الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خالد في إثر تيودرا وشنس وامتلأ المرج من قتلاهم فأنتنت منهم الأرض وهرب من هرب منهم فلم يفلتهم وركب أكتافهم إلى حمص.
هكذا تم فتح الشام على هذا الوجه المحكم في ثلاث سنين ولم تعص إلا قيسارية فإن معاوية فتحها سنة 19 بعد أن حوصرت نحو سبع سنين، وكان أهلها يزاحفون معاوية وجعلوا لا يزاحفونه مرة إلا هزمهم وردهم إلى حصنهم، ثم زاحفوه آخر ذلك وخرجوا من صياصيهم فاقتتلوا في حفيظة واستماتة فبلغت قتلاهم في المعركة ثمانين ألفا وكملها في هزيمتهم مائة ألف الطبري. وكانت قيسارية من أعيان أمهات المدن قيل كان مقاتلة الروم الذين يرزقون فيها مائة ألف، وسامرتها ثمانون ألفا، ويهودها مائة ألف ياقوت. وكان كتاب عمر إلى معاوية: أما بعد فإني قد وليتك قيسارية فسر إليها واستنصر عليهم وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله، الله ربنا وثقتنا ورجاؤنا ومولانا، نعم المولى ونعم النصير.
ومن المدن التي امتنعت وحوصرت زمنا طويلا مدينة عسقلان، كتب عمر بن الخطاب إلى معاوية يأمره بتتبع ما بقي من فلسطين ففتح عسقلان سنة 23هـ صلحا بعد كيد. ويقال: إن عمرو بن العاص كان فتحها ثم نقض أهلها وأمدهم الروم، ففتحها معاوية وأسكنها الروابط ووكل بها الحفظة.
سر نجاح المسلمين وقتال نسائهم يوم اليرموك:
بمثل تلك الجيوش القليلة التي ظهرت على جيوش الروم ومن والاهم فتح العرب هذا القطر العزيز، وكانت قوتهم في معظم الوقائع على نسبة واحد إلى ثلاثة أو أربعة من قوة أعدائهم بعد أن قطعوا بوادي الحجاز والعراق والشام على جمالهم
وخيولهم، قليل عتادهم، جليل جهادهم. وساروا في فلوات لا ماء فيها يستقون منه، ولا مراعي يرعون فيها أنعامهم، ولا ميرة يمتارونها، وكل ما لديهم من الماديات قليل ضئيل، ولكن معنوياتهم كانت فوق معنويات من رحلوا إليهم وكان كل فرد من
أفراد جيوشهم يعتقد بأنه إن مات مات شهيدا، وإن عاش عاش سعيدا.
أما الروم فكانوا على كثرة جيوشهم، ووفرة أسبابهم من المؤن والذخائر في أرض عامرة هي وما وراءها إلى أرض الروم، والنجدات تأتيهم أرسالا على أيسر سبيل، ومع هذا فقد كثرت هزائمهم وعد قتلاهم بالألوف وقتلى العرب بالمئات، وتركوا أرضا عرفوا معالمها ومجاهلها فلم تغن عنهم كثرتهم ولا وفرة أسبابهم، فقُهروا وغُلبوا على أمرهم، وهاموا على رؤوسهم لا يلويهم شيء، وذلك لأنهم كانوا متفسخين مشتة أهواؤهم، والناس هنا قد يئسوا من عدل الرومان في أواخر أيامهم حتى إنهم لما طلبوا مالا من منصور عامل هرقل بدمشق لاستئجار رجال يحاربون المسلمين نادى بأن ليس لديه مال، ليسمع الناس وييأسوا ويفتح السبيل للمسلمين. وكان هرقل كتب إلى منصور هذا أن يمسك عليه الرجال بالمال فأبى منصور وقال: إن الملك غير محتاج إلى هذا العسكر العظيم، وإن العرب قوم غزاة، وهذا العسكر يحتاج إلى مال كثير وليس بدمشق مال عظيم. قال ابن بطريق: أراد بذلك أن يسمع الرجال أن ليس بدمشق مال يعطيهم فيتفرقوا ويسلَم دمشق إلى المسلمين.
