المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثانيا: منزلة السنة من القرآن الكريم: - دراسات في تميز الأمة الإسلامية وموقف المستشرقين منه - جـ ٢

[إسحاق السعدي]

فهرس الكتاب

- ‌الربانية وموقف المستشرقين منها

- ‌تمهيد

- ‌مفهوم الربانيَّة

- ‌أ- معنى الربانية لغة:

- ‌ب- معنى الرَّبَّانيَّة اصطلاحًا:

- ‌القرآن الكريم المصدر الأساس لربانية تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة

- ‌أ- تعريف القرآن الكريم وأشهر أسمائه:

- ‌ب- مصدر القرآن الحريم ونصه:

- ‌السنة الشريفة ومنزلتها من القرآن الكريم

- ‌أولًا: تعريف السنة:

- ‌ثانيًا: منزلة السُّنَّة من القرآن الكريم:

- ‌موقف المستشرقين من خصيصة الربَّانيَّة

- ‌أولًا: أقوالهم في القرآن الكريم:

- ‌ثانيًا: أقوالهم في السنة النبوية والسيرة النبوية:

- ‌العالمية وموقف المستشرقين منها

- ‌تمهيد

- ‌مفهوم العالمية

- ‌أ- تعريف العالميَّة لغة:

- ‌ب- تعريف العالميَّة في الاصطلاح:

- ‌دلائل عالمية الإسلام من الكتاب والسنة، ووقائع السيرة النبوية، وأحداث التاريخ الإسلامي

- ‌أولًا: القرآن الكريم:

- ‌ثانيًا: وأمَّا في السنة النبوية:

- ‌دلائل عالمية الأُمَّة الإسلاميَّة، من العقيدة والنظم

- ‌موقف المستشرقين من خصيصة العالَمِيَّة

- ‌أولًا: موقف المنكرين لخصيصة العالَمِيَّة وأدلة إنكارهم مع الرد عليها:

- ‌ثانيًا: موقف من نفى خصيصة العالمية من حيد حونها من المبادئ التي تميزت بها الأُمَّة الإسلاميَّة على الرغم من الإقرار بها تاريخيًّا بسبب ما أفضى إليها تطور الأمَّة، وتدل على هذا الموقف آراء بعض المستشرقين، كما يتضح مِمَّا يأتي:

- ‌ثالثًا: موقف المتشككين في عالمية الإسلام:

- ‌الوسطية وموقف المستشرقين منها

- ‌تمهيد

- ‌مفهوم الوسطية

- ‌أ- الوسطيَّة في اللغة:

- ‌ب- أمَّا عن معانيها

- ‌وسطية الأُمَّة في مجال العقيدة والعبادة

- ‌أولًا: في الجانب العقدي:

- ‌ثانيًا: في جانب العبادة:

- ‌وسطية الأُمَّة في مجال التشريع والأخلاق

- ‌أولًا: في مجال التشريع:

- ‌ثانيًا: في مجال الأخلاق:

- ‌موقف المستشرقين من خصيصة الوسطية

- ‌وفيما يأتي بعض النماذج على ذلك:

- ‌ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره بعض المستشرقين عن هذه الوسطية:

- ‌الإيجابية الخيرة وموقف المستشرقين منها

- ‌تمهيد

- ‌مفهوم الإيجابية الخيرة

- ‌أ- المسارعة:

- ‌ب- السبق:

- ‌جوانب مفهوم إيجابية الأمة الإسلامية

- ‌موقف المستشرقين من خصيصة إيجابيَّة الأُمَّة الإسلاميَّة

- ‌النموذج الأول:

- ‌النموذج الثاني:

- ‌تحقيق العبودية للَّه وموقف المستشرقين منها

- ‌تمهيد

- ‌مفهوم العبادة، ومقتضياتها

- ‌أ- العبادة في اللغة:

- ‌ب- العبادة في الاصطلاح:

- ‌ج- مقتضيات العبادة في الإسلام:

- ‌أنواع العبادة وصورها

- ‌ومن العبادات الاعتقاديَّة:

- ‌ومن العبادات القلبيَّة:

- ‌ومن العبادات اللفظيَّة:

- ‌ومن العبادات البدنيَّة:

- ‌أمَّا العبادات الماليَّة:

- ‌روح العبادة وأسرارها

- ‌آثار العبادة في الفرد وفي الأُمّة

- ‌أولًا: الصلاة:

- ‌ثانيًا: الزكاة:

- ‌ثالثًا: الصوم:

- ‌رابعًا: الحج:

- ‌موقف المستشرقين من قضية العبودية للَّه

- ‌ويعالج هذا في نقطتين بارزتين:

- ‌فمن أقوال المستشرقين وآرائهم:

- ‌أمَّا الرد على أقوالهم وآرائهم فستتركز في النقاط الآتية:

- ‌ولعل مِمَّا يدلُّ على صحة هذا الفهم والتفسير ما يأتي:

- ‌تحقيق الاستخلاف وموقف المستشرقين منها

- ‌تمهيد

- ‌مفهوم الاستخلاف وأهميته

- ‌أ- معنى الاستخلاف في اللغة:

- ‌ب- مفهوم الاستخلاف عند بعض المفسرين والعلماء والباحثين:

- ‌ج- تعريف الاستخلاف في الاصطلاح:

- ‌د- أهمية الاستخلاف:

- ‌مقومات الاستخلاف بعامّة

- ‌أولًا: العلم:

- ‌ثانيًا: التسخير:

- ‌مقومات استخلاف الأمَّة الإسلامية بخاصة

- ‌أولًا: العلم:

- ‌ثانيًا: التسخير:

- ‌موقف المستشرقين من قضية استخلاف الأُمَّة الإسلاميَّة

- ‌وسيلة اللغة العربية وموقف المستشرقين منها

- ‌مكانة اللغة العربيَّة وارتباطها بالإسلام

- ‌موقف المستشرقين من اللغة العربيَّة

- ‌الرد على الشبهة الأولى:

- ‌الرد على الشبهة الثانية:

- ‌الرد على الشبهة الثالثة:

- ‌الرد على الشبهة الرابعة:

- ‌وسيلة تاريخ الإسلام وحضارته وموقف المستشرقين منه

- ‌تمهيد

- ‌الالتزام بالإسلام والاعتزاز به

- ‌أ- أمَّا في المفاهيم

- ‌ب- الالتزام بالإسلام والاعتزاز به في المناهج

- ‌1 - السببيَّة:

- ‌2 - القانونية التاريخيَّة:

- ‌3 - منهج البحث الحسي (التجريبي):

- ‌جـ- الالتزام بالإسلام والاعتزاز به من خلال المواقف

- ‌الوعي الثقافي الشامل

- ‌الناحية الأولى:

- ‌الناحية الثانية:

- ‌التعاون والتكامل

- ‌الدعوة والجهاد

- ‌1 - الجهاد التربوي:

- ‌2 - الجهاد التنظيمي:

- ‌3 الجهاد العسكري:

- ‌موقف المستشرقين من تاريخ الإسلام وحضارته

- ‌أولًا: نقد بعض المستشرقين للمنهج الاستشراقي:

- ‌ثانيًا: نقد بعض المفكرين والباحثين من العرب والمسلمين للمنهج الاستشراقي:

- ‌ثالثًا: نماذج لأهم القضايا التي تطرقت إليها دراسات المستشرقين لتاريخ الإسلام وحضارته:

- ‌1 - الدعوة والجهاد

- ‌2 - العادات والتقاليد:

- ‌3 - الجانب السياسي والحضاري من تاريخ الأُمَّة الإسلاميَّة:

- ‌رابعًا: استخلاص موازين البحث عند المستشرقين:

- ‌مبحث ختامي

- ‌تقويم الحركة الاستشراقية ومنهج الإسلام في مواجهتها

- ‌أساليب مواجهة تحدي الاستشراق والمستشرقين ووسائلها

- ‌الخاتمة

- ‌1 - في ضوء الدراسة التأصيلية لتميز الأُمَّة الإسلاميَّة، تبين الآتي:

- ‌أ- عقيدة التوحيد

- ‌ب- الشريعة الإسلاميَّة الغراء

- ‌ج- الأخُوَّة الإسلاميَّة ووحدة الأمَّة

- ‌د- الخصائص التي تفرد بها تَمَيُّز الأمَّة الإسلاميَّة؛ وأهمها:

- ‌هـ - أهداف تَمَيُّز الأمَّة الإسلاميَّة

- ‌و- وسائل تَمَيُّز الأُمَّة الإسلاميَّة

- ‌2 - وفي ضوء الدراسة النقديَّة لموقف المستشرقين من تَمَيُّز الأُمَّة الإسلاميَّة، تبين الآتي:

- ‌المصادر والمراجع

- ‌نبذة تعريفية الإدارة العامة للأوقاف

الفصل: ‌ثانيا: منزلة السنة من القرآن الكريم:

مِمَّا لم ينطق به الكتاب العزيز، ولهذا يقال في أدلة الشرع الكتاب والسُّنَّة، أي: القرآن والحديث) (1).

وقد كثرت المعاني التي اصْطُلِحَ عليها في تعريف السُّنَّة بالنظر لتعدد العلوم التي تُعنى بالسُّنَّة (فهي عند المحدثين غيرها عند الأصوليين والفقهاء، والشارع في أي علم عليه أن يلم باصطلاحات أهله؛ لئلا تلتبس عليه الأمور وتضطرب الموازين)(2).

وعلى الرغم من ذلك فإنَّ المعنى المراد هنا بالسُّنَّة: ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من أقوال وأفعال (تؤكد ما ورد في القرآن الكريم، أو تفسر أحكامه وتبين شرائعه؛ من تفصيل لمجمل، أو تخصيص لعام أو تقييد لمطلق، أو توضيح لمشكل، أو بزيادة على ما ثبت في القرآن الكريم في حكم من الأحكام، أو بإنشاء حكم سكت عنه القرآن وثبت بالسنة، ونحو ذلك مِمَّا يقتضيه الأخذ بالسُّنَّة، كنسخها لبعض أحكام القرآن الكريم)(3).

‌ثانيًا: منزلة السُّنَّة من القرآن الكريم:

أ- تماثل السُّنَّة القرآن الكريم في كونها وحيًا من اللَّه عز وجل لقوله

(1) النهاية في غريب الحديث: مادة (سنن)، (مرجع سابق).

(2)

البغوي: شرح السنة 1/ 11، (مرجع سابق). وانظر: محمد لقمان السلفي: السُّنَّة (حجيتها ومكانتها في الإسلام والرد على منكريها): ص 12، الطبعة الأولى 1409 هـ، عن مكتبة دار الإيمان - المدينة المنورة.

(3)

انظر: محمد بن إدريس الشافعي: الرسالة، تحقيق وشرح: أحمد محمد شاكر: 88، 91، 92، 150 - 156، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، (بدون تاريخ)، (لمزيد الاطلاع على أمثلة مستفيضة على جميع هذه الأحوال). وانظر: ابن قيم الجوزية: أعلام الموقعين 2/ 220 - 274، وانظر: حسين مطاوع الترتوري، (مجلة البحوث الإسلامية، الصادرة عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية. . الرياض) مقال بعنوان: مصادر النظم الإسلاميَّة: ص 145 - 147، (مرجع سابق).

ص: 537

تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4]، ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"اكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلَّا حقٌّ" وأشار بيده إلى فيه) (1)؛ وذلك في قصة كتابