الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
آخرة الفاطميين:
كان على حلب عند هلاك الحاكم عزيز الدولة فاتك الوحيدي، وقد استفحل أمره وعظم شأنه وحدث نفسه بالعصيان، فلاطفته ست الملك عمة الظاهر لإعزاز دين الله وكفيلته، وهي التي قامت بتدبير مملكة الفاطميين بعد مهلك الحاكم، وساست الناس أحسن سياسة أربع سنين، أعادت الملك فيها إلى غضارته وعمرت الخزائن بالأموال واصطنعت الرجال - فلاطفته وبعثت إليه بالخلع والخيل بمراكب الذهب وغيرها، ولم تزل تعمل عليه حتى أفسدت غلاماً له يقال له بدر فقتله وحفظ الخزائن ووهبت له جميع ما خلفه وقلدته حلب. ولو لم يقبض الله لملك الفاطميين مثل هذه السيدة بعد الأحوال التي تمت على عهد الحاكم لكان الانقراض إلى دولتهم قريباً جداً. ثم جاء ابنه الظاهر لإعزاز دين الله وكان حسن السيرة فرفع أيدي المتغلبين على الملك، المتوثبين على سلطان الفواطم، واستقام له الأمر مدة. أما أيام الخليفة المستنصر بالله خامس خلفائهم الذي بقي في الخلافة ستين سنة وأربعة أشهر فقد كانت على هذا المنوال من التسرع في نصب العمال وصرفهم والشام
تشكو وتئن. والبؤس أكثر من السعادة، والمتغلبة منذ الثلث الأول من القرن الرابع كل يوم في شأن، تارة يقوم فيها مثل سيف الدولة الذي كان يُلبس على علاته، وتارة يقوم ابنه ومملوكه يستنجدان بالروم على المسلمين. ويرضيان بإعطاء الجزية لهم، ويدلانهم على عورات الجيران، بعد أن كان مؤسس دولتهم سيف الدولة يقاتلهم، ويظهر لهم من الشمم حتى يوم هزيمته ما يبيض وجه العرب والمسلمين.
كان الفاطميون زمن المعز والعزيز على جانب من القوة، فتح المعز مصر فدخلها من الغرب في مائة وقيل في مائة وأربعين ألف مقاتل، واستكثر من العساكر من كتامة وروم وصقالبة وبربر ومغاربة، حتى قيل لم يطأ الأرض بعد جيوش الإسكندر بن فيلبس الرومي الكبير أكثر من جيوش المعز الفاطمي، وربما فاقت بعددها الجيوش التي جمعها أبو الجيش
خمارويه بن أحمد بن طولون صاحب مصر والشام في القرن الثالث.
فبمثل هذه الجيوش استقام أمر الفاطميين لأول عهدهم في مصر والشام، فحكموا إلى الفرات ومكة والمدينة والقدس والخليل وصارت مصر والمغرب مملكة واحدة، والخلفاء من بني العباس يحكمون من الفرات إلى بغداد وأعمالها إلى سائر المشرق، ويخطب لكل خليفة منهما في الجهات التي تحت حكمه باسمه فقط، ولما ضعف أمرهم أصبح يحكم دمشق حمال التراب، ويحكم صورا الملاح، وثلاثة من البدو يتقاسمون ملك الشام، والعباسيون في الشرق والفاطميون في الجنوب لا يبدون ولا يعبدون، وعندهم القواد والأجناد، وللأحداث أي فتيان العامة في حلب ودمشق القول الفصل، يرفعون ويضعون، ويتحكمون ويعبثون بالناس وأموالهم، ويا بؤس بلاد يكون القول الفصل فيها لفوضى العامة.
