الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرجال حتى تهيأ للصليبيين أن ينشئوا أربع إمارات: إمارة القدس وإمارة إنطاكية وإمارة الرها وإمارة طرابلس، قسمت أقطاعاً على الفرسان الغربيين. أما المدن الكبرى في الساحل الشامي فقسمت مستعمرات أوروبية أنشأت فيها مارسيليا والمدن الإيطالية أحياء برمتها.
وبذا رأينا أنه دعا إلى الحملات الصليبية تعصب أوروبا الديني، وحب الغارة والتجارة، والأسباب التي دعت إليها واهية لا محالة. قال أحد كتاب روسيا: كان في الإمكان اجتناب وقوع الحروب الصليبية، وساعد على حدوثها الجهل والأوهام الدينية والسياسية ومصلحة البابوية. وكم من أحزان وآلام وجرائم جديدة كان يمكن أن تتوفر على الإنسانية لو لم يوقف شارل مارتل العرب سنة 110 للهجرة فإن المدنية الزاهرة التي كان يحملها أولئك الذين دعاهم الصليبيون في حال سخطهم وبغضهم بأبناء إسماعيل عبدة الأصنام والكفار والوثنيين، كانت هذه المدنية تؤثر في أوروبا الغربية وتعمل عملها في المدنية الفرنجية والرومانية.
-
الصليبيون في شمالي الشام:
هذا ما كان من جهة الغرب وسر الحملة الصليبية الأولى على هذا الجزء الصغير من الشرق، ولو كانت كلمة القابضين إذ ذاك على زمام الأمر في آسيا الصغرى وأرض الشام متحدة، وحكوماتهم قوية منظمة، لتعذر كل التعذر على الصليبيين أن يزحفوا على إنطاكية، ثم يسير جيشهم حتى يأخذ الساحل ويبلغ البيت المقدس على كثرة عدده، فقد قيل: إن الحملة الأولى كانت مليون محارب ومحاربة، لأن بعض الصليبيين كانوا يصحبون معهم أزواجهم وأولادهم. وفي رواية ميشو أن الحملة الأولى كانت ستمائة ألف محارب على حين كان جيش الإسكندر الذي فتح به آسيا ثلاثين ألفاً فقط. ومع هذا فإن الشام كان في ذاك العهد بحالة من تجزؤ الحكم
بحيث لا تستطيع أن تجهز نصف جيش الفرنج، وهي تحتاج إلى حاميات عظيمة في الثغور والحصون والمدن الكثيرة. وكان المسلمون إذ ذاك كنصارى الأوروبيين مشتتة أهواؤهم غير منظمة قواهم. ومع
هذا فقد روى مؤرخونا أن الأخبار لما وصلت سنة 490هـ إلى الشام بظهور عسكر الفرنج من بحر القسطنطينية في عالم لا يحصى عدده كثرة، شرع الملك داود بن سليمان بن قتلمش، وكان أقرب إليهم داراً في الجمع والاحتشاد، واستدعى التركمان فوافاه منهم مع عسكر أخيه العدد الكثير وعادوا إليه، واستظهروا عليه، وكسروا عسكره فقتلوا منهم وأسروا، ونهبوا وسبوا، وانهزم التركمان واشترى ملك الروم من السبي خلقاً كثيراً وحملهم إلى القسطنطينية.
ولما اتصلت هذه الأنباء بأمراء الشام، قر رأي أصحاب إنطاكية وحلب ودمشق وغيرهم من صغار الأمراء على الاستصراخ والاستنجاد، وتحصين إنطاكية وإخراج النصارى منها، ولم تلبث عساكر الفرنج أن نزلت على حصن بغراس وأعادوا الكرة على أعمال إنطاكية فعصى من كان في الحصون والمعاقل المجاورة لها، وقتلوا من كان فيها وهرب من هرب منها، وفعل أهل حصن ارتاح مثل ذلك واستدعوا المدد من الفرنج. وكان نهض من عسكر الفرنج فريق يناهز الثلاثين ألفاً فعاثوا في الأطراف ووصلوا إلى حصن البارة وفتكوا بأهله، وكان عسكر دمشق وصل إلى ناحية شيزر لإنجاد ياغي سيان، فقتل الفرنج منهم جماعة، وعاد الفرنج إلى الروج بين حلب والمعرة، وتوجهوا إلى إنطاكية وجعلوا بينهم وبينها خندقاً لكثرة الغارات عليهم من عسكرها.
وكان الفرنج عند ظهورهم عاهدوا ملك الروم ووعدوه بأن يسلموا إليه أول بلد يفتحونه، ففتحوا نيقية فلم يسلموها إليه على الشروط المقررة، وافتتحوا في طريقهم بعض الثغور والدروب وفتحوا الرها وما إليها وجاءوا إنطاكية
فحاصروها تسعة أشهر حتى واطأهم قوم من الزرادين ومنهم أرمن على تسليم إنطاكية إليهم، وذلك لإساءة صدرت من صاحبها ياغي سيان إلى الأرمن فصادرهم وأرهقهم، ووجدوا الفرصة في برج من أبراج البلد مما يلي الجبل فباعوه من الفرنج وأطلعوهم إلى البلد منه. فانهزم ياغي سيان بعد أن ظهر من شجاعته وجودة رأيه وحزمه واحتياطه ما لم يشاهد من غيره، وخرج في خلق عظيم فلم يسلم منهم شخص، ولما حصل بالقرب
من أرمناز قرب معرة مصرين سقط عن فرسه فمات. وقد قتل في إنطاكية وأسر وسبى من الرجال والنسوان والأطفال خلق كثير.
ولما سقطت إنطاكية عادت عساكر الشام فتجمعت، وحاصر المسلمون إنطاكية حتى عدم القوت منها، وأكل الفرنج الميتة، فزحفوا وهم على غاية من الضعف إلى عساكر الإسلام، وهم في الغاية من القوة والكثرة، فكسروا المسلمين وفرقوا جموعهم. والسبب في هذه الهزيمة أن كربوغا صاحب الموصل كان في عسكره على حصار إنطاكية مع أمراء دمشق وحلب حمص وغيرهم، فأساء السيرة فيمن اجتمع معه من الملوك والأمراء وتكبر عليهم، فخبثت نياتهم على كربوغا فهزمهم عدوهم وهو في ضعف وهم في قوة. قال صاحب التاريخ العام: وكان الجيش الإسلامي الذي دافع عن إنطاكية وأنجد صاحبها مؤلفاً من مائتي ألف محارب، ولو استطاع هذا الجيش أن يصل كله إلى إنطاكية لقضى على الصليبيين جملة، ولم تلبث الحرب أن نشبت بين الصليبيين فاختلف البرفنسيون والنورميون، حتى إن الفرسان هددوا المتحاربين من الفرنج أن يخربوا المدينة التي كانوا يتنازعون ملكها. وظلت الحرب على إنطاكية أربعة أشهر ففتحت بعد مذبحة هائلة قتل فيها من الفريقين أُلوف.
ولما انهزم المسلمون أمام الفرنج على إنطاكية، سار هؤلاء بجملتهم إلى المعرة
وضموا إليهم الأرمن الذين كانوا في طاعتهم وبعض النصارى الشاميين، فاستولوا عليها ووضعوا السيف في أهلها، وقتلوا منها ما يزيد على مائة ألف إنسان في أكثر الروايات، وسبوا مثلهم وأقاموا بالمعرة أربعين يوماً، ثم زحفوا عنها بعد أن قتلوا أهلها وقطعوا أشجارها. قال ميشو: إن الفرنج قتلوا جميع من كان في المعرة من المسلمين الذين اعتصموا بالجوامع واختبئوا في السراديب، فأصبحت خاوية على عروشها، وفقد الفاتحون كل زاد وساءت حالهم، ثم وقع الخلاف بينهم وصاروا في رواية يأكلون جثث الموتى، وهدموا أسوارها وأبراجها، وأحرقوا المساجد وكسروا المنابر وهدموا الدور، ثم ساروا إلى عرقة وحصروها أربعة أشهر ونقبوا سورها عدة نقوب، فلم يقدروا عليها، ثم ساروا إلى حمص فصالحهم