الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-
الحروب الصليبية
من سنة 490 - 500
الحملة الصليبية الأولى:
لم يخل الجو لملوك التركمان السلاجقة وأتباعهم في الشام زمناً طويلاً بعد مقتل مسلم بن قريش العربي، فكانت المدة بين مقتله وورود الأخبار بخروج عسكر الصليبيين إلى الأرض المقدسة ثلاث عشرة سنة كما مضى مثل هذا العدد من السنين بين استيلاء أول تركي واستيلاء أول إفرنجي. وكان القطر خلال ذلك في هرج ومرج، يتطاحن أمراؤه يمزق بعضهم بعضاً. تتعاوره أيدي ملكشاه وأخيه تتش بن آلب أرسلان ثم أولاده رضوان ودقاق والمماليك آق سنقر وبزان وطغتكين وأولاد أرتق ايلغازي وسقمان، والسلاجقة هنا يميلون إلى الخلافة العباسية، وإذا رأى بعضهم القوة لأصحاب الخلافة المصرية يغمضون الطرف عنهم، والفاطميون لا يملكون غير بعض الساحل، وأصبح القطر للتركمان، ويصعب على عرب الجزيرة إنجاده لبعد المسافات، وبغداد مهد العرب مشتغلة بنفسها.
ربما كان في استيلاء التركمان على الشام خير لم تعرف حكمته إلا بعد حين، وهو قيام دولة فتية لها جيش جرار اشتهر بالشجاعة حتى قيل: إن آلب أرسلان لما جاء المرة الأولى إلى شمالي الشام كان في أربعمائة ألف مقاتل، ومثل هذا الجيش لا تستطيع العراق والشام والجزيرة أن تجنده لدفع جيوش الفرنج الجرارة، هذا على فرض أن قواها موحدة، وروحها
في الدفاع واحد، فالشام إذاً اعتز بالتركمان. ثم إن السلجوقيين كانت بأيديهم الدروب أو المنافذ إلى آسيا الصغرى أو طريق الإفرنج من أوروبا إلى الشام على طريق البر، فتولي دولة التركمان القيادة العامة جمع بالطبيعة حولهم العرب من سكان هذه الديار وما إليها. إن حكم
التركمان الشديد عجل على ما يظهر في خروج الصليبيين إلى الشام. وإليك البيان:
أثخن بنو سلجوق أصحاب آسيا الصغرى في جيش صاحب قسطنطينية بإيعاز السلطان ملكشاه، وضايق الأمير برسق الروم، حتى قرر على القسطنطينية في كل سنة حمل ثلاثمائة ألف دينار للسلطان، وثلاثين ألف دينار له، جزية يؤديها، فخاف ملك القسطنطينية كثيراً على مملكته من هجوم المسلمين، فكتب يستنهض ملوك أوروبا أن يأتوا لمساعدته، ورضي بطريرك القسطنطينية بأن يقدم خضوعه لبابا رومية، إذا كانت ممالك أوروبا تجهز جيشاً لتخليص المملكة اليونانية مما يتهددها من هجوم التركمان والمسلمين، فكاتب ملوك أوروبا بذلك.
قال صالح بن يحيى في سبب استيلاء الصليبيين على ديار المسلمين: إنه لما قويت دولة بني سلجوق ضعفت حال الخلافة ببغداد، فلما مات ملكشاه السلجوقي سنة خمس وثمانين وأربعمائة وقع الخلف بين ولديه محمد وبركيارق، ودام الحرب بينهما نحو اثنتي عشرة سنة فاضطربت ممالك الشرق لذلك، ووافق هذا خلافة الآمر بأحكام الله بمصر وكان صغيراً، ولما كبر كان مستهتراً بالمملكة فخلا للصليبيين الجو.
وفي التاريخ العام أن حجاج النصارى كانوا يرمون إلى أخذ القبر المقدس من أيدي المسلمين، وإن كان هؤلاء يتركونهم وشأنهم يقومون بعبادتهم بسلام، ولكن كان يتراءى للنصارى أن سيدهم المسيح يرضى عن عملهم إذا أنقذوا قبره من غير المؤمنين بدينه. وروى بعض المؤرخين أن الفاطميين هم الذين فاوضوا الصليبيين وأرادوهم على غزو الشام لينجوا من السلجوقيين الذين كانت قويت دولتهم. وهذا مما يستبعد، وإن كان العقل لا يستبعد شيئاً في السياسة، ولكن ظهر أن الفاطميين حاولوا غير مرة رد الصليبيين عن السواحل وعن فلسطين.
واتفق أن بعض زوار الأوروبيين في الأرض المقدسة شاهدوا شيئاً من العنف في
بيت المقدس لم يكن لهم عهد به في أدوار الحكومات العربية القوية، وانقلبت سماحة العرب بجفاء من خلفوهم من التركمان، فعاد الزوار إلى ممالكهم يقصون ما لقوا من الشدة في الشام ويعظمون الأمر، وكان التعصب الديني يومئذ على أشد حالاته في الغرب، ومعظم حكوماته تدين بدين البابا وتخضع لسلطانه القاهر، ولم يكن ظهر إذ ذاك المذهب الإنجيلي، وكان مذهب الروم الأرثوذكس آخذاً بالضعف ليس له روابط الكنيسة البابوية ولا سلطتها على الأرواح والأشباح، فأوعز البابا إلى أمم النصرانية في الغرب ليهبوا كلهم إلى إنقاذ القبر المقدس من أيدي المسلمين. وقد ذكر أهل الأخبار من الأوروبيين في تعليل الحروب الصليبية، أن المسيحيين والمسلمين كانوا حتى القرن الحادي عشر للميلاد على صلات سلمية إلا قليلاً، يحمل العرب إلى مصر والقسطنطينية حاصلات مختلفة من بلاد الهند والشرق الأقصى، فتستبضعها من المدن الإيطالية باري وبيزة وجنوة وأمالفي والبندقية فيبيعونها في أوروبا. وكان العرب يسمحون للزوار أن يأتوا زرافات إلى فلسطين، فيشخص إليها جماهير عظيمة من عامة نصارى الغرب يسجدون أمام القبر المقدس. وتضاعفت الحماسة الدينية في ذاك الزمن وتداعى الحكم العربي القائم على التسامح في قارة آسيا، وقام مقامه المحاربون من الترك المعروفين بتعصبهم وبسالتهم. فاستولى السلجوقيون على أرمينية والشام ونيقية ودانت لهم في سنة 469هـ - 1076م القدس فاختلت العلائق الاقتصادية بين آسيا وأوروبا، وخافت المدن التجارية في البحر المتوسط أن يغلق الأتراك أمامها أسواق الشرق.
نعم نشأت الحملة الصليبية الأولى من الحماسة الدينية بصنع البابوية التي كانت إذ ذاك الحاكمة المتحكمة في كل شيء. ولقد تأثر البابا أوربانوس الثاني بشكاوي الزوار القادمين من فلسطين. وقلق للارتقاء المخوف الذي بلغه المسلمون في الأندلس، ولا سيما عقبى وقعة الزلاقة سنة 480هـ - 1087م وقد أثبت العرب
فيها كفاءتهم الحربية، كما أثبتوا من قبل ومن بعد كفاءتهم المدنية، واغتنم فرصة اجتماع المجمع الديني العظيم الذي التأم في مدينة
كلرمون وحضره ألوف من الفرسان، ليحرض المؤمنين من النصارى على حمل الصليب لفتح القبر المقدس. فوعد جمهور كبير من جميع طبقات الشعوب أن يرحلوا إلى فلسطين. واتخذوا شعار الحملة الصليبية صليباً من القماش الأحمر يجعل على الكتف الأيمن. وكثر المشتركون بهذه الحملة في إيطاليا وإنكلترا ولا سيما في فرنسا. ومنحهم البابا غفراناً عن جميع خطاياهم، وشجب كل من يمس أموالهم مدة سفرهم. ولم ينتظر العامة ريثما تجمع الجيوش المتحدة التي أبطأ تنظيمها، بل سافروا بدون سلاح، غير آخذين بالحزم في التأهب للرحلة. وكان هذا شأن عصابات البائسين الذين جمعهم بطرس الراهب وغوتيه المعدم سانزافور ومن لم يهلك من هذه العصابات في الطريق أهلكه الترك.
وفي أواخر سنة 490هـ - 1096م اجتمع في القسطنطينية أربعة جيوش متحالفة من اللورين والألمان بقيادة بودوين دي هينو، وفرنسيين من الشمال بقيادة القومس فرماندوا ودوق نورمنديا، وبرفنسيون بقيادة قومس طولوز، ونورميون من إيطاليا بزعامة بوهيموند دي ترانت وتنكري ولم يكن مع هذه الأمم ملك من ملوكهم، ولم يتفق رأي الغزاة على نصب ملك يرتضونه ويرجعون إليه. وكان الأمير الكسيس كومنين ملك الروم يرجو استخدام الجيوش الصليبية لفتح آسيا الصغرى، واسترجاعها من أيدي المسلمين، فصانعوه ولكن ما لبث البيزنطيون واللاتين أن تباغضوا واحتقر بعضهم بعضاً. وبعد سنتين ونصف مضت في المصائب الهائلة والجدال العنيف، استولى الصليبيون في طريقهم على نيقية لحساب الإمبراطور، وكسروا جيش سليمان في دوريليوم أسكيشهر واستولوا على الرُّها 1097 وعلى إنطاكية 1098 وبلغوا القدس واستولوا عليها 492هـ 1099م. وربما هلك في هذه
الحملة نصف مليون من