الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صدر الخطط
بسم الله الرحمن الرحيم
عونك اللهم يا لطيف
نشرت عام 1317هـ 1899م في مجلة المقتطف تسعة فصول في عمران دمشق صادفت استحسان بعض من قرءوها من خاصة الباحثين، وجمهور المطالعين، فوقع في النفس يومئذ أن أتوسع في هذا البحث، وأدرس عمران الشام كله، لأن صورة العاصمة وحدها لا تكفي للدلالة على حالة القطر، ومن الإشراف على الأطراف، قد تعرف صحة الجسم عامة والقلب خاصة، ومن اهتم بالجزء كان حريا أن يضاعف العناية بالكل.
فشرعت من ثم أتصفح كل ما ظفرت به من المخطوطات والمطبوعات باللغات العربية والتركية والفرنسية، وقصدت دور الكتب الخاصة والعامة في الشام ومصر والمدينة المنورة والآستانة ورومية وباريس ولندرا وإكسفورد وكامبردج وليدن وبرلين وميونخ ومجريط والإسكوريال. وكنت كلما استكثرت من المطالعة، تتجلى أمامي صعوبة العمل، هذا مع ما قام في سبيل نشر هذا المجموع من العقبات، منذ وطدت العزم على وضعه، وما نالني من الكوارث في العهد الماضي. ولكن الشقاء قد يأتي بسعادة، ورب ضرّ أعقب خيرا. فإن التضييق عليَّ نشأ منه اضطراري إلى الارتحال غير مرة، فأخذت أستقري المعالم والمجاهل في هذا القطر، ونزلت على
أمم كثيرة في بلاد الغرب، فاستفدت من تنقلي بعض ما عندهم من أسفارنا وآثارنا، وقابلت عن أمم بين عمراننا وعمرانهم، وجمودنا اليوم وحركتهم.
رحلت إلى أوروبا ثلاث رحلات، أبحث في دور كتبها عن المخطوطات التي يرجى أن يكون أصحابها قد تعرضوا لحوادث هذا القطر، وزرت أصقاع الشام
لأقابل بين حاضره وغابره، ولما نسجت بآخرة ما جمعت، قدمت له مقدمة في بيان ما تشترك فيه بلاد الشام عامة من المظاهر والأوضاع، وسميته خطط الشام وأعني بالشام الأصقاع التي تتناول ما اصطلح العرب على تسميته بهذا الاسم، وهو القطر الممتد من سقي النيل إلى سقي الفرات، ومن سفوح طوروس إلى أقصى البادية، أي سورية وفلسطين في عرف المتأخرين. ويراد بالخطط كل ما يتناول العمران، والبحث في تخطيط بلد بحث في تاريخه وحضارته.
أول من صنف في الخطط واستقصى فيها على ما علمنا الحسن بن زولاق المصري المتوفى سنة 387 وقال المقريزي المتوفى في سنة 843 إن أول من صنف فيها أبو عمر بن يوسف الكندي، ثم القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة القضاعي 454 والذي انتهى إلينا كتاب خطط مصر للمقريزي المنوه به، وهو أجمل مثال في باب الإجادة في التأليف. ولم نعلم أن أحدا من المتقدمين كتب على الشام وخططه، وكتب بعض المتأخرين في موضوع خاص وبلد معين. وما خطط الشام في الحقيقة إلا زبدة الوقائع والكوائن، وأخبار الصعود والتدلي، والمظاهر الغربية التي ظهرت بها هذه الديار، في غابر الأعصار، مقتبسا ذلك مما أبقته
الأيام مكتوبا أو مطبوعا على ورق، أو مزبورا على حجر وآجر وبردي ورق.
