الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أهلها وراسلهم صاحب شيزر على الصلح وعصت طرابلس عليهم لما بدا من شمم صاحبها ابن عمار واستنجاده بالملوك، فصالحه صاحب إنطاكية وهاداه على أن يكون للفرنج ظاهر طرابلس ولا يقطع الميرة والمسافرين عنها، وبهذا تيسر للفرنج أن يحفظوا خط رجعتهم في طريقهم براً إلى القدس. وخرجوا على طريق النواقير إلى عكا فلم يقدروا عليها.
فتح الصليبيين القدس والساحل:
وبعد فتح الفرنج المعرة وغدرهم بأهلها ومن احتمى فيها، وقطعهم على أهل البلد القطائع التي لم يفوا بشيء مما قرروه فيها، ومطالبتهم للناس بما لا طاقة لهم به، رحلوا إلى بيت المقدس على طريق الساحل فأجفل الناس، وكانت حلب على قيد غلوة من خطر استيلاء الفرنج، ولكنهم أعلنوا يوم وصولهم أنهم لا يقصدون إلا الاستيلاء على ما كان للروم من المدن، ليصرفوا فكر حكام الشام عن نجدة أهل إنطاكية، ولكن أمراء الأقاليم لم يصغوا لهذه الدعوة، ونزل الفرنج بعد أن اجتازوا معظم الثغور على الرملة فملكوها، وانتقلوا إلى بيت المقدس فضيقوا عليه، فجاءهم
الأفضل في العسكر الدثر من مصر للإيقاع بهم وإنجاد البلد، فشدوا في قتاله ولازموا حربه، فانهزم الناس وملك الفرنج البلد ولبث الفرنج يقتلون في المسلمين بالقدس أُسبوعاً، وقتل من المسلمين في المسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألف نفس، منهم جماعة كثيرة من أئمة المسلمين وعلمائهم وعبادهم وزهادهم ممن جاور في ذلك الموضع الشريف، وغنموا ما لا يقع عليه الإحصاء. وجمع الفرنج اليهود في الكنيسة وأحرقوها عليهم، وهدموا المساجد وقبر الخليل، وأحرقوا المصاحف.
قال ميشو: وقد ارتكب الصليبيون في فتح القدس أنواع التعصب الأعمى الذي لم يسبق له نظير، حتى شكا من ذلك المنصفون من مؤرخيهم، فكانوا يُكرِهون العرب على إلقاء أنفسهم من أعالي البيوت والبروج ويجعلونهم طعاماً للنار، ويخرجونهم من الأقبية وأعماق الأرض ويجرونهم في الساحات، ويقتلونهم فوق جثث الآدميين. ودام الذبح في المسلمين أسبوعاً حتى قتلوا منهم كما اتفق على لك مؤرخو الشرق والغرب سبعين
ألف نسمة، واليهود كالعرب لم ينجوا من الذبح أيضاً، فوضع الصليبيون النار في المذبح الذي لجأ إليه أبناء إسرائيل وأهلكوهم كلهم بالنار.
ذكر ابن خلكان أن الأفضل كات تسلم القدس من سقمان بن أُرتق وولى فيه من قبله فلم يكن لمن فيه طاقة بالفرنج فتسلموه منهم، ولو كان في يد الأرتقية لكان أصلح للمسلمين. وكان الأفضل راسل الأمير سقمان وإيلغازي ابني أُرتق ليسلماه بيت المقدس بدون حرب فلم يجيباه، فقاتل البلد ونصب عليها المجانيق وهدم منها جانباً فلم يجد بداً من الإذعان له فسلماه إليه، وكان الأمير أتسز بن أُوق الخوارزمي انتزع القدس من يد المصريين سنة نيف وستين وأربعمائة قبل ملكه دمشق، ثم لما كسر بمصر سنة 469 قام على أصحابه فئة فأخرجوهم ثم أعاد
الدعوة العباسية، ولم يزل القدس بيده إلى أن قتله تاج الدولة تتش بن أرسلان سنة 472 ثم انتزعه تاج الدولة سنة 474 ثم سلمه إلى الأمير ظهير الدين أُرتق أواخر سنة 478 فعمره وأسكن به ولده، ولم يزالوا به إلى سنة 491 حتى تسلمه المصريون. وجاء الأفضل وقد فات الأمر فانضاف إليه عساكر الساحل، ونزل بظاهر عسقلان منتظراً وصول الأسطول في البحر، فنهض عسكر الفرنج إليه وهجموا عليه في خلق عظيم، فانهزم العسكر المصري إلى ناحية عسقلان ودخل الفرنج إليها، وتمكنت سيوفهم من المسلمين، فأتى القتل على الرجالة والمطوعة وأهل البلد، وكانوا زهاء عشرة آلاف نفس ونُهب العسكر الإسلامي، وتوجه الأفضل في خواصه إلى مصر، وضايقوا عسقلان فقتل من أهلها وغيرهم سوى أجنادها ألفان وخمسمائة نفس.
ولما توغل الصليبيون في الشام، وكانوا في كل بلد يدخلونه يقتلون أهله، ويخربون عمرانه، ويحرقون كتبه ومتاعه وآثاره، هام الناس على وجوههم في البراري ومنهم من قصد إلى داخلية الشام، ومنهم من فرَّ إلى مصر على حالة رثة. وفي سنة 485 ملك الفرنج ما حول بيت المقدس مثل صور وعكا والرملة ويافا، أما بقية الساحل كطرابلس وبيروت واللاذقية فبقيت تقاوم إلى حدود سنة 500 معتصمة وراء أسوارها محصورة في بقعة ضيقة من أرباضها، معتمدة على معاونة الفاطميين لها من البحر.
وكان الفرنج أول ما ملكوا من هذه الأرجاء الرُّها وما حولها من الحصون الفراتية قبل ملكهم إنطاكية والمعرة. وظلت بيروت في أيدي المسلمين إلى سنة 503 حتى فتحها بغدوين بعد أن حاصرها حصاراً شديداً وقتل من أهلها عالماً كثيراً. ودام ملوك الفاطميين ينجدون الساحل والداخل بجنودهم، ولولاهم لتيسر للفرنج اكتساح هذه الأرجاء بمجرد سير جيوشهم الجرارة، وحالت أسوار المدن بينهم وبين ما كانوا يؤملون، وصحت نيات القائمين
بالأمر فيها، ولا سيما في المدن الداخلية، على الدفاع، فكانت هجمات العدو يُبددها في الغالب دفاع السكان على ضعف قواهم وتشتت أهوائهم، وموقف المدافع أسهل من موقف المهاجم.
ومن أهم الأحداث بعد دخول الفرنج إنطاكية خروج صاحبها بيمند سنة 493 إلى حصن أفامية، فوصل الخبر إلى الدانشمند التركماني صاحب ملاطية وسيواس وعسكر قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش صاحب قونية وأقصرا، فقتل من عسكر الفرنج عدداً عظيماً، وحصل بيمند في قبضة الأسر مع نفر من أصحابه، ونفذت الرسل إلى نوابه في إنطاكية يلتمسون تسليمها. قال صاحب الكامل: لم يفلت أحد من الفرنج في هذه الوقعة وكانوا ثلاثمائة ألف غير ثلاثة آلاف هربوا ليلاً وأفلتوا مجروحين. ووصل كدفري صاحب بيت المقدس إلى عكا، وأغار عليهم فأصابه سهم فقتله، وكان قد عمر يافا وسلمها إلى طنكري، فلما قتل كدفري سار أخوه بغدوين القمص صاحب الرُّها إلى بيت المقدس في خمسمائة فارس وراجل، فجمع صاحبا دمشق وحمص الجموع ولقياه بالقرب من بيروت، فسارع نحوه صاحب حمص في عسكره فظفر به وقتل بعض أصحابه. وفيها افتتح الفرنج حيفا على ساحل البحر وأرسوف بالأمان وأخرجوا أهلها منها، وفتحوا قيسارية وقتلوا أهلها ونهبوا ما فيها وأعانهم الجنويون عليها. وكان الجنويون والبيزيون يبعثون كل سنة بمراكب إلى ثغور الشام.
وأرسل عبد الله بن صليحة المتغلب على ثغر جبلة إلى صاحب دمشق، يلتمس منه إنفاذ من يراه من ثقاته ليسلم إليه جبلة، فانتدب ولده تاج الملوك فتسلمها، وأساء هو وأصحابه إلى أهلها وظلموهم، فشكوا حالهم
إلى ابن عمار صاحب طرابلس فأنهض إليهم عدة وافرة من عسكره، فدخلت الثغر واجتمعت مع أهله على التركمان فقهروهم وأخرجوهم منه وملكوه، وحملوا تاج الملوك إلى طرابلس
فدمشق معززاً. وفي رواية أن الفرنج استولوا على جبلة هذه السنة. وفيها خرج من مصر عسكر كثيف مع سعد الدولة المعروف بالقوامسي ووصل إلى عسقلان لجهاد الفرنج ورحل عنها، فنهض من الفرنج ألف فارس وعشرة آلاف راجل والتقى الفريقان فكسرت ميمنة المسلمين واستشهد سعد الدولة وعاد المسلمون على الفرنج وتذامروا عليهم وتحاضوا على قتالهم، وبذلوا النفوس في الكرة عليهم فهزموهم إلى يافا وقتلوا منهم وأسروا. وفيها نزل صنجيل على طرابلس، وكان جاءه أربعون مركباً مشحونة بالرجال والمال، فعطب بالرياح أكثرها، فكتب صاحبها إلى دمشق يستصرخ، فسار عسكرها مع صاحب حمص إلى أنطرطوس والتقوا بالفرنج، فانهزم صاحب حمص وعاد الفرنج إلى قتال طرابلس وعاد ابن عمار إلى الاستصراخ بصاحبي حمص ودمشق، فدفعوا الفرنج عنه بعد أن قتل من أهل طرابلس سبعة آلاف رجل، ونازل صنجيل طرابلس وحصرها وأتاه أهل الجبل فأعانوه على حصارها، وكذلك أهل السواد وأكثرهم نصارى، ثم هادنهم على مال حملة أهل طرابلس إلى صنجيل، فسار إلى أنطرطوس ففتحها وقتل من بها من المسلمين، ثم رحل إلى حصن الطوبان وهو يقارب رفنية، ومقدمه يقال له ابن العريض فقاتلهم فنصر عليه أهل الحصن وأسر ابن العريض منه فارساً من أكابر فرسانه، فبذل صنجيل في فدائه عشرة آلاف دينار وألف أسير فلم يجبه ابن العريض إلى ذلك. ثم سار صنجيل وحاصر حصن الأكراد فجمع تاج الدولة صاحب حمص العسكر ليسير إليه فوثب به باطني واغتاله، ولما بلغ صنجيل ذلك رحل عن حصن الأكراد إلى حمص ونازلها وملك أعمالها. وفي هذه السنة أطلق الدانشمند صاحب سيواس بيمند الفرنجي صاحب إنطاكية من الأسر وأخذ منه مائة ألف دينار، ولما خلص من الأسر عاد إلى إنطاكية فقويت نفوس أهلها به،