الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكلما اعتمد خلفاء بني العباس على الأعاجم، في ولاية عمالاتهم ومقاطعاتهم وقيادة جيوشهم، كانت الدولة العباسية تقترب من الانقراض، فسدت عصبية العرب كما قال ابن خلدون في بني العباس لعهد دولة المعتصم وابنه الواثق، لاستظهارهم بالموالي من العجم والترك والديلم والسلجوقية أي التركمان وغيرهم،
ثم تغلب الأولياء على النواحي، وتقلص ظل الدولة، فلم تكن تعدو أعمال بغداد حتى زحف إليها الديلم وملكوها وصار الخلائف في حكمهم. وقال المقريزي: اختص المعتصم الأتراك ووضع من العرب وأخرجهم من الديوان وأسقط أسماءهم ومنعهم العطاء، وجعل الأتراك أنصار دولته وأعلام دعوته، وكان من عظمت عنده منزلته قلده الأعمال الجليلة الخارجة عن الحضرة، فيستخلف على ذلك العمل الذي تقلده من يقوم بأمره ويحمل إليه ماله ويدعى له على منابره كما يدعى للخليفة، وقصد المعتصم ومن بعده من الخلفاء بذلك العمل مع الأتراك محاكاة ما فعله الرشيد بعبد الملك بن صالح والمأمون بطاهر بن الحسين، ففعل المعتصم مثل ذلك بالأتراك فقلد اشناس، وقلد الواثق إيتاخ، والمتوكل بغا ووصيف، وقلد المهتدي أماجور وغير من ذكرنا من أعمال الأقاليم، فضعفت الدولة العباسية بعد الاستفحال، وتغلب على الخليفة فيها الأولياء والقرابة والمصطنعون، وصار تحت حجرهم من حين قتل المتوكل فتغلب على النواحي كل متملك.
أحمد بن طولون وسيما الطويل وأحداث أخرى:
وكان من أهم من فتوا في عضد الخلافة أحمد بن طولون في مصر والشام، وكان في ظاهره يظاهر الخليفة، فهو أول متغلب ظفر حقيقة بالانفراد بالسلطة، فما وسع العباسيين إلا مصانعته بعد أن حاولوا محاربته فعجزوا، كانت ديار مصر قد أقطعها بايكباك من قواد الأتراك وكان مقيماً بالحضرة أي في عاصمة الملك فاستخلف بها من ينوب عنها، وكان طولون والد أحمد بن طولون أيضاً من الأتراك ومن أنسبائه، وقد نشأ بعد والده على طريقة مستقيمة، وسيرة حسنة، فالتمس بايكباك من يستخلفه بمصر فأشير
عليه بأحمد بن طولون فولاه المعتز بالله سنة 254 مصر. وفي سنة 264 توفي أماجور بدمشق واستخلف ابنه علي، فحرك ذلك أحمد بن طولون على فتح الشام فكتب إلى عليّ يخبره بأنه سائر إليه
وأمره بإقامة الأنزال والميرة لعساكره، فرد علي بن أماجور أحسن جواب، وخرج ابن طولون في المطوعة من مصر وفلسطين فبلغ الرملة فتلقاه محمد بن رافع خليفة أماجور عليها وأقام الدعوة بها فأقره عليها، ومضى إلى دمشق فتلقاه علي بن أماجور وأقام له بها الدعوة واحتوى على خزائن أماجور وأقام بها أحمد حتى استوثق له أمرها، ثم استخلف عليها احمد بن دوغباش، ومضى إلى حمص فلقيه عيسى الكرخي خليفة أماجور عليها فسلمها إليه، ثم بعث إلى سيما الطويل التركي وهو بإنطاكية يأمره بالدعاء له فلم يجبه سيما، فتحصن بإنطاكية في جيش من الأتراك وغيرهم، وامتنع، فحاصره أحمد ورمى حصنها بالمنجنيق، وطال حصاره لها فاشتد ذلك على أهلها فبعثوا إلى أحمد بن طولون فخبروه بالموضع الذي يمكنه أن يدخل إليها منه فقصده، وعاونه أهلها على سيما فدخلها في المحرم سنة خمس وستين ومائتين فقتل سيما واستباح أمواله ورجاله. وكان قبل نزول ابن طولون على إنطاكية 264 وقع بين سيما وبين أحمد المؤيد حروب كثيرة ببلاد جند قنسرين والعواصم، وكان سيما قد عم أذاه أهلها فعاث ابن طولون ساعة بإنطاكية ثم ارتحل يؤم الثغر الشامي، وبهذا استولى ابن طولون على الشام أجمع والثغور وامتد حكمه من مصر إلى الفرات، ومن مصر إلى المغرب، وكان ذلك مدة اشتغال لموفق أبي أحمد طلحة بن المتوكل بحرب الزنج.
كان ابن طولون أول من اقتطع جزءاً من المملكة الإسلامية عن الخلافة، وجمع بين ملك مصر والشام في الإسلام، فكان لمن بعده من المستبدين بالنواحي قدوةً ومثالاً. وأخذ يستكثر من مشترى المماليك والديالمة حتى بلغت عدتهم أربعة وعشرين ألف مملوك وأربعين ألفاً من الزنج، واستكثر من العرب حتى بلغت عدتهم سبعة آلاف. وذكر بعض المؤرخين أن ابن طولون كان أعد بأمر الخليفة جيشاً مؤلفاً من مائة ألف إنسان لقتال أحد الخوارج على الخلافة في الشام، وكانت
هذه الكتلة من
الجند سببا في قوته وسلطانه فأخذ ملك الروم يهاديه ويطلب رضاه لاتساع مملكته ومكانتها بين مملكة الشرق ومملكة الغرب الإسلاميتين، ولم يلبث أحمد بن طولون أن أخذ على الجند والشاكرية والموالي وسائر الناس البيعة لنفسه، على أن يعادوا من عاداه ويوالوا من والاه ويحاربوا من حاربه من الناس جميعاً. وانفرد بخراجها، وأدرك رجال السياسة في بغداد أن ابن طولون التركي لم يقضِ على دولة سيما الطويل التركي حباً بسواد عيون الخلفاء، بل ليستأثر بالأمر دونهم عندما تسنح الفرص.
وكان ابن طولون لعدله وحسن سياسته يفضله الناس على بعض الخلفاء، وفي الحق أنه كان على جانب من العدل، وحسن السيرة، وعلو الهمة وبعد النظر، والتفكر في عمران مملكته حتى زاد خراجها، وكان هديه في ذلك هدي المعتصم العباسي، وكان هذا يحب العمارة ويقول إن فيها أموراً محمودة أولها عمران الأرض التي يحيى بها العالم، وعليها يزكو الخراج، وتكثر الأموال، وتعيش البهائم، وترخص الأسعار، ويكثر الكسب، ويتسع المعاش، وكان يقول لوزيره محمد بن عبد الملك: إذا وجدت موضعاً متى أنفقت فيه عشرة دراهم جاءني بعد سنة أحد عشر درهماً فلا تؤامرني فيه. فاستعان ابن طولون بما تدر عليه مصر من الخراج على تقوية سلطانه وكثرت صدقاته، وما يجريه على القراء والفقهاء، حتى كان يرسل كل سنة مائة ألف دينار لفقراء بغداد عدا كساوي الصيف والشتاء وعدا ما يرسل به إلى الثغور وإلى الحرمين.
وجاء المعتضد إلى الخلافة وهو من أعقل خلفاء العباسيين فعرض عليه أبو الجيش خمارويه بن طولون أن يصهر إلى ولي عهد الخلافة ويزوجه ابنته قطر الندى، فقال الخليفة: بل أنا أتزوجها وقال: ما قصدت بهذا الزواج إلا إفقار بني طولون لأنهم يضطرون أن يجهزوها بجهاز لم تجهز به عروس من قبل، وكان
الأمر كما قال، فإنها جهزت بما استفرغ خزائن صاحب مصر والشام. قيل: إنه كان في جهازها ألف هاون ذهبا. . وكانت قطر الندى من أجمل بنات عصرها، وأكثرهن أدباً وفضيلة. وقد عقد لها على المعتضد سنة 281 وشرط المعتضد على أبيها أن يحمل كل سنة بعد
القيام بجميع وظائف مصر وأرزاق أجنادها مائتي ألف دينار. وفي رواية أن المعتضد جعل لخمارويه الصلاو والخراج والصلاة وجميع الأعمال على أن يحمل في كل عام مائتي ألف دينار عما مضى، وثلاثمائة ألف للمستقبل، وأن وزير المعتضد عبيد الله بن سليمان سعى مع أبي الجيش خمارويه، على أن يقتصر على حمص ودمشق والأردن وفلسطين ومصر وبرقة وما والاها، وينجلي عما كان في يده من ديار مضر وقنسرين والعواصم وسقي الفرات والثغور، فأجاب إلى ذلك وكتب سجلاً أشهد فيه على المعتضد وعلى خمارويه.
دام ملك أحمد بن طولون في مصر والشام اثنتي عشرة سنة، ومات لست عشرة سنة من ولايته مصر، ولولا سفكه الدماء لعدَّ بعدله وعقله وسخائه من أفراد العالم. ومن الأحداث في عهده ما وقع من العصبية بفلسطين 257 بين لخم وجذام فتحاربوا حرباً أخذت من الفريقين. وما وقع بين الأمير نعمان الذي حصن سور مدينة بيروت وقلعتها وبين المردة في لبنان من قتال على نهر بيروت دام أياماً حتى انهزموا، وقتل بعضهم وأسر بعضاً، فأرسل الرؤوس والأسرى إلى بغداد، فعرض الأمر على الخليفة وأكرموا رُسُله، وكتب المتوكل إليه كتاباً يمدح شجاعته ويحرضه على القتال، وأقره على ولايته هو وذريته، وأرسل له سيفاً ومنطقة وشاشاً أسود، وكتب إليه الموفق وغيره كتباً يمدحونه بها فاشتد أمره وعظم شأنه، وفي بعض الروايات أن القتال على نهر الكلب دام سبعة أيام، فانكسر عسكر المسلمين وقتل المقدم سمعان وأقيم مكانه خاله المقدم كسرى وهو الذي ذهب إلى
القسطنطينية ثم عاد إلى بلاده، وكانت خربت من تواتر الغارات عليها فعمرها وسميت باسمه كسروان. ومنها خروج رجل من ولد عبد الملك بن صالح الهاشمي، يقال له بكار بين سَلَميْة وحلب وحمص فدعا سنة 268 لأبي أحمد الموفق، فحاربه ابن عباس الكلابي فانهزم الكلابي، ووجه إليه لؤلؤ صاحب ابن طولون قائداً في عسكر كثيف، فرجع وليس معه كثير أحد.
ومنها مخالفة لؤلؤ غلام ابن طولون على مولاه سنة 269 وكان في يد لؤلؤ