كان حكام الشام يأتونها من الحجاز والعراق، فأصبحوا يكتسحونها في هذه
الأعصار من مصر والشمال، وكان العمال والقواد عربا من بني أمية وبني هاشم ومن والاهم، فصاروا مزيجا من العجم والتركمان، وكلهم سواء في ارتكاب المظالم والمغارم، متى قوي سلطان الجار يهاجم جاره، فتطل دماء الأبرياء على غير طائل. ولم تستقر المملكة على حالة معينة بضع سنين فكانت العوامل الجنسية والمذهبية تتنازعها وأهلها، وبعد أن كانت الشام في القرن الأول وثلث القرن الثاني مصدر الحياة العربية، ومنبعث القوة الحربية، أمست في القرون التالية ألعوبة أهواء الدخلاء، وطعمة الطامعين من أهل البوادي ومن جرت عليهم أحكام الرقيق من العبيد والبرابرة، وبعد أن كان للعصبيات فيها شأن في القرنين الأولين أصبحت في القرون الثلاثة التالية ضعيفة ضئيلة، لا يتعدى تأثيرها المصالح الخاصة، ولا يفكر القائمون بها في غير السلب والاعتداء.
إن تسامح العباسيين بإدخال أهل غير عصبيتهم فيهم أدى إلى انتشار كلمتهم وتمزيق جامعتهم، وما كل القواد والعمال كإبراهيم بن المهدي وجعفر بن يحيى وطاهر بن الحسين وعبد الله بن طاهر، ولا كل المتوثبين على الملك في عقلهم وسياستهم كأحمد بن طولون وسيف الدولة بن حمدان.
دثرت تلك الطبقة الممتازة المختارة، وخلف من بعدها خلف من القواد والرجال ليسوا في الأكثر على شيء من حسن السياسة والإدارة. إذا كان لهم جيش عظيم رهبهم الناس، وإلا فالحكم للصعاليك والسلبة، وهم أول الطامعين في السلطان، العاملين على نقض بنيان الأوطان، والناس بين مظلوم وظالم، ومتخوف ومخيف. والمنافسة بين الأمراء على أشد حالاتها، والشام مقسم الأجزاء بين كثيرين في سياسته الداخلية والخارجية، مصر من الجنوب تشده، وبغداد من الشرق تريد أن تسترده، والطامعون فيه من الترك والتركمان والروم والقرامطة والعبيد والخدم والمماليك يسطون عليه فيدمرون عمرانه، ويهلكون أهله وسكانه، والناس في الواقع لا
يعرفون لهم سيدا معينا لتفرق قلوبهم، وتباين منازعهم. وصاحب حمص غير صاحب حلب، وصاحب دمشق غير صاحب صور أو الرملة، مملكة هذا حالها تموت بحكم الطبيعة، ولا تستريح من الغوائل نحال. والجسم يعيش بروح واحد وتعدد الأرواح يستلزم تعدد الأجسام.
بعد أن قتل القرامطة الباطنية أهل مدن برمتها من هذا القطر استنجد أهل أعظم مدينة فيه بهم، فوافوا يجوسون خلال ديارهم لينقذوها من دولة الفاطميين المسلمين، وبعد أن ثبت أن الروم هم أعداء الشام بلا مراء، أصبح أمراؤه يستغيثون بهم على أبناء ملتهم ليصفو لهم ملكهم الذي يريدون أن يعيشوا فيه قيد الأسر لعدوهم الخارجي، ويستكثروا من القصور والجواري والمماليك والحاشية والغاشية ليكون كل صاحب مقاطعة في أبهته كخليفة الوقت وزيادة. يسلبون نعمة الرعية لينعموا بما سلبوا، كمن يحاول نقض أساس بيته، يجمل خارجه بإطار جميل، أو يذهب شرفته، وجدرانه. وبينما كان العزيز الفاطمي يبث دعاته لنشر التشيع في الأقطار التي انضوت إلى علمه، ويقتل هو وآله علماء المالكية لتشددهم في التسنن، كان جمهور المسلمين غاضبين في مصر والشام لأنه وسد الأمر بمصر لرجل من الأقباط اسمه نسطورس، وقلد أموال الشام لإسرائيلي اسمه منشا يجمعان الأموال، يوليان أبناء نحلتهما الأعمال، ويعدلان عن الكتاب والمتصرفين من المسلمين، فعمد بعضهم في القاهرة إلى مبخرة
من حديد وألبسها ثياب النساء وزينها بإزار وشعرية، وجعل في يدها قصة على جريدة، وكتب فيها رقعة ليراها العزيز عند مروره وهي: بالذي أعز جميع النصارى بنسطورس وأعز جميع اليهود بمنشا وأذل جميع المسلمين بك إلا ما رحمتهم وأزحت عنهم هذه المظالم فتوسطت ست الملك ابنة العزيز لنسطورس بالعفو. فحمل إلى الخزانة ثلاثمائة ألف دينار، وأعاده إلى ما كان ناظرا فيه وشرط عليه استخدام المسلمين في
دواوينه وأعماله. أما منشا فقتل إذ لم يستشفع فيه أحد. تناقض في التسامح غريب في بابه، وأصول في الإدارة لم يلاحظ فيها نزع العلة التي يشتكي منها، بل كان ينظر فيها لمنفعة الخزانة، أما الرعايا فأمرهم لله، وحسابهم على سواه.
ولقد جاء في الفاطميين وزراء عقلاء مثل الوزير ابن كلس المتوفى سنة 380 الذي نصح للعزيز في مرض موته بقوله: سالم يا أمير المؤمنين الروم ما سالموك، واقنع من الحمدانية بالدعوة والسكة، ولا تبق على المفرج بن دغفل بن الجراح متى عرضت لك فيه فرصة وكان ذلك غاية الغاية في سياسة الملك لأن الروم أُمة قوية عزيزة لا تخنع لجيرانها خلفاء مصر ولا لخلفاء بغداد، وهي تراهم مختلفة كلمتهم جد الاختلاف متعبين في داخليتهم، مشتغلين بالمنتقضين على سلطانهم، فقد أجاب العزيز الروم سنة 377 إلى الصلح واشترط شروطاً شديدة التزموا فيها كلها. منها أنهم يحلفون أنه لا يبقى في مملكتهم أسير إلا أطلقوه. وأن يخطب للعزيز في جامع قسطنطينية كل جمعة، وهادنهم سبع سنين. أما الدولة الحمدانية فإنه على ما يظهر لم يعجل انقراضها إلا اعتصامها في آخر أمرها بالروم، ونفضها يديها من طاعة العباسيين وطاعة الفاطميين معا، فاستهان بها عدوها وصديقها، ودب الفساد ودخلت الدسائس وكان في ذلك زوالها، وأما المفرج بن دغفل أمير بني طيىء وسائر العرب بأرض فلسطين، فإنه كان عدوا لدودا للفاطميين، قريبا من دار ملكهم يهددهم كل يوم، وربما استطاع أن يستنجد بملوك الشرق على نقض عرى الملك الفاطمي. فهو بدوي والأعراب أي البادية ما دخلوا بلدا إلا أسرع إليه
الخراب، وقيام الملك يحتاج إلى حسن تدبير وتقدير أكثر من البطش والجبرية، ولذلك لم تتم لأمراء بني طيىء في الجنوب، ولا لبني مرداس الكلابيين في الشمال دولة تعاقبت عليها بطون كثيرة في الشام وكيف في الشام وكيف كان حال هذا الدول فإن قاعدة الحكيم ابن خلدون في أن للدول
أعمارا طبيعية كالأشخاص لا تنتقض في الدول التي يحكمها الأفراد حكما استبداديا، وسعادة الدولة لا تدوم كالأفراد أكثر من أربعة بطون: الأول يفتح ويجمع، والثاني ينظم ويرتب، والثالث ينعم ويتمتع، والرابع يفرق ويخرب، تعالى الله.