الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أمهما ذَلِك فنادت قَومهَا فَحَضَرَ النَّاس واشتملت فطيمة على ابنيها بثوبها ودافع قَومهَا عَنْهُمَا وعنها.
فَذَلِك قَول الْأَعْشَى: الْبَسِيط
قَالَ: فَانْهَزَمَ بَنو سيار.
فحذر الْأَعْشَى يزِيد بن مسْهر مثل تِلْكَ الْحَالة.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: وَذكر عامرٌ ومسمع عَن قَتَادَة الْفَقِيه أَن رجلَيْنِ من بني مَرْوَان تنَازعا فِي هَذَا الحَدِيث فجردوا رَسُولا فِي ذَلِك إِلَى الْعرَاق حَتَّى قدم الْكُوفَة فَسَأَلَ فَأخْبر أَن فطيمة من بني سعد بن قيس وَأَنَّهَا كَانَت عِنْد رجل من بني سيار وَله امْرَأَة غَيرهَا من قومه.
فتغايرتا فعمدت السيارية فحلقت ذوائب فطيمة فاهتاج الْحَيَّانِ فَاقْتَتلُوا فهزمت بَنو سيارٍ يَوْمئِذٍ. انْتهى.
وَإِنَّمَا نقلت هَذَا الْفَصْل لِأَن شرَّاح القصيدة أخلوا فِي شروحهم بِهَذِهِ الْأُمُور. وَالله أعلم.
وترجمة الْأَعْشَى تقدّمت فِي الشَّاهِد الثَّالِث وَالْعِشْرين.
وَأنْشد بعده)
(الشَّاهِد الْأَرْبَعُونَ بعد الستمائة)
الطَّوِيل
(وَلَا تدفنني فِي الفلاة فإنني
…
أَخَاف إِذا مَا مت أَن لَا أذوقها)
على أَن مُخَفّفَة لوقوعها بعد الْخَوْف بِمَعْنى الْعلم وَالْيَقِين
وَاسْمهَا ضمير شَأْن مَحْذُوف أَو ضمير مُتَكَلم. وَجُمْلَة: لَا أذوقها فِي مَحل رفع خَبَرهَا.
وَقَبله:
(إِذا مت فادفني إِلَى جنب كرمةٍ
…
تروي عِظَامِي بعد موتِي عروقها)
وأصل الْخَوْف الْفَزع وانقباض النَّفس عَن احْتِمَال ضَرَر وَإِذا اشْتَدَّ الْخَوْف الْتحق بالمتيقن كَمَا قَالَ الشَّارِح الْمُحَقق.
قَالَ ابْن خطيب الدهشة وَهُوَ ابْن مؤلف الْمِصْبَاح فِي كتاب التَّقْرِيب فِي علم الْغَرِيب: يُقَال خَافَ الشَّيْء: علمه وتيقنه. انْتهى.
وَذَلِكَ لِأَن الْإِنْسَان لَا يخَاف شَيْئا حَتَّى يعلم أَنه مِمَّا يخَاف مِنْهُ فَهُوَ من التَّعْبِير بالمسبب عَن السَّبَب وَلَيْسَ إِطْلَاقه عَلَيْهِ لِأَنَّهُ من لَوَازِم الْيَقِين كَمَا قَالَ الشمني فكم من يقينٍ لَا خوف مِنْهُ.
وَقَالَ بعض الْمُحَقِّقين: الْخَوْف والخشية يستعملان بِمَعْنى الْعلم لِأَن الْخَوْف عبارَة عَن حَالَة مَخْصُوصَة مُتَوَلّدَة من ظن مَخْصُوص وَبَين
الظَّن وَالْعلم مشابهةٌ فِي أُمُور كَثِيرَة
فَلذَلِك صَحَّ إِطْلَاق كل مِنْهُمَا على الآخر.
