الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا يتجاسر أحد على أن يقطع الطريق في جميع أعماله، وله في باب تأديب العصاة وسلبة الطرق حكايات أثرت عنه.
الحكم على الدور الأول للعباسيين:
مضت اثنتان وعشرون ومائة سنة على الشام بعد انقراض دولة بني أمية، وهو لا يخلو من فتن وتسمع فيها اسم السفياني والأموي العثماني أو غيرهم من أرباب
العصبيات من العرب، قيس ويمن. فتن أهلية يثور بركانها، ثم يهمد إلى حين، ونزّاع إلى الملك والسلطان، ولم يسد السلام إلا على عهد الرشيد والمأمون وكانت الفتن في أيامهما لا شأن لها لأنهما كان يوليان على الشام أقدر رجالهما. والشاميون يرضيهم من الخلفاء حسن سياستهم، والنظر بعطف على مصالحهم.
ولقد كانت الشام أوائل الفتح العباسي تتناوبها يدا عبد الله بن علي وصالح بن علي العباسيين وأولادهما، ثم أخذ عقلاء الخلفاء منهم يولون أولادهم واخوتهم شؤونها. فقد رأينا المهدي ولى ابنه هارون الرشيد أيام كونه ولياً للعهد ولاية قنسرين أو شمالي الشام، ورأينا الرشيد ولى أخاه إبراهيم بن المهدي دمشق، ورأينا الرشيد ندب أحد عظام رجاله يحيى البرمكي إلى دمشق، كما رأينا ابنه عهد إلى طاهر بن الحسين بولاية مصر والشام، وسوّغه خراج مصر سنة وهو ثلاثة آلاف ألف دينار ففرقه على الناس وهو على المنبر، ولم ينزل منه إلا وقد اقترض عشرة آلاف دينار ليعطيها لرجل جاء متأخراً والمصلحة تقتضي برّه.
وقد رأينا حسن أثر السياسة التي اتبعها إبراهيم بن المهدي في وضع التوازن بين القيسيين واليمانيين في الشام، فدل على عقل راجح، وإرادة هاشمية قوية، وكان بسياسته حائلاً دون المشاغبات الباطلة، ونشر الأمن مدة ست سنين، وكانت الشام من قبل تأجج فيها نيران العصبيات الجاهلية. ولكن المتوكل الخليفة المحمق، أوسع مجال الخلف بينه وبين رعيته، وأكبر أمر فتنة حدثت في دمشق، فأباحها لعامله التركي، فأطلّ الشعب في بغداد دمه لخرقه، وهلك عامله قبل أن يباشر بجبروته فتكه
وسبيه ونهبه، على نحو ما ارتكب العمال قبله في المتوثبين على العمال من أهل حمص.
وأهم الأغلاط التي ارتكبها المعتصم إدخال الأتراك في جنده، فكان الاعتماد عليهم في الجيش العباسي كالاعتماد على أهل خراسان الأعاجم لأول الفتح من أهم
الدواعي في إغضاب العرب، فأدى هذا الإيثار إلى نزع الحكم من العباسيين، حتى دخل الوهن بدخول الأتراك على الدولة، فآضت الخلافة العباسية بصنيعهم اسمية دينية فقط لا تتعدى قرى بغداد إلا قليلاً، وغدا الحكم الفصل لمن قويت شكيمته من الدخلاء واستجاش الأنصار والأعوان. وبعد أن كانت بغداد ترسل إلى الشام أولاد خلفائها وأعاظم قوادها من الأصول أصبحت ترسل إليها من الفروع أفريدون التركي وخاقان التركي ومحمد المولد من الموالي فظهر الفرق في صورة الحكم، لأن الحكم كان في الغالب فردياً لا علاقة للجماعة به إلا إذا أحبّ صاحب الأمر استشارة أهل الرأي استشارة خاصة ودية وله الحرية أن يعمل بما ارتأوه، ولا أحد يكرهه على قبول رأيه. فمن ثم اقتضى أن يكون العامل في الغاية أصالة ونبالة وعلماً ونزاهة.
أفضى هذا التساهل مع الأعاجم والاعتماد عليهم، إلى جر البلاء على الخلفاء من بني العباس، وبعد أن كانت وصية إبراهيم الإمام الذي مات في سجن مروان الجعدي إلى أبي مسلم الخراساني صاحب الدعوة: انظر إلى هذا الحي من اليمن فالزمهم، واسكن بين أظهرهم، فإن الله لا يتم هذا الأمر إلا بهم، واتهم ربيعة في أمرهم، وأما مضر فإنهم العدو القريب الدار، واقتل من شككت فيه وإن استطعت أن لا تدع بخراسان من يتكلم بالعربية فافعل، وأيما غلام بلغ خمسة أشبار واتهمته فاقتله أصبحت تفتح للأتراك أبواب دار الخلافة ولكل دخيل على العرب ولم يعد حكم لقيس ولا يمن بل للأعاجم من الفرس والترك والديلم. وفي أيام المأمون نشأت الدعوة الشعوبية أي الحط من قدر العرب وتفضيل العجم عليهم، فتبدلت روح الدولة، وأخذ العربي يبغض العجمي والعجمي ينال من العربي، منذ كانت السلطة لأبناء خراسان، أما بدخول
الأتراك فالمسألة بلغت أقصى حدودها الخطرة، وكادت مقاليد الخلافة تخرج من أبناء هاشم بعد عصر المعتصم.
كانت مسألة دخول الأتراك في الدولة بادئ بدء لا شأن لها في الظاهر وهي أن المعتصم جمع الأتراك وشراهم من أيدي مواليه فاجتمع له منهم أربعة آلاف فألبسهم أنواع الديباج، والمناطق والحلية المذهبة، وأبانهم بالزي عن سائر جنوده واصطنع قوماً من اليمن وقيس وسماهم المغاربة وأعدّ رجال خراسان من الفراعنة وغيرهم والأشروسية فلما تم هذا كثرت شكاية الناس أولاً من إيذاء الأتراك لعوام بغداد، وكلما زادت الشكاية توغل الأتراك في جسم المجتمع العباسي. وحاول من جاء بعده مثل المعتز أن يتخلص منهم، ولكنهم كانوا تأصلوا في جسم الدولة وأفسدوا عليها أمرها، ولكل أجل كتاب.