حسن أَن يُرَاد بِهِ الْكثير وَيدل الْمَعْنى الشَّاهِد على الْإِرَادَة كَمَا أَن قَوْلك جمع يدل على الْقَلِيل وَالْكثير. انْتهى.
وَكَذَلِكَ قَول ابْن جني فِي الْمُحْتَسب عِنْد قِرَاءَة طَلْحَة من سُورَة النِّسَاء: صوالح قوانت حوافظ للغيب. قَالَ أَبُو الْفَتْح: التكسير هُنَا أشبه لفظا بِالْمَعْنَى وَذَلِكَ أَنه إِنَّمَا يُرَاد هُنَا معنى الْكَثْرَة لَا صالحات من الثَّلَاث إِلَى الْعشْر. وَلَفظ الْكَثْرَة أشبه بِمَعْنى الْكَثْرَة من لفظ الْقلَّة بِمَعْنى الْكَثْرَة وَالْألف وَالتَّاء موضوعتان للقلة فهما على حد التَّثْنِيَة بِمَنْزِلَة الزيدون من الْوَاحِد إِذا كَانُوا على هَذَا مُوجب اللُّغَة على أوضاعها غير أَنه قد جَاءَ لفظ الصِّحَّة وَالْمعْنَى الْكَثْرَة كَقَوْلِه تَعَالَى: إِن الْمُسلمين وَالْمُسلمَات. إِلَى قَوْله: والذاكرين الله كثيرا وَالذَّاكِرَات وَالْغَرَض فِي جَمِيعه الْكَثْرَة لَا مَا هُوَ لما بَين الثَّلَاثَة إِلَى الْعشْرَة وَكَانَ أَبُو عَليّ يُنكر الْحِكَايَة المروية عَن النَّابِغَة وَقد عرض عَلَيْهِ حسان شعره وَأَنه لما صَار إِلَى قَوْله: لنا الجفنات الغر
…
...
…
. . الْبَيْت قَالَ لَهُ النَّابِغَة: لقد قللت جفانك وسيوفك قَالَ أَبُو عَليّ: هَذَا خبر مَجْهُول لَا أصل لَهُ لِأَن الله تَعَالَى يَقُول: وهم فِي الغرفات آمنون وَلَا يجوز أَن تكون
الغرف كلهَا الَّتِي فِي الْجنَّة من الثَّلَاث إِلَى الْعشْر.
وَعذر ذَلِك عِنْدِي أَنه قد كثر عَنْهُم وُقُوع الْوَاحِد على معنى الْجمع جِنْسا كَقَوْلِنَا: أهلك
النَّاس)
الدِّينَار وَالدِّرْهَم وَذهب النَّاس بِالشَّاة وَالْبَعِير فَلَمَّا كثر ذَلِك جاؤوا فِي مَوْضِعه بِلَفْظ الْجمع الَّذِي هُوَ أدنى إِلَى الْوَاحِد أَيْضا أَعنِي جمعي السَّالِم وَعلم أَيْضا أَنه إِذا جِيءَ فِي هَذَا الْموضع بِلَفْظ الْكَثْرَة لَا يتدارك معنى الجنسية فلهوا عَنهُ وَأَقَامُوا على لفظ الْوَاحِد تَارَة وَلَفظ الْجمع المقارب للْوَاحِد تَارَة أُخْرَى إراحة لأَنْفُسِهِمْ من طلب مَا لَا يدْرك ويأساً مِنْهُ.
فَيكون هَذَا كَقَوْلِه: المتقارب وَمثل هذَيْن الجمعين مجيئهم فِي هَذَا الْموضع بتكسير الْقلَّة كَقَوْلِه تَعَالَى: وأعينهم تفيض من الدمع وَقَول حسان: وأسيافنا يقطرن وَلم يقل: عيونهم وَلَا سُيُوفنَا. وَقد ذكرنَا هَذَا وَنَحْوه فِي كتاب الخصائص. انْتهى.
قَالَ شَيخنَا ياسين الْحِمصِي فِي شرح ألفية ابْن مَالك: اعْلَم أَنهم قَالُوا: إِذا قرن جمع الْقلَّة بأل الَّتِي للاستغراق أَو أضيف إِلَى مَا يدل على الْكَثْرَة انْصَرف بذلك إِلَى الْكَثْرَة.
وعَلى هَذَا الْإِيرَاد مَا قَالَه النَّابِغَة على حسان وَيُقَال إِن حسان أجَاب بذلك لَكِن قَوْله: أسيافنا لم يضف إِلَى مَا يدل على الْكَثْرَة.
وَعَلَيْك بِحِفْظ هَذِه الْقَاعِدَة فكثيراً مَا يغْفل عَنْهَا. وَمِمَّنْ غفل عَنْهَا الْعَلامَة وَالْقَاضِي وَصَاحب الْمُغنِي فِي تَفْسِير قَوْله
تَعَالَى: مَا نفدت كَلِمَات الله.
حَيْثُ وجهوا التَّعْبِير بِجمع الْقلَّة بِمَا ذَكرُوهُ. ورد عَلَيْهِم الكوراني بِأَن الْجمع فِي الْآيَة مُضَاف.
وَاعْلَم أَيْضا أَن أَبَا حَيَّان اسْتشْكل انصراف جمع الْقلَّة إِلَى الْكَثْرَة بِمَا حَاصله أَنه وضع للقلة وَهِي من ثَلَاثَة إِلَى عشرَة فَإِذا دخل أَدَاة الِاسْتِغْرَاق يَنْبَغِي أَن يكون الِاسْتِغْرَاق فِيمَا وضع لَهُ لَا فِيمَا زَاد لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا وضع لَهُ. ثمَّ أجَاب بِمَا حَاصله أَنه وضع بِوَضْع آخر مَعَ أَدَاة الِاسْتِغْرَاق للكثرة. انْتهى.
وَقَالَ أَيْضا فِي حَاشِيَته على التَّصْرِيح للشَّيْخ خَالِد: اعْلَم أَن مَا ذكره النُّحَاة من أَن جموع الْقلَّة للعشرة فَمَا دونهَا لَا يُنَافِي تَصْرِيح أَئِمَّة الْأُصُول بِأَنَّهَا من صِيغ الْعُمُوم لِأَن كَلَام النُّحَاة كَمَا قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ محمولٌ على حَالَة التجرد عَن التَّعْرِيف. انْتهى.
وَهَذَا الْجَواب فِيهِ نظر فَإِن غَالب مَا وَقع فِيهِ النزاع معرف بأل.
وَقد نقل جماعةٌ اعْتِرَاض النَّابِغَة على حسان فِي هَذَا الْبَيْت مِنْهُم أَبُو عبد الله المرزباني فِي كتاب الموشح من عدَّة طرق قَالَ: كتب إِلَيّ أَحْمد بن عبد الْعَزِيز أخبرنَا عمر بن شبة قَالَ:)
حَدثنِي أَبُو بكر العليمي قَالَ: حَدثنَا عبد الْملك ابْن قريب قَالَ: كَانَ النَّابِغَة الذبياني تضرب لَهُ قبةٌ حَمْرَاء من أَدَم بسوق عكاظ فَتَأْتِيه الشُّعَرَاء فتعوض عَلَيْهِ أشعارها.
قَالَ: فَأول من أنْشدهُ الْأَعْشَى: مَيْمُون بن قيس أَبُو بَصِير ثمَّ أنْشدهُ حسان بن ثابتٍ الْأنْصَارِيّ:
(لنا الجفنات الغر يلمعن فِي الضُّحَى
…
وأسيافنا يقطرن من نجدةٍ دَمًا)
(ولدنَا بني العنقاء وَابْن محرقٍ
…
فَأكْرم بِنَا خالاً وَأكْرم بِنَا ابنما)
فَقَالَ لَهُ النَّابِغَة: أَنْت شَاعِر وَلَكِنَّك أقللت جفانك وأسيافك وفخرت بِمن ولدت وَلم تَفْخَر بِمن ولدك.
وحَدثني عَليّ بن يحيى قَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن سعيد قَالَ: حَدثنَا الزبير بن بكار قَالَ: حَدثنِي لنا الجفنات الغر فَقَالَ لَهُ: مَا صنعت شَيْئا قللت أَمركُم فَقلت: جفنات وأسياف.
وَأَخْبرنِي الصولي قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن سعيد وَمُحَمّد بن الْعَبَّاس الرياشي عَن الرياشي عَن الْأَصْمَعِي عَن أبي عَمْرو بن الْعَلَاء قَالَ: كَانَ النَّابِغَة الذبياني تضرب لَهُ قبةٌ بسوق عكاظ من أَدَم فَتَأْتِيه الشُّعَرَاء فتعرض عَلَيْهِ أشعارها فَأَتَاهُ الْأَعْشَى فَكَانَ أول من أنْشدهُ ثمَّ أنْشدهُ حسان بن ثَابت قصيدته الَّتِي مِنْهَا: لنا الجفنات الغر وَذكر الْبَيْتَيْنِ فَقَالَ لَهُ النَّابِغَة: أَنْت شاعرٌ وَلَكِنَّك أقللت جفانك وأسيافك وفخرت بِمن ولدت وَلم تفتخر بِمن ولدك.
قَالَ الصولي: فَانْظُر إِلَى هَذَا النَّقْد الْجَلِيل الَّذِي يدل عَلَيْهِ نقاء كَلَام النَّابِغَة وديباجة شعره: قَالَ لَهُ: أقللت أسيافك لِأَنَّهُ قَالَ: وأسيافنا وأسياف جمع لأدنى الْعدَد وَالْكثير سيوف. والجفنات لأدنى الْعدَد وَالْكثير جفان وَقَالَ: فخرت بِمن ولدت لِأَنَّهُ قَالَ: ولدنَا بني العنقاء وَابْني محرق.
فَترك الْفَخر بآبائه وفخر بِمن ولد نساؤه.
قَالَ: ويروى أَن النَّابِغَة قَالَ لَهُ: أقللت أسيافك ولمعت جفانك. يُرِيد قَوْله: لنا الجفنات الغر والغرة: لمْعَة بياضٍ فِي الْجَفْنَة. فَكَأَن النَّابِغَة
عَابَ هَذِه
الجفان وَذهب إِلَى أَنه لَو قَالَ لنا الجفنات الْبيض فَجَعلهَا بيضًا كَانَ أحسن. فلعمري إِنَّه حسنٌ فِي الجفان إِلَّا أَن الغر أجل لفظا من الْبيض.)
قَالَ أَبُو عبد الله المرزباني: وَقَالَ قومٌ مِمَّن أنكر هَذَا الْبَيْت: فِي قَوْله: يلمعن بالضحى وَلم يقل بالدجى. وَفِي قَوْله: وأسيافنا يقطرن وَلم يقل يجرين لِأَن الجري أَكثر من الْقطر.
وَقد رد هَذَا القَوْل وَاحْتج فِيهِ قومٌ لحسان بِمَا لَا وَجه لذكره فِي هَذَا الْموضع.
فَأَما قَوْله: فخرت بِمن ولدت وَلم تَفْخَر بِمن ولدك فَلَا عذر عِنْدِي لحسان فِيهِ على مَذْهَب نقاد الشّعْر.
وَقد احترس من مثل هَذَا الزلل رجل من كلب فَقَالَ يذكر ولادتهم لمصعب بن الزبير وَغَيره مِمَّن وَلَده نِسَاؤُهُم: الطَّوِيل
(وَعبد الْعَزِيز قد ولدنَا ومصعباً
…
وكلبٌ أبٌ للصالحين ولود)
فَإِنَّهُ لما فَخر بِمن وَلَده نِسَاؤُهُم فضل رِجَالهمْ وَأخْبر أَنهم يلدون الفاضلين وَجمع ذَلِك فِي بَيت وَاحِد فَأحْسن وأجاد. انْتهى مَا أوردهُ المرزباني.
وَمِمَّنْ نقلهَا أَيْضا أَبُو الْفرج الأصهباني فِي الأغاني قَالَ بعد إِيرَاد سَنَده: إِن النَّابِغَة كَانَت تضرب لَهُ قبةٌ فِي سوق عكاظ وتنشده الشُّعَرَاء أشعارها فأنشده الْأَعْشَى شعرًا فَاسْتَحْسَنَهُ ثمَّ أنشدته الخنساء قصيدةً حَتَّى انْتَهَت إِلَى قَوْلهَا: الْبَسِيط
(وَإِن صخراً لوالينا وَسَيِّدنَا
…
وَإِن صخراً إِذا نشتو لنحار)
(وَإِن صخراً لتأتم الهداة بِهِ
…
كَأَنَّهُ علمٌ فِي رَأسه نَار)
فَقَالَ: وَالله لَوْلَا أَن أَبَا بَصِير الْأَعْشَى أَنْشدني قبلك لَقلت إِنَّك أشعر النَّاس: أَنْت وَالله أشعر من كل ذَات مثانة. فَقَالَت: إِي وَالله وَمن كل ذِي خصيين.
فَقَالَ حسان: أَنا وَالله أشعر مِنْك وَمِنْهَا وَمن أَبِيك. قَالَ: حَيْثُ تَقول مَاذَا قَالَ: حَيْثُ أَقُول: لنا الجفنات الغر
…
... الْبَيْتَيْنِ فَقَالَ: إِنَّك شَاعِر لَوْلَا أَنَّك قللت عدد جفانك وفخرت بِمن وَلدته.
وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: قَالَ لَهُ: إِنَّك قلت الجفنات فقللت الْعدَد وَلَو قلت الجفان لَكَانَ أَكثر وَقلت: يلمعن بالضحى وَلَو قلت يبرقن بالدجى لَكَانَ أبلغ فِي المديح لِأَن الضَّيْف فِي اللَّيْل أَكثر. وَقلت: يقطرن من نجدة دَمًا فدللت على قلَّة الْقَتْل وَلَو قلت يجرين لَكَانَ أَكثر لانصباب الدَّم.
وفخرت بِمن ولدت وَلم تفتخر بِمن ولدك. فَقَامَ حسان منكسراً مُنْقَطِعًا. انْتهى مَا رَوَاهُ.
وَقَالَ أُسَامَة بن منقذ فِي بَاب التَّفْرِيط من كتاب البديع: اعْلَم أَن التَّفْرِيط هُوَ أَن يقدم على شَيْء)
فَيَأْتِي بِدُونِهِ فَيكون تفريطاً مِنْهُ إِذا لم يكمل اللَّفْظ أَو يُبَالغ فِي الْمَعْنى. وَهُوَ بابٌ وَاسع يعْتَمد عَلَيْهِ النقاد من الشُّعَرَاء مثل قَول حسان بن ثَابت الْأنْصَارِيّ: لنا الجفنات الغر
…
. . الْبَيْت وفرط فِي قَوْله: الجفنات لِأَنَّهَا دون الْعشْرَة وَهُوَ يقدر أَن يَقُول: لدينا الجفان لِأَن الْعدَد الْقَلِيل لَا يفتخر بِهِ.
وَكَذَلِكَ قَوْله: وأسيافنا لِأَنَّهَا دون الْعشْرَة وَهُوَ قادرٌ أَن يَقُول: وبيضٌ لنا.
وفرط فِي قَوْله: الغر لِأَن السود أمدح من الْبيض لأجل الدّهن وَكَثْرَة الْقرى فِيهِنَّ.
وفرط فِي قَوْله: بالضحى وَهُوَ قَادر على أَن يَقُول فِي الدجى لِأَن كل شيءٍ يلمع فِي الضُّحَى.
وفرط فِي قَوْله: يقطرن وَهُوَ قادرٌ على أَن يَقُول: يجرين لِأَن الْقطر قَطْرَة بعد قَطْرَة. وَقَالَ قدامَة: أَرَادَ بقوله الغر المشهورات.
وَقَالَ بالضحى لِأَنَّهُ لَا يلمع فِيهِ إِلَّا عظيمٌ سَاطِع الضَّوْء والدجى يلمع فِيهِ يسير النُّور. وَأما أسياف وجفنات فَإِنَّهُ قد يوضع الْقَلِيل مَوضِع الْكثير كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: لَهُم جناتٌ ودَرَجَات.
وَقَوله: يقطرن دَمًا هُوَ الْمَعْرُوف والمألوف فَلَو قَالَ يجرين لخرج عَن الْعَادة. وينوب قطر عَن وَقَالَ ابْن أبي الإصبع فِي كِتَابه تَحْرِير التحبير: فِي بَاب الإفراط فِي الصّفة وَهُوَ الَّذِي سَمَّاهُ قدامَة الْمُبَالغَة وَسَماهُ من بعده التَّبْلِيغ: وحد قدامَة الْمُبَالغَة بِأَن قَالَ: هِيَ أَن يذكر الْمُتَكَلّم حَالا من الْأَحْوَال لَو وقف عِنْدهَا لأجزأت فَلَا يقف حَتَّى يزِيد فِي معنى مَا ذكره مَا يكون أبلغ فِي معنى قَصده كَقَوْلِه: الوافر
(ونكرم جارنا مَا دَامَ فِينَا
…
ونتبعه الْكَرَامَة حَيْثُ مَالا)
وَأَنا أَقُول: قد اخْتلف فِي الْمُبَالغَة فقوم يرَوْنَ أَجود الشّعْر أكذبه وَخير الْكَلَام مَا بولغ فِيهِ ويحتجون بِمَا جرى بَين النَّابِغَة الذبياني وَبَين
حسان فِي اسْتِدْرَاك النَّابِغَة عَلَيْهِ تِلْكَ الْمَوَاضِع فِي قَوْله: لنا الجفنات الغر
…
...
…
. . الْبَيْت فَإِن النَّابِغَة إِنَّمَا عَابَ على حسان ترك الْمُبَالغَة. والقصة مَشْهُورَة وَإِن رُوِيَ عَن انْقِطَاعه فِي يَد النَّابِغَة. وقومٌ يرَوْنَ الْمُبَالغَة من عُيُوب الْكَلَام. وَالْقَوْلَان مردودان.)
وَقد بَين وَجه الرَّد فيهمَا.
وَنقل الْعَيْنِيّ عَن ابْن يسعون نقد هَذَا الْبَيْت من جِهَة اللَّفْظ ساقطٌ لِأَن الْجمع فِي الجفنات نَظِير قَوْله تَعَالَى: وهم فِي الغرفات آمنون وَأما الغر هُنَا فَلَيْسَ جمع غرَّة بل الْبيض المشرفات من كَثْرَة وَيجوز أَن يُرِيد بهَا الْمَشْهُورَة المنصوبة للقرى. وَكَذَلِكَ: يلمعن هُوَ الْمُسْتَعْمل فِي هَذَا النَّحْو الَّذِي يدل بِهِ على الْبيَاض كَمَا تَقول: لمع السراب ولمع الْبَرْق وَكَذَلِكَ الضُّحَى والضحاء لِأَنَّهُمَا بِمَعْنى. على أَن الضُّحَى أدل على تعجيلهم الْقرى.
وَأما القَوْل: بِأَن يبرقن فِي الدجى أبلغ فساقط لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ أَن إطعامهم مَوْصُول وقراهم فِي كل وَقت مبذول لِأَنَّهُ قد وصف قبل هَذَا قراهم بِاللَّيْلِ حَيْثُ قَالَ:
(وَإِنَّا لنقري الضَّيْف إِن جَاءَ طَارِقًا
…
من الشَّحْم مَا أضحى صَحِيحا مُسلما)
ويروى: مَا أَمْسَى.
وَأما قَوْله: يقطرن فَهُوَ الْمُسْتَعْمل فِي مثل هَذَا يُقَال: سَيْفه يقطر دَمًا. وَلم يجر الْعَادة بِأَن يُقَال: يجْرِي دَمًا مَعَ أَن
يقطر أمدح لِأَنَّهُ يدل على مضاء السَّيْف وَسُرْعَة خُرُوجه عَن الضريبة حَتَّى لَا يكَاد يعلق بِهِ دم. اه.
وَالْبَيْت من قصيدةٍ افتخارية لحسان بن ثَابت الصَّحَابِيّ عدتهَا خَمْسَة وَثَلَاثُونَ بَيْتا. وَهَذِه أَبْيَات مِنْهَا بعد أَن ذكر منَازِل حبيبته:
(لنا حاضرٌ فعمٌ وبادٍ كَأَنَّهُ
…
شماريخ رضوى عزة وتكرما)
(مَتى مَا تزنا من معدٍّ بعصبةٍ
…
وغسان نمْنَع حوضنا أَن يهدما)
(إِذا استدبرتنا الشَّمْس درت متوننا
…
كَأَن عروق الْجوف ينضحن عِنْدَمَا)
(ولدنَا بني العنقاء وَابْني محرقٍ
…
فَأكْرم بِنَا خالاً وَأكْرم بِنَا ابنما)
(نسود ذَا المَال الْقَلِيل إِذا بَدَت
…
مروءته فِينَا وَإِن كَانَ مكرما)
(وَإِنَّا لنقري الضَّيْف إِن جَاءَ طَارِقًا
…
من الشَّحْم مَا أَمْسَى صَحِيحا مُسلما)
(أَلسنا نرد الْكَبْش عَن طية الْهوى
…
ونقلب مران الوشيج محطما)
(وكائن ترى من سيدٍ ذِي مهابةٍ
…
أَبوهُ أَبونَا وَابْن أُخْت ومحرما)
لنا الجفنات الغر
…
...
…
...
…
...
…
... الْبَيْت
(أَبى فعلنَا الْمَعْرُوف أَن ننطق الْخَنَا
…
وقائلنا بِالْعرْفِ إِلَّا تكلما))
(فَكل معدٍّ قد جزينا بصنعه
…
فبؤسى ببؤساها وبالنعم أنعما)
وَهَذِه آخر القصيدة.
وَقَوله: لنا حَاضر فَعم إِلَخ قَالَ فِي الصِّحَاح: الْحَاضِر: الْحَيّ الْعَظِيم. وَأنْشد الْبَيْت.
والفعم: الْكثير الممتلىء. والبادي: النَّازِل بالبادية يُقَال: بدا بداوة بِالْفَتْح وَالْكَسْر وَهِي الْإِقَامَة بالبادية. والشمراخ بِالْكَسْرِ: رَأس الْجَبَل. ورضوى بِالْفَتْح: جبلٌ بِالْمَدِينَةِ.
وَقَوله: مَتى مَا تزنا إِلَخ تزنا: بِالْخِطَابِ من الْوَزْن. ومعد: أَبُو قَبيلَة.
وَقَوله: بِكُل فَتى إِلَخ مُتَعَلق بنمنع. والأشاجع: أصُول الْأَصَابِع الَّتِي تتصل بعصب ظَاهر الْكَفّ الْوَاحِد أَشْجَع.
وَأَرَادَ بعريها كَونهَا عَارِية من اللَّحْم غير غَلِيظَة. ولاحه بِالْمُهْمَلَةِ بِمَعْنى غَيره.
وقراع: مصدر قَارِعَة. ومقارعة الْأَبْطَال: قرع بَعضهم بَعْضًا. والكماة: الشجعان.
وَقَوله: يرشح الْمسك إِلَخ أَرَادَ أَنهم مُلُوك فَإِذا جرح أحدهم سَالَ دَمه برائحة الْمسك.
وَقَوله: إِذا استدبرتنا الشَّمْس إِلَخ. الْمُتُون: الظُّهُور. والعندم: البقم وَقيل دم الْأَخَوَيْنِ. قَالَ شَارِح ديوانه: يُرِيد أَنهم إِذا عرقوا عرقوا برائحة الطّيب.
وَقَوله: ولدنَا بني العنقاء إِلَخ العنقاء: ثَعْلَبَة بن عَمْرو مزيقياء
بن عَامر بن مَاء السَّمَاء.
وَقَوله: فَأكْرم بِنَا هُوَ تعجب. أَي: مَا أكرمنا خالاً وَمَا أكرمنا ابْنا وَمَا: زَائِدَة.
وَقَوله: وَإِنَّا لنقري إِلَخ. نقري: نضيف. والطروق: الْمَجِيء لَيْلًا. وَمَا: مفعول نقري لتَضَمّنه معنى نطعم. يُرِيد أَنهم يذبحون للضيف الْإِبِل السالمة من عِلّة وَمرض.
وَقَوله: أَلسنا نرد الْكَبْش إِلَخ. الْكَبْش: سيد الْقَوْم. والطية بِالْكَسْرِ: النِّيَّة.
والهوى: هوى النَّفس. والمران بِالضَّمِّ: جمع مارن وَهُوَ الرمْح اللين المهز. أَي: نُقَاتِل بهَا حَتَّى تنكسر.
وترجمة حسان تقدّمت فِي الشَّاهِد الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ من أَوَائِل الْكتاب.