الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وشغلهم أجناد الشام عنه، وقد كان عمر اتخذ في كل مصر على قدره خيولاً من فضول أموال المسلمين عدةً لكون إن كان. فكان بالكوفة أربعة آلاف فرس، فلما وقع الخبر لعمر كتب بأن يسرح الجند منها إلى الشام مدداً لأبي عبيدة. ولما أحيط بالمسلمين جمع أبو عبيدة الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال: أيها الناس إن هذا يوم له ما بعده أما من حيي منكم فإنه يصفو له ملكه وقراره، وأما من مات منكم فإنها الشهادة. فأحسنوا بالله الظن ولا يُكرِّهن إليكم الموت أمر اقترفه أحدكم دون الشرك، توبوا إلى الله وتعرضوا للشهادة فإني أشهد، وليس أوان الكذب، أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة. وكأنما كان في الناس عقل تنشطت، فخرج بهم وخالد على الميمنة وعباس
على الميسرة وأبو عبيدة في القلب وعلى باب المدينة معاذ بن جبل فاجتلدوا بها، فإنهم كذلك إذ قدم القعقاع متعجلا في مائة وانهزم أهل قنسرين بالروم، فاجتمع القلب والميمنة على قلبهم، وقد انكسر أحد جناحيه وأوعبوا المدد، فما أفلت منهم مخبر، وذهبت الميسرة على وجهها، وكان آخر من أصيب منهم بمرج الديباج انتهوا إليه فكسروا سلاحهم وألقوا يلامقهم تخفيفا فأصيبوا وتغنموا. ولما ظفر المسلمون جمعهم أبو عبيدة فخطبهم وقال: لا تتكلوا ولا تزهدوا في الدرجات فلو علمت أنه يبقى منا أحد لم أحدثكم بهذا الحديث.
منزلة أبي عبيدة وبعد نظر عمر:
توفي أبو عبيدة في طاعون عمواس سنة 19 وكان من أعماله في الشام وعدله ما حببه إلى الروم حتى إنهم لما فتحوا له باب الجابية بدمشق سنة أربع عشرة للهجرة ودخل خالد بن الوليد من الباب الشرقي عنوة، قال خالد لأبي عبيدة: اسبهم فإني دخلت وشرحبيل بن حسنة عنوة، فأبى أبو عبيدة. ولذلك كان الروم يميلون إلى أبي عبيدة دون خالد
ابن الوليد. ولما طعن أبو عبيدة بالأردن دعا من حضره من المسلمين فقال: إني موصيكم بوصية إن قبلتموها لن تزالوا بخير: أقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصوموا شهر رمضان، وتصدقوا وحجوا واعتمروا، وتواصوا، وانصحوا لأمرائكم، ولا تغشوهم، ولا تلهكم الدنيا، فإن امرأ لو عمر ألف حول ما كان له بد من أن يصير إلى مصرعي هذا الذي ترون، إن الله تعالى كتب الموت على بني آدم فهم ميتون، وأكيسهم أطوعهم لربه، وأعملهم ليوم معاده والسلام عليكم ورحمة الله. يا معاذ ابن جبل صلِّ بالناس ومات رضي الله عنه. وكان عهد بولاية دمشق لسعيد العدوي وسويد الفهري وكلهم من الصحابة الكرام. وكان عياض ابن غنم مع ابن عمه أبي عبيدة بن الجراح في الشام، فلما توفي أبو عبيدة استخلفه بالشام فأقره عمر بن الخطاب وقال: لا أغير أميرا أمَّره أبو عبيدة.
ولما ولى أبو عبيدة معاذا قام هذا في الناس فقال: أيها الناس توبوا إلى الله من ذنوبكم توبة نصوحا، فإن عبدا لا يلقى الله تعالى إلا تائبا من ذنبه إلا كان حقا على الله أن يغفر له، من كان عليه دين فليقضه، فإن العبد مرتهن بدينه، ومن أصبح منكم مهاجرا أخاه فليلقه فليصالحه، ولا ينبغي لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، والخطب العظيم أنكم أيها المسلمون قد فجعتم برجل ما أزعم أني رأيت عبدا أبر صدرا، وأبعد من الغائلة، ولا أشد حبا للعامة، ولا أنصح للعامة منه، فترحموا عليه رحمه الله تعالى، واحضروا الصلاة عليه.
وأقام معاذ على إمرته ولم تطل مدته حتى مات في طاعون عمواس في هذه السنة واستخلف معاذ عمرو بن العاص. ولما قدم عمر إلى الشام بالجابية أمر عمرو بن العاص بالمسير إلى مصر، وبقي الشام ليزيد بن أبي سفيان، ولم يطل أمد ولايته طويلا حتى هلك في طاعون عمواس أيضا. وعمواس من الرملة على أربعة أميال مما يلي بيت المقدس. والطاعون الذي عرفت به مات به خمسة وعشرون ألفا وطمع العدو في الشام بسببه.
وأبو عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة كان عظيما بإخلاصه للإسلام،
عظيما بنفسه وعدله وشجاعته، والشام مدين لفضله بفتحه وتمهيد أموره. ذكر أهل الأخبار عن عائشة أنها قالت: سمعت أبا بكر يقول: لما كان يوم أحد ورمي رسول الله في وجهه حتى دخلت في وجنتيه حلقتان من المغفر فأقبلت أسعى إلى رسول الله وإنسان قد أقبل من قبل المشرق يطير طيرانا فقلت: اللهم اجعله طاعة حتى توافينا إلى رسول الله، فإذا أبو عبيدة ابن الجراح قد بدرني فقال: أسألك بالله يا أبا بكر ألا تركتني فأنزعه من وجنة رسول الله قال أبو بكر: فتركته فأخذ أبو عبيدة بثنيته إحدى حلقتي المغفر فنزعها وسقط على ظهره وسقطت ثنية أبي عبيدة، ثم أخذ الحلقة الأخرى بثنيته الأخرى فسقطت، فكان أبو عبيدة في الناس
أثرم.
هذا مثال من قوة نفس أبي عبيدة وحبه لرسول الله. شهد أبو عبيدة واسمه عامر بن عبد الله بدراً وأُحداً وثبت يوم أُحد مع الرسول حين انهزم الناس وولوا، وشهد الخندق والمشاهد كلها مع رسول الله وكان من علية أصحابه. طلب أهل نجران من الرسول أن يبعث معهم رجلاً أميناً. قال: لأبعثن إليكم رجلاً أمينا حقَّ أمين حقَّ أمين حقَّ أمين قالها ثلاثاً: فبعث أبا عبيدة. قال أبو عبيدة وهو أَمير على الشام: يا أَيها الناس إني امرؤ من قريش وما منكم من أحد أحمرَ ولا أسودَ يفضلني بتقوى إلا وددت أني في مسلاخه. قال عمر بن الخطاب لجلسائه: تمنوا فتمنوا فقال عمر بن الخطاب: لكني أتمنى بيتاً ممتلئا رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح قال سفيان فقال له رجل: وما ألوت الإسلام فقال: ذاك الذي أردت. وقال عمر بن الخطاب: لو أدركت أبا عبيدة بن الجراح لاستخلفته وما شاورت، فإن سئلت عنه قلت: استخلفت أمين الله وأمين رسوله، وفي رواية لو سألني عنه ربي لقلت سمعت نبيك يقول: هو أمين هذه الأمة، وقال عمر: لئن عشت إن شاء الله لأسيرن في الرعية حولاً، فإني أعلم أن للناس حوائج تقطع دوني. أما عمالهم فلا يرفعونها وأما هم فلا يصلون إليَّ، فأسير إلى الشام فأقيم شهرين وبالجزيرة شهرين وبمصر
شهرين وبالبحرين شهرين وبالكوفة شهرين وبالبصرة شهرين. وكان عماله على مثاله من العدل والزهد وحب الحق. قالوا: إنه ولى سعيد بن عامر ابن حذيم حمص وكان لا يقبض رزقه وعطاءه، ولما قدم عمر حمص أمر أن يكتبوا له فقراءهم فرفع الكتاب إليه فإذا فيه سعيد بن عامر، فبكى عمر ثم عدّ ألف دينار فصرّها وبعث بها إليه فبكى سعيد وانتحب ثم اعترض جيشا من جيوش المسلمين فأعطاهم إياها، ولامته زوجته على عمله وقالت: لو كنت حبست منها شيئا نستعين به فلم يلتفت إلى قولها.
بمثل هؤلاء النوابغ المخلصين فتحت الأمصار وتمهدت، ودخل الناس في الإسلام أفواجا. وبمثل هذه الأمانة والعدل والإحسان استمال العرب القلوب فأصبح أعداؤهم أولياءهم، بعد أن شاهدوا عيانا ما انطوت عليه تلك النفوس الكبيرة. قالوا: إن الأقطار الحارة ضنينة بالنوابغ العاملين فأكذب العرب في هذا المثال من فتوحهم ذاك النظر بمن أخرجوا من رجالاتهم الذين أدهشوا، على قلتهم وفقرهم، العالم المعروف إذ ذاك بشجاعتهم وصبرهم، وقناعتهم وإخلاصهم، وتوجيه قوى الصغير والكبير منهم إلى مقصد واحد، أي إنهم كانوا موحّدين في عقائدهم، موحّدين في مقاصدهم، وهذا غريب من نصف أميين ليس لهم في المدينة قدم راسخة.