وَفِي تَخْصِيصه التولد بِالظَّنِّ نظر لِأَن الْخَوْف كَمَا يتَوَلَّد عَن الظَّن يتَوَلَّد عَن الْعلم أَيْضا.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: فَمن خَافَ من موص فَمن توقع وَعلم. وَهَذَا فِي كَلَامهم شَائِع يُقَال: أَخَاف أَن ترسل السَّمَاء يُرِيدُونَ التوقع وَالظَّن الْغَالِب الْجَارِي مجْرى الْعلم.
وَقَالَ الدماميني فِي الْحَاشِيَة الْهِنْدِيَّة عِنْد قَول ابْن هِشَام فِي الْمُغنِي: الْخَوْف فِي هَذَا الْبَيْت يَقِين: قد يُقَال لَا يلْزم من تعقل الْعُقَلَاء أَنه لَا يذوقها بعد الْمَوْت حمل الْخَوْف على الْيَقِين عِنْد هَذَا الشَّاعِر لِأَن استهتاره بشربها ومغالاته فِي محبتها أمرٌ مَشْهُور فَلَعَلَّ ذَلِك حمله على أَنه خَافَ وَلم يقطع بِمَا تيقنه غَيره وَلذَلِك أَمر بدفنه إِلَى جنب الكرمة رَجَاء أَنه ينَال مِنْهَا بعد الْمَوْت.
وَمن ثمَّ قيل إِن هَذَا أَحمَق بَيت قالته الْعَرَب. انْتهى.
قَالَ ابْن الملا أَحْمد الْحلَبِي فِي شَرحه بعد نقل هَذَا الْكَلَام: وَهَذَا مبنيٌّ كَمَا قَالَ شَيخنَا على أَنه)
كَانَ إِذْ ذَاك متردداً بَين ذوقها بعد الْمَوْت بِتَقْدِير دَفنه إِلَى جنب الكرمة أَو: لَا بِتَقْدِير دَفنه فِي الفلاة. فَلَا علم وَلَا ظن. قَالَ: وَهَذَا احْتِمَال لِأَن التَّعْلِيل بقوله: فإنني أَخَاف
…
. . إِن كَانَ لمجموع الْأَمر وَالنَّهْي على معنى: فإنني أَخَاف أَن لَا أذوقها غَدا
فَلَا علم وَلَا ظن فَهِيَ الناصبة أهملت.
فَفِي شرح الكافية للحديثي أَن الْخَفِيفَة بعد فعل الْخَوْف والرجاء ناصبة لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يَقع وَأَن لَا يَقع وَبعد الظَّن تحتملها والمخففة نظرا إِلَى الرجحان وَعَدَمه أَو على معنى فإنني أَخَاف الْآن بِتَقْدِير: أَن لَا تدفني إِلَى جنبها بل فِي الفلاة: أَن لَا أذوقها إِذا مَا مت أَو: فإنني أَخَاف إِذا مَا مت بِهَذَا التَّقْدِير: أَن لَا
أذوقها. فالخوف هُنَا علمٌ ويقين فَهِيَ المخففة.
وَكَذَا إِن جعل تعليلاً للنَّهْي وَحده لِأَنَّهُ الَّذِي قارنه فِي هَذَا الْبَيْت على معنى فإنني أَخَاف الْآن أَو إِذا مَا مت بِتَقْدِير أَن تدفنني فِي الفلاة لَا إِلَى جَانبهَا أَن لَا أذوقها. انْتهى.
قَالَ ابْن الملا: وَهَا هُنَا بحثٌ وَهُوَ أَن الشَّاعِر وَإِن كَانَ من المغرمين بالصهباء المتهتكين بهَا لكنه من ذَوي الْعُقُول الْكَامِلَة والأنظار الصائبة فَكيف يظنّ بِهِ أَنه غير قَاطع بِمَا يتيقنه غَيره من عدم الذَّوْق بعد الْمَوْت بل هُوَ أمرٌ مركوز فِي الأذهاب غنيٌّ عَن الْبَيَان.
