الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يبلغهم حادث في المسلمين يغيرون خططهم الحربية، وبالطبع كانوا يستخدمون لذلك أناساً من أبناء نحلتهم من الأرمن وغيرهم، وربما كان للمسلمين أيضاً شأن في ذلك طمعاً في مال أو انتقاماً من سلطان، ولعل الصليبيين وفقوا إلى إمساك بعض ما كان ملوك الطوائف، يطيرونه من حمام الزاجل، ويحلون البطائق الصادرة عن بعض الأمراء والقواد، فتنكشف لهم أسرار خصومهم. فقد ذكر المؤرخون أن صاحب إنطاكية الصليبي أرسل إلى عز الدين مسعود صاحب حلب يخبره بقتل والده قسيم الدولة آق سنقر البرسقي صاحب الموصل بيد الباطنية قبل أن يصل إليه الخبر، وكان قد سمعه الفرنج قبل لشدة عنايتهم بمعرفة الأحوال الإسلامية.
مؤاخذة الفاطميين وتوقيف سير الفرنج:
ولقد آخذ المؤرخون الدولة الفاطمية على تهاونها في الغزو والجهاد حتى روى ابن تغري بردي، أن الآمر كان يتناهى في العظمة ويتقاعد عن الجهاد، حتى استولت الفرنج على غالب السواحل وحصونها في أيامه، ولئن كان وقع لأبيه المستعلي أيضاً فأخذ القدس في أيامه، فإنه اهتم لقتال الفرنج وأرسل بدراً الجمالي بالعساكر فوصلوا بعد فوات الوقت أما الآمر فإنه لم ينهض لقتال الفرنج البتة، وإن كان أرسل مع الأسطول عسكراً فهو كلا شيء. قال: ولم ينهض أحد من المصريين
لقتال الفرنج لما دخلوا الشام، فعلمت الفرنج ضعف من بمصر، وظهر عدم اكتراث أهل مصر بالفرنج من كل وجه. الأول من تقاعدهم عن المسير في هذه المدة الطويلة، والثاني لضعف العسكر الذي أرسلوه مع أسطول مصر، ولو كان لعسكر الأسطول قوة لدفع الفرنج عن البحر، والثالث عدم خروج الوزير الأفضل بالعساكر المصرية كما كان فعل والده بدر الجمالي في أوائل الأمر، هذا مع قوتهم من العساكر والأموال والأسلحة.
ويغلب على الظن أن الفاطميين دهشوا لغزو الفرنج الشام ولم يريدوا أن يثيروا حفائظهم لئلا يحصروا وكدهم بفتح دار ملكهم، وفتح مصر أسهل من الشام، لأنها سهول ليس فيها حصون طبيعية، وأفضل للبيت
العلوي أن تبقى له الديار المصرية ولو ذهب الشام بما فيه، ولذلك كان الفاطميون ينجدون الشام في الأحايين لأول عهد دخول الفرنج إليه إنجاداً ضعيفاً، وأكثر نجداتهم وحملاتهم لم تثمر الثمرة المطلوبة بل خففت جزءاً صغيراً من الشر مدة، وقوّى ذلك قلوب بعض أهل الأرجاء المحصورة، ونفّس خناقهم، وأوهمهم أن وراءهم قوة الفاطميين عند مسيس الحاجة يستصرخون بها فتنجدهم. والحقيقة أن الفاطميين على قوتهم من العدد والعدد لم يستطيعوا أن يذبوا حقيقة عن عسقلان، ولا عن صور وصيدا وبيروت وطرابلس دع الأصقاع الأخرى، وإذا عرفنا أن الدولة الفاطمية كانت في أواخر أيام ضعفها هان علينا أن لا نطلب منها أن تعمل عمل الشباب.
وقد أنجدت الدول المجاورة الشام نجدات مهمة على بعد المدى وقلة المواصلات. وأبلى جند التركمان والأكراد مع عرب الشام والموصل البلاء الحسن في هذه السبيل، ولكن كانت القوى الصليبية عظيمة جداً لا قبل لهم بدفعها، فكان موقف المسلمين على الأغلب موقف المدافع لا المهاجم، وكان لأمراء التركمان في هذا
الدور غيرة شديدة في الجهاد، ولم يكن داخلهم الفساد الذي يدخل على البيوت والدول، ولو كانت الآراء متجهة إلى مقصد واحد لاستطاع المسلمون أن يدفعوا الفرنج عن هذا القطر على كثرة جيوشهم الجرارة قبل أن يتأصلوا فيه، ويطلعوا على مبلغ قوات أُمرائه، ويتعلموا بحكم المجاورة ما كان ينقصهم من أصول الحرب، وبعض الصناعات وأعمال المدنية التي وجدوها في الشام يومئذ على حصة موفورة، فاقتبسوها ونقلوها بعد إلى أُممهم غنيمة نافعة من الشرق.
وقد حرص الفرنج أن يستولوا على قرى حلب والبقاع وحوران والسواد والبلقاء في الأكثر ليتقووا بغلاتها لأن معظم القرى في فلسطين كانت ساحات حرب لا تقوم بإطعام جيوشهم. وكان الفرسان في حصون الفرنج يملكون القرى ويحبون الأموال من أهلها الأصليين، ويسلبون قوافل المسلمين. وفي التاريخ العام: كانت الحرب في الشرق كما هي في الغرب تجارة رابحة، يقوم فرسان الفرنج ويغزون أرض المسلمين، وينهبون
القرى ويخطفون السكان ويأخذونهم أسرى ويضطرونهم إلى أن يفتدوا أنفسهم.
وعلى الجملة فإن أُمراء المسلمين في هذا الدور لم يتلكئوا في الحقيقة عن تخفيف بلاء المهاجمين عن الشام، وقاتلوا فانهزموا وهزموا، وطاولوا وراوغوا، وهادنوا وعاهدوا، وقاربوا وسادوا. ولكن الشام والجزيرة، ومعهما العراق ومصر على قلة، لا تستطيعان دفع جيش مؤلف من أكثر أُمم أوروبا، ومتى كانت قوة قطر صغير، توازي قوى برّ كبير، ومن أين لأمراء صغار لا تربطهم رابطة محكمة، أن يقفوا في وجوه ملوك من ورائهم قوة الباباوية، وناهيك بها من قوة في ذاك العصر.
انتهى الجزء الأول من خطط الشام
ويليه الجزء الثاني وأوله الدولة النورية.