الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
519 كفرطاب من الفرنج وسار إلى
عزاز، فاجتمعت الفرنج لقتاله فاقتتلوا، فانهزم البرسقي وقتل من المسلمين خلق كثير وانهزموا راجعين أدراجهم. وقصد صاحب بيت المقدس حوران للعيث فيها فخرج إليه صاحب دمشق في التركمان وأحداث دمشق والغوطة والمرج وأحداث الباطنية فانهزم المسلمون وتتبع الفرنج المنهزمين حتى وصلوا إلى عقبة سحورا وقربوا من شرحوب مع بعد المدى. وقصدت الفرنج رفنية واستعادوها من المسلمين. واجتمع المسلمون والفرنج في مرج الصفر عند قرية شقحب من عمل دمشق واشتد القتال فانهزم صاحب دمشق والخيالة وتبعهم الفرنج، ونهب بعض الجند مخيم الفرنج وأثقالهم، ورجع الفرنج في أثر المنهزمين ورأوا رجالتهم قتلى وأموالهم منهوبة وظلوا منهزمين لا يلوي الأخ على أخيه، وكان هذا من الغريب أن طائفتين تنهزمان كل واحدة منهما من صاحبتها.
مزايا حكم طغتكين:
كان الفرنج منذ وطئوا تراب الشام أوائل العقد الأخير من القرن الخامس إلى أواخر العقد الثاني من القرن السادس يتساندون وقل أن يقع شغب بينهم، وربما تقاتلوا ثم اجتمعوا على سلام، وتواكلوا وتآنسوا لأن موقفهم يدعوهم إلى جمع الكلمة، ولئن ألفوا أربع إمارات متحدة فهي إمارة واحدة في الواقع، والنجدات تأتيهم بحراً على مراكب أهل بيزة وجنوة مرة ومرتين في السنة، لتعذر قطع البحار إلا في فصل الصيف. فرجال الحملة الصليبية الأولى هي التي كانت افتتحت ما افتتحت من الأصقاع ومادتها القليلة من الزوار والتجار من البحر. وملوك الشام يأتيهم المدد من مصر والعراق والجزيرة وديار بكر وديار مضر. ولو كتب للشمال أن يكون في عاصمته حلب رجل عاقل كما كتب لدمشق أن يكون فيها مثل طغتكين، لتيسر إنقاذ البلاد والإجهاز على أعدائها، ولما استطاع الفرنج أن يجبوا إتاوة من حلب وحماة وحمص ولنجت كما نجت دمشق من
إرضاء الفرنج بالمال على عهد طغتكين.
حكم طغتكين دمشق منذ سنة 497، وحكمه كان في الحقيقة قبل عشر
سنين من تاريخ حكومته، حكمها بصورة شرعية بعد وفاة الملك دقاق ابن تتش بن آلب أرسلان وكان خطب أولاً لابن دقاق، وكان دقاق خلف طفلاً له سنة واحدة، فقطع طغتكين وخطب لبكتاش بن تتش عم هذا الطفل، ثم قطع خطبة بكتاش وأعاد خطبة الطفل، وهو آخر من خطب له بدمشق من بني سلجوق، واستوحش بكتاش من طغتكين خوّفته والدته منه وقالت: إنه زوج والدة دقاق وهي لا تتركه حتى يقتلك ويستقيم الملك لولدها، فخاف وحسن له من كان يحسد طغتكين مفارقة دمشق وقصد بعلبك وجمع الرجال والاستنجاد بالفرنج، وكان بكتاش في الثانية عشرة من عمره ومعه ايتكين الحلبي صاحب بصرى.
استمر طغتكين في ملك دمشق خمساً وعشرين سنة حتى مضى لسبيله سنة 522 وكان على غاية العدل والبعد عن الظلم، أعاد إلى الرعية كثيراً من أملاكهم التي اغتصبها منهم ولاة الجور، وجرت عليها أحكام المقاسمة، وأرجعها إلى خراجها القديم، وأحيا الأراضي المعطله، وباع ما كان منها شاغراً للناس ليعمروه، وصرف ما حصل من ثمنها في الأجناد المرتبين للجهاد، فعمرت عدة ضياع وأجريت عيون، وحسنت بإيالة طغتكين دمشق وأعمالها، وعمرت الأقاليم بجميل سياسته وحسن تدبيره، وكثرة إحسانه، وانبسطت الرعية في عمارة الأملاك في باطن دمشق وظاهرها، ولذلك اشتد حزن الدمشقيين عليه، ولم تبق محلة ولا سوق إلا والمآتم قائمة فيه عليه. قال ابن عساكر: كان طغتكين شهماً مهيباً مؤثراً لعمارة ولايته، شديداً على أهل العيث والفساد. وقال آخر في وصفه: إنه لا يشبه غيره من ملوك الطوائف، وكان على شيء من التدين حتى إنه لما عاون أهل صور على دفع الصليبيين سنة 505 ولم يفوا له بما كانوا بذلوه له من تسليم البلد
قال: إنما فعلت ما فعلت لله تعالى وللمسلمين لا لرغبة في مال ولا مملكة.
وكأن طغتكين كان مبشراً بظهور آل زنكي وآل أيوب في هذه الديار يردون حملة الغرب عن الشرق، ويكفونها معرّة التفرق، ويجمعون كلمتها على الحق والمطالبة به فتصبح مملكة برأسها، تأتمر الأقطار المجاورة
بأمرها، وتسير معها إلى الغاية التي هي تنشدها من رد عادية الصليبيين. وكان في حذقه بسياسته كما قيل يستخدم الفضائل والرذائل في الناس كما تستخدم الطبيعة فضول الأغذية فتجعلها في أشياء تنتفع بها. ولقد أوقف طغتكين سير الصليبيين عن التوغل في أحشاء المملكة، وقصر حكمهم على الساحل وعلى إنطاكية والقدس وطبرية، ولولا قيامه ذاك القيام المحمود لفتح الصليبيون دمشق وحلب، وكثيراً ما كانوا يغزون ربضهما وضاحيتهما، واكتفى المسلمون والفرنج بإضعاف قوى بعضهم بعضاً تارة، وعقد المهادنات طوراً، ولم تسفّ دمشق إلى دفع الغرامات للصليبيين على عهد طغتكين معتبرة نفسها الأم والعاصمة أكثر من غيرها من حواضر الشام، ولو أخذت دمشق لاستصفي الشام كله ولا نقطع ما بين مصر وهذا القطر من الاتصال، وصعب بعد ذلك إخراج الفرنج منه، فبقاء الرابطة مع مصر من البر ومن البحر إلى أن سقطت صور، حصر الفرنج في بقعة معينة لا تتعدى الطريق إلى بيت المقدس عن طريق الساحل.
ولو كان جميع أمراء الشام على مثل سيرة طغتكين، لخلفت وطأة الفرنج كثيراً في هذه الثلاثين سنة، وماذا يرجى من خير الأمراء إذا كان صاحب بعلبك يطلعهم على عورات المسلمين، وصاحب أفامية يقطع السابلة وابنه يحث الفرنج على قصد بلد أبيه، وصاحب حمص يشارك قطاع الطريق وكذلك ابنه خير خان، وبأمثال هذه الطبقة لا تخلص الرعية ويتعذر سوق القوم إلى طريق الخير، وهم لا يزالون مختلفين لأنهم يرون من عملهم أن يستبعدوا من صاروا إليهم وينعموا ولو
بإهلاكهم، لا أن يحافظوا على ملك ويدافعوا عن ذمار. ولذلك كان ظهير الدين بسياسته الحسنة مع ملوك الأطراف المرجع في الشام، أطلق الخليفة العباسي يده فيه منذ سنة 509 حرباً وخراجاً، وجعل ارتفاعه على إيثاره واختياره، لما بان من حسن بلائه وجميل سيرته في رعيته. على حين بدلت حلب عدة ملوك خلال دوره، وكان بعضهم يتنازعون ويتفاشلون ويتقاتلون.
كانت أخبار المسلمين تصل إلى الفرنج بسرعة، والغالب أن هؤلاء برعوا في التقاط الأخبار أكثر من الذين نزلوا عليهم، فكان الفرنج عندما