الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلى ما وراء عبر الفرات. وفي هذه الحقبة خربت إنطاكية بفتح الفرس لها وقتلهم أهلها. وكانت مدة ثمانية قرون من قبل مهد المدنية الشرقية.
حكم الرومان الشام سبعمائة سنة كانت فيه ميدانا للنزاع والشقاق والاستبداد والأنانية وقتل الأنفس. وحكم اليونان الشام 269 سنة سادت في عهدهم الحروب الطاحنة والمظالم وظهرت المطامع اليونانية بأعظم مظاهرها وكان حكمهم من أشد الويلات وأشأم النكبات على الشاميين في التاريخ العام: نرى العوامل الرومانية والبيزنطية قد أثرت في عرب الشام أخلاف العمالقة القدماء، وكانوا يتقوون كل مدة بمن يهاجر إليهم من اليمن والحجاز، فكانت المملكة الرومانية محتاجة لمعاونتهم سواء كان ذلك لحرب أبناء جنسهم النازلين على ضفاف الفرات، أو لإملاء فراغ الشام وكان يتهدده البارثيون ثم الفرس. ومعلوم كيف قاومت أرملة
أذينة واسمها زينب أو زنوبيا القوى الرومانية في الشرق. ولما انحلت مملكة تدمر عهدت الإمبراطورية الرومانية إلى أسر أخرى بالحكم في تلك الأرجاء وثبتت الإمارة في الغساسنة. ودامت فيهم ثلاثة قرون. ودان رؤساء الغسانيين بالنصرانية فاشتركوا في حرب فارس من القرن الرابع إلى القرن السادس، وكان أحدهم الحارث الخامس من قوام مقام القائد بليزير في حملة آسيا.
بنو غسان والعرب في الشام:
اختلفت روايات مؤرخي العرب في بني غسان وكانوا أقيالا وعمالا لملوك البيزنطيين في هذه الديار. وقد عهد إليهم الدفاع عن تخوم الشام من اعتداء الفرس ورد غارات اللخميين أصحاب الحيرة. وكانت سلطة الغسانيين كما قال شلفير تتناول الولاية العربية أو معظم إقليم حوران والبلقاء وفينيقية ولبنان وفلسطين. وقال حمزة الأصفهاني وأبو الفداء: إن عدد ملوك الغسانيين في الشام أحد وثلاثون ملكا على حين لم يبلغ عددهم في أكثر من عشرة في رواية ابن قتيبة والمسعودي. ويقول الأصفهاني إن الحارث بن جبلة هو من أشهر ملوكهم لم يطل حكمه أكثر من عشر سنين، ويقول مؤرخو الروم: إنه حكم نحو أربعين سنة وهو المحقق. وكان
للغسانيين تمدن فاقوا به اللخميين لاختلاطهم بالروم البيزنطيين. ولم تكن لهم عاصمة معينة بل كانوا ينزلون الجولان والسويداء والجابية وجلق. وكان الغسانيون يؤدون الجزية عندما هاجروا من اليمن إلى الشام إلى رؤساء الأسباط من الرومان، ثم امتنعوا من أدائها عندما نالوا من الضجاعم واستولوا على الأمر دونهم، فاضطر الروم أن يقروا الغسانيين على أمرهم لحاجتهم إليهم في رد عادية اللخميين سكان الحيرة. وربما كان ذلك في أواخر القرن الخامس للميلاد.
وفي سنة 529 عهد الإمبراطور يوستنيانوس إلى الحارث بن جبلة - وكان الحرث يدين بالنصرانية على مذهب القائلين بطبيعة واحدة في المسيح متحمسا لهذا
المعتقد ذابا عنه - بزعامة جميع القبائل العربية في الشام ونال لقب رئيس الأسباط وبطريق. وكان هذا اللقب في مملكة البيزنطيين إذ ذاك أرقى لقب بعد الإمبراطور. وفي تلك السنة اشترك مع البيزنطيين في قمع ثورة السامريين وانقضى معظم عهده في حروب المنذر الثالث ملك الحيرة، وفي سنة 528 تغلب على المنذر، وبعد نحو عشر سنين أصبحت المنافسة بينه وبين المناذرة على أتمها بسبب أراضي التخوم الواقعة بين دمشق وتدمر إلى الرصافة وكان كل واحد منهما يدعيها. قال هوار: إن الحارث الغساني كسر المنذر ملك الحيرة سنة 528 وإنه لما كان والي فلسطين اشترك في إعادة السامريين إلى الطاعة فوهبه يوستنيانوس لقب الملك ليقضي على العرب الذين كانوا إقطاعا لملوك الساسانيين من الفرس، وكان كثيرا ما يجتاز دجلة ويخرب المعمور ويحمي قبائل العرب النازلة في برية تدمر من اعتداء المناذرة. وكانوا يحاولون أن يأخذوا منهم الجزية وحاربهم على الطريق الحربي الذي كان ممتدا من دمشق إلى تدمر.
حارب الحارث مع الرومان في العراق، ثم حارب المنذر الحارث وأسر ابنه وقدمه ضحية للعُزَّى. وفي سنة 554 ظفر الحارث بالمنذر في جهات قنسرين فهلك المنذر في المعركة. وخلف الحارث ابنه المنذر وتغلب على العرب الفرس الذين هاجموا منازل الغسانيين وظفر بملكهم قابوس في عين أباغ على الأغلب. وحاول ملك الروم قتل المنذر فرفع لواء العصيان ثلاث
سنين، ولما عصى العرب والفرس على بيزنطية اضطرت هذه أن تعقد الصلح مع المنذر، ثم حمل هذا إلى القسطنطينية أسيرا وانقطعت الأموال التي كانت تعطيها له مملكة الروم فثار أولاده الأربعة بقيادة النعمان بكر أولاد الحارث وهاجموا أراضي الروم وخربوا فيها، فأخذ النعمان أسيرا أيضا. ولكن الفوضى انتشرت في بادية الشام وأخذت كل قبيلة تختار لها زعيما خاصا وهواهم مع الفرس. ولما سقطت دمشق والقدس في يد
ملك الفرس كسرى ابرويز 613 - 614 انهارت مملكة الغسانيين. وقيل: إن جبلة بن الأيهم كان آخر ملوكهم. هذا ما يعرف عن الغسانيين في الجملة نقلا عمن حقق أمرهم من مؤلفي الغرب.
ولما حاصر كسرى مدينة القسطنطينية خلت أرض الشام من جند الروم. وكان في مدينة صور أربعة آلاف يهودي فكتبوا إلى إخوانهم ببيت المقدس وقبرس ودمشق وجبل الجليل وطبرية أن يجتمعوا كلهم في عيد فصح النصارى ليقتلوهم بصور، ويصعدوا إلى بيت المقدس فيقتلوا كل نصراني بها ويغلبوا على المدينة، فبلغ الخبر بطريق صور فأخذ اليهود وقيدهم وسجنهم وأغلق أبواب صور وصير عليها المنجنيقات والعرادات، فلما كانت ليلة الفصح اجتمع اليهود من كل بلد إلى صور وكانوا زهاء عشرين ألف رجل، فحاربوهم حربا شديدة من فوق الحصون، فهدم اليهود كل كنيسة كانت خارج صور فكانوا كلما هدموا كنيسة أخرج أهل صور من اليهود المقيدين عندهم مائة رجل وأوقفوهم على الحصن وضربوا أعناقهم ورموا برؤوسهم إلى خارج، فضربوا أعناق ألفي رجل ثم انهزم اليهود.
كنا نحب التوسع في سرد وقائع تلك الدول لولا الخوف من نقل ما لا يقره المحققون. والتعرض للمجهولات يؤدي إلى السقوط في غلطات ومتناقضات. ولعل بحث علماء العاديات يوصلهم إلى اكتشاف ما كان مجهولاً من تاريخ هذه الديار التي طالما شرقت بدماء الغالبين والمغلوبين وسارت على أديمها دول كان الناس في ظلها ظالمين ومظلومين، وقتل أهلها بالألوف والمئين في سبيل شهوات الفاتحين.