الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حروب الصليبيين ودولة طغتكين
وبقايا السلجوقيين من سنة 500 إلى 522
هدنة طغتكين للصليبيين وشدته عليهم:
انسلخ القرن الخامس، وأهم ما دهم القطر فأوقع الاضطراب فيه، انهيال جيوش الصليبيين عليه، وتبلج القرن السادس والصليبيون في الشام، منذ عشر سنين، استصفوا الساحل وبعض الداخل، والحرب بين أمراء الشام وبين الفرنج على أشد حالاتها، وشعر أمراء المسلمين بالخطر المداهم لكن القوى لم توحد، وكيف يخضع صاحب آمد لصاحب دمشق أو صاحب حلب لصاحب الموصل؛ وكل منهم يدعي التفوق ويود لو ينال من جاره ليكون له الأمر كله، وكان طغتكين صاحب دمشق يحمل العبء الثقيل لأن مملكته تتاخم أرض فلسطين، وملوك الأطراف أبعد دياراً، وكان همه قتال الأعداء من الجنوب والغرب، وحفظ الموازنة مع صاحب حلب حتى لا يستخذي فتسقط دمشق بل الشام بأسره.
وأهم الأحداث في العقد الأول من هذا القرن إقامة صاحب القدس على تل المعشوقة في صور 501 بناء، ومصانعة واليها على سبعة آلاف دينار، واشتداد الأمر بابن عمار في طرابلس لحصار الفرنج ومضيه إلى بغداد مستنجداً، وقد استناب ابن عمه أبا المناقب، فنادى بشعار الأفضل صاحب مصر، فقبض عليه وحمل إلى حصن الخوابي. وطال مقام ابن عمار في مدينة السلام على غير طائل، وأنفذ الأفضل من مصر إلى طرابلس
في البحر الغلة والميرة ووالياً من قبله فتسلم البلد. وأسرى صاحب دمشق إلى طبرية وفرق عسكره فرقتين، نفذت إحداهما إلى فلسطين، وأغار بالثانية على طبرية، وأحاطت الخيل بصاحب طبرية وبأصحابه فقتل أكثرهم. ونهض صاحب القدس إلى صيدا براً وبحراً ونصب برج الخشب عليه، ووصل الأسطول المصري فظهر على مراكب الفرنج وعسكر البر
واتصل بهم نهوض العسكر الدمشقي لحماية صيدا فرحلوا عنها.
وتسلم الفرنج عرقة بالأمان 502، وكان أنجدها صاحب دمشق فعاقته الثلوج والأمطار عن الوصول إليها، فرجع إلى حصن الأكمة مقاتلاً، ثم رحل عنه شبه المنهزم إلى حمص. ونزل الفرنج على طرابلس وشرعوا في قتالها ومضايقة أهلها زهاء أربعة أشهر، فشمل اليأس أهلها لتأخر وصول الأسطول المصري في البحر، فملكها الفرنج بالسيف ونهبوا ما فيها وأسروا رجالها وسبوا نساءها وأطفالها وحصل في أيديهم من أمتعتها وذخائرها ودفاتر دار علمها، وما كان منها في خزائن أربابها، ما لا يحد عدده ولا يحصر، ونزل بأهلها أشد البلاء، وتقرر بين الفرنج والجنويين على أن يكون للجنويين الثلث من البلد وما نهب منه، والثلثان لريمند بن صنجيل وأفردوا للملك بغدوين من الوسط ما رضي به. وذكر النويري أن السبب الذي دعا أهل طرابلس إلى التسليم، أنهم بينا كانوا ينتظرون وصول النجدة بحراً من مصر، جاءهم رسول منها على مركب يطلب منهم لاسم الخليفة الفاطمي جارية جميلة كانت في طرابلس وخشب مشمش يصلح لعمل عود وغيره من آلات الطرب.
وبعد فتح طرابلس سار الفرنج إلى جبلة، وسار جاولي إلى بالس، فهرب من بها من أصحاب الملك رضوان صاحب حلب، فحصرها خمسة أيام وملكها بعد أن نقب برجاً من أبراجها. وافتتح السرداني المتغلب على عرقة حصن بانياس، ونزل على ثغر جبيل وفيه ابن عمار فخرج منه بالأمان، ووصل الأسطول المصري بعد أخذ طرابلس فأقام بالساحل مدة وفرقت الغلة في جهاتها، وتمسك به أهل صور وصيدا وبيروت، وشكوا ضعفهم عن مقاومة الفرنج. وفيها كان المصاف بين جاولي وبين
طنكري صاحب إنطاكية، وسبب ذلك على ما رواه ابن الأثير أن الملك رضوان كتب إلى طنكري يعرفه ما عليه جاولي من الغدر والمكر والخداع
ويحذره منه ويعلمه أنه على قصد حلب، وأنه إن ملكها لا يبقى للفرنج معه بالشام مقام، وطلب منه النصرة والاتفاق على منعه، فأجابه طنكري إلى منعه، وبرز من إنطاكية، فأرسل إليه رضوان ستمائة فارس. ولما وقعت الحرب لم يبق غير هزيمة صاحب إنطاكية، ثم انهزم جاولي وبقية عسكره، وقتل من المسلمين خلق كثير، ونهب صاحب إنطاكية أموالهم وأثقالهم وعظم البلاء عليهم من الفرنج، وهرب القمص وجوسلين إلى تل باشر، والتجأ إليهما خلق كثير من المسلمين ففعلا معهم الجميل وداويا الجرحى وكسوا العراة وسيراهم إلى بلادهم.
وفيها كانت حرب شديدة بين طغتكين والفرنج على طبرية، واشتد القتال فانهزم المسلمون، ثم نادى طغتكين بالمحاربين وشجعهم، فعاودوا الحرب وكسروا الفرنج وأسروا ابن أخت ملك القدس، وحُمل إلى طغتكين فعرض طغتكين عليه الإسلام فامتنع، وبذل في فداء نفسه ثلاثين ألف دينار وإطلاق خمسمائة أسير، فلم يقنع طغتكين منه بغير الإسلام وقتله بيده. ثم اتفق طغتكين وبغدوين ملك الفرنج على وضع الحرب أربع سنين. ولما انهزم طغتكين على طرابلس ووصل إلى حمص بعسكره على أقبح حال أرسل إليه ملك القدس يقول له: لا تظنن أنني أنقض الهدنة للذي تم عليك من الهزيمة، فالملوك ينالهم أكثر مما نالك ثم تعود أمورهم إلى الانتظام والاستقامة، وكان طغتكين خائفاً أن يقصده بعد هذه الكسرة فينال من بلده كل ما أراد.
وهادن صاحب دمشق ملك بيت المقدس على أن يكون السواد وجبل عوف أثلاثاً، للتركمان الثلث وللفرنج والفلاحين الثلثان. وجاء ابن عمار إلى دمشق فأقطعه صاحبها الزبداني وأعمالها 503 وكان لابن عمار البلاء الحسن بل الأحسن في دفع عادية الصليبيين عن بلده، لم يترك باباً من أبواب الخلاص ليصدهم عن طرابلس إلا طرقه، حتى دفعهم بعقله وحسن إدارته عن تملكها عشر سنين. وكان
في طريق رجعتهم كالحسكة
في الحلق، وفي معاملة ملوك الأطراف نموذج الدهاء السياسي، وهو على صغر جرم مملكته يطاول ويحاول وينازل ويصاول ويلين ويقسو.
ونهض الفرنج 503 إلى رفنية وترددت بينهم وبين أمراء الشام مراسلات أفضت إلى تقرير الموادعة على أن يكون للفرنج ثلث مغل البقاع، ويسلم إليهم حصن المنيطرة وحصن عكار، وأن لا يتعرض لحصن مصياف والخوابي وحصن الأكراد وحصن الطوبان، وأن يحمل إليهم مال عنها وعن حصن الطوبان، وأقاموا على ذلك مدة ثم عادوا إلى الفساد، وخرج صاحب إنطاكية واستولى على طرطوس وقرر على شيزر عشرة آلاف دينار وتسلم حصن الأكراد وعاد إلى إنطاكية، ونزل بغدوين صاحب القدس وابن صنجيل صاحب طرابلس إلى بيروت، وسار إليهم جوسلين صاحب تل باشر لمعاونتهم واستنجادهم على الأمير مودود ابن التونتكين صاحب الموصل. وجاء الأسطول المصري مؤلفاً من 19 مركباً وفيه الرجال والميرة فدخلوا ثغر بيروت فقويت نفوس أهلها، فبعث بغدوين إلى الجنوية في ثغر السويدية فجاءوا في أربعين مركباً، وزحفوا براً وبحراً وفعلوا ما فعلوه في طرابلس من القتل والحرق والنهب وملكوا بيروت، ثم نزل بغدوين على صيدا فسلمها أهلها واستمهلوه مدة عينوها فأجابهم وأخذ منهم إتاوة. وراسل والي بعلبك كمشتكين الفرنج بالتماس المصافاة، وبعثهم على شن الغارات على الأطراف، فزحف صاحب