وَإِنَّمَا جرى فِي كَلَامه هَذَا على مَذْهَب الشُّعَرَاء فِي تخييلاتهم ورام سلوك جادة تمويهاتهم فَإِنَّهُم سحرة الْكَلَام ومخترعو صور الْإِيهَام. فَأمر أَولا بدفنه بعد الْمَوْت بِجَانِب كرمة وَأبْدى عذره فِي ذَلِك بوصفها بقوله: الطَّوِيل تروي عِظَامِي بعد موتِي عروقها ليستفاد من ذَلِك عِلّة الْأَمر بالدفن الْمَذْكُور إِشَارَة إِلَى أَن مَا لَا يدْرك كُله لَا يتْرك كُله وَإِذا تَعَذَّرَتْ التَّرويَة الْحَقِيقِيَّة فَلَا أقل من حُصُول التَّرويَة المجازية.
ثمَّ نهى ثَانِيًا تَأْكِيدًا لِلْأَمْرِ الأول عَن دَفنه لَا بِجنب كرمة وَعلل ذَلِك بِأَنَّهُ يتَيَقَّن أَنه لَا يذوقها إِذا مَاتَ فَلَا يتروى بهَا حَقِيقَة. فدفنه لَا إِلَى جَانبهَا مفوت للتروية المجازية. ولمزيد
شغفه بهَا آثر التَّعْبِير عَن هَذَا الْيَقِين بالخوف إيهاماً لِأَنَّهُ مَعَ ذَلِك لَا يقطع بِعَدَمِ الذَّوْق.
وَجعل رفع الْفِعْل بعد أَن مَعَه دَلِيلا على مَا قَصده معنى. وَإِنَّمَا قلناك إِن تروية الْعِظَام مجازية لِأَن الروى حَقِيقَة لذوات الأكباد عَن عَطش وَلَيْسَت الْعِظَام مِنْهَا.
على أَنه لَا عَطش بعد الْمَوْت. أَو لما لَيست لَهُ قُوَّة نامية. وَمِنْه قَوْلهم: رُوِيَ النَّبَات من المَاء.)
وَالْعِظَام جماد. انْتهى كَلَامه وَمن خطه نقلت.
وَيُؤَيّد هَذَا رِوَايَة ابْن السّكيت.
(وَلَا تدفنني فِي الفلاة فإنني
…
يَقِينا إِذا مَا مت لست أذوقها)
وَعَلَيْهَا لَا شَاهد فِي الْبَيْت.
والبيتان أَولا قصيدةٍ لأبي محجنٍ الثَّقَفِيّ: رَوَاهَا ابْن الْأَعرَابِي وَابْن السّكيت فِي ديوانه وبعدهما:
(أباكرها عِنْد الشروق وَتارَة
…
يعاجلني عِنْد الْمسَاء غبوقها)
(وللكأس والصهباء حقٌّ معظمٌ
…
فَمن حَقّهَا أَن لَا تضاع حُقُوقهَا)
(أقومها زقاً بحقٍّ بذاكم
…
يساق إِلَيْنَا فجرها وفسوقها)
(وَعِنْدِي على شرب المدام حفيظةٌ
…
إِذا مَا نسَاء الْحَيّ ضَاقَتْ حلوقها)
…
(وَأَمْنَع جَار الْبَيْت مِمَّا ينوبه
…
وَأكْرم أضيافاً قراها طروقها)
قَالَ ابْن السّكيت: قَوْله: إِذا مت فادفني هَذَا خطابٌ مَعَ ابْنه يَأْمُرهُ بذلك وَفِيه مُبَالغَة على حبه للخمر وتعطشه إِلَيْهَا إِذْ أظهر الرَّغْبَة إِلَيْهَا وَهُوَ ميت.
وَقَوله: وَلَا تدفنني فِي الفلاة إِلَخ قَالَ ابْن السّكيت: الفلاة: الأَرْض الْمهْلكَة الَّتِي لَا علم بهَا وَلَا مَاء. وَالْمعْنَى أَن الفلاة لَا يعرش فِيهَا كرم فَلَا تدفنني إِلَّا
بمَكَان ينْبت فِيهِ الْعِنَب حَتَّى أكون قَرِيبا مِنْهُ فألتذ بذلك.
وَقَوله: أباكرها عِنْد الشروق إِلَخ. قَالَ ابْن السّكيت: أَي: إِنَّنِي أصبحها عِنْد شروق الشَّمْس وَمرَّة أشربها عشَاء إِلَّا أنني أقدم شربهَا على الْعشَاء فيعاجلني الغبوق.
والصبوح: شرب الغدو. والغبوق: شرب آخر النَّهَار. وأباكرها: أبادر إِلَيْهَا فِي بكرَة النَّهَار.
وَقَوله: وللكأس والصهباء إِلَخ. قَالَ ابْن السّكيت: حَقّهَا: كَونهَا تسر الْقلب. وَتذهب الْهم وتسخي الْبَخِيل وتشجع الجبان إِلَى غير ذَلِك من فعلهَا وَهَذَا حقٌّ لَهَا. وَإِذا كَانَ هَذَا دأبها فَمن حَقّهَا أَن تعظم وَلَا تضيع حُقُوقهَا. انْتهى.
وَقَالَ ابْن الملا: فَإِن قلت: حق الْكَلَام أَن يَقُول: وَمن حَقّهمَا أَن لَا يضاع حقوقهما لادعائه أَن الْحق الْمُعظم للكأس والصهباء قلت: نعم إِلَّا أَنه ذهب إِلَى أَن الكأس والصهباء وَإِن كَانَا
(رق الزّجاج وراقت الْخمر
…
وتشاكلا فتشابه الْأَمر)
(فَكَأَنَّمَا خمرٌ وَلَا قدحٌ
…
وكأنما قدحٌ وَلَا خمر))
انْتهى.
وَفِيه أَن هذَيْن الْبَيْتَيْنِ لأبي إِسْحَاق الصابي وَهُوَ مُتَأَخّر عَن أبي محجن بِأَكْثَرَ من ثَلَاثمِائَة سنة.
وَكَانَ يَنْبَغِي أَن يعكس.
وَقَوله: أقومهما زقاً إِلَخ. قَالَ ابْن السّكيت: الزق بِالْكَسْرِ: ظرف الْخمر.
وَالْحق بِالْكَسْرِ من الْإِبِل: ابْن ثَلَاث سِنِين وَكَذَلِكَ الحقة وسميا بِهَذَا الِاسْم لِأَنَّهُمَا استحقا أَن يركبا.
وفجرها: فجورها. والفاجر: المائل عَن الطَّاعَة. وَالطَّاعَة: الْوُقُوف على الْأَوَامِر. والفسوق توسيع مَا ضيقه الله من أَمر الدَّين.
وَقَوله: وَعِنْدِي على شرب إِلَخ. قَالَ ابْن السّكيت: الحفيظة كل شيءٍّ يغْضب لأَجله. يَعْنِي وَإِن كنت سَكرَان لَا أهمل الْحفاظ إِذا استغاثت بِي نسَاء الْحَيّ وصحن لنازلةٍ نزلت بِهن.
وَقَوله: وأعجلن عَن شدّ إِلَخ قَالَ ابْن السّكيت: أَي دهمهن من الْبلَاء مَا أعجلهن عَن شدّ المآزر فِي أوساطهن. وَلها: مفعول من أَجله أَي: للوله الَّذِي نزل بِهن. والواله: الذَّاهِب الْعقل.
وَالصَّوَاب أَن وَلها حَال لَا مفعول من أَجله.
وَقَوله: وَأَمْنَع جَار الْبَيْت إِلَخ. قَالَ ابْن السّكيت: قراها: أطعمها. يَقُول: إِذا طرقتنا الضيفان لَيْلًا أعجلنا لَهَا الْقرى فَكَأَن طروقها هُوَ الَّذِي قراها. انْتهى.
وَأَبُو محجن شَاعِر صَحَابِيّ لَهُ سماعٌ وَرِوَايَة. كَذَا فِي الِاسْتِيعَاب كَمَا يَأْتِي.
وَإِنَّمَا أثبت لَهُ السُّيُوطِيّ فِي شرح أَبْيَات الْمُغنِي رِوَايَة وَلم يذكر أَن لَهُ سَمَاعا. ونفاها أَيْضا الذَّهَبِيّ فِي تَارِيخ الْإِسْلَام. وَقَالَ فِي التَّجْرِيد: أَبُو محجن الثَّقَفِيّ عَمْرو بن حبيب وَقيل: مَالك بن حبيب وَقيل: عبد الله. كَانَ فَارِسًا شَاعِرًا من الْأَبْطَال لَكِن جلده عمر رضي الله عنه فِي الْخمر مَرَّات ونفاه
إِلَى جَزِيرَة فِي الْبَحْر فهرب وَلحق بِسَعْد وَهُوَ يحارب الْفرس فحبسه. وَله أخبارٌ. روى عَنهُ أَبُو سعدٍ الْبَقَّال. انْتهى.
وَرِوَايَة أبي سعد الْبَقَّال عَن أبي محجن إِنَّمَا هُوَ بتدليس لِأَنَّهُ لم يدْرك عصره. وَقد ذَكرُوهُ فِي الضُّعَفَاء.
وَقيل إِن اسْمه أَبُو محجن وَهِي كنيته أَيْضا. وَهُوَ بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْجِيم.
وَهَذِه تَرْجَمته من الِاسْتِيعَاب تأليف أبي عمر يُوسُف الشهير بِابْن عبد الْبر قَالَ: أَبُو محجن)
الثَّقَفِيّ اخْتلف فِي اسْمه فَقيل: مَالك بن حبيب وَقيل: عبد الله ابْن حبيب بن عَمْرو بن عُمَيْر أسلم حِين أسلمت ثَقِيف. وَسمع من النَّبِي صلى الله عليه وسلم َ وروى عَنهُ. حدث عَنهُ أَبُو سعدٍ الْبَقَّال قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم َ يَقُول: أخوف مَا أَخَاف على أمتِي من بعدِي ثَلَاث: إيمانٌ بالنجوم وتكذيبٌ بِالْقدرِ وحيف الْأَئِمَّة.
وَكَانَ أَبُو محجن هَذَا من الشجعان الْأَبْطَال فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام من أولي الْبَأْس والنجدة وَمن الفرسان البهم. وَكَانَ شَاعِرًا مطبوعاً كَرِيمًا إِلَّا أَنه كَانَ منهمكاً بِالشرابِ لَا يكَاد يقْلع عَنهُ وَلَا يردعه حدٌّ وَلَا لوم لائم. وَكَانَ أَبُو بكر الصّديق يَسْتَعِين بِهِ.
وَجلده عمر بن الْخطاب فِي الْخمر مرَارًا ونفاه إِلَى جَزِيرَة فِي الْبَحْر وَبعث مَعَه رجلا فهرب مِنْهُ وَلحق بِسَعْد بن أبي وَقاص بالقادسية. وَهُوَ محاربٌ للْفرس. وَكَانَ قد هم بقتل الرجل الَّذِي بَعثه عمر مَعَه فأحس الرجل بذلك وَخرج فَارًّا وَلحق
بعمر وَأخْبرهُ خَبره فَكتب عمر إِلَى سعد بِحَبْس أبي محجن فحبسه.
حَدثنَا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم قَالَ: حَدثنَا عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج قَالَ: بَلغنِي أَن عمر بن الْخطاب حد أَبَا محجن الثَّقَفِيّ سبع مَرَّات. ذكر ذَلِك عبد الرَّزَّاق فِي بَاب من حد من الصَّحَابَة فِي الْخمر.
قَالَ: وَأخْبرنَا معمر عَن أَيُّوب عَن ابْن سِيرِين: قَالَ: كَانَ أَبُو محجن الثَّقَفِيّ لَا يزَال يجلد فِي الْخمر فَلَمَّا كثر عَلَيْهِم سجنوه وأوثقوه فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْقَادِسِيَّة رَآهُمْ يقتتلون فَكَأَنَّهُ رأى أَن الْمُشْركين قد أَصَابُوا من الْمُسلمين فَأرْسل إِلَى أم ولد سعد أَو إِلَى امْرَأَة سعد يَقُول لَهَا: إِن أَبَا محجن يَقُول لَك: إِن خليت سَبيله وَحَمَلته على هَذَا الْفرس وَدفعت إِلَيْهِ سِلَاحا لَيَكُونن أول من يرجع إِلَيْك إِلَّا أَن يقتل.
وَأنْشد يَقُول: الطَّوِيل
(كفى حزنا أَن تلتقي الْخَيل بالقنا
…
وأترك مشدوداً عَليّ وثاقيا)
…
(إِذا قُمْت غناني الْحَدِيد وغلقت
…
مصَارِع دوني قد تصم المناديا)
(وَقد كنت ذَا مالٍ كثير وإخوةٍ
…
فقد تركوني وَاحِدًا لَا أَخا ليا)
(وَقد شف نَفسِي أنني كل شارقٍ
…
أعالج كبلاً مصمتاً قد برانيا)
(فَللَّه دري يَوْم أترك موثقًا
…
وتذهل عني أسرتي ورجاليا))
(حبست عَن الْحَرْب الْعوَان وَقد بَدَت
…
وإعمال غَيْرِي يَوْم ذَاك العواليا)
(وَللَّه عهدٌ لَا أخيس بعهده
…
لَئِن فرجت أَن لَا أَزور الحوانيا)
فَذَهَبت الْأُخْرَى فَقَالَت ذَلِك لامْرَأَة سعد فَحلت عَنهُ قيوده وَحمل على فرس كَانَ فِي الدَّار وَأعْطِي سِلَاحا ثمَّ خرج يرْكض حَتَّى لحق بالقوم فَجعل لَا يزَال يحمل على رجل فيقتله ويدق فَنظر إِلَيْهِ سعدٌ فَجعل يتعجب وَيَقُول: من ذَلِك الْفَارِس قَالَ: فَلم يَلْبَثُوا إِلَّا يَسِيرا حَتَّى هَزَمَهُمْ الله وَرجع أَبُو محجن ورد السِّلَاح وَجعل
رجلَيْهِ فِي الْقُيُود كَمَا كَانَ.
فجَاء سعد فَقَالَت لَهُ امْرَأَته أَو أم وَلَده: كَيفَ كَانَ قتالكم فَجعل يخبرها وَيَقُول: لَقينَا ولقينا حَتَّى بعث الله رجلا على فرسٍ أبلق لَوْلَا أَنِّي تركت أَبَا محجنٍ فِي الْقُيُود لظَنَنْت أَنَّهَا بعض شمائل أبي محجن فَقَالَت: وَالله لأبو محجن كَانَ من أمره كَذَا وَكَذَا. فقصت عَلَيْهِ قصَّته.
فَدَعَا بِهِ وَحل قيوده وَقَالَ: لَا نجلدك على الْخمر أبدا. قَالَ أَبُو محجن: وَأَنا وَالله لَا أشربها أبدا.
كنت آنف أَن أدعها من أجل جلدكم. قَالَ: فَلم يشْربهَا بعد ذَلِك.
وروى صَاحب الِاسْتِيعَاب بِسَنَدِهِ إِلَى إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن سعد بن أبي وَقاص عَن أَبِيه قَالَ: لما كَانَ يَوْم الْقَادِسِيَّة أُتِي سعد بِأبي محجن وَهُوَ سَكرَان من الْخمر فَأمر بِهِ إِلَى الْقَيْد وَكَانَ سعدٌ بِهِ جِرَاحَة فَلم يخرج يَوْمئِذٍ إِلَى النَّاس وَاسْتعْمل على الْخَيل خَالِد بن عرفطة وَرفع سعدٌ فَوق العذيب لينْظر إِلَى النَّاس فَلَمَّا التقى النَّاس قَالَ أَبُو محجن:
كفى حزنا أَن تردي الْخَيل بالقنا
…
...
…
. الأبيات السَّابِقَة فَقَالَ لابنَة خصفة امْرَأَة سعد: وَيحك خليني وَلَك عَليّ إِن
سلمني الله أَن أجيء حَتَّى أَضَع رجْلي فِي الْقَيْد وَإِن قتلت استرحتم مني.
فخلته فَوَثَبَ على فرس لسعدٍ يُقَال لَهَا: البلقاء ثمَّ أَخذ الرمْح ثمَّ انْطلق حَتَّى أَتَى النَّاس فَجعل لَا يحمل فِي ناحيةٍ إِلَّا هَزَمَهُمْ فَجعل النَّاس يَقُولُونَ: هَذَا ملكٌ: وَسعد ينظر فَجعل سعد يَقُول: الضبر ضبر البلقاء والطعن طعن أبي محجن وَأَبُو محجن فِي الْقَيْد فَلَمَّا هزم الْعَدو رَجَعَ أَبُو محجن حَتَّى وضع رجله فِي الْقَيْد فَأخْبرت ابْنة خصفة سَعْدا بِالَّذِي كَانَ من أمره. فَقَالَ: لَا وَالله مَا أبلى أحدٌ من الْمُسلمين مَا أبلى فِي هَذَا الْيَوْم لَا أضْرب رجلا أبلى فِي الْمُسلمين مَا أبلى قَالَ: فخلى سَبيله.
وَقَالَ أَبُو محجن: كنت أشربها إِذْ يُقَام عَليّ الْحَد وأطهر مِنْهَا فَأَما إِن بهرجتني فوَاللَّه لَا أشربها)
أبدا.
وَمن رِوَايَة أهل الْأَخْبَار أَن ابْنا لأبي محجن دخل على مُعَاوِيَة فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة: أَبوك الَّذِي يَقُول: إِذا مت فادفني إِلَى جنب كرمةٍ
…
... . الأبيات الْمُتَقَدّمَة فَقَالَ لَهُ ابْنه: لَو شِئْت ذكرت أحسن من هَذَا من شعره. قَالَ: وَمَا ذَاك قَالَ:
قَوْله: الْبَسِيط
(لَا تسْأَل النَّاس من مَالِي وكثرته
…
وَسَائِل النَّاس عَن حزمي وَعَن خلقي)
…
(قد يعلم النَّاس أَنِّي من سراتهم
…
إِذا تطيش يَد الرعديدة الْفرق)
(قد أركب الهول مسدولاً عساكره
…
وأكتم السِّرّ فِيهِ ضَرْبَة الْعُنُق)
وَزَاد بَعضهم فِي هَذِه الأبيات: الْبَسِيط
(وأطعن الطعنة النجلاء قد علمُوا
…
تَنْفِي المسابير بالإزباد والفهق)
(عف المطالب عَمَّا لست نائله
…
وَإِن ظلمت شَدِيد الحقد والحنق)
(وَقد أَجود وَمَا مَالِي بِذِي فنعٍ
…
وَقد أكر وَرَاء المجحر الْبَرْق)
…
(قد يقتر الْمَرْء يَوْمًا وَهُوَ ذُو حسبٍ
…
وَقد يثوب سوام الْعَاجِز الْحمق)
(وَيكثر المَال يَوْمًا بعد قلته
…
ويكتسي الْعود بعد الجدب بالورق)
فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة: لَئِن أسأنا لَك القَوْل لنجزل لَك الْعَطِيَّة. ثمَّ أجزل جائزته وَقَالَ: إِذا ولدت النِّسَاء فلتلد مثلك وَزعم الْهَيْثَم بن عدي أَنه أخبرهُ من رأى قبر أبي محجن الثَّقَفِيّ بِأَذربِيجَان أَو قَالَ: فِي نواحي جرجان وَقد نَبتَت عَلَيْهِ ثَلَاث أصُول كرم وَقد طَالَتْ وأثمرت وَهِي معرشة على قَبره مَكْتُوب على الْقَبْر: هَذَا قبر أبي محجن قَالَ: فَجعلت أتعجب وأذكر قَوْله: إِذا مت فادفني إِلَى جنب كرمة هَذَا مَا اخترته من الِاسْتِيعَاب.
وروى ابْن الْأَعرَابِي فِي شرح ديوَان أبي محجن عَن ابْن الْكَلْبِيّ أَنه قَالَ: أخبرنَا عوَانَة قَالَ: دخل أَبوك الَّذِي يَقُول من قصيدة: إِذا مت فادفني إِلَى جنب كرمة
فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَلَكِن أبي الَّذِي يَقُول: لَا تسْأَل الْقَوْم عَن مَالِي وكثرته
…
... إِلَى آخر الأبيات الْمَذْكُورَة)
وَنقل ابْن حجر فِي الْإِصَابَة عَن ابْن فتحون فِيمَا كتبه على
أَوْهَام الِاسْتِيعَاب أَنه عَابَ أَبَا عمر على مَا ذكر فِي قصَّة أبي محجن أَنه كَانَ منهكماً فِي الشَّرَاب فَقَالَ: كَانَ يَكْفِيهِ ذكر حَده عَلَيْهِ وَالسُّكُوت عَنهُ أليق.
وَالْأولَى فِي أمره مَا أخرجه سيف فِي الْفتُوح: أَن امْرَأَة سعدٍ سَأَلته فِيمَا حبس فَقَالَ: وَالله مَا حبست على حرَام أَكلته وَلَا شربته وَلَكِنِّي كنت صَاحب شراب فِي الْجَاهِلِيَّة فَجرى كثيرا على لساني وصفهَا فحبسني بذلك فأعلمت بذلك سَعْدا فَقَالَ: اذْهَبْ فَمَا أَنا بمؤاخذك بِشَيْء تَقوله حَتَّى تَفْعَلهُ.
قَالَ ابْن حجر: وسيفٌ ضَعِيف وَالرِّوَايَات الَّتِي ذكروها أقوى وَأشهر. وَأنكر ابْن فتحون قَول من روى أَن سَعْدا أبطل عَنهُ الْحَد وَقَالَ: لَا يظنّ هَذَا بِسَعْد ثمَّ قَالَ: لَكِن لَهُ وَجه حسن وَلم يذكروه.
وَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَن سَعْدا أَرَادَ بقوله لَا يخلده فِي الْخمر بشرطٍ أضمره وَهُوَ إِن ثَبت عَلَيْهِ أَنه يشْربهَا.
فوفقه الله أَن تَابَ تَوْبَة نصُوحًا فَلم يعد إِلَيْهَا كَمَا فِي بَقِيَّة الْقِصَّة.
وَقَوله فِي الْقِصَّة: الضَّب ضبر البلقاء هُوَ بالضاد الْمُعْجَمَة وَالْبَاء الْمُوَحدَة: عَدو الْفرس. وَمن قَالَه بالصَّاد الْمُهْملَة فقد صحف. نبه عَلَيْهِ ابْن فتحون. تَتِمَّة سَمَّاهُ الْآمِدِيّ فِي المؤتلف والمختلف على خلاف مَا تقدم مَعَ بعض تَغْيِير فِي أَسمَاء آبَائِهِ: قَالَ هُوَ حبيب بن عَمْرو بن عُمَيْر بن عَوْف بن عقدَة بن غيرَة الثَّقَفِيّ.
وَهُوَ شاعرٌ فَارس وَهُوَ الْقَائِل: