المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌قواد الأمويين وأسباب انقراضهم: - خطط الشام - جـ ١

[محمد كرد علي]

فهرس الكتاب

- ‌صدر الخطط

- ‌تقويم الشام

- ‌تعريف الشام للأقدمين:

- ‌معنى الشام وجمعه:

- ‌حد الشام قديما:

- ‌حقيقة حد الشام:

- ‌حدوده مع مصر:

- ‌مساحة الشام وصورته:

- ‌مدخل الفاتحين إلى الشام:

- ‌مدن الشام وقراه:

- ‌طبيعة الشام:

- ‌خيرات الشام:

- ‌هواء الشام وماؤه:

- ‌خصائص الشام:

- ‌سكان الشام

- ‌الأمو واللودانو:

- ‌الآراميون والعناصر الأخرى:

- ‌العناصر القديمة والعرب:

- ‌دول العرب الأقدمين:

- ‌سليح وغسان والضجاعم:

- ‌التنوخيون:

- ‌المهاجرات والايطوريون:

- ‌سليح وعاملة وقضاعة:

- ‌لخم، جذام، عاملة، ذبيان، كلب:

- ‌جهينة، القين، بهراء، تنوخ:

- ‌إياد وطييء وكندة وحمير وعذرة وزبيد وهمدان

- ‌ويحصب وقيس:

- ‌الفرس والزط:

- ‌الأخلاط والسامرة وجذام وعذرة ونهد وجرم والأزد:

- ‌قيس ويمن وإحصاء السكان:

- ‌المردة والجراجمة والأرمن والروم والموارنة:

- ‌التركمان والأتراك والأكراد والشركس وغيرهم:

- ‌المهاجرون والمحدثون اليهود والأرمن:

- ‌عوامل النمو:

- ‌العرب في الشام والاختلاط:

- ‌لغات الشام

- ‌اللغة الآرامية والسريانيية والعبرانية والفينيقية

- ‌والعربية:

- ‌البابلية والكنعانية والكلدانية:

- ‌الحثية والآرية واليونانية واللاتينية:

- ‌تنازع السريانية مع العربية:

- ‌رأي رنان:

- ‌آراء أخرى:

- ‌انتشار العربية:

- ‌العربية لغة كاملة وفصاحة الشام:

- ‌كيف انتشرت العربية:

- ‌اللغة الصفوية:

- ‌الصليبيون ولغاتهم والعربية ولبنان:

- ‌اللغة التركية:

- ‌السواد الأعظم والعربية:

- ‌رسوخ اللغة:

- ‌الشاميون أمة واحدة لسانهم العربية فقط:

- ‌تاريخ الشام قبل الإسلام

- ‌أول شعب غزا الشام والحثيون والكنعانيون:

- ‌تعدد الحكام والحكومات:

- ‌الفراعنة والآشوريون:

- ‌الفينيقيون واستقلالهم التجاري:

- ‌حروب الفرس والإسكندر:

- ‌دولة السلاقسة وملك الأرمن:

- ‌دولة الرومان:

- ‌مملكة يهودا وانقراض اليهود:

- ‌الإيطوريون والنبطيون:

- ‌دولة تدمر:

- ‌زينب أو زنوبيا أو الزباء:

- ‌آخر عهد الرومانيين وسياستهم:

- ‌بنو غسان والعرب في الشام:

- ‌الشام في الإسلام

- ‌من سنة 5 إلى سنة 18 للهجرة

- ‌حالة الشام قبيل الفتح:

- ‌صلح دومة الجندل وغزوة ذات السلاس ومؤتة

- ‌والجرباء وأذرح ومقنا وجيش أسامة:

- ‌جيوش العرب وجيوش الروم نصيحة أبي بكر

- ‌الصديق لقواده:

- ‌مبدأ الحرب بين العرب والروم:

- ‌وقعة اليرموك:

- ‌فتح فِحل وأجْنَادين وَبيْسان:

- ‌الأردن وفلسطين وجبل اللكام:

- ‌فتح دمشق والأحكام العسكرية:

- ‌فتح حمص وشيزر والمعرة وبعلبك وصيدا وبيروت

- ‌وجبيل وعرقة:

- ‌قنسرين وحلب وإنطاكية وكور الشمال:

- ‌وقعة مرج الروم وقيسارية:

- ‌سر نجاح المسلمين وقتال نسائهم يوم اليرموك:

- ‌وداع صاحب الروم وآخر سهم في كنانتهم:

- ‌منزلة أبي عبيدة وبعد نظر عمر:

- ‌الدولة الأموية

- ‌من سنة 18 إلى 177

- ‌إمارة معاوية بن أبي سفيان:

- ‌مقتل عثمان بن عفان:

- ‌آمال علي بن أبي طالب في الخلافة:

- ‌ عثمان

- ‌اتفاق معاوية وعمرو بن العاص على المطالبة بدم

- ‌حرب صِفّين:

- ‌صلح الحسن مع معاوية:

- ‌خلافة يزيد ورأي ابن خلدون:

- ‌غزوات معاوية وأعماله ووصيته:

- ‌خلافة يزيد ومقتل الحسين ووقعة الحرة:

- ‌عهد معاوية الصغير:

- ‌قيام ابن الزبير وخلافة مروان بن الحكم ووقعة مرج

- ‌راهط:

- ‌خلافة عبد الملك بن مروان:

- ‌الجراجمة والمردة في جبل لبنان:

- ‌عهد الوليد:

- ‌سليمان بن عبد الملك:

- ‌عهد عمر بن عبد العزيز وسيرته:

- ‌يزيد بن عبد الملك وهشام والوليد بن يزيد:

- ‌يزيد بن الوليد:

- ‌مروان بن محمد:

- ‌إدبار الأمويين:

- ‌دولة بني مروان وحسناتها:

- ‌قواد الأمويين وأسباب انقراضهم:

- ‌دور الدولة العباسية

- ‌إلى ظهور الدولة الطولونية من سنة 132 - 254ه

- ‌مبدأ الدعوة العباسية:

- ‌فتح العباسيين عاصمة الأمويين:

- ‌فتح فلسطين وإهلاك رجال الأمويين:

- ‌انتقاض الجنوب والشمال والاعتقاد بالسفياني:

- ‌انتقاض العباسيين على أنفسهم:

- ‌نزع اللبنانيين والفلسطينيين طاعة العباسيين:

- ‌قيس ويمن والفتن الداخلية والخارجية:

- ‌الحمصيون وفتنة السفياني:

- ‌فتنة نصر بن شبث:

- ‌المأمون وحكمه على قيس ويمن:

- ‌سبب تباغض النزارية واليمانية وحكمة حكيم:

- ‌قيس ويمن وفتنة المبرقع:

- ‌فتن أهلية وعصبيات حمصية ولبنانية ودمشقية

- ‌وفلسطينية ومعرية:

- ‌الحكم على الدور الأول للعباسيين:

- ‌ظهور الدولة الطولونية وانقراضها

- ‌من سنة 254 إلى 292

- ‌بداية الطولونيين:

- ‌أحمد بن طولون وسيما الطويل وأحداث أخرى:

- ‌عهد أبي الجيش خمارويه وجيشه:

- ‌عهد جيش بن خمارويه وظهور القرامطة الطولونية:

- ‌دور الدولة العباسية الأوسط

- ‌الإخشيدية والحمدانية والفاطمية 292 - 364

- ‌القرامطة والبوادي والخوارج:

- ‌الدولة الإخشيدية:

- ‌الدولة الحمدانية:

- ‌مغازي سيف الدولة:

- ‌محاسن سيف الدولة ومقابحه:

- ‌ابتداء الدولة الفاطمية:

- ‌دور الفاطميين

- ‌من سنة 364 - 394

- ‌الدول الثلاث وغزوات الروم:

- ‌تجاذب السلطة بين العباسيين والفاطميين:

- ‌سوء حالة دمشق واضطراب الأحكام المصرية:

- ‌خوارج على دولة الجنوب ودولة الشمال:

- ‌حملة الفاطميين على الحمدانيين واستنجاد هؤلاء

- ‌بالروم:

- ‌الخوارج على الفاطميين واستنجاد أمراء المسلمين

- ‌بالروم:

- ‌تتمة دور الفاطميين من سنة 394 - 463

- ‌خوارج ومذاهب جديدة وفتن:

- ‌تقسيم الأقاليم بين القبائل ودولة بني مرداس:

- ‌آخرة الفاطميين:

- ‌دور السلجوقيين

- ‌من سنة 463 - 490

- ‌أصل السلجوقيين والتركمان والفتح السلجوقي:

- ‌فتح دمشق:

- ‌أول جمهورية عربية ومقتل آخر أمير عربي:

- ‌تنازع السلجوقيين والفاطميين وانقسام السلجوقيين:

- ‌الدولة الأتابكية وطغتكين وبنو أرتق:

- ‌الحروب الصليبية

- ‌من سنة 490 - 500

- ‌الحملة الصليبية الأولى:

- ‌الصليبيون في شمالي الشام:

- ‌فتح الصليبيين القدس والساحل:

- ‌تخاذل أمراء المسلمين وبلاد طغتكين وابن عمار:

- ‌حرب طغتكين للصليبيين:

- ‌حروب الصليبيين ودولة طغتكين

- ‌وبقايا السلجوقيين من سنة 500 إلى 522

- ‌هدنة طغتكين للصليبيين وشدته عليهم:

- ‌اجتماع كلمة أمراء المسلمين وإنجاد بغداد الشام:

- ‌غارات المسلمين وغارات الصليبيين:

- ‌بقية الغارات:

- ‌مزايا حكم طغتكين:

- ‌مؤاخذة الفاطميين وتوقيف سير الفرنج:

الفصل: ‌قواد الأمويين وأسباب انقراضهم:

المسلمين غزوا في أيام معاوية فأسر جماعة منهم، فأوقفوا بين يدي الملك فتكلم بعض أسارى المسلمين، فدنا منه بعض البطارقة ممن كان واقفاً بين يدي الملك فلطم حرَّ وجهه فآلمه، وكان رجلاً من قريش فصاح: وا إسلاماه، أين أنت عنا يا معاوية إذ أهملتنا، وضيعت ثغورنا، وحكمت العدو في ديارنا ودمائنا وأعراضنا. فنمي الخبر إلى معاوية وغضب وأقام الفداء بين المسلمين والروم وفادى بذلك الرجل، فلما صار إلى دار الإسلام دعاه فبرَّه وأحسن إليه. وبعث إلى رجل من ساحل دمشق من مدينة صور وكان به عارفاً كثير الغزوات في البحر، صُمُلّ من الرجال مرطان بالرومية، وأعطاه كل ما طلب، وهيأ له مركباً وأوعز إليه أن يتظاهر بأنه يتاجر مع روم القسطنطينية، وما زال على ذلك سنين حتى أسر الصوريّ البطريق الرومي الذي كان لطم القرشي وأتى به إلى معاوية في قصة طويلة. فقال معاوية: عليَّ بالرجل

القرشي فأتى به وقد حضر خواص المسلمين وقال له: قم واقتص من هذا البطريق الذي لطم وجهك على بساط معظم الروم فإنا لم نضيعك ولا أبحنا دمك وعرضك، فقام القرشي ودنا من البطريق فقال له معاوية: انظر لا تتعدَّ ما جرى عليك منه. وانقلب القرشي على يدي معاوية وأطرافه يقبلها وقال: ما أضاعك من سوّدك، ولا خاب فيك أمل من أمَّلك، أنت ملك لا تستضام، تمنع حماك وتصون رعيتك. وأحسن معاوية إلى البطريق وحمل معه هدايا إلى الملك وقال له: ارجع إلى ملكك وقل له: تركت ملك العرب يقيم الحدود على بساطك، ويقتص لرعيته في دار مملكتك وسلطانك، فقال ملك الروم: هذا أمكر الملوك وأدهى العرب. ولهذا قدمته العرب عليها فساس أمورها والله لو همَّ بأخذي لتمت له الحيلة عليّ.

‌قواد الأمويين وأسباب انقراضهم:

نشأ للأمويين رجال عظام في الحرب والسياسة والحكم، مثل زياد بن

ص: 133

أبي سفيان وعتبة بن أبي سفيان وموسى بن نصير وطارق بن زياد وقتيبة بن مسلم وعقبة بن نافع الفهري وبُسْر بن أبي أرطأة وشرحبيل بن السمط وحبيب بن مسلمة ومسلمة بن عبد الملك وأسد بن عبد الله وعبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي ومالك بن عبد الله الذي كان أميراً على الجيوش في غزوة الروم أربعين سنة أيام معاوية وقبلها وأيام يزيد وأيام عبد الملك بن مروان ولما مات كسر على قبره أربعون لواء لكل سنة غزاها لواء. وروح بن زنباع وزفر بن الحارث الكلابي والجراح بن عبد الله الحكمي وحُبَيْش بن دلجة القيني وحسان بن مالك بن بحدل الكلبي وميمون بن مهران وخالد ابن عبد الله بن خالد بن أسيد وعمر بن عبيد الله بن معمر وخالد بن عبد الله القسري وعثمان بن الوليد ويزيد بن المهلب والمهلب بن أبي صفرة وعمرو بن هبيرة الفزاري وعبد الله بن أبي بكرة والقاسم بن محمد الثقفي والعباس بن الوليد ومروان بن الوليد وخالد بن كيسان وعبد الله ابن عقبة

بن نافع ومعاوية بن هشام وعبد الرحمن بن معاوية بن خُدَيج وإسحاق بن مسلم العُقَيلي ونصر بن سيار وعبد الله بن سعد بن أبي سرح ومعاوية بن حُدَيج وعبد الرحمن بن حبيب وزهير بن قيس البهلوي وحسان بن النعمان وميسرة بن مسروق العبسي وعبد الله بن قيس ومالك ابن هبيرة السكوني وفضالة بن عبيد الأنصاري وسفيان بن عوف وعبد الله ابنمسعدة الفزاري وجنادة بن أُمية الأزدي ومحمد بن مالك وعمرو بن مرة الجهني وعلقمة بن يزيد الأنصاري والضحاك بن قيس ويزيد بن شجرة وعياض بن الحارث والمخارق بن الحارث الزُّبَيْدي وزامل بن عمر العذري وأبو الأعور السلمي عمرو بن سفيان وسبيع بن يزيد الأنصاري ويزيد بن الحر العبسي وعلقمة بن حكيم الكناني ويوسف بن عمر ومحمد بن القاسم الثقفي ومالك بن عبد الله الخثعمي وحمزة بن مالك الهمداني وغيرهم.

دوَّخ هؤلاء القواد الأقطار على بعد المواصلات مع مركز الخلافة وفتحوا الفتوح العظام بهمة لم تعرف الملل، وأدخلوا فيها نظامهم وعاداتهم وأداروها أي إدارة، فامتد ملك الأمويين كما قال أحد كتاب الإفرنج من أقاصي جبال هملايا في الشرق إلى أداني جبال الألب في الغرب. ثم انحلت هذه

ص: 134

المملكة المساوية تقريباً لمملكة قياصرة رومية على وجه غريب من السرعة.

وكان مروان بن محمد الجعدي الذي لقب بالحمار لصبره على الحرب من أمثل خلفائهم وكان سديد الرأي ميمون النقيبة حازماً، فلما ظهرت المسوِّدة ولقيهم كان ما يُدبّر أمراً إلا كان فيه خلل. فما السر يا ترى في انحلال هذا الملك الضخم والقوة تدعمه وفيه أفراد أفذاذ مثلوا النبوغ العربي أجمل تمثيل لا تستطيع دولة من دول الحضارة الحديثة أن تقوم بأحسن منه، مع اعتبار الفرق بين عصر الدولة الأموية وهذا العصر؟. نظن السر في ذلك أن بني العباس كانوا قد أجمعوا أمرهم وهيئوا أسباب قيام دولتهم على صورة متينة جداً، وكان منشؤها من خراسان

والعراق وهما القطران اللذان أفحش القتل فيهما الحجاج بن يوسف الثقفي حتى قتل من أهل العراق مائة وعشرين ألفاً مدة حكمه، واشمأز الناس من بني أمية بسببه وسبب من يستسهلون من قوادهم إهراق الدماء فكثرت الأحقاد والحفائظ ونغلت نيات الأمة، واختلف الأمويون بينهم وأصبحوا في هرج يقتل بعضهم بعضا.

وقد نسب الخضري أسباب سقوط دولة بني أمية إلى استيلائهم على الخلافة بالقهر والغلبة لا عن رضا ومشورة، فإن معاوية بن أبي سفيان استعان بأهل الشام الذين كانوا شيعته، على من خالفه من أهل العراق والحجاز حتى تم له الأمر ورضي الناس عنه، والقلوب منطوية على ما فيها من كراهية ولايته، وكان في الأمة فريقان لا يرضيان عنه: الخوارج وشيعة بني هاشم، واستعمل ضروب السياسة مع رؤساء العشائر وكبار الشيعة فألان شكيمتهم وأسكن ثورتهم. ومن رأيه أن معاوية زل زلة كبرى قللت من قيمة عمله وهي اهتمامه بالغض من علي بن أبي طالب على منابر الأمصار هو وأمراؤه حتى تأججت النيران في صدور شيعته وأن عدة عيوب كانت سبباً في القضاء عليهم. الأول: مسألة ولاية العهد، فإن بني مروان اعتادوا أن يولوا عهدهم اثنين يلي أحدهما الآخر، فانشق بيتهم على نفسه. الثاني: إحياء العصبية الجاهلية التي جاء الإسلام مشدداً النعيَّ عليها. الثالث: تحكيم بعض الخلفاء من بني أمية أهواءهم في أمر قوادهم

ص: 135

وذوي الأثر الصالح من شجعان دولتهم، ففسدت قلوب الناس، حتى كانوا ينتظرون من يجمع كلمتهم على الانتقام من بني أمية.

وعلل رفيق العظم سقوط الدولة الأموية بارتكاب الأمويين أغلاطا منها المبالغة باضطهاد العلويين، وتسميم أبي هاشم بأمر سليمان بن عبد الملك، ومنها أنهم فقدوا أعاظم الرجال الذين كانوا يخدمون بإخلاص، فأخرجوا خالد بن عبد الله

وقتيبة بن مسلم ويزيد بن المهلب وموسى بن نصير ففقدت الدولة بفقدهم وفقد أمثالهم جانبا لا يقدر من قيمتها وانحطت هيبتها، ومنها تباعد أطراف مملكتهم حتى تعذر ضبطها مع صعوبة المواصلات، وأن الأمويين حافظوا على خشونتهم إلى خلافة هشام، وأخذ الخلفاء بعد الوليد بن يزيد يميلون إلى الترف والراحة، يضاف إلى ذلك انقسام العرب في خراسان إلى مضرية ويمانية وتنازع رؤسائهم. قال: إن ما يقوله بعض المؤرخين من ظلم الدولة الأموية ويعزى إليه دمارها فمبالغ فيه وما كان منه صحيحا فهو في نظر المؤرخ ثانوي. والحقيقة أن الخلفاء الأمويين كانوا أشداء على خصومهم دون سائر الناس، وكانوا في منزلة من العناية بالرعية والاهتمام بالعدل بين الناس فوق منزلة كثير من الحكومات المطلقة.

سئل بعض شيوخ بني أمية عقيب زوال الملك عنهم، ما كان سبب زوال ملككم؟ فقال: جار عمالنا على رعيتنا فتمنوا الراحة منا، وتحومل على أهل خراجنا فجلوا عنا، وخربت ضياعنا فخربت بيوت أموالنا، ووثقنا بوزرائنا فآثروا مرافقتهم على منافعنا، وأمضوا أمورا دوننا أخفوا علمها عنا، وتأخر عطاء جندنا فزالت طاعتهم لنا، واستدعاهم عدونا فظاهروه على حربنا، وطلبنا أعداؤنا فعجزنا عنهم لقلة أنصارنا، وكان استتار الأخبار عنا من أوكد أسباب زوال ملكنا.

قد يغتر بعض من لم يساعدهم الوقت أن يمحصوا الحقائق ليصلوا إلى لباب التاريخ الصحيح، فيأخذون روايات بعض المؤرخين الذين كتبوا بعوامل المذاهب السياسية أو نقلوا الأخبار على علاتها كما رأوها في مصادر ضعيفة وأخذوها قضية مسلمة، من ذلك الطعن في أخلاق يزيد بن معاوية، فإن الروايات المنقولة في هذا الشأن لو نقدت نقدا صحيحا لرأينا أنها مدخولة

ص: 136

على الأكثر أملتها أهواء الخصماء، ولطالما رأينا الناس إذا أرادوا النيل من أحد العظماء ينخدعون بأقوال

يلفقها عليهم خصومهم، وربما نسبوا لبعضهم الفسق والفجور وأكل الأموال بالباطل، وهم من أكمل الناس أخلاقا وفضلا. إذا سلمنا أن معاوية أخطأ بحسب ما يقوله الفريق المعتدل بتوسيده الخلافة إلى يزيد وفي العرب يومئذ من هم أفضل منه فإنه كان يعتقد أن ابنه يصلح للخلافة وأن قوة الأمة مجتمعة على آل أبي سفيان. والدليل أنه كان إذا عرض لمعاوية مشكلة من المشكلات بعث إلى يزيد يستعين به على استيضاح شبهاتها واستسهال معضلاتها، فلم يكن يزيد إذاً بالصورة التي صورها بها أعداؤه. خطب معاوية فقال: اللهم إن كنت إنما عهدت ليزيد لما رأيت من فضله فبلغه ما أملت وأعنه، وإن كنت إنما حملني حب الوالد لوده وأنه ليس لما صنعت به أهلاً فاقبضه قبل أن يبلغ ذلك.

قال الطبري: إن يزيد كان صاحب رَسلة أي كسل وتهاون، وإنه كف عن كثير مما كان يصنع أي لما وسدت إليه الخلافة. وقال غيره: إن يزيد كان يحب الصيد ويربي القرود والكلاب مما عدوه عليه. وهذا لا يقدح في العدالة، بل ربما كان مما يعين على الجهاد لترويضه الجسم والذهن، أما الفسق والفجور فلم يثبت من طريق مؤتمن، فإذا فرضنا أن معاوية أخطأ في إعطائه ولاية العهد لابنه بطرق استعمل فيها بعض الشدة، وأن يزيد ارتكب عماله من قتل آل بيت الرسول أمراً نكراً فلا يجوز من ذلك الطعن بشخصيات كبيرة، والعقل يستبعد التصديق بما قاله خصوم بني أمية عنهم، ولو كان يزيد شريباً خميراً كما يزعمون أو يرتكب أموراً لا تسمح بها الشريعة ولا تليق بشأن الملك، والدين، وأصحاب أصحاب رسول الله أحياء، وأعداؤهم من العلويين بالمرصاد، لقتلته أسرته نفسها، كما فعلت بالوليد بن يزيد بعد ستين سنة من مهلك يزيد بن معاوية. والغالب أن يزيد أدخل في العادات كأبيه أشياء أنكرها بعضهم، ووجدوا السبيل إلى الطعن فيه، وكان تعلمها من عشرته بعض أبناء الروم في الشام.

ص: 137

سُئل عبد الله بن عباس عن معاوية فقال: سما بشيء أسرَّه واستظهر عليه بشيء أعلنه، فحاول ما أسر بما أعلن فناله، وكان حلمه قاهراً لغضبه، وجوده غالباً على منعه، يصل ولا يقطع، ويجمع ولا يفرق، فاستقام له أمره وجرى إلى مدته. قيل: فأخبرنا عن ابنه قال: كان في خير سبيله، وكان أبوه قد أحكمه وأمره ونهاه فتعلق بذلك وسلك طريقاً مذللاً له. وسئل علي رض عن بني أمية فقال: أشدنا حُجَزاً صبراً وأطلبنا للأمر لا ينال فينالونه.

الخلاف بين الأمويين وخصومهم من العلويين ما زال يقوى ويضعف، وما هو إلا خلاف سياسي نشأ من النزاع على الملك، وليس من الدين في شيء. فليس إذاً من العقل أن تتسلسل هذه الأحقاد في الأمة وتتفرق شيعاً، وتظهر بمظهر النصب أو التشيع، ويزكي فريق من يحبهم حتى يخرجهم عن طور البشر، ويطعن في آخرين حتى يسلخ عنهم كل ما يمتازون به من الصفات الكاملة ويخرجوهم عن الملة. أهل الإسلام يحبون الخليفة الرابع، ويعرفون له صفات غرّاً يفاخرون بها على غابر الدهر، ولكن من تحبه لا يجوز لك أن تغضي عن هفواته، أو أن تذكر لخصمه مزاياه.

أريد أن أقول: إن مسألة الخلافة بين علي ومعاوية قد مضى عليها الزمن، وكان لكل منهما اجتهاده، وهي من المسائل المؤلمة في تاريخنا ينبغي لنا أن ندرسها بإنصاف لا أن نقول مع القائلين ونسكت عما شجر بينهم، ولا أن نبالغ فيما وقع ونتعصب لفريق على آخر، فالأمة يجب عليها أن تعرف مواطن الضعف والقوة من جسمها، وتكشف حقائق ماضيها لأنها ابنة حوادث ماضية، والواجب في البحث أن لا يثير في النفوس أحقاداً، ولا ينشيء في أجزاء الأمة فرقة متلفة، ولا يُرتكب معه سوء أدب مع عظماء أسسوا مجد الأمة على أمتن الدعائم، ووضعوا بناءها على القومية العربية، وكانوا مثال التساهل مع أبناء الأديان الأخرى.

أهل الإسلام في الشرق جديرون بأن يكونوا كأهل النصرانية في الغرب، تحاربوا حروبا دينية سالت فيها الدماء أنهاراً بين البابوي والبرتستانتي، ثم

ص: 138

جاءت القرون الحديثة فقضت على التحزبات، وصاروا في المسائل الوطنية والقومية متلازمين تلازم اللام للألف، وإذا ذكروا ما ارتكبه أجدادهم في هذا الشأن خجلوا ووجموا. الأمويون كالعلويين بشر يخطئون ويصيبون، فلا يليق بنا أن نغض من الأمويين لأنهم لم يتنازلوا عن ملكهم للعلويين، ولا ننكر أن إصابتهم كانت كثيرة جداً في جنب خطيئاتهم، وأهل الشام قبل كل شعب عربي يجب عليهم أن يفاخروا بتاريخ الأمويين ويمعنوا النظر فيه طويلاً، ويعرفوا أن لكل دولة كما لكل فرد ما يعدُّ لها وعليها.

بنو أُمية أسسوا دولة عظيمة وفتحوا الفتوح ونشروا كلمة التوحيد وبثوا اللغة العربية في الممالك التي دوَّخوها فماذا عمل خصومهم لو أنصف المتشيعون لهم؟ لم يوفقوا من قبل ولا من بعد إلا أن يُدلوا على الأمة بشرفهم، وأنهم خير من أُمية في الجاهلية والإسلام، وأن الواجب على المسلمين أن يخضعوا لهم مهما كانت حالهم لشرف هذه النسبة فقط، ولقد قامت لهم عدة دول في أقطار مختلفة وكان مصيرها كلها الانحلال، ولذلك كان من المعقول أن لا يغض من قدر العاملين خصوصا من كانت حسناتهم تربو على سيئاتهم، إن كان هناك ما يتجوز في تسميته سيئات. الملك لا يقوم بالزهد والتقوى ولزوم المساجد والخطب والحماسة والإدلال بصفات طبيعية اتصف بها صاحبها. الملك يحتاج كما كان الأمويون إلى بذل وتسامح وتماسك وعمل نافع بعيد عن الدعوى. في الصفات الأولى تتمثل حالة العلويين، وفي الثانية تتمثل حالة الأمويين.

ص: 139