لا جرم أن موضوع الخطط موضوع جليل، تتعين الإحاطة به على كل من يحب أن يعرف أرضه ليخدمها، ويستفيد منها، وأحق الناس بمعرفة بلد أهله وجيرانه. ومن لم يرزق حظا من الاطلاع على ما حوى موطنه من الخيرات، وما أتاه أجداده من الأعمال، لا ينهض بما يجب عليه ليؤثر الأثر النافع في الحال والمآل، ومن أجدر من الأبناء والأحفاد، بالرجوع إلى سجلات الآباء والأجداد، وكيف يحب المرء بلدا لا يعرفه، ويحرص على سعادته ليسعد هو فيه، وهو لا علم عنده بما تعاقب عليه حتى صار إلى ما صار إليه، وهل يُفهم الحاضر بغير العابر،
وهل تنشأُ في الأمة روح وطنية إذا لم تدرس تاريخها حق الدراسة.
كتب الغربيون في آثار هذا القطر وعمرانه وتاريخه واقتصادياته وعادياته أحمالا من الكتب بلغاتهم، وقلما نشرت كتب جامعة لأحد أبنائنا بلغتنا وعلى نهجنا. واستنفض الغربيون كل بقعة من بقاعنا، ومدينة من مدننا، وبادية من بوادينا، ومنهم من أجاد وأفاد، مما يسجل ويا للأسف علمهم بنا، وجهلنا حتى بأرضنا، ويكفي أن يقال إن علماء الغرب وسياحهم صنفوا بين سنتي 1805 - 1903م خمسة وتسعين كتابا فقط في آثار سلع أو البتراء وادي موسى على حين قلّ جدا في الشاميين أنفسهم من زاروا هذه الخرائب المهمة، ومنهم من لم يسمع باسمها.
أخذت مما ظفرت به من الكتب الإفرنجية، وعُنيت أشد العناية بالرجوع إلى ما كتبه الأسلاف في هذا الشأن، على تفرقه، واعتمدت على مؤلفي العرب خاصة لأن كل أمة أعرف على الغالب بحالتها من غيرها، فإن بحث علماء الإفرنج في تاريخ هذا القطر قبل الإسلام، ونبشوا عادياته ومصانعه، وحلوا لغاته ولهجاته، فتاريخه بعد هذا العهد أقرب إلى أن يكون علماؤنا مرجعا فيه، فقد قيل قتل أرضاً عالمها.
جاء الكلام ناقصا في بعض الأدوار المتأخرة، وعُمي عليَّ بعض
مواضع مهمة ذات صلة بمدنية الشام، والسبب فيه أن المتأخرين زهدوا في التاريخ حتى كادوا لا يفرقون بينه وبين أقاصيص العجائز، وموضوعات المخرفين والوضاعين، وعنيت بتجريد هذا الكتاب ما أمكن من المبالغات، ونخل لباب الوقائع المهمة الثابتة وحذف ما فيه شيَةُ شبهة، أو شائبة غلو، وإن كان منها ما يروق بعضهم ويتفكهون بسماعه، ويطربون لترداده. فخاطبت ما استطعت العقل أكثر من العاطفة، وعُنيت في قسم التاريخ السياسي أن أبين علل الحوادث، وتسلسل الكوائن، ودواعي الأحوال القريبة أو البعيدة، واستخراج النتائج واستنباط القواعد.
والتاريخ ربيب الحرية لا يتصرف على هوى من يكتبه ويقرءوه ولا على أذواق أهل العصر وأهوائهم. وما دام موضوعه الاعتبار بالخالي لمعرفة الحالي والآتي فهو جدير بأن يتحرى فيه الحق ولا يدون سواه. قال أحد العلماء: عندما نريد أن نصل إلى الحقائق التاريخية، يجب أن تصح همتنا على إزالة الأوهام، ونزع الزوان من الأساطير التي تعلق بالوقائع الثابتة القليلة التي وصلت إلينا.
