الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صلح دومة الجندل وغزوة ذات السلاس ومؤتة
والجرباء وأذرح ومقنا وجيش أسامة:
لما انتشر الإسلام في جزيرة العرب حجازها ويمنها ونجدها أخذ الرسول يغزو الروم في الشام غزوات قليلة ويرسل سرايا ضئيلة تزيد بحسب الحاجة حتى يتعرف المسلمون طرق الشام وأمصاره ويسبروا غور الروم واستعدادهم. وكانت أول غزواته على رأس تسعة وأربعين شهراً من مهاجره. بلغه أن بدومة الجندل
جمعاً كثيراً وأنهم يظلمون من مرّ بهم من الضافطة وأنهم يريدون أن يدنوا من المدينة وهي طرف من أفواه الشام، بينها وبين دمشق خمس ليال، وبينها وبين المدينة خمس عشرة أو ست عشرة ليلة. فندب رسول الله الناس واستخلف على المدينة وخرج في ألف من المسلمين فكان يسير الليل ويكمن النهار، ومعه دليل له من بني عذرة فأخذ نعمهم وشاءهم ورجع لم يلق كيداً.
وفي سنة ست ندب الرسول عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل وقال له: إن استجابوا لك فتزوج ابنة ملكهم، فدعاهم إلى الإسلام فأسلم الأصبغ بن عمرو الكلبي، وكان نصرانياً وكان رأسهم، وأسلم معه ناس كثير من قومه، وأقام من أقام على إعطاء الجزية، وتزوج عبد الرحمن بتماضر بنت الأصبغ. وكان صاحب دومة أكيدر بن عبد الملك في طاعة هرقل ملك الروم يعترض سفر المدينة وتجارهم، فصالحه الرسول على الجزية على كل حالم في أرضه ديناراً وكتب له ولأهل دومة كتاباً وهو:
بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد رسول الله لأكيدر دومة حين أجاب إلى الإسلام وخلع الأنداد والأصنام مع خالد بن الوليد سيف الله في دومة الجندل وأكنافها أن لنا الضاحية من الضحل والبور والمعامي وأغفال الأرض والحلقة والسلاح والحافر والحصن، ولكم الضامنة من النخل
والمعين من المعمور، لا تعدل سارحتكم، ولا تعدّ فاردتكم، ولا يحظر النبات، تقيمون الصلاة لوقتها، وتؤتون الزكاة لحقها، عليكم بذلك عهد الله والميثاق، ولكم به الصدق والوفاء، شهد الله ومن حضر من المسلمين.
وأرسل الرسول كتباً إلى هرقل والحارث بن أبي شمر يدعوهما إلى الإسلام وهذا نص الكتاب الذي بعث به مع دحية الكلبي على يد عظيم بصرى ليدفعه إلى هرقل وهو بالشام على ما جاء في الصحاح: بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول
الله إلى هرقل عظيم الروم. سلام على من اتبع الهدى. أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسْلم تَسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإن عليك إثم الإريسيين. ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواءٍ بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون اه. وكتب الرسول إلى الحارث بن أبي شمر الغساني أمير دمشق وبعث إليه بشجاع بن وهب. وكان فروة بن عمرو الجُذامي عاملاً لقيصر على عمَّان من أرض البلقاء قد أسلم وأنفله إلى الرسول رجلاً يقال له مسعود بن سعد من قومه، وأهدى الرسول بغلة يقال لها فضة وحماره يعفور وفرساً يقال له الظرب وأثواباً من كتان وقباء من سندس مخرَّصاً بالذهب، فقبل رسول الله كتابه وهديته وكتب إليه جواب كتابه
وأجاز رسوله مسعوداً بأثنتي عشرة أوقية ونش وبلغ قيصر إسلام فروة ابن عمرو فحبسه حتى مات فلما مات صلبوه - قاله ابن سعد.
وفي السنة الثامنة للهجرة بعث الرسول سرية كعب بن عمير الغفاري إلى ذات أطلاح من ناحية الشام وهي وراء وادي القرى بين تبوك وأذرعات وكان ينزلها قوم من قضاعة، ورأسهم رجل يقال له سدوس، فخرج في خمسة عشر رجلاً فوجد جمعاً، كثيراً فدعاهم إلى الإسلام فأبوا أن يجيبوا وقتلوا أصحاب كعب جميعا، وتحامل رجل منهم حتى بلغ المدينة. وفي هذه السنة استنفر الرسول الناس إلى الشام فكانت غزوة ذات السلاسل، والسلاسل ماءٌ بأرض جذام - فوجه عمرو بن العاص في ثلاثمائة مقاتل ثم استمده فأمده بأبي عبيدة بن الجراح على المهاجرين والأنصار فيهم أبو بكر وعمر في مائتين فكان جميعهم خمسمائة، والغالب أنهم رجعوا من هذه الغزاة على غير جدوى.
ومن السرايا التي أُرسلت إلى الشام سرية زيد بن حارثة إلى جذام بحسمي وراء
وادي القرى مما يلي فلسطين من أرض الشام. وسببها أن دِحْيَة بن خليفة الكلبي كان أقبل من عند قيصر وقد أجاره وكساه فسلبه أهل حسمي، فغزاهم زيد بن حارثة ثم ردَّ الرسول عليهم أسلابهم. وفي تلك السنة بعث الرسول جيشاً مؤلفاً من ثلاثة آلاف مقاتل بلغوا تخوم البلقاء فلقيتهم جموع هرقل ومعهم العرب المنتصرة بقرية من قرى البلقاء يقال لها مشارف، فانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة وجعلوا على ميمنتهم رجلاً من عذرة يقال له قطبة بن قتادة، وعلى ميسرتهم رجلاً من الأنصار يقال له عبادة بن مالك، فلقيتهم الروم في جمع عظيم فقتل من الأمراء زيد ابن حارثة، ثم جعفر بن أبي طالب، ثم عبد الله بن رواحة، فلما فجع المسلمون بثلاثة قواد عظام منهم، وكان خالد بن الوليد من القواد في ذاك الجيش،
رأى المصلحة أن يعود إلى المدينة بمن معه. وكان سبب هذه الغزوة أن النبي بعث الحارث بن عمير رسولاً إلى ملك بُصرى عاصمة حوران بكتاب كما بعث إلى سائر الملوك، فلما نزل بمؤتة عرض له عمرو بن شرحبيل الغساني فقتله، ولم يقتل لرسول الله رسول غيره. وقيل: إن هرقل نزل مآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم وانضمت إليه المستعربة من لخم وجذام وبلقين وبهراء وبَلي في مائة ألف منهم.
كانت أخبار الشام عند أهل المدينة كل يوم لكثرة من يرد عليهم من الأنباط فقدمت عليهم قادمة فذكروا أن الروم قد جمعت جموعاً كثيرة بالشام، وأن هرقل صاحب الروم قد رزق أصحابه لسنة، واستنفر العرب المتنصرة فأجلبت معه لخم وجذام وغسان وعاملة وبهراء وكلب وسليح وتنوخ من عرب الشام وزحفوا وقدموا مقدماتهم إلى البلقاء وعسكروا بها، وتخلف هرقل بحمص وضرب الروم على العرب الضاحية البعوث. فرأى الرسول إن لم يبدأ الروم القتال بدءوه به، فأعلم في سنة تسع بالتجهيز لغزو الروم والطلب بدم جعفر بن أبي طالب الذي استشهد
في مؤتة في السنة الفائتة. وكان الرسول إذا أراد غزوة وَرّى بغيرها إلا في هذه، لقوة العدو وبعد الطريق والجدب والحر والناس في عسرة. وكان معه ثلاثون ألفاً، والخيل عشرة آلاف، والجمال اثنا عشر ألفاً، ولقي الجيش حراً وعطشاً. وقد أنفق أبو بكر الصديق في تجهيز هذا الجيش جميع ماله، وأنفق عثمان بن عفان نفقة عظيمة.
خرج المسلمون في غزوة تبوك الرجلان والثلاثة على بعير، وخرجوا في حر شديد فأصابهم يوماً عطش شديد حتى جعلوا ينحرون إبلهم فيعصرون أكراشها ويشربون ماءها، فكان ذلك عسرة من الماء وعسرة من الظهر وعسرة من النفقة ولذلك سمي جيش العسرة.
وبلغ الجيش الحِجْر أرض ثمود فنهاهم الرسول عن مائه، ووصلوا تبوك فأقام بها عشرين ليلة، وسميت هذه الغزوة غزوة تبوك، ولم يلق المسلمون في هذه المعركة كيدا. وأتى يحنة بن رؤبة أُسقف أيلة على البحر الأحمر فصالحه الرسول على الجزية. وكتب له كتابا صورته:
بسم الله الرحمن الرحيم: هذا أمنة من الله ومحمد النبي ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة أساقفهم وسائرهم في البر والبحر، لهم ذمة الله وذمة النبي ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثاً فإنه لا يحول ماله دون نفسه وإنه طيب لمن أخذه من الناس. وإنه لا يحل أن يمنعوا ما يريدونه ولا طريقاً يريدونه من بر أو بحر. هذا كتاب جهنم بن الصلت وشرحبيل بن حَسَنة بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ذلك في سنة تسع من الهجرة.
وصالح الرسول أهل جرباء وأذْرُح من أرض الشراة، صالح أهل أذْرُح على مائة دينار، وصالح أهل مَقْنا على مقربة من أيلة على ثلاثمائة دينار على ربع عروكهم وغزولهم وربع كُراعهم وحَلْقتهم وعلى ربع ثمارهم وكانوا يهوداً، وكتب
إليهم هذا الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى بني حبيبة وأهل مقنا سلم أنتم فإنه أنزل عليَّ أنكم راجعون إلى قريتكم، فإذا جاءكم كتابي هذا فإنكم آمنون ولكم ذمة الله وذمة رسوله، وإن رسول الله قد غفر لكم ذنوبكم وكل دم اتبعتم به لا شريك لكم في قريتكم إلا رسول الله أو رسول رسول الله. وإنه لا ظلم عليكم ولا عدوان، وإن رسول الله يجيركم مما يجير به نفسه فإن لرسول الله بزتكم ورقيقكم والكراع والحلقة إلا ما عفا عنه رسول الله أو رسول رسول الله، وأن عليكم بعد ذلك ربعَ ما أخرجت نخيلكم وربع ما صادت عروككم وربع ما اغتزلت نساؤكم وأنكم قد ثريتم بعد ذلكم ورفعكم رسول الله عن كل جزية وسخرة، فإن سمعتم وأطعتم فعلى رسول الله أن يكرم
كريمكم ويعفو عن مسيئكم، ومن ائتمر في بني حبيبة وأهل مقنا من المسلمين خيراً فهو خير لكم، ومن أطلعهم بشر فهو شر له، وليس عليكم أمير إلا من أنفسكم أو من أهل بيت رسول الله وكتب علي بن أبي طالب في سنة 9.
وفي السنة الحادية عشرة ضرب الرسول على الناس بعثاً إلى الشام أيضاً وأمر عليه أسامة بن زيد ندبه إلى البلقاء وأذرعات ومؤتة ثائراً بأبيه ولأسامة يومئذ ثماني عشرة سنة. وفي رواية أن الرسول أمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم، وأن يبلغ يًبنى وأشدود من أرض فلسطين، وقيل: أمر أن يوطئ من آبل الزيت بالأردن من مشارف الشام، ودعا الرسول عليه السلام أسامة بن زيد فقال: سر إلى موضع مقتل أبيك فأوطئهم الخيل، فقد وليتك هذا الجيش فأغر صباحاً على أهل يُبنى وحرّق عليهم، وأسرع السير تسبق الأخبار، فإن ظفرك الله فأقلل اللبث فيهم وخذ معك الأدلاء وقدم العيون والطلائع أمامك. وبينا الناس يتأهبون للغزاة ابتدأ الرسول شكواه التي قبضه الله عز وجل فيها. وكان يقول في علته: جهزوا جيش أسامة. ثم سار أسامة إلى يُبنى فشنَّ عليها الغارة وقتل قاتل أبيه ولم
يصب أحد من المسلمين. وبلغ هرقل وهو بحمص ما صنع أسامة فبعث رابطة يكونون بالبلقاء، فلم تزل هناك حتى قدمت البعوث إلى الشام في خلافة أبي بكر وعمر.
فأول غزوات الشام دومة الجندل والثانية مؤتة والثالثة ذات السلاسل والرابعة تبوك والخامسة آبل الزيت وجملة غزواتهم سبع غزوات. وكلها مقدمات لفتح هذا القطر وأمر قطعي من صاحب الرسالة إلى أصحابه بأن يكملوا العمل الذي وضع أساسه بنفسه الشريفة. عن سلمة بن نُفَيل الحضرمي قال: فتح الله على رسول الله فتحاً فأتيته فدنوت منه حتى كادت ثيابي تحس ثيابه فقلت: يا رسول الله سيبت الخيل وعطلوا السلاح وقال: قد نُفَيل وضعت الحرب أوزارها فقال رسول الله: كذبوا الآن جاء القتال الآن جاء القتال، لا يزال الله يزيغ قلوب أقوام تقاتلونهم ويرزقكم الله عز وجل منهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك وعُقر دار الإسلام بالشام.