ولعل لتأليف جيش الروم، وكان مؤلفا من أجناس وأخلاط دخلا في الهزيمة، وربما كان رجال الدين من الروم في دمشق يوم الفتح العربي مستائين من القواعد التي سنها هرقل ليضع حدا للمنازعات الدينية، ولعلهم عاونوا على تسليم دمشق للعرب أو تركوا المسائل تجري في أعنتها. ولكن من المحقق أن العرب المتنصرة في الشام عادوا بعد أن صاروا مع الروم فانضموا إلى العرب المسلمين وأخذتهم
النّعرة الجنسية فغلّبوها على النّعرة الدينية وأصبحوا للمسلمين عيونا على الروم وأن اليهود والسامرة كانوا مع المسلمين الفاتحين. قال هوار: توصل الإمبراطور أن يجمع في حمص ثمانين ألف مقاتل نصفهم من جنده والنصف الآخر من معاونين أرمن، وكانت النجدات تتوالى عليه إلا أن الشقاق الداخلي كان يمزق أحشاء الجيش الروماني، وقد شغب الجنود من الأرمن وطلبوا أن يكون ماهان إمبراطورا قبيل وقعة اليرموك.
لا جرم أن سلاح الروم كان أمضى من سلاح العرب، ونظامهم الظاهري كان أجلى. قال سيديليو: كان جيش الروم يفوق جيش العرب بلباسه، وخبرة ضباطه، ونوع سلاحه، وغنى دور صناعاته ومناعة حصونه، وسهولة المواصلات والتموين عليه. والروم يعرفون الخطط ويمسكون البحر ولهم من ورائهم ولايات مأهولة مخصبة. أما العرب فكانوا جاهلين معدمين ليس لهم شيء من الأسباب المادية، ولا يحسنون من ضروب الحرب غير حروب العصابات على أصول البادية، وقد يعمدون إلى الفرار أحيانا، ويرى جيشهم لأول وهلة كأنه عصابات مجموعة كيفما اتفق: الفرسان وسط المشاة، ومن الجنود من يسترون بعض أجسامهم ومنهم العراة. وسلاح كل واحد كما يحب من قوس إلى حربة أو دبوس وسيف ورمح. قال: ووجه الغرابة أن يضيف العرب إلى المفاداة احترام النظام يضاف إليهما عظمة العواطف، وهم طالما وصموا بأنهم متوحشون ظلما وتعنتا.
قلنا: وهكذا كان شأن العرب في سائر فتوحاتهم في آسيا وإفريقيا وأوروبا، كانت معنوياتهم في كل مكان أرقى من معنويات من غلبوهم على أمرهم، ودون ماديات أمم كانت راسخة القدم في أرضها، عزيزة السلطان في ربوعها، وحاجياتها منها على طرف الثُّمام تأتيها بدون تعمل كثير. وكان العرب يتبلغون ودوابهم بميسور العيش. حتى إن خالد بن الوليد لما سار في جيشه من العراق إلى الشام من طريق
البرية لتخرج من وراء جموع الروم لأنه كان يرى أنه إذا استقبلها حبسته عن غياث المسلمين، سقى الجمال مرتين لقلة الماء في الطريق، فكلما نزل منزلا نحر وجعل أكراشها على النار وشرب القوم.
ومن أعظم العوامل في غلبة المسلمين خوف الهزيمة من الزحف، وكانت الهزيمة أو التخلف عن الجهاد من أعظم العار، بل من الكبائر التي لا يرحم فاعلها. فقد ذكروا أن فلَّ جيش مؤتة لما رجع إلى المدينة جعل الناس يحثون عليهم التراب ويقولون: يا فرَّار فررتم في سبيل الله. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ليسوا بالفرار ولكنهم الكرّار إن شاء
الله. هذا وكان في جملة أولئك الفرار خالد بن الوليد سيف الله وعن رأيه رجع الجيش.
وكان للنساء يد طولى في نصرة العرب. فقد تطوع أبو سفيان بن حرب في حرب الشام وكانت له تجارات وأملاك في الجاهلية، وله قرية في البلقاء اسمها نقنّس. وكان شيخ مكة بل شيخ تجار قريش ورئيسهم، ومن أعظم أهل الرأي والمكانة فيهم، وهو كابنه معاوية من المؤلفة قلوبهم ثم حسن إسلامهما، وقد حارب الرسول كثيرا وقال له الرسول يوم أسلم في فتح مكة سنة ثمان للهجرة: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن. وجاء الشام في الإسلام في مشيخة من قريش يحارب تحت راية ابنه يزيد وكان له ولابنيه يزيد ومعاوية بل ولجماعة من أسرته بل للنساء منهن اليد الطولى والكعب المعلى في فتح الشام.
ومما قاله أبو سفيان للنساء اللاتي مع المسلمين، وكان كثير من المهاجرات حضرن يومئذ مع أزواجهن وأبنائهن، وقد أجلسهن خلف صفوف المسلمين فأمر بالحجارة فألقيت بين أيديهن: لا يرجع إليكن أحد من المسلمين إلا رميتموه بهذه الحجارة وقلْتُن له: من يرجوكم بعد الفرار عن الإسلام وأهله وعن النساء وهم
أمام العدو. ولما حمي الوطيس واستقبل النساء سرعان من انهزم من المسلمين معهن بعمد البيوت أو عمد الفساطيط وأخذن يضربن وجوههم ويرمين بالحجارة ويقلن: أين عز الإسلام والأمهات والأزواج. ولقد قاتل بعض النساء بالفعل يوم اليرموك مثل جويرية ابنة أبي سفيان وكانت مع زوجها. قال البلاذري: وقاتل يوم اليرموك نساء المسلمين قتالا شديدا وفيهن هند بنت عتبة أم معاوية بن أبي سفيان. وقال الطبري: وقاتل نساء من نساء قريش يوم اليرموك بالسيوف حتى سابقن الرجال منهن أم حكيم بنت الحارث بن هشام.
وصف رومي العرب، وكان أسيرا في أيديهم فأفلت، وسأله هرقل عنهم فقال: أخبرني عن هؤلاء القوم، فقال: أحدثك كأنك تنظر إليهم فرسان بالنهار، رهبان بالليل، ما يأكلون في ذمتهم إلا بثمن،
ولا يدخلون إلا بسلام، يقفون على من حاربهم حتى يأتوا عليه. فقال: لئن كنت صدقتني ليرثن ما تحت قدمي هاتين.
ولما انتصر المسلمون بفِحل وقدم المنهزمون من الروم على هرقل بإنطاكية دعا رجالاً منهم فأدخلهم عليه فقال: حدثوني ويحكم عن هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم أليسوا بشراً مثلكم؟ قالوا: بلى. قال: فأنتم أكثر أو هم؟ قالوا: بل نحن. قال: فما بالكم؟ فسكتوا، فقام شيخ منهم وقال: ألا أُخبرك إنهم إذا حملوا صبروا ولم يكذبوا، وإذا حملنا لم نصبر ونكذب، وهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويرون أن قتلاهم في الجنة وأحياءهم فائزون بالغنيمة والأجر. فقال: يا شيخ لقد صدقتني ولأخرجن من هذه القرية ومالي في صحبتكم من حاجة، ولا في قتال اليوم من أرب. فقال ذلك الشيخ: أنشدك الله أن تدع سورية جنة الدنيا للعرب وتخرج منها ولم تعذر. وما زال به حتى ثناه إلى المقام وأرسل إلى رومية وقسطنطينية وأرمينية وجمع الجيوش وقاتل العرب.
وبعث أخو ملك الروم لما تراءى العسكران في اليرموك رجلاً عربياً من قضاعة
وقال له: ادخل في هؤلاء القوم فأقم فيهم يوماً وليلة ثم ائتني بخبرهم فدخل في الناس رجل عربي لا ينكر فأقام فيهم ثم أتاه فقال: ما وراءك قال: هم رهبان بالليل فرسان بالنهار، لو سرق ابن ملكهم قطعوا يده، ولو زنى رجموه إقامة للحد. فقال صاحب جيش الروم: لئن كنت صادقاً لبطن الأرض خير من لقاء هؤلاء على ظهرها.
ومما أعانهم على تأييد سلطانهم تسامحهم مع أهل الذمة وحمايتهم لهم؛ فكانوا كأنهم بين أهلهم وعشيرتهم، لا يرهبون من وراءهم كما أنهم لم يرهبوا من أمامهم. روى البلاذرى أن هرقل لما جمع للمسلمين الجموع وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة اليرموك ردوا على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج وقالوا: قد شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم فأنتم على أمركم، فقال أهل حمص: لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغَشْم، ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عاملكم