كان المؤرخون بعد القرون الوسطى بين عاملين قويين، إما أن يكذبوا فيغضبوا الحق، أو يصدقوا فيغضبوا الخلق، والعمال والأعيان منهم خاصة. فقد ألف مثلا ابن زوجة أبي عذيبة المقدسي المتوفى سنة 856 تاريخين مطولا ومختصرا، ولما توفي أطلع بعضهم على الكبير منه، فوجد فيه أشياء توهمها في ثلب أعراض الناس فأتلفه، وصنف عبد الله البصروي من أهل القرن الثاني عشر تاريخا لهذه الديار، فبلغ أعيان دمشق خبره، ولما هلك دخلوا داره وآلو أن لا يأذنوا بدفنه أو يأخذوا التاريخ الذي وضعه، فضبطوه وأحرقوه على أعين القوم، مخافة أن تنكشف سيئات بعضهم. والذي ضاع من مدونات المتقدمين والمتأخرين يعد بالعشرات، لكثرة الجوائح الأرضية والسماوية التي أصابتها. وإذا كتب البقاء لشيء مما كتبه المتأخرون فيكون في الغالب إلى الركاكة لا تسقط فيه على حقيقة. وكثيرا ما كان العقلاء يعلقون على حواشي
بعض الكتب تعاليق لحوادث جرت، وأمور اهتم لها الناس وشغلت مجتمعهم، ومن مثل تلك الأوراق ومن العهود والصكوك ضم هذا السفر جانبا.
بحثت جد البحث عما دُوّن في التاريخ العام أو الخاص بتاريخ بلد من أرض الشام، فرأيت يد الضياع قد غالتها إلا قليلا، وقد أهمني منها الاطلاع على تاريخ صفد للعثماني وتاريخ البرزالي وتاريخ حلب الكبير لابن العديم وتاريخها لابن أبي طي وتاريخ حمص لابن عيسى ولعبد الصمد بن سعيد وأخبار قضاة دمشق للذهبي
وتاريخ ابن أبي الدم الحموي وتاريخ قنسرين وتاريخ إنطاكية وتاريخ المعرة لابن المهذب وتواريخ كثيرة في سير مشاهير الفاتحين كتبها أمثال ياقوت الحموي وابن شداد وابن واصل وابن حبيب وابن الداية وابن عبد الظاهر وابن تيمية والجبريني والعسقلاني، فلم أظفر بسوى ورقات من بعضها، أو مختصرات ومنقولات لا تبل غلة، حُرفت بالنقل فتشوهت محاسنها.
ولقد وددت لما تيسر وضع خطط الشام على هذه الصورة لو ساغ لي أن أصبر عليه زمنا آخر حتى يتم التحقيق فيه على ما يجب عملا بالحكمة التي تمثل بها الثعالبي في اليتيمة قال: وكلما أعرته على الأيام بصري، وأعدت فيه نظري، تبينت مصداق ما قرأته في بعض الكتب، أن أول ما يبدو من ضعف ابن آدم، أنه لا يكتب كتابا فيبيت عنده ليلة، إلا أحب في غدها أن يزيد فيه أو ينقص منه، هذا في ليلة فكيف في سنين عديدة. ولكن رأيت بعد طول التأمل أن من الحزم الاكتفاء بما تهيأ في هذه السنين، والتمحيص بحر لا ساحل له، ولطالما ذكرت وأنا أغوص في الكتب المختلفة التي طالعتها قول المؤرخ فوستيل دي كولانج ليس التاريخ من العلوم السهلة فلأجل يوم واحد يصرف في التركيب ينبغي قضاء أعوام طويلة في التحليل. على أني لما راجعت مسودات ما صنفت ورأيتني قد تذوقتها فهضمتها، أيقنت أنه لا يثقل على القراء في الجملة، فأبرزته خائفا حوادث الأيام، ونزول داعي الحمام، وأنا موقن بأن فوق
ما طالعت وبحثت غايات، لم يمكني الزمان والمكان من بلوغها، وعسى أن يقوم غيري بعدي فيتم هذه الخطوط التي رسمتها من بنيان كتاب الخطط، ويصلح بما يتوفر له من المواد ما ربما وقعت فيه من الغلط والشطط، وإذا حصلت الفائدة من عمل استغرق جلب مادته خمسا وعشرين سنة، وكلّف تعبا ونشبا، فهو غاية ما أتطالُّ إليه، وإلا فهو جهد المقلّ، والكمال لله وحده.
وكتب في دمشق في اليوم الرابع من شعبان من شهور سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة وألف بعد الهجرة بموافقة شباط من شهور سنة خمس وعشرين وتسعمائة وألف للميلاد.