الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَنسبه الْعَيْنِيّ وَتَبعهُ السُّيُوطِيّ فِي أَبْيَات الْمُغنِي إِلَى الْمُغيرَة بن حبناء بن عَمْرو بن ربيعَة الْحَنْظَلِي التَّمِيمِي. وَقد رجعت إِلَى ديوانه وَهُوَ صَغِير فَلم أَجِدهُ فِيهِ.
وَقَالَ صَاحب الأغاني: وحبناء: لقبٌ على أمه غلب على أَبِيه واسْمه حبين. هاجى زياداً الْأَعْجَم. وحبناء بِفَتْح الْمُهْملَة وَسُكُون الْمُوَحدَة بعْدهَا نون وَألف ممدودة. وحبين بِضَم الْمُهْملَة وَفتح الْمُوَحدَة.
وَأنْشد بعده)
(الشَّاهِد الثَّالِث وَالسِّتُّونَ بعد الستمائة)
وَهُوَ من شَوَاهِد سِيبَوَيْهٍ: الطَّوِيل
ألم تسْأَل الرّبع القواء فينطق هَذَا صدرٌ وعجزه: وَهل تخبرنك الْيَوْم بيداء سملق على أَن مَا بعد فَاء السَّبَبِيَّة قد يبْقى على رَفعه قَلِيلا وَهُوَ مُسْتَأْنف.
وَأنْشد سِيبَوَيْهٍ هَذَا الْبَيْت وَقَالَ: لم يَجْعَل الأول سَبَب الآخر وَلكنه جعله ينْطق على كل حَال كَأَنَّهُ قَالَ: وَهُوَ مِمَّا ينْطق كَمَا قَالَ: ائْتِنِي وأحدثك فَجعل نَفسه مِمَّن يحدثه على كل حَال.
وَزعم
يُونُس أَنه سمع هَذَا الْبَيْت بألم. وَإِنَّمَا كتبت ذَا لِئَلَّا يَقُول إنسانٌ فَلَعَلَّ الشَّاعِر قَالَ: أَلا.
قَالَ أَبُو جَعْفَر النّحاس عَن أبي إِسْحَاق قَالَ: إِنَّه تقريرٌ مَعْنَاهُ: إِنَّك سَأَلته. فيقبح النصب لِأَن الْمَعْنى يكون: إِنَّك إِن تسأله ينْطق.
وَيمْنَع سِيبَوَيْهٍ أَن يرْوى: أَلا تسْأَل الرّبع لِأَنَّهُ لَو رَوَاهُ كَذَا حسن النصب لِأَن مَعْنَاهُ فَإنَّك إِن تسأله ينْطق.
قَالَ أَبُو الْحسن: ألم تَرَ أَن الله أنزل من السَّمَاء مَاء فَتُصْبِح الأَرْض مخضرة. والقواء: الَّتِي لَا تنْبت. والسملق: الخالية. انْتهى.
قَالَ الأعلم: الشَّاهِد فِيهِ رفع ينْطق على الِاسْتِئْنَاف وَالْقطع على معنى فَهُوَ ينْطق وَإِيجَاب ذَلِك لَهُ. وَلَو أمكنه النصب على الْجَواب لَكَانَ أحسن. وَالرّبع: الْمنزل. والقواء: القفر. وَجعله ناطقاً للاعتبار بدروسه وتغيره. ثمَّ حقق أَنه لَا يُجيب وَلَا يخبر سائله لعدم القاطنين بِهِ.
والبيداء: القفر. والسملق: الَّتِي لَا شَيْء بهَا. انْتهى.
وَأوردهُ الْفراء عِنْد هَذِه الْآيَة من تَفْسِيره قَالَ: رفعت فَتُصْبِح لِأَن الْمَعْنى فِي ألم تَرَ مَعْنَاهُ خبر كَأَنَّك قلت فِي الْكَلَام: أعلم أَن الله ينزل من السَّمَاء مَاء فَتُصْبِح الأَرْض.
وَهُوَ مثل قَول الشَّاعِر: ألم تسال الرّبع الْقَدِيم فينطق أَي: قد سَأَلته فَنَطَقَ. وَلَو جعلته استفهاماً وَجعلت الْفَاء شرطا لنصبت كَمَا قَالَ الآخر:
الوافر)
(ألم تسْأَل فتخبرك الديارا
…
عَن الْحَيّ المضلل حَيْثُ سارا)
والجزم فِي هَذَا الْبَيْت جَائِز كَمَا قَالَ: الطَّوِيل
(فَقلت لَهُ صوب وَلَا تجهدنه
…
فيذرك من أُخْرَى القطاة فتزلق)
فَجعل الْجَواب بِالْفَاءِ كالمنسوق على مَا قبله. انْتهى.
وَقَالَ ابْن المستوفي: قصد الشَّاعِر نفي السُّؤَال فَرفع. وَقد جوزوا فِيهِ النصب والجزم لَوْلَا أَن الروي مَرْفُوع.
وَهَذَا هُوَ مَا نَقَلْنَاهُ عَن الْفراء.
وَأما قَول ابْن هِشَام فِي الْمُغنِي: الْفَاء فِيهِ للاستئناف أَي: فَهُوَ ينْطق لِأَنَّهَا لَو كَانَت للْعَطْف لجزم مَا بعْدهَا وَلَو كَانَت للسَّبَبِيَّة لنصب فقد قَالَ شراحه: الْمُلَازمَة الثَّانِيَة مَمْنُوعَة فقد تتَحَقَّق السَّبَبِيَّة مَعَ رفع الْفِعْل كَمَا قيل فِي قَوْله: تَعَالَى: لَا يُؤذن لَهُم فيعتذرون. نعم الْأَكْثَر مَعَ السَّبَبِيَّة النصب اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال إِن الْمُلَازمَة إِلَى الْأَكْثَر.
وَهَذَا الِاعْتِرَاض إِنَّمَا هُوَ من كَلَام الشَّارِح الْمُحَقق هُنَا
وَبعده:
(بمختلف الْأَرْوَاح بَين سويقةٍ
…
وأحدب كَادَت بعد عَهْدك تخلق)
(أضرت بهَا النكباء كل عشيةٍ
…
ونفح الصِّبَا والوابل المتبعق)
(وقفت بهَا حَتَّى تجلت عمايتي
…
ومل الْوُقُوف الأرحبي المنوق)
(وَقَالَ خليلي إِن ذَا لصبابةٌ
…
أَلا تزجر الْقلب اللجوج فَيلْحق)
(تعز وَإِن كَانَت عَلَيْك كَرِيمَة
…
لَعَلَّك من أَسبَاب بثنة تعْتق)
(فَقلت لَهُ إِن البعاد يشوقني
…
وَبَعض بعاد الْبَين والنأي أشوق)
روى صَاحب الأغاني عَن الْهَيْثَم أَن جميلاً طَال مقَامه بِالشَّام ثمَّ قدم وَبلغ بثينة خَبره فراسلته مَعَ بعض نسَاء الْحَيّ تذكر شوقها إِلَيْهِ ووجدها بِهِ وواعدته لموضعٍ يَلْتَقِيَانِ فِيهِ فَصَارَ إِلَيْهَا وحادثها طَويلا وأخبرها بِحَالهِ بعْدهَا وَقد كَانَ أَهلهَا رصدوها فَلَمَّا فقدوها تبعها أَبوهَا وأخوها حَتَّى هجما عَلَيْهَا فَوَثَبَ جميلٌ فسل سَيْفه وَشد عَلَيْهِمَا فاتقياه بالهرب وَنَاشَدْته بثينة بالانصراف وَقَالَت لَهُ: إِن أَقمت فضحتني وَلَعَلَّ الْحَيّ أَن يلحقوك فَأبى وَقَالَ: أَنا مقيمٌ وامضي أَنْت وليصنعوا مَا أَحبُّوا فَلم تزل بِهِ تناشده حَتَّى انْصَرف.)
وَقَالَ فِي ذَلِك وَقد هجوته مُدَّة طَوِيلَة وَلم تلقه هَذِه القصيدة وَهِي طَوِيلَة.
قَوْله: ألم تسْأَل الرّبع إِلَخ قَالَ اللَّخْمِيّ فِي شرح أَبْيَات الْجمل الرّبع: الدَّار بِعَينهَا حَيْثُمَا كَانَت.
والمربع: الْمنزل فِي الرّبيع خَاصَّة.
والقواء: القفر. يُقَال: ربعٌ قواءٌ وَدَار قواء أَي: خَالِيَة.
والبيداء: القفر الَّذِي يبيد من سلكه أَي: يهلكه. والسملق: الأَرْض الَّتِي لَا تنْبت شَيْئا. وَقيل: هِيَ السهلة المستوية. ومفعول تسْأَل الثَّانِي مَحْذُوف وَالتَّقْدِير: ألم تسْأَل الرّبع عَن أَهله فينطق.
انْتهى.
وَقَالَ ابْن السَّيِّد: وَمعنى نطق الرّبع مَا يتَبَيَّن من آثاره. وَالْعرب تسمي كل دَلِيل نطقاً وقولاً وكلاماً. قَالَ الله تَعَالَى: هَذَا كتَابنَا ينْطق عَلَيْكُم بِالْحَقِّ. وَمِنْه قَول زُهَيْر: أَمن أم أوفى دمنةٌ لم تكلم أَي: لم يكن بهَا أثر يستبان لقدم عهدها بالنزول فِيهَا وَنَحْوه. انْتهى.
وَقَوله: وَهل تخبرنك الْيَوْم إِلَخ رد على نَفسه بِأَن مثله لَا ينْطق فيجيب. وَهَذَا رجوعٌ إِلَى الْحَقِيقَة بعد الْمجَاز.
وَمثله مَا أنْشدهُ أَبُو الْفرج الْأَصْبَهَانِيّ فِي الأغاني لمُحَمد بن عبد الله بن مُسلم بن الْمولى مولى الْأَنْصَار من مخضرمي الدولتين يمدح الْمهْدي: الطَّوِيل
(سلا دَار ليلى هَل تبين فَتَنْطِق
…
وأنى ترد القَوْل بيداء سملق)
وَقَوله: فينطق الْفَاء للاستئناف وَجُمْلَة: ينْطق خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: فَهُوَ ينْطق.
قَالَ صَاحب الْكَشَّاف عِنْد قَوْله تَعَالَى: وَهُوَ الله فِي السَّمَوَات وَفِي الأَرْض يعلم سركم وجهركم: يعلم: جملَة مستأنفة أَي: هُوَ يعلم سركم.
قَالَ التَّفْتَازَانِيّ: جرت عَادَته فِي مثل هَذَا بِتَقْدِير مُبْتَدأ وَلَا يظْهر لَهُ وجهٌ يعْتد بِهِ. وَقَالَ فِي التَّلْوِيح فِي قَوْله تَعَالَى: والراسخون فِي الْعلم يَقُولُونَ آمنا بِهِ.
هَكَذَا قَالَ جَار الله فِي الْكَشَّاف والمفصل فَيقدر الْمُبْتَدَأ فِي جَمِيع مَا هُوَ من هَذَا الْقَبِيل. وَفِيه نظر لِأَن الْجُمْلَة الفعلية صَالِحَة للابتداء من غير احْتِيَاج إِلَى تَقْدِير مُبْتَدأ.
وَفِي شرح التسهيل للدماميني: النحويون يقدرُونَ فِي الِاسْتِئْنَاف مُبْتَدأ وَذَلِكَ إِمَّا لقصد إِيضَاح الِاسْتِئْنَاف وَإِمَّا لِأَنَّهُ لَا يسْتَأْنف إِلَى على هاذ التَّقْدِير. وَإِلَّا لزم الْعَطف الَّذِي هُوَ مُقْتَضى الظَّاهِر. انْتهى.)
قَالَ شَيخنَا الشهَاب الخفاجي فِي بعض رسائله: حَاصله أَن الْجُمْلَة المضارعية المستأنفة يقتضى كَلَام الْمُفَسّرين والنحاة أَنه لَا بُد فِيهَا من تَقْدِير ضمير مُبْتَدأ. وَاسْتَشْكَلَهُ الْمُتَأَخّرُونَ بِأَنَّهُ لَا ضَرُورَة تَدْعُو إِلَيْهِ فَإِنَّهُ يجوز الِاسْتِئْنَاف بِدُونِهِ. وَلم يَدْفَعهُ أحد فظنوا أَنه واردٌ غير مندفع.
وَلما تَأَمَّلت مَا قَالُوهُ حق التَّأَمُّل ظهر لي أَن الْحق مَا قَالُوهُ وَأَنه لَا بُد من هَذَا التَّقْدِير لِأَنَّك إِذا وقفت على قَوْله: فِي الأَرْض من غير تَقْدِير لم يَقع موقعه إِذْ لم يفد مَا يحسن السُّكُوت عَلَيْهِ.
وَالضَّمِير الْمُسْتَتر خفيٌّ لَا يظْهر بَادِي الرَّأْي. فَإِذا قلت يعلم لم يعلم من الْعَالم. فَإِذا كَانَ الْمُبْتَدَأ ظَاهرا أَو فِي حكمه علم المُرَاد.
وَنَظِيره النَّعْت الْمَقْطُوع إِذا رفع يقدر قبله ضمير لِأَنَّهُ مُفْرد لَا يُفِيد إِلَّا على ذَلِك التَّقْدِير.
وَبِهَذَا تبين أَن الِاعْتِرَاض من الغفول عَمَّا قَصده هَؤُلَاءِ الفحول. وَهُوَ معنى قَوْله فِي شرح التسهيل: وَإِلَّا لزم الْعَطف
أَي بَطل الِاسْتِئْنَاف وَكَانَ خَبرا ثَانِيًا. وَكَيف يتَرَدَّد فِي مثله بعد اتِّفَاق النُّحَاة عَلَيْهِ.
إِلَّا أَنهم لم يبينوا أَن هَذَا الْحَذف وَاجِب أَو لَا. وَالظَّاهِر أَنه وَاجِب. وَهَذَا من مهمات الْمَقَاصِد. انْتهى كَلَام شَيخنَا.
وَمَا ذكره بحثا هُوَ كَلَام الشَّارِح الْمُحَقق عِنْد كَلَامه على قَول الشَّاعِر:
(غير أَنا لم تأتنا بِيَقِين
…
فنرجي ونكثر التأميلا)
بعد نَحْو ورقة من هَذَا الْموضع.
وَقَول شَيخنَا: أَي: بَطل الِاسْتِئْنَاف وَكَانَ خَبرا ثَانِيًا. فِيهِ أَن الْخَبَر المتعدد يجوز فِيهِ الْعَطف وَلم يجب كَمَا بَين فِي مَحَله.
وَقَوله: بمختلف الْأَرْوَاح إِلَخ الْبَاء السَّبَبِيَّة. والمختلف: الْموضع الَّذِي تهب فِيهِ الرِّيَاح من كل وَجه. وسويقة بِالتَّصْغِيرِ وأحدب بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالْبَاء الْمُوَحدَة لَا بِالْمُثَلثَةِ. موضعان.
وتخلق: تبلى يُقَال: خلق الثَّوْب بِالضَّمِّ إِذا بلي فَهُوَ خلق بِفتْحَتَيْنِ. وأخلق الثَّوْب بِالْألف لُغَة.
وَقَوله: أضرت بهَا النكباء إِلَخ. النكباء: كل ريح تهب بَين مهب ريحين لِأَنَّهَا نكبت عَن مهبها أَي: عدلت. ونفحت الرّيح بِالْحَاء الْمُهْملَة أَي: هبت من بَاب نفع.
والوابل: الْمَطَر الْعَظِيم الْقطر. والمتبعق بتَشْديد الْعين الْمُهْملَة الْمَكْسُورَة: الشَّديد الْمَطَر. يُقَال: تعبق المزن إِذا سَالَ بِشدَّة.)
والعماية بِفَتْح الْمُهْملَة بعْدهَا مِيم: الضَّلَالَة وَهِي من عمى الْقلب. وروى:
غيابتي بالغين الْمُعْجَمَة. والغيابة: الظلمَة وقعر الْبِئْر وَنَحْوهَا. والأرحبي: الْجمل النجيب منسوبٌ إِلَى أرحب بِالْحَاء الْمُهْملَة: قَبيلَة وَقيل: فَحل وَقيل: مَوضِع.
وروى بدله: العنتريس وَهُوَ الْجمل الشَّديد الصلب. والمنوق: الْمُذَلل كالناقة.
وَقَوله: لَعَلَّك من أَسبَاب بثنة روى بدله: لَعَلَّك من رقٍّ لبثنة.
وَجَمِيل بن معمر شاعرٌ إسلامي تقدّمت تَرْجَمته فِي الشَّاهِد الثَّانِي وَالسِّتِّينَ من أَوَائِل الْكتاب.
وَأنْشد بعده الْكَامِل لم تدر مَا جزعٌ عَلَيْك فتجزع لما تقدم قبله.
وَهُوَ عجز وصدره: وَلَقَد تركت صبية مَرْحُومَة قَالَ ابْن هِشَام فِي الْمُغنِي: وللاستئناف وَجه آخر وَهُوَ أَن يكون على معنى
السَّبَبِيَّة وَانْتِفَاء الثَّانِي لانْتِفَاء الأول وَهُوَ أحد وَجْهي النصب وَهُوَ قَلِيل وَعَلِيهِ قَوْله:
(وَلَقَد تركت صبية مَرْحُومَة
…
لم تدر مَا جزعٌ عَلَيْك فتجزع)
أَي: لَو عرفت الْجزع لجزعت وَلكنهَا لم تعرفه فَلم تجزع. إِلَى آخر مَا ذكره من نَظَائِره من الْآيَات القرآنية.
وَقد تكلم ابْن جني على هَذَا الْبَيْت فِي إِعْرَاب الحماسة فَلَا بَأْس بإيراده قَالَ: هَذَا الْبَيْت طريفٌ غَرِيب الحَدِيث وَذَلِكَ أَنه لَيْسَ بِجَوَاب لِأَنَّهُ مَرْفُوع كَمَا ترى وَلَو كَانَ مَنْصُوبًا جَوَابا لَكَانَ أوفق معنى وأسلب طَرِيقا وَلَا قبله أَيْضا فعلٌ مَرْفُوع فيعطف عَلَيْهِ كَمَا عطف فِي قَوْله: الْبَسِيط فَلهَذَا كَانَ غَرِيبا. غير أَن وَجهه عِنْدِي أَن يكون قَوْله: فتجزع صفة لقَوْله: مَرْحُومَة أَو صَغِيرَة وَيكون مَعْطُوفًا على جملَة قَوْله: لم تدر مَا جزعٌ عَلَيْك لِأَن هَذِه الْجُمْلَة صفة لقَوْله: صَغِيرَة أَو مَرْحُومَة فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَلَقَد تركت صَغِيرَة جاهلة بالجزع فجازعةً مَعَ ذَلِك.
فَلَمَّا وَقع تجزع موقع الِاسْم ارْتَفع فَجرى مجْرى قَوْلك: مَرَرْت بِرَجُل من أهل الْعلم ويقرىء)
النَّاس. فتعطف يقرىء على من أهل الْعلم حَتَّى كَأَنَّك قلت: عَالم ومقرىء. وَإِن شِئْت جعلت الْفَاء زَائِدَة فِي جَمِيع ذَلِك فَكَانَ. فَلَا أمٌّ تبكيه وَلَا أُخْت تفقده.
و: فَمَا تحل على قوم ترتحل أَي:
معتقدة للارتحال وَلم يكن بَيْننَا شَرّ نصطلح من أَجله وَلم تدر مَا جزعٌ عَلَيْك جازعة أَي: تركت صبية جازعةً وَإِن لم تعرف الْجزع أَي: صورتهَا صُورَة الجازعة.
فَإِن قلت: فَهَل هُنَاكَ أمٌّ غير باكية أَو أُخْت غير مفتقدة قيل: لَيْسَ نفي الشَّيْء عندنَا إِثْبَاتًا لضده. أَلا ترى لَو قلت: إِن زيدا لم يعزني لم يكن فِي هَذَا دَلِيل على أَنه قد أَهَانَك.
وَقَالَ أَبُو الْحسن فِي قَوْله تَعَالَى: يَا ليتنا نرد وَلَا نكذب بآيَات رَبنَا ونكون من الْمُؤمنِينَ. قَالَ: هُوَ فِي اللَّفْظ معطوفٌ وَفِي الْمَعْنى جَوَاب قَالَ: وَذَلِكَ أَنهم إِذا تمنوا الرَّد وَلم يتمنوا ترك التَّكْذِيب وَلَا الْإِيمَان بل أوجبوه على أنفسهم عِنْد الرَّد فَكَانَ يجب النصب أَي: إِن رددنا آمنا وَلم نكذب.
قَالَ: وَلكنه جرى فِي اللَّفْظ مَعْطُوفًا وَالْمعْنَى معنى الْجَواب. وَشبهه فِي الْحمل على اللَّفْظ وَالْمعْنَى مخالفٌ لقِرَاءَة من قَرَأَ: وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم
بِالْجَرِّ. فَهَذَا يَقْتَضِي مسح الرجلَيْن.
وَإِنَّمَا الْمَفْرُوض فيهمَا الْغسْل وَلكنه جرى فِي اللَّفْظ على الْجَرّ وَالْمعْنَى معنى النصب.
وَهَذَا لعمري مُتَوَجّه فِي قَوْله: فَمَا تحل على قومٍ فترتحل لِأَن هُنَاكَ مَرْفُوعا قبله. فَأَما قَوْله: لم تدر مَا جزعٌ عَلَيْك فتجزع فَلَيْسَ فِي قَوْله قبله مَرْفُوع فيعطف عَلَيْهِ. وَقد يجوز أَن يكون أَرَادَ فَهِيَ تبكيه وَهِي تفتقده على أَنه وضع الْجُمْلَة المركبة من الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر مَوضِع الْفِعْل الْمَنْصُوب على الْجَواب.
وَمثله قَوْله تَعَالَى: هَل لكم مِمَّا ملكت أَيْمَانكُم من شُرَكَاء فِيمَا رزقناكم فَأنْتم فِيهِ سَوَاء أَي: فتستووا. وَمثله: أعنده علم الْغَيْب فَهُوَ يرى أَي: فَيرى. فاعرف تَفْصِيل ذَلِك.
هَذَا كَلَام ابْن جني.
وَأوردهُ فِي الْمُحْتَسب أَيْضا عِنْد قِرَاءَة الْحسن وَيزِيد النَّحْوِيّ: يَا لَيْتَني كنت مَعَهم فأفوز فوزاً عَظِيما بِالرَّفْع.
قَالَ روح: لم
يَجْعَل لليت جَوَابا. أَقُول: محصوله أَنه يتَمَنَّى الْفَوْز فَكَأَنَّهُ قَالَ: يَا لَيْتَني أفوز فوزاً)
عَظِيما. وَلَو جعله جَوَابا لنصبه أَي: إِن أكن مَعَهم أفز. هَذَا إِذا صرحت بِالشّرطِ إِلَّا أَن الْفَاء إِذا دخلت جَوَابا لِلتَّمَنِّي نصب الْفِعْل بعْدهَا بإضمار أَن وَعطف أفوز على كنت مَعَهم لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا متمنيان إِلَّا أَنه عطف جملَة على جملَة لَا الْفِعْل على انْفِرَاده على الْفِعْل إِذْ كَانَ الأول مَاضِيا وَالثَّانِي مُسْتَقْبلا.
وَعَلِيهِ قَول الآخر: لن تدر مَا جزعٌ عَلَيْك فتجزع والقوافي مَرْفُوعَة أَي: هِيَ تجزع. وَلَو كَانَ جَوَابا لقَالَ: فتجزعا. وَقد ذكرنَا هَذَا وَنَحْوه فِي كتَابنَا تَفْسِير مُشكل أَبْيَات الحماسة. انْتهى.
وَالْبَيْت لم يعرفهُ شرَّاح مُغنِي اللبيب وَهُوَ من أبياتٍ أوردهَا أَبُو تَمام فِي بَاب المراثي من الحماسة لمويلكٍ المزموم فِي امْرَأَته أم الْعَلَاء. وأوردها الأعلم الشنتمري أَيْضا فِي حماسته وَهِي:
(امرر على الجدث الَّذِي حلت بِهِ
…
أم الْعَلَاء فنادها لَو تسمع)
(أَنى حالمت وَكنت جد فروقةٍ
…
بَلَدا يمر بِهِ الشجاع فَيفزع)
(صلى عَلَيْك الله من مفقودةٍ
…
إِذْ لَا يلائمك الْمَكَان البلقع)
(فقدت شمائل من لزامك حلوةً
…
فتبيت تسهر لَيْلهَا وتفجع)
(فَإِذا سَمِعت أنينها فِي لَيْلهَا
…
طفقت عَلَيْك شؤون عَيْني تَدْمَع)
وَزَاد الأعلم فِي حماسته بعد هَذَا سِتَّة أَبْيَات أخر.
وَقَوله: امرر على الجدث إِلَخ هُوَ بِفَتْح الْجِيم: الْقَبْر. وَرُوِيَ: فحيها بدل فنادها. وَهل بدل لَو.
قَالَ الطبرسي فِي شَرحه: يَقُول: امرر على الْقَبْر الَّذِي دفنت فِيهِ وَسلم عَلَيْهَا إِن كَانَت تسمع. وَهَذَا توجعٌ وتلهف. وروى: هَل تسمع. وَالْفرق أَن لَو فَائِدَته الشَّرْط وَهل من حَيْثُ كَانَ استفهاماً كَلَام راجٍ لسماعها فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَانْظُر هَل تسمع.
وَقَوله: أَنى حللت إِلَخ قَالَ ابْن جني: الْهَاء فِي فروقةٍ مَعَ الْمُؤَنَّث مثلهَا مَعَ الْمُذكر لَا فرق بَينهمَا فِي الْحَال.
وَإِن المُرَاد فيهمَا معنى الْغَايَة وَالْمُبَالغَة. وَكَذَلِكَ رجلٌ راوية وَامْرَأَة راوية وَكَذَا عَلامَة ونسابه لم تدخل هَذِه الْهَاء على الْمُؤَنَّث لِأَنَّهَا لَو كَانَت كَذَلِك لما لحقت الْمُذكر. وَهَذَا قَاطع. انْتهى.
وَقَوله: جد فروقة أَي: كنت فروقةً جدا لَا هزلا وَحقا لَا بَاطِلا. والبلد: الْقطعَة من الأَرْض.)
يَقُول: كَيفَ أَقمت فِي بلد قفر إِذا مر بِهِ الرجل الشجاع استولى عَلَيْهِ الْفَزع وعهدي بك أَنَّك كنت أَشد النَّاس خوفًا وأضعفهم قلباً.
وَقَوله: صلى عَلَيْك الله إِلَخ الصَّلَاة من الله: الرَّحْمَة وَمن العَبْد: الدُّعَاء. وَلَا يلائمك: لَا يوافقك. والبلقع: الْخَالِي. وَمن مفقودة: تَمْيِيز.
وَقَوله: فَلَقَد تركت صَغِيرَة إِلَخ قد تقدم أَن ابْن جني جوز وَجْهَيْن: أَن يكون فتجزع صفة لصغيرة وَأَن يكون استئنافاً وَاخْتَارَ المرزوقي الِاسْتِئْنَاف وَقَالَ: أَرَادَ أَنَّهَا من صغرها لَا تعرف الْمُصِيبَة وَلَا الْجزع لَهَا فَهِيَ على حَالهَا تجزع لِأَن مَا تَأتيه من الضجر والبكاء وتتركه من النّوم والقرار فعل الجازعين.
وَقَوله: فقدت شمائل إِلَخ جمع الشمَال بِالْكَسْرِ وَهِي الطبيعة. يَقُول: كَانَت قد اعتادت مِنْك أَخْلَاقًا جميلَة ففقدتها فَبَقيت لَا تنام وَلَا تنيم بل تفجع وتوجع فَإِذا سَمِعت شكواها وبكاءها أَقبلت شؤون رَأْسِي تسح بالبكاء وَلها عَلَيْك.
وطفقت: شرعت. والشؤون: جمع شَأْن وَهُوَ الشّعب الَّذِي يجمع بَين القبيلتين من قبائل الرَّأْس وَهِي الْقطعَة المشعوب بَعْضهَا إِلَى بعض. وَيُقَال: إِن الدمع يجْرِي من الشَّأْن.
ومويلكٌ: مصغر مَالك. والمزموم: اسْم مفعول من زممت النَّاقة أَي: وضعت عَلَيْهَا الزِّمَام.
وَالظَّاهِر أَنه شاعرٌ إسلامي. وَلم أَقف على نسبه حَتَّى أكشف عَنهُ فِي الجمهرة وَلَا على تَرْجَمته. وَالله أعلم.