الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَأنْشد بعده
(الشَّاهِد السَّادِس وَالثَّلَاثُونَ بعد الستمائة)
وَهُوَ من شَوَاهِد س: الوافر
لما تقدم فِي الْبَيْت قبله.
وَأوردهُ سِيبَوَيْهٍ فِي موضِعين من كِتَابه على أَنه أثبت الْيَاء فِي حَال الْجَزْم ضَرُورَة لِأَنَّهُ إِذا اضْطر ضمهَا فِي حَال الرّفْع تَشْبِيها بِالصَّحِيحِ.
قَالَ الأعلم: وَهِي لغةٌ ضَعِيفَة فاستعملها عِنْد الضَّرُورَة. اه.
وَهَذَا قَول الزجاجي فِي الْجمل وَتَبعهُ الأعلم.
قَالَ ابْن السَّيِّد فِي شرح أبياته: وَقَوله: إِنَّه لغةٌ خطأٌ.
وَمثله للصفار فِي شرح الْكتاب: قَالَ: إثباب حرف الْعلَّة فِي المجزوم ضَرُورَة نَحْو: ألم يَأْتِيك.
وَقيل: إِنَّه لُغَة يعرب بحركات مقدرَة.
وَالصَّحِيح أَنه لَيْسَ لُغَة وَلَا علم من قَالَه غير الزجاجي وَلَا سَنَد لَهُ فِيهِ. وَمِمَّا يدل على أَنه غير مُعرب بحركات مقدرَة أَنهم لَا يَقُولُونَ لم أخْشَى لِأَنَّهُ لَا يظْهر فِيهِ حَرَكَة بوجهٍ بِخِلَاف الْيَاء.
فَإِن قلت: إِنَّه سمع فِي قَوْله تَعَالَى: لَا تخف دركاً وَلَا تخشى. وَقَوله: إِذا الْعَجُوز غضِبت فَطلق
…
...
…
الْبَيْت
قلت: لَا دَلِيل فِيهِ كَمَا زعمت لِأَن الأول مَقْطُوع أَي: وَأَنت لَا تخشى أَي: فِي هَذِه الْحَال.
وَكَذَا وَلَا ترضاها أَي: طَلقهَا وَأَنت لَا تترضاها ثمَّ قَالَ: وَلَا تملق فَلَا دَلِيل فِيهِ. اه.
وَقَالَ ابْن خلف: هَذَا الْبَيْت أنْشدهُ سِيبَوَيْهٍ فِي بَاب الضرورات وَلَيْسَ يجب أَن يكون من بَاب الضرورات لِأَنَّهُ لَو أنْشد بِحَذْف الْيَاء لم ينكسر وَإِنَّمَا مَوضِع الضَّرُورَة مَا لَا يجد الشَّاعِر مِنْهُ بدا فِي إثْبَاته وَلَا يقدر على حذفه لِئَلَّا ينكسر الشّعْر وَهَذَا يُسمى فِي عرُوض الوافر المنقوص أَعنِي: إِذا حذف الْيَاء من قَوْله: ألم يَأْتِيك.
هَذَا كَلَامه.
وَلَا يخفى أَن مَا فسر بِهِ الضَّرُورَة مذهبٌ مَرْجُوح مَرْدُود. وَالتَّحْقِيق عِنْد الْمُحَقِّقين: أَنَّهَا مَا وَقع فِي الشّعْر سواءٌ كَانَ للشاعر عَنهُ مندوحةٌ أم لَا.
وَقَالَ ابْن جني: فِي فصل الْهمزَة من سر الصِّنَاعَة: رَوَاهُ بعض أَصْحَابنَا: ألم يأتك على ظَاهر الْجَزْم وأنشده أَبُو الْعَبَّاس عَن أبي عُثْمَان عَن)
الْأَصْمَعِي: أَلا هَل اتاك والأنباء تنمي اه.
فَالْأول فِيهِ الْكَفّ وَالثَّانِي فِيهِ نقل حَرَكَة الْهمزَة من أَتَاك إِلَى لَام هَل وحذفها.
وَرَوَاهُ بَعضهم: فَلَا شَاهد فِيهِ على الرِّوَايَات الثَّلَاث.
وَالْبَيْت أوردهُ ابْن هِشَام فِي موضِعين من الْمُغنِي: أَحدهمَا: فِي الْبَاء قَالَ: الْبَاء فِي قَوْله: بِمَا زَائِدَة فِي الضَّرُورَة. وَقَالَ
ابْن الضائع: الْبَاء مُتَعَلقَة بتنمي وَإِن فَاعل يَأْتِي مُضْمر وَالْمَسْأَلَة من بَاب الإعمال.
وَثَانِيهمَا: فِي الْجُمْلَة المعترضة من الْبَاب الثَّانِي قَالَ: جملَة والأنباء تنمي مُعْتَرضَة بَين الْفِعْل وَالْفَاعِل على أَن الْبَاء زَائِدَة فِي الْفَاعِل.
وَيحْتَمل أَن يَأْتِي وتنمي تنَازعا فأعمل الثَّانِي وأضمر الْفَاعِل فِي الأول فَلَا اعْتِرَاض وَلَا زِيَادَة.
وَلَكِن الْمَعْنى على الأول أوجه إِذْ الأنباء من شَأْنهَا أَن تنمي بِهَذَا وَبِغَيْرِهِ. اه.
يُرِيد أَن يَأْتِي وتنمي تنَازعا قَوْله: بِمَا وَالْأول يَطْلُبهُ للفاعلية وَالثَّانِي يَطْلُبهُ للمفعولية فأعمل الثَّانِي على الْمُخْتَار وأضمر الْفَاعِل فِي الأول وَهُوَ ضمير مَا لاقت.
وَقَالَ الأعلم وَابْن الشجري فِي أَمَالِيهِ: الْبَاء زَائِدَة بمنزلتها فِي كفى بِاللَّه شَهِيدا. وَحسن دُخُولهَا فِي مَا أَنَّهَا مُبْهمَة مَبْنِيَّة كالحرف فَأدْخل عَلَيْهَا حرف الْجَرّ إشعاراً بِأَنَّهَا اسْم وَالتَّقْدِير: ألم يَأْتِيك مَا لاقت.
وَيجوز أَن تكون مُتَّصِلَة بيأتيك على إِضْمَار الْفَاعِل فَيكون التَّقْدِير: ألم يَأْتِيك النبأ بِمَا لاقت.
وَدلّ على النبأ قَوْله: والأنباء تنمي أَي: تشيع وَأَصله من نمى الشَّيْء ينمي إِذا ارْتَفع وَزَاد.
اه.
وعَلى هَذَا لَا تنَازع. وَفِيه الِاعْتِرَاض بِالْجُمْلَةِ. وَقَول ابْن هِشَام إِن زِيَادَة الْبَاء هُنَا ضَرُورَة هُوَ قَول ابْن عُصْفُور قَالَ فِي كتاب الضرائر: وَمِنْهَا زِيَادَة حرف الْجَرّ فِي الْمَوَاضِع الَّتِي لَا تزاد فِيهَا فِي سَعَة الْكَلَام
نَحْو: ألم يَأْتِيك
…
... . الْبَيْت)
فَزَاد الْبَاء فِي فَاعل يَأْتِي. وزيادتها لَا تنقاس فِي سَعَة الْكَلَام إِلَّا فِي خبر مَا وَخبر لَيْسَ وفاعل: كفى ومفعوله وفاعل أفعل بِمَعْنى: مَا أَفعلهُ. وَمَا عدا هَذِه الْمَوَاضِع لَا تزاد فِيهِ الْبَاء إِلَّا فِي ضرورةٍ أَو شَاذ من الْكَلَام يحفظ وَلَا يُقَاس عَلَيْهِ. اه.
وَقَالَ ابْن جني فِي الْمُحْتَسب: زَاد الْبَاء فِي بِمَا لاقت لما كَانَ مَعْنَاهُ: ألم تسمع مَا لاقت لبونهم.
هَذَا كَلَامه.
وَكَأَنَّهُ على التَّضْمِين. وَفِيه بعدٌ.
وَقَالَ ابْن المستوفي: وَابْن خلف: وَيجوز أَن يكون لبون فَاعل يَأْتِي على تَقْدِير مُضَاف أَي: ألم يَأْتِيك خبر لبونهم وَيكون فِي لاقت ضميرٌ يعود إِلَى لبون وَيكون لبون فِي نِيَّة التَّقْدِيم. وعَلى هَذَا تكون الْبَاء مُتَعَلقَة بيأتي وَفِيه التَّنَازُع على إِعْمَال الأول على خلاف الْمُخْتَار وَفِيه تعسف لتقدير الْمُضَاف فِي الأول وَعَدَمه فِي الثَّانِي.
وَالْكَاف فِي يَأْتِيك لمخاطب غير معِين أَي: يَا من يصلح للخطاب. والأنباء: جمع نبأ وَهُوَ خبرٌ لَهُ شَأْن.
واللبون قَالَ أَبُو زيد: هِيَ من الشَّاء وَالْإِبِل: ذَات اللَّبن غزيرةً كَانَت أم بكيئة فَإِذا قصدُوا قصد الغزيرة قَالُوا: لبنة وَقَالَ ابْن السَّيِّد وَتَبعهُ ابْن خلف:
اللَّبُون: الْإِبِل ذَوَات اللَّبن وَهُوَ اسمٌ مُفْرد أَرَادَ بِهِ الْجِنْس.
وَبَنُو زِيَاد: هم الكملة الرّبيع وَعمارَة وَقيس وَأنس بَنو زِيَاد بن سُفْيَان بن عبد الله الْعَبْسِي. وأمهم فَاطِمَة بنت الخرشب الأنمارية. وَالْمرَاد لبون الرّبيع بن زِيَاد فَإِن الْقِصَّة مَعَه فَقَط كَمَا يَأْتِي بَيَانهَا.
كَمَا يُقَال: بَنو فلَان فعلوا كَذَا إِذا كَانَ الْفَاعِل بَعضهم وَأسْندَ الْفِعْل إِلَى الْجَمِيع لرضاهم بِفعل الْبَعْض.
وَمثل هَذَا الْبَيْت قَول عفيف بن الْمُنْذر: الوافر
(ألم يَأْتِيك والأنباء تنمي
…
بِمَا لاقت سراة بني تَمِيم)
(تداعى من سراتهم رجالٌ
…
وَكَانُوا فِي النوائر والصميم)
وَالْبَيْت أول أبياتٍ لقيس بن زُهَيْر بن جذيمة بن رَوَاحَة الْعَبْسِي وَكَانَ سيد قومه ونشأت بَينه وَبَين الرّبيع بن زِيَاد الْعَبْسِي شَحْنَاء فِي شَأْن درعٍ ساومه فِيهَا وَلما نظر إِلَيْهَا وَهُوَ على ظهر فرسه وَضعهَا على القربوس ثمَّ ركض بهَا فَلم يردهَا عَلَيْهِ فَاعْترضَ قيس بن زُهَيْر أم الرّبيع:)
فَاطِمَة بنت الخرشب الْمَذْكُورَة فِي ظعائن من بني عبس فاقتاد جملها يُرِيد أَن يرتهنها بدرعه.
فَقَالَت لَهُ: مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ قطّ فعل رجل أَيْن ضل حلمك يَا قيس أترجو أَن تصطلح أَنْت وَبَنُو زِيَاد أبدا وَقد أخذت أمّهم فَذَهَبت بهَا يَمِينا وَشمَالًا فَقَالَ النَّاس فِي ذَلِك مَا شاؤوا أَن يَقُولُوا: وحسبك من شَرّ سَمَاعه فأرسلتها مثلا. فَعرف قيسٌ مَا قَالَت فخلى سَبِيلهَا ثمَّ أطْرد إبِلا لَهُ وَقيل: إبِله وإبل إخْوَته فَقدم بهَا مَكَّة فَبَاعَهَا من عبد الله بن جدعَان
التَّيْمِيّ مُعَاوضَة بأدراعٍ وسيوف. ثمَّ جاور ربيعَة بن قرط بن سَلمَة بن قُشَيْر وَهُوَ ربيعَة الْخَيْر ويكنى أَبَا هِلَال.
وَفَاطِمَة الأنمارية هِيَ إِحْدَى المنجبات. وسئلت عَن بنيها: أَيهمْ أفضل فَقَالَت: الرّبيع لَا بل عمَارَة لَا بل قيس لَا بل أنس ثكلتهم إِن كنت أَدْرِي أَيهمْ أفضل هم كالحلقة المفرغة لَا يدْرِي أَيْن طرفاها وَكَانَت امْرَأَة لَهَا ضيافةٌ وسودد. والأبيات هَذِه بعد الأول:
(كَمَا لاقيت من حمل بن بدر
…
وَإِخْوَته على ذَات الإصاد)
(هم فَخَروا عَليّ بِغَيْر فخرٍ
…
وردوا دون غَايَته جوادي)
(وَكنت إِذا منيت بخصم سوءٍ
…
دلفت لَهُ بداهيةٍ نآد)
(بداهيةٍ تدق الصلب مِنْهُم
…
بقصمٍ أَو تجوب عَن الْفُؤَاد)
(أَطُوف مَا أَطُوف ثمَّ آوي
…
إِلَى جارٍ كجار أبي دواد)
(منيع وسط عِكْرِمَة بن قيسٍ
…
وهوبٍ للطريف وللتلاد)
(تظل جياده يعسلن حَولي
…
بِذَات الرمث كالحدإ العوادي)
(كفاني مَا أَخَاف أَبُو هلالٍ
…
ربيعَة فانتهت عني الأعادي)
(كَأَنِّي إِذْ أنخت إِلَى ابْن قرطٍ
…
أنخت إِلَى يَلَمْلَم أَو نضاد)
وَقَوله: ومحبسها بِالرَّفْع مَعْطُوف على فَاعل يَأْتِيك وَهُوَ مَا لاقت أَو لبون وبالجر عطفا على مَدْخُول الْبَاء إِن كَانَ الْفَاعِل ضمير النبأ. والمحبس: مصدر ميمي.
والقرشي هُنَا هُوَ عبد الله بن جدعَان بِضَم الْجِيم ابْن عَمْرو بن كَعْب ابْن سعد بن تيم بن مرّة الْقرشِي. وَعبد الله من أجواد قُرَيْش فِي
الْجَاهِلِيَّة.
وشذ ابْن السَّيِّد فِي قَوْله: إِن قيسا لما قدم مَكَّة بِإِبِل الرّبيع بَاعهَا لِحَرْب بن أُميَّة وَهِشَام بن)
وتشرى بِالْبِنَاءِ للْمَفْعُول الْجُمْلَة: حَال من ضمير الْمُؤَنَّث فِي محبسها. وَقَالُوا: هُوَ بِمَعْنى تبَاع.
وَيجوز أَن يكون الْمَعْنى: يَشْتَرِيهَا الْقرشِي فالجملة حالٌ من الْقرشِي.
وَفِي هَذَا الْبَيْت بيانٌ لما لاقته لبون بني زِيَاد وافتخارٌ وتبجج بِمَا فعله من أَخذ إبِله وَبَيْعهَا بِمَكَّة.
وَقَوله: كَمَا لاقيت قَالَ ابْن الشجري: الْعَامِل فِيهِ مَحْذُوف تَقْدِيره: لاقيت مِنْهُم كَمَا لاقيت من حمل بن بدر.
وَمثله فِي حذف الْفِعْل مِنْهُ للدلالة عَلَيْهِ قَول يزِيد بن مفرغ الْحِمْيَرِي: الْخَفِيف
(لَا ذعرت السوام فِي وضح الصب
…
ح مغيراً وَلَا دعيت يزيدا)
(يَوْم أعْطى من المخافة ضيماً
…
والمنايا يرصدنني أَن أحيدا)
(طالعاتٍ أخذن كل سبيلٍ
…
لَا شقياً وَلَا يدعن سعيدا)
أَرَادَ: لَا يدعن شقياً فَحذف. انْتهى.
وَذَات الإصاد بِكَسْر الْهمزَة. مَوضِع.
وَهَذَا الْبَيْت وَمَا بعده إشارةٌ إِلَى حَرْب داحسٍ والغبراء وَهَذَا إجمالها من
كتاب الفاخر للمفضل بن سَلمَة قَالَ: داحس: فرس قيس بن زُهَيْر الْعَبْسِي والغبراء: فرس حُذَيْفَة بن بدرٍ وَكَانَ من حَدِيثهمَا أَن رجلا من بني عبس يُقَال لَهُ: قرواش بن هني مارى حمل
بن بدرٍ أَخا حُذَيْفَة فِي داحس والغبراء فَقَالَ حمل: الغبراء أَجود. وَقَالَ قرواش: داحسٌ أَجود. فتراهنا عَلَيْهِمَا عشرَة فِي عشرَة.
فَأتى قرواشٌ إِلَى قيس بن زُهَيْر فَأخْبرهُ فَقَالَ لَهُ قيس: رَاهن من أَحْبَبْت وجنبني بني بدر فَإِنَّهُم يظْلمُونَ لقدرتهم على النَّاس فِي أنفسهم وَأَنا نكدٌ أباءٌ فَقَالَ قرواش: فَإِنِّي قد أوجبت الرِّهَان. فَقَالَ قيس: وَيلك مَا أردْت إِلَى أشأم أهل بَيت وَالله لتنفلن علينا شرا.
ثمَّ إِن قيسا أَتَى حمل بن بدر فَقَالَ: إِنِّي أَتَيْتُك لأواضعك الرِّهَان عَن صَاحِبي. قَالَ حمل: لَا أواضعك أَو تَجِيء بالعشر فَإِن أَخَذتهَا أخذت سبقي وَإِن تركتهَا تركت حَقًا قد عَرفته لي وعرفته لنَفْسي. فأحفظ قيسا فَقَالَ: هِيَ عشرُون. قَالَ حملٌ: ثَلَاثُونَ.
فتزايدا حَتَّى بلغ بِهِ قيس مائَة وَجعل الْغَايَة مائَة غلوة والغلوة بِفَتْح الْمُعْجَمَة: مِقْدَار رمية سهم. فضمروهما أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثمَّ اسْتقْبل الَّذِي ذرع الْغَايَة من ذَات الإصاد وَهِي ردهة فِي)
ديار عبس وسط هضب القليب قَالَ الْأَصْمَعِي: هضب القليب بِنَجْد جبالٌ صغَار والقليب فِي وسط هَذَا الْموضع يُقَال لَهُ ذَات الإصاد وَهُوَ اسْم من أسمائها. والردهة: نقيرة فِي حجر يجْتَمع فِيهَا المَاء فَانْتهى الذرع إِلَى مَكَان لَيْسَ لَهُ اسْم. فقادوا الفرسين إِلَى الْغَايَة وَقد وَلم يكن ثمَّ قصبةٌ. وَوضع حملٌ حَيْسًا فِي دلاء وَجعله فِي شعب من شعاب هضب القليب على طَرِيق الفرسين وَكَمن مَعَه فتياناً وَأمرهمْ إِن جَاءَ داحسٌ سَابِقًا
أَن يردوا وَجهه عَن الْغَايَة وأرسلوهما من مُنْتَهى الذرع فَلَمَّا دنوا وَقد برز داحسٌ وثب الفتيان
فلطموا وَجه داحس فَردُّوهُ عَن الْغَايَة. فَقَالَ قيس: يَا حُذَيْفَة أَعْطِنِي سبقي.
وَقَالَ الَّذِي وضع عِنْده السَّبق: إِن قيسا قد سبق وَإِنَّمَا أردْت أَن يُقَال: سبق حُذَيْفَة وَقد قيل فَأمره أَن يَدْفَعهُ لقيس.
ثمَّ إِن حُذَيْفَة ندمه النَّاس فَبعث ابْنه يَأْخُذ السَّبق من قيس فَقتله قيس فَاجْتمع النَّاس فاحتملوا دِيَته مائَة عشراء فقبضها حُذَيْفَة وَسكن النَّاس. ثمَّ إِن حُذَيْفَة استفرد أَخا قيس وَهُوَ مَالك بن زُهَيْر فَقتله.
وَكَانَ الرّبيع بن زِيَاد يومئذٍ مجاور بني فَزَارَة عِنْد امْرَأَته وَكَانَ مشاحناً لقيس بن زُهَيْر فِي درعه الَّتِي اغتصبها من قيس كَمَا تقدم ذكرهَا فَلَمَّا قتل مَالك بن زُهَيْر ارتحل الرّبيع بن زِيَاد وَلحق بقَوْمه وَأَتَاهُ قيس بن زُهَيْر فَصَالحه وَنزل مَعَه ثمَّ دس قيسٌ أمة لَهُ إِلَى الرّبيع تنظر مَا يعْمل فَأَتَتْهُ امْرَأَته تعرض لَهُ وَهِي على طهر فزجرها وَقَالَ: الْكَامِل
(منع الرقاد فَمَا أغمض حَار
…
جللٌ من النبأ المهم الساري)
(يجد النِّسَاء حواسراً يندبنه
…
يندبن بَين عوانس وعذاري)
(أفبعد مقتل مَالك بن زهيرٍ
…
ترجو النِّسَاء عواقب الْأَطْهَار)
فَأخْبرت الْأمة قيسا بِهَذَا فَأعْتقهَا.
ثمَّ إِن بني عبس تجمعُوا وَرَئِيسهمْ الرّبيع بن زِيَاد وَتجمع بَنو ذبيان وَرَئِيسهمْ
حُذَيْفَة بن بدر وتحاربوا مرَارًا.
ثمَّ إِن الرّبيع بن زِيَاد أظفره الله فِي جَعْفَر الهباءة على حُذَيْفَة بن بدر وأخويه: حمل بن بدر وَمَالك بن بدر فَقَتلهُمْ ومثلوا بحذيفة فَقطعُوا ذكره فجعلوه فِي فِيهِ وَجعلُوا لِسَانه فِي دبره.
وَقَالَ الرّبيع بن زِيَاد يرثي حمل بن بدر: الوافر)
(تعْمل أَن خير النَّاس طراً
…
على جفر الهباءة مَا يريم)
(وَلَوْلَا ظلمه مَا زلت أبْكِي
…
عَلَيْهِ الدَّهْر مَا طلع النُّجُوم)
(وَلَكِن الْفَتى حمل بن بدرٍ
…
بغى وَالْبَغي مرتعه وخيم)
(أَظن الْحلم دلّ عَليّ قومِي
…
وَقد يستجهل الرجل الْحَلِيم)
(أُلَاقِي من رجالٍ منكراتٍ
…
فأنكرها وَمَا أَنا بالظلوم)
(ومارست الرِّجَال ومارسوني
…
فمعوجٌّ عَليّ ومستقيم)
ودامت الْحَرْب بَينهم أَرْبَعِينَ سنة إِلَى أَن ضعف قيس بن زُهَيْر فحالف ربيعَة بن قرط بن سَلمَة بن قُشَيْر وَهُوَ ربيعَة الْخَيْر ويكنى أَبَا هِلَال.
وَقيل: هُوَ ربيعَة بن قرط بن عبد بن أبي بكر بن كلاب. فَنزل قيسٌ مَعَ بني عبس عِنْده وَقَالَ:
(أحاول مَا أحاول ثمَّ آوي
…
إِلَى جارٍ كجار أبي دواد)
إِلَى آخر الأبيات الْمَذْكُورَة.
وَقَوله: وَكنت إِذا منيت إِلَخ أَي: بليت. ودلفت: أسرعت. والنآد بِهَمْزَة ممدودة قبلهَا نون وَبعدهَا دَال: الشَّدِيدَة من الدَّوَاهِي. وتقصم: تكسر. وتجوب: تشق.
وَقَوله: كجار أبي دَاوُد الْجَار هُنَا: النَّاصِر والحليف.
كَانَ أَبُو دواد الْإِيَادِي فِي الْجَاهِلِيَّة جاور الْحَارِث بن همام بن مرّة بن ذهل بن شَيبَان فَخرج صبيان الْحَيّ يَلْعَبُونَ فِي غَدِير فغمسوا ابْن أبي دوادٍ فَقَتَلُوهُ فَقَالَ الْحَارِث بن همام: لَا يبْق فِي الْحَيّ صبيٌّ إِلَّا غرق فِي الغدير فودي ابْن أبي دواد تسع دياتٍ أَو عشرا.
ويعسلن من العسلان وَهُوَ اهتزاز الَّذِي يعدو. والحدأ: جمع حدأة كعنب جمع عنبة: طَائِر مَعْرُوف. ويلملم ونضاد: جبلان.
وَقَول الرّبيع بن زِيَاد: يَقُول: من شمت من الْأَعْدَاء بمقتل مَالك فَليعلم أَنا قد أدركنا ثَأْره. وَكَانَت الْعَرَب لَا تندب قتلاها حَتَّى تدْرك ثأرها. وَكَانَ قيس قتل ابْن حُذَيْفَة كَمَا تقدم فَقتل حُذَيْفَة مَالِكًا أَخا قيس.
وَالْمرَاد: فليحضر ساحتنا فِي أول النَّهَار ليعلم أَن مَا كَانَ محرما من الْبكاء قد حل ويجد النِّسَاء مكشوفات الرؤوس يندبنه.)
وَرُوِيَ:
(يجد النِّسَاء حواسراً يندبنه
…
يلطمن أوجههن بالأسحار)
وَرُوِيَ أَيْضا: قد قمن قبل تبلج الأسحار وَرُوِيَ أَيْضا: بالصبح قبل تبلج الأسحار قَالَ ابْن نباتة فِي سرح الْعُيُون فِي شرح رِسَالَة ابْن زيدون: لبَعض الأدباء
اعتراضٌ فِي قَوْله: بالصبح قبل تبلج الأسحار
فَإِن الصُّبْح لَا يكون إِلَّا بعد تبلج الأسحار.
أُجِيب بأقوالٍ مِنْهَا: أَن الصُّبْح هُنَا الْحق الْوَاضِح من وَصفه الَّذِي هُوَ كالصبح لِأَنَّهَا تندبه بخلاله الْحَسَنَة الْوَاضِحَة. انْتهى.
وَقيس بن زُهَيْر: جاهليٌّ وَهُوَ صَاحب الحروب بَين عبس وذبيان بِسَبَب الفرسين: داحس والغبراء كَمَا تقدم. وَكَانَ فَارِسًا شَاعِرًا داهية يضْرب بِهِ الْمثل فَيُقَال: أدهى من قيس.
وَلما طَال الْحَرْب ومل أَشَارَ على قومه بِالرُّجُوعِ إِلَى قَومهمْ ومصالحتهم فَقَالُوا: سر نسر مَعَك.
فَقَالَ: لَا وَللَّه لَا نظرت فِي وَجْهي ذبيانيةٌ قتلت أَبَاهَا أَو أخاها أَو زَوجهَا أَو وَلَدهَا.
وَتقدم ذكر الصُّلْح فِي شرح معلقَة زُهَيْر بن أبي سلمى.
ثمَّ خرج على وَجهه حَتَّى لحق بالنمر بن قاسط وَتزَوج مِنْهُم وَأقَام عِنْدهم مُدَّة ثمَّ رَحل إِلَى عمان فَأَقَامَ بهَا حَتَّى مَاتَ.
وَقيل: إِنَّه خرج هُوَ وصاحبٌ لَهُ من بني أَسد عَلَيْهِمَا المسوح يسيحان فِي الأَرْض ويتقوتان مِمَّا تنْبت إِلَى أَن دفعا فِي ليلةٍ بَارِدَة إِلَى أخبيةٍ لقومٍ وَقد اشْتَدَّ بهما الْجُوع فوجدا رَائِحَة شواءٍ فسعيا يريدانه فَلَمَّا قاربا أدْركْت قيسا شهامة النَّفس
والأنفة فَرجع وَقَالَ لصَاحبه: دُونك وَمَا تُرِيدُ فَإِن لي لبثاً على هَذِه الأجارع أترقب داهية الْقُرُون الْمَاضِيَة. فَمضى صَاحبه وَرجع من الْغَد فَوَجَدَهُ قد لَجأ إِلَى شجرةٍ بِأَسْفَل وادٍ فنال من وَرقهَا شَيْئا ثمَّ مَاتَ.
فأنظور هُوَ قطعةٌ من بَيت وَهُوَ:)
(وأنني حَيْثُمَا يثني الْهوى بَصرِي
…
من حوثما سلكوا أدنو فأنظور)
أَي: فَأنْظر. وَتقدم الْكَلَام عَلَيْهِ فِي الشَّاهِد الْحَادِي عشر من أَوَائِل الْكتاب.
وَأنْشد بعده: ينباع وَهَذَا أَيْضا قطعةٌ من بَيت تقدم فِي الشَّاهِد الثَّانِي عشر بعد بَيت فأنظور وَهُوَ: الْكَامِل
(ينباع من ذفرى غضوبٍ جسرةٍ
…
زيافةٍ مثل الفنيق المقرم)
أَي: يَنْبع. والذفرى: الْموضع الَّذِي يعرق من الْإِبِل خلف الْأذن. والغضوب: النَّاقة العبوس الصعبة الشَّدِيدَة الرَّأْس. والجسرة: الجاسرة فِي السّير.
والزيافة: المتبخترة. والفنيق: الْفَحْل المكرم لَا يركب لكرامته عِنْد أَهله. والمقرم بِضَم الْمِيم وَفتح الرَّاء: الْبَعِير الَّذِي لَا يحمل عَلَيْهِ وَلَا يذلل وَإِنَّمَا هُوَ للفحلة.
وَتقدم الْكَلَام هُنَاكَ مفصلا عَلَيْهِ.
وَأنْشد بعده الطَّوِيل وَمَا كدت آيباً هُوَ قِطْعَة من بَيت هُوَ:
(فَأَبت إِلَى فهمٍ وَمَا كدت آيباً
…
وَكم مثلهَا فارقتها وَهِي تصفر)
على أَن أصل خبر كَاد الِاسْم الْمُفْرد كَمَا فِي الْبَيْت.
قَالَ ابْن جني فِي إِعْرَاب الحماسة: اسْتعْمل الِاسْم الَّذِي هُوَ الأَصْل المرفوض الِاسْتِعْمَال مَوضِع الْفِعْل الَّذِي هُوَ فرعٌ وَذَلِكَ أَن قَوْلك: كدت أقوم أَصله كدت قَائِما وَلذَلِك ارْتَفع الْمُضَارع أَي: لوُقُوعه موقع الِاسْم فَأخْرجهُ على أَصله المرفوض كَمَا يضْطَر الشَّاعِر إِلَى مُرَاجعَة الْأُصُول عَن مُسْتَعْمل الْفُرُوع نَحْو صرف مَا لَا ينْصَرف وَإِظْهَار التَّضْعِيف وَتَصْحِيح المعتل وَمَا جرى مجْرى ذَلِك.
ونحوٌ من ذَلِك مَا جَاءَ عَنْهُم من اسْتِعْمَال خبر عَسى على أَصله: الرجز
(أكثرت فِي العذل ملحاً دَائِما
…
لَا تكثرن إِنِّي عَسَيْت صَائِما)
وَهَذِه هِيَ الرِّوَايَة الصَّحِيحَة فِي هَذَا الْبَيْت أَعنِي قَوْله وَمَا كدت آيباً. وَكَذَلِكَ وَجدتهَا فِي)
شعر هَذَا الرجل بالخط الْقَدِيم وَهُوَ عتيدٌ عِنْدِي إِلَى الْآن. والمعني عَلَيْهِ الْبَتَّةَ.
أَلا ترى أَن مَعْنَاهُ فَأَبت
وَمَا كدت أؤوب كَقَوْلِك: سلمت وَمَا كدت أسلم. وَكَذَلِكَ كل مَا يَلِي هَذَا الْحَرْف من قبله وَمن بعده يدل على مَا قُلْنَا.
وَأكْثر النَّاس يروي: وَلم أك آئباً وَمِنْهُم من يروي: وَمَا كنت آئبا. وَالصَّوَاب الرِّوَايَة الأولى إِذْ لَا معنى هُنَا لِقَوْلِك: وَمَا كنت وَلَا للم أك. وَهَذَا واضحٌ. انْتهى.
وَقَالَ مثله فِي الخصائص فِي بَاب امْتنَاع الْعَرَب من الْكَلَام بِمَا يجوز فِي الْقيَاس قَالَ: وَإِنَّمَا يَقع ذَلِك فِي كَلَامهم إِذا استغنت بِلَفْظ عَن لفظ كاستغنائهم بقَوْلهمْ: مَا أَجود جَوَابه عَن قَوْلهم: مَا أجوبه. أَو لِأَن قِيَاسا آخر عَارضه فعاق عَن استعمالهم إِيَّاه كاستغنائهم بكاد زيد يقوم عَن قَوْلهم: كَاد زيد قَائِما أَو قيَاما. وَرُبمَا خرج ذَلِك فِي كَلَامهم.
قَالَ تأبط شرا: فَأَبت إِلَى فهم وَمَا كدت آئباً هَكَذَا صِحَة رِوَايَة هَذَا الْبَيْت. وَكَذَلِكَ هُوَ فِي شعره. فَأَما رِوَايَة من لَا يضبطه: وَمَا كنت آئباً وَلم أك آئباً فلبعده عَن ضَبطه.
ويؤكد مَا روينَاهُ نَحن مَعَ وجوده فِي الدِّيوَان أَن الْمَعْنى عَلَيْهِ.
أَلا ترى أَن مَعْنَاهُ فَأَبت وَمَا كدت أؤوب. فَأَما مَا كنت فَلَا وَجه لَهَا فِي هَذَا الْموضع. انْتهى.
وَمرَاده من هَذَا التَّأْكِيد: الرَّد على أبي عبد الله النمري فِي شرح الحماسة وَهُوَ أول شارحٍ لَهَا وَقد تحرفت عَلَيْهِ هَذِه الْكَلِمَة وَهَذِه عِبَارَته: أَبَت: رجعت. وَفهم: قَبيلَة. وَالْهَاء فِي قَوْله: وَكم مثلهَا راجعةٌ إِلَى هُذَيْل.
وَقَوله: وَهِي تصفر قيل مَعْنَاهُ أَي: تتأسف على فوتي. هَذَا كَلَامه. وَقد رد عَلَيْهِ أَبُو مُحَمَّد الْأَعرَابِي أَيْضا فِيمَا كتبه على شَرحه
قَالَ: سَأَلت أَبَا الندى عَنهُ قَالَ: مَعْنَاهُ كم مثلهَا فارقتها وَهِي تتلهف كَيفَ أفلت. قَالَ: وَالرِّوَايَة الصَّحِيحَة وَمَا كدت آئباً.
وَالْهَاء رَاجِعَة فِي فارقتها إِلَى فهم. قَالَ: وَرِوَايَة من روى: وَلم أك آئباً خطأٌ. وفهمٌ: ابْن عَمْرو بن قيس عيلان. انْتهى كَلَامه.
قَالَ التبريزي: قد تكلم المرزوقي على اخْتِيَار ابْن جني هَذِه الرِّوَايَة ردا عَلَيْهِ وَلم ينصفه وَقَالَ: قَوْله وَلم أك آئباً أَي: رجعت إِلَى قبيلتي فهمٍ وكدت لَا أؤوب لمشارفتي التّلف.)
وَيجوز أَن يُرِيد: وَلم أك آئباً فِي تقديرهم وظنهم. ويروى: وَلم آل آئباً بِمد الْهمزَة وَاللَّام أَي: لم أدع جهدي فِي الإياب. وَالْأول أحسن. انْتهى.
وَقد أورد ابْن عُصْفُور هَذَا الْبَيْت فِي كتاب الضرائر قَالَ: وَمِنْه وضع الِاسْم مَوضِع الْفِعْل الْوَاقِع فِي مَوضِع خبر كَاد وَمَوْضِع أَن وَالْفِعْل الْوَاقِع فِي مَوضِع خير عَسى نَحْو قَول تأبط شرا: وَقَول الآخر:
لَا تكثرن إِنِّي عَسَيْت صَائِما كَانَ الْوَجْه أَن يَقُول: وَمَا كدت أؤوب وَإِنِّي عَسَيْت أَن أَصوم إِلَّا أَن الضَّرُورَة منعت من ذَلِك.
وَقَوْلهمْ فِي الْمثل: عَسى الغوير أبؤساً شَاذ يحفظ وَلَا يُقَاس عَلَيْهِ. انْتهى.
وَقَالَ ابْن المستوفي وَغَيره: قَوْله إِلَى فهم أَي: إِلَى عقل. وَقيل إِلَى قبيلتي الَّتِي هِيَ فهم. وَهَذَا أولى. انْتهى.
وَرُجُوع الضَّمِير من مثلهَا إِلَى فهم غير مُنَاسِب وَالْمُنَاسِب رُجُوعه إِلَى لحيان وَهِي قَبيلَة من هذيلٍ فِي قَوْله:
(أَقُول للحيان وَقد صفرت لَهُم
…
وطابي ويومي ضيق الْحجر معور)
وَيجوز أَن يرجع إِلَى الْحَالة الَّتِي صدرت مِنْهُ حِين أحَاط بِهِ بَنو لحيان وَأَرَادُوا قَتله فتحيل وَنَجَا مِنْهُم.
وَعبر عَنهُ ابْن المستوفي بقوله: أَي: المحنة أَو الخطة أَو الْمِنَّة. وَكم: مُبْتَدأ وَجُمْلَة: فارقتها هُوَ الْخَبَر وَجُمْلَة: وَهِي تصفر حَالية وَمثلهَا: بِالْجَرِّ: مميزكم الخبرية.
قَالَ ابْن المستوفي: قَرَأت على شَيخنَا أبي الْحرم مكي: وَكم مثلهَا بجر مثلهَا ورفعها ونصبها.
وَالنّصب على أَن تكون كم مُبْهمَة بالاستفهامية وَيكون مثلهَا: صفة لنكرة محذوفة تقديرها: كم مرّة مثلهَا فارقتها. هَذَا كَلَامه فَتَأَمّله.
وَقد أَنْت مثلا لِإِضَافَتِهِ إِلَى ضمير الْمُؤَنَّث بِدَلِيل عود الضَّمِير إِلَيْهِ من فارقتها مؤنثاً.
قَالَ ابْن جني: أَنْت الْمثل حملا على الْمَعْنى لما كَانَ المُرَاد بِهِ الْحَال وَالصُّورَة الَّتِي ذكرهَا. وَقد جَاءَ فِي التَّنْزِيل: فَلهُ عشر أَمْثَالهَا لما كَانَ المُرَاد عشر حَسَنَات أَمْثَالهَا وتأنيث الْمُذكر أغلط من تذكير الْمُؤَنَّث لِأَنَّهُ مُفَارقَة أصل إِلَى فرع وَفِي مَا ورد من تَأْنِيث نَحْو هَذَا دليلٌ على قُوَّة إِقَامَة الصّفة مقَام الْمَوْصُوف حَتَّى كَأَن الْمَوْصُوف حَاضر.)
وَلَوْلَا أَن ذَلِك كَذَلِك لما جَازَ تَأْنِيث الْمثل لَكِن دلّ جَوَاز تأنيثه على قُوَّة إِرَادَة موصوفه.
فاعرف ذَلِك فَإِنَّهُ هُوَ غَرَض هَذَا الْفَصْل. انْتهى.
وَقَوله: تصفر قَالَ ابْن هِشَام فِي شرح الشواهد أَرَادَ بالصفير النفخ عِنْد النَّدَم. وَنقل ابْن المستوفي عَن أبي مُحَمَّد الْقَاسِم بن مُحَمَّد الديمرتي أَن الْمَعْنى لما أعجزتها جعلت تصفر خجلاً.
قَالَ: وَمن عَادَة الْعَرَب إِذا فاتهم أَن يَقُولُوا: هُوَ هُوَ ثمَّ يصفروا وَرَاءه يُرِيدُونَ بعد الْبعد.
انْتهى.
وَالْبَيْت من أَبْيَات لتأبط شرا تقدم شرحها فِي الشَّاهِد الثَّامِن وَالسِّتِّينَ بعد الْخَمْسمِائَةِ.
وَكَانَ بَنو لحيان من هُذَيْل أخذُوا عَلَيْهِ طَرِيق جبل وجدوه فِيهِ يشتار عسلاً لم يكن لَهُ طَرِيق غَيره وَقَالُوا: استأسر أَو نقتلك فكره أَن يستأسر فصب مَا مَعَه
من الْعَسَل على الصخر وَوضع صَدره عَلَيْهِ حَتَّى انْتهى إِلَى الأَرْض من غير طَرِيق فَصَارَ بَينه وَبينهمْ مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام وَنَجَا مِنْهُم. فَحكى الْحِكَايَة فِي الأبيات.
وأولها:
(إِذا الْمَرْء لم يحتل وَقد وجد جده
…
أضاع وقاسى أمره وَهُوَ مُدبر)
(وَلَكِن أَخُو الحزم الَّذِي لَيْسَ نازلاً
…
بِهِ الْخطب إِلَّا وَهُوَ للقصد مبصر)
…
(فَذَاك قريع الدَّهْر مَا عَاشَ حولٌ
…
إِذا سد مِنْهُ منخرٌ جاش منخر)
قَالَ ابْن هِشَام فِي شرح الشواهد: وَمن محَاسِن أهل الْأَدَب أَن محيي الدَّين ابْن قرناس قَالَ بِحَضْرَة شرف الدَّين الْحلِيّ ملغزاً فِي الشبابة: الطَّوِيل
(وناطقةٍ خرساء بادٍ شجونها
…
تكنفها عشرٌ ومنهن تخبر)
(يلذ إِلَى الْأَسْمَاء رَجَعَ حَدِيثهَا
…
إِذا سد مِنْهَا منخرٌ جاش منخر)
فَأَجَابَهُ فِي الْحَال: الطَّوِيل وَفِي الْمَوْضِعَيْنِ تضمين. تَتِمَّة مَا أوردهُ الشَّارِح الْمُحَقق على الْبَصرِيين فِي قَوْلهم: رفع الْمُضَارع لوُقُوعه موقع الِاسْم قد أجَاب عَنهُ صَاحب اللّبَاب قَالَ فِيهِ: وَأما مَرْفُوع الْفِعْل فَهُوَ الْمُضَارع الْوَاقِع بِحَيْثُ يَصح وُقُوع الِاسْم)
إِمَّا مُجَردا أَو مَعَ حرف لَا يكون عَاملا فِيهِ فِي نَحْو: زيد يضْرب وسيضرب وَيضْرب الزيدان.
لِأَن مبدأ الْكَلَام لَا يتَعَيَّن للْفِعْل دون الِاسْم وَنَحْو: كَاد زيد يقوم الأَصْل فِيهِ الِاسْم وَقد عدل إِلَى لفظ الْفِعْل لُزُوما لغَرَض. وَقد اسْتعْمل الأَصْل المرفوض فِيمَن روى قَوْله: وَمَا كدت آئباً.
انْتهى.
واحتزر بقوله لَا يكون عَاملا عَمَّا إِذا كَانَ مَعَ حرف عاملٍ نَحْو: زيد لم يضْرب أَو لن يضْرب.
وَقَوله: لِأَن مبدأ الْكَلَام. إِلَخ هَذَا جَوَاب عَن سُؤال مُقَدّر وَهُوَ أَن يضْرب فِي يضْرب الزيدان مَرْفُوع مَعَ أَنه لَيْسَ بواقعٍ موقع الِاسْم إِذْ لَا يجوز ابْتِدَاء ضاربٌ الزيدان من غير اعتمادٍ على شَيْء.
فَأجَاب بِأَن هَذَا الْكَلَام من حَيْثُ هُوَ كلامٌ لَا يتَعَيَّن أَن يكون فعلا دون اسْم بل جَازَ أَن يكون ابْتِدَاء الْكَلَام اسْما على الْجُمْلَة فَصدق أَنه واقعٌ موقع الِاسْم على الْإِطْلَاق أَي: موقعاً وَقَوله: وَنَحْو كَاد زيد يقوم إِلَخ هَذَا أَيْضا إيرادٌ وجوابٌ. أما لإيراد فَهُوَ أَن خبر كَاد يلْزم أَن يكون فعلا وَهُوَ أَن كَاد مَوْضُوع لمقاربة وُقُوع فعلٍ فَحق خَبره أَن يكون فعلا مضارعاً فَلَا يكون خَبره اسْما فَيَنْبَغِي أَن لَا يرْتَفع لِأَن ارتفاعه لوُقُوعه موقع الِاسْم وَالِاسْم لَا يَقع خَبرا لكاد.
وَأجَاب بِأَن أصل خبر كَاد أَن يكون اسْما كَمَا فِي خبر كَانَ وَلذَلِك اسْتعْمل ذَلِك الأَصْل المرفوض فِي الْبَيْت فالفعل واقعٌ موقع الِاسْم نظرا إِلَى الأَصْل.
وَقد بسط الْكَلَام على مَذْهَب الْفَرِيقَيْنِ ابْن الْأَنْبَارِي فِي مسَائِل الْخلاف فَلَا بَأْس بإيراده قَالَ: اخْتلف مَذْهَب الْكُوفِيّين فِي رفع الْمُضَارع فَذهب الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنه يرْتَفع لتعريه من العوامل الناصبة والجازمة.
وَذهب الْكسَائي إِلَى أَنه يرْتَفع بِالزَّائِدِ فِي أَوله. وَذهب البصريون إِلَى أَنه يرْتَفع لقِيَامه مقَام الِاسْم.
وَاحْتج الْكُوفِيُّونَ بِأَن الْمُضَارع إِذا دخل عَلَيْهِ ناصب نَصبه أَو جازم جزمه وَإِذا خلا مِنْهُمَا ارْتَفع فَعلمنَا أَنه بدخولهما ينصب ويجزم وبسقوطهما عَنهُ يرفع.
قَالُوا: وَلَا يجوز أَن يكون مَرْفُوعا لقِيَامه مقَام الِاسْم لِأَنَّهُ لَو كَانَ كَذَلِك لَكَانَ يَنْبَغِي أَن ينصب ثمَّ كَيفَ يَأْتِيهِ الرّفْع لقِيَامه مقَام الِاسْم وَالِاسْم يكون مَرْفُوعا ومنصوباً ومخفوضاً وَلَو كَانَ)
كَذَلِك لوَجَبَ أَن يعرب بإعراب الِاسْم ولوجب أَن لَا يرْتَفع فِي: كَاد زيد يقوم لِأَنَّهُ لَا يجوز: كَاد زيد قَائِما.
وَاحْتج البصريون بِوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: أَن قِيَامه مقَام الِاسْم عاملٌ معنويٌّ يشبه الِابْتِدَاء والابتداء يُوجب الرّفْع وَكَذَا مَا أشبهه.
وَثَانِيهمَا: أَن بقيامه مقَام الِاسْم قد وَقع فِي أقوى أَحْوَاله فَوَجَبَ أَن يعْطى أقوى الْإِعْرَاب وَهُوَ الرّفْع.
وَإِنَّمَا لم يرفع الْمَاضِي مَعَ جَوَاز قِيَامه مقَام الِاسْم لِأَنَّهُ مَا اسْتحق أَن يكون معرباً بِنَوْع من الْإِعْرَاب فَصَارَ قِيَامه بِمَنْزِلَة عَدمه.
وَأما قَول الْكُوفِيّين إِنَّه يرْتَفع بالتعري من العوامل الناصبة والجازمة فَهُوَ فَاسد لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى أَن يكون الرّفْع بعد النصب والجزم وَلَا خلاف بَين النَّحْوِيين أَن الرّفْع قبلهمَا وَذَلِكَ أَن الرّفْع صفة الْفَاعِل وَالنّصب صفة الْمَفْعُول فَكَمَا أَن الْفَاعِل قبل الْمَفْعُول يَنْبَغِي أَن يكون الرّفْع قبل النصب.
وَإِذا كَانَ الرّفْع قبل النصب فَلِأَن يكون قبل الْجَزْم من طَرِيق الأولى. وَأما قَوْلهم: لَو كَانَ مَرْفُوعا لقِيَامه مقَام الِاسْم إِلَخ فَنَقُول: إِنَّمَا لم يكن مَنْصُوبًا أَو
مجروراً إِذا قَامَ مقَام الِاسْم الْمَنْصُوب وَالْمَجْرُور لِأَن عوامل الْأَسْمَاء لَا تعْمل فِي الْأَفْعَال.
وَأما قَوْلهم وجدنَا نَصبه وَجزم بناصب وجازم لَا يدخلَانِ على الِاسْم فَعلمنَا أَنه يرْتَفع من حَيْثُ لَا يرْتَفع الِاسْم قُلْنَا: وَكَذَلِكَ نقُول فَإِنَّهُ يرْتَفع من حَيْثُ لَا يرْتَفع الِاسْم لِأَنَّهُ ارتفاعه لقِيَامه مقَام الِاسْم وَالْقِيَام مقَام الِاسْم لَيْسَ بعامل للرفع فِي الِاسْم.
وَأما قَول الْكسَائي إِنَّه يرْتَفع بِالزَّائِدِ فِي أَوله فَهُوَ فَاسد من وُجُوه:
أَحدهمَا: أَنه كَانَ يَنْبَغِي أَن لَا يدْخل عَلَيْهِ عوامل النصب والجزم لِأَنَّهُمَا لَا يدخلَانِ على العوامل.
الثَّانِي: كَانَ يَنْبَغِي أَن لَا ينْتَصب وَلَا يجْزم بدخولهما لوُجُود الزَّائِد فِي أَوله أبدا.
الثَّالِث: أَن هَذِه الزَّوَائِد بعض الْفِعْل لَا تنفصل مِنْهُ فِي لفظ بل هِيَ من تَمام مَعْنَاهُ فَلَو علمت لزم أَن يعْمل الشَّيْء فِي نَفسه.
وَأما قَوْلهم: لَو كَانَ مَرْفُوعا لقِيَامه مقَام الِاسْم لَكَانَ يَنْبَغِي أَن لَا يرْتَفع فِي كَاد زيد يقوم إِلَخ)
قُلْنَا: هَذَا فَاسد لِأَن الأَصْل كَاد زيد قَائِما. وَلذَلِك رده الشَّاعِر فِي الضَّرُورَة إِلَى أَصله فِي قَوْله: وَمَا كدت آئباً إِلَّا أَنه لما كَانَت كَاد مَوْضُوعَة للتقريب من الْحَال وَاسم الْفَاعِل لَيْسَ دلَالَته على الْحَال بِأولى من دلَالَته على الْمَاضِي عدلوا عَنهُ إِلَى يفعل لِأَنَّهُ أدل على مُقْتَضى كَاد ورفعوه مراعة للْأَصْل. فَدلَّ على صِحَة مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ.
انْتهى كَلَامه بِاخْتِصَار. وَفِيه مَوَاضِع تحْتَمل المناقشة لَا تخفى على المتأمل.