الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المثل ثم لما لم يبق أحد من أسرى المسلمين كاتب نقفور ملك الروم على الصلح. قال ابن الوردي: وهذه من محاسن سيف الدولة. ومن حسناته أنه أنفق في سنة 355 على فداء الأسرى خمسمائة ألف دينار، وكان ورث هذا المبلغ من أخته.
وذكر المؤرخون أنه كان يقف على مائدة سيف الدولة أربعة وعشرون طبيباً، لينصحوا له بتناول ما ينفع مزاجه، وأنه كان من أهل الأدب وغيرهم من يتناول رزقين وثلاثة. وفي باب كرمه وإسرافه غرائب، منها أنه أنفق تسعمائة ألف دينار في جهاز ابنته وعرسها، وضرب دنانير في كل دينار ثلاثون ديناراً وعشرون وعشرة. قال الأزدي: ويقال إنه جاد بما لم يجد به أحد. قالوا: إنه كان لا يملك نفسه، ويجود بكل ما لديه إذا قصده من يريد إكرامه، كل هذا على ما فيه من
المفاخر يحمل في مطاويه الظلم وإعنات الرعية. فسيف الدولة ممن خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً وحسناته أكثر.
ابتداء الدولة الفاطمية:
كان كافور آخر ملوك الإخشيديين مملوكاً حبشياً ذا عقل ودراية وحسن إدارة، استولى بالفعل على زمام الحكم في مصر والشام على عهد أبي القاسم أنوجور محمود وأبي الحسن علي، ولدي محمد بن طغج الإخشيدي رأس الدولة الإخشيدية، ثم تولاه مستقلاً بنفسه، وقام بالأمر بعده أبو الفوارس أحمد، بمعنى أن الدولة الإخشيدية امتدت أربعاً وثلاثين سنة من سنة 323 إلى 357 ولما آذنت شمسها بالأفول انتشرت الفوضى في المملكة، فرأى عقلاء مصر أنه لا ينجيها مما صارت إليه إلا إلقاؤها في أحضان دولة قوية فتية تنقذ الأمة من بلائها، وكان للقائم بالدولة الفاطمية أو العُبَيدية التي نشأت في المغرب وامتد سلطانها هوى في هبوط مصر ففاوضوه في أمرها، وكان حاول غير مرة أن يستولي عليها فرده عنها جيش بني العباس.
وبلغ المعز الفاطمي اختلاف الأهواء وتفرق الآراء، فجهز العسكر
إليها بإشارة المصريين، فهربت العساكر الإخشيدية من القائد جوهر الذي جاء مصر في مائة ألف محارب وألف وخمسمائة جمل تحمل الذهب والفضة، واتفق أن ورد القرامطة إلى دمشق، وأتوا عليها وعلى سائر أعمالها، وساروا إلى الرملة ولقيهم الحسن بن عبيد الله بن طغج، ووقع بينهم حرب عظيمة بظاهر الرملة في ذي الحجة سنة 357، فانهزم ابن عبيد الله من الشام ودخل إلى مصر، فاستولت القرامطة على الرملة واستباحوها، فقاطعهم أهلها على مائة وخمسة وعشرين ألف دينار، شروا بها أنفسهم منهم وأخذوا من أعمالهم بشراً كثيراً. وإذ رأى الروم أن مصر قد عبثت بها الفوضى، وأن الشام في ضعف ووهن، أغاروا على الشام
358 فقتلوا وسبوا في حمص والثغور وقتلوا خلائق وسبوا نحو مائة ألف إنسان، وخاف المسلمون، ولم يشكوا في أن الروم يملكون الشام ومصر والجزيرة وديار بكر لخلو الجميع عن المانع. فأقام جوهر الخطبة للمعز الفاطمي. قال المسبّحي: لما استقر المعز بمصر انفرد بها ولم يدخل تحت طاعة الخلفاء العباسية وادعى الخلافة لنفسه بمصر وقال: نحن أفضل من الخلفاء العباسية لأننا من ولد فاطمة بنت رسول الله. ولما استقرت قدم جوهر بمصر، سير جمعاً كثيراً مع جعفر بن فلاح إلى الشام فبلغ الرملة وبها الحسن بن عبيد الله بن طغج، وجرت بينهما حرب أُسر عقيبها ابن طغج واستولى جعفر على فلسطين، وجبى أموالها ثم سار إلى طبرية، فوجد أهلها قد أقاموا الدعوة للمعز قبل وصوله، فجهز منها من استمال من بني مرة وفزارة لحرب بني عقيل بحوران والبثنية وأردفهم بعسكر من أصحابه، فواقعوا بني عقيل وهزموهم إلى أرض حمص، وسار هو من طبرية إلى دمشق، فقاتله أهلها فظفر بهم وملكها بعد فتن وحروب ونهب بعضها وأحرق الآخر. وأقام الخطبة للمعز سنة 359 وقطعت الخطبة العباسية، واستقرت دمشق للمعز الفاطمي. وأصبح بنو عبيد الفاطميون خلفاء مصر والشام والمغرب.
وكان رئيس الثورة بدمشق سيدها وصدرها في عصره أبو القاسم بن أبي يعلى الهاشمي العباسي. فأخذه جعفر بن فلاح وشدَّه على جمل،
وفوق رأسه قلنسوة، وفي لحيته ريش، وبيده قصبة وبعث به إلى مصر. وضرب الفاطميون على دمشق دية عم الناسَ البلاء في جبايتها، وتطلب حمال السلاح فظفر بقوم منهم، وضرب أعناقهم وصلب جثثهم، وعلق رؤوسهم على الأبواب.
وفي سنة 360 أنفذ جعفر غلامه فتوحاً على عسكر إلى إنطاكية، وكان لها في أيدي الروم نحو من ثلاث سنين، وسير إلى أعمال دمشق وطبرية وفلسطين فجمع منها الرجال، وبعث عسكراً بعد عسكر إلى إنطاكية، وكان الوقت شتاء فنازلوها
حتى انصرم الشتاء وهم مُلِحُّون في القتال، فلم يظفر بطائل، وانهزم عسكره آخر الأمر وقتل منهم كثيرون. وبلغ جعفر بن فلاح مسير القرامطة إلى الشام وقد أمدّهم صاحب بغداد لقتال جيش الفاطميين فاستهان بهم وواقعهم. فانهزم منهم قرب دمشق وقتل في المعركة، وملك القرامطة دمشق وأمنوا أهلها ثم ساروا إلى الرملة فملكوها واجتمع إليهم كثير من الإخشيدية. قتل القرامطة جعفر بن فلاح مخافة أن يفوتهم حمل المال الذي كان تقرر بينهم وبين ابن طغج، وهو ثلاثمائة ألف دينار في السنة، وساروا يريدون الرملة، وعليها سعادة بن حيان فالتجأ إلى يافا، ونزل عليه القرمطي، وقد اجتمعت إليه عرب الشام فناصبها القتال حتى أكل أهل المدينة الميتة وهلك أكثرهم جوعاً، وسير جوهر من مصر نجدة إلى أصحابه المحصورين بيافا، ومعهم ميرة في خمسة عشر مركباً، فأرسل القرامطة مراكبهم إليها فأخذوا مراكب جوهر ولم ينج منها غير مركبين غنمتهما مراكب الروم.
اصطلح قرعوية 360 مولى سيف الدولة بن حمدان متولي حلب وأبا المعالي شريف بن سيف الدولة، فخطب له قرعوية بحلب، وخطبا في معاملتيهما لإمام المعز الفاطمي بحلب وحمص. بمعنى أن بني حمدان وهم شيعة أسرعوا في نزع أيديهم من أيدي العباسيين، ووضعوا أيديهم في أيدي الفاطميين الشيعة، بيد أن الفاطميين لم يجدوا نصيراً قوياً في الشام، لأن السواد الأعظم من أهل السنة والجماعة كانوا يخالفونهم في مذهبهم، وقد بلغهم ما صارت إليه مصر من تغيير مذهب أهلها ومصطلحهم في
أذانهم وصلواتهم، فشق عليهم ذلك وعزموا أن يقفوا للفاطميين بالمرصاد. ومن ذلك ما وقع سنة 361 من التقاء سعد أمير عرب الشام بحسان بن جراح الطائي في عربه، واتفقا على أن ينزعا حكم مصر من الشام، وكان جيش المعز حارب عرب الشام في حوران حرباً دامية، فأرسل المعز إلى حسان ووعده بمائة ألف دينار إن خذل أمير الشام. ولما دارت الحرب بينهما
انهزم حسان بالعرب فضعف جانب سعد وقوي عليه المعز وكسره. وقطعت خطبة المعز من دمشق أيام القرامطة وبقيت إلى أن استردها سنة 363 وأرسل المعز قائده ظالم بن موهوب والياً على دمشق فعظم أمره وكثرت جموعه ثم وقع بينه وبين أهلها فتن دامت إلى سنة 364.
وتفصيل ذلك أن المعز سير القائد أبا محمود يتبع القرامطة فنزل بظاهر دمشق، وامتدت أيدي أصحابه بالعبث والفساد وقطع الطرق، فاضطرب الناس وخافوا، فوقعت فتنة عظيمة بين عسكره وبين العامة، وجرى بين الطائفتين قتال شديد وظالم بن موهوب مع العامة، فأحرق جانب من المدينة وهلك جماعة من الناس، وعادت الفتنة بعد أن اصطلح المتقاتلون إلى شدتها بينهما 364 واتفقوا على إخراج ظالم من البلد، ووليه جيش بن الصمصامة، وعاد المغاربة أي جيش الفاطميين وعاثوا وأفسدوا فثار العامة وقاتلوهم، ثم زحف جيشه في العسكر إلى البلد وقاتله أهله فظفر بهم وهزمهم، وأحرق من المدينة ما كان سلم، ودام القتال بينهم أياماً، فاضطرب الأهلون وخافوا وخربت المنازل وانقطعت المواد، وانقطع الماء والميرة عن البلد، وهلك الفقراء على الطرقات جوعاً وبرداً، ووصل الخبر إلى المعز فأنكر ذلك واستبشعه، فأرسل إلى القائد ريان الخادم والي طرابلس يأمره بالسير إلى دمشق لمشاهدة حالها وكشف أُمور أهلها.
واتفق أن أفتكين غلام عضد الدولة انهزم في خلال هذه الأيام من المدائن فنزل على حمص في طائفة من الترك والأعراب، وكان الأحداث قد غلبوا على دمشق وليس للأعيان معهم حكم، فخرج أشرافها وشيوخها يظهرون السرور بمقدم أفتكين ويبايعونه على الطاعة لينقذهم من المصريين، فنزل على دمشق وأخذها من ريان الخادم. وأقام العدل في الناس وكفَّ
أيدي الأعراب الذين كانوا عاثوا في الأرض فساداَ، وأخذوا عامة المرج والغوطة، ودخل البلد وخطب للطائع العباسي، وأبان
في جميع مواقفه عن شجاعة وقوة نفس وحسن تدبير، فأذعنت له العرب، وأقطع الأرضين، وكثر جمعه، وتوفرت أمواله وثبتت قدمه، وكاتب المعز يداريه ويظهر له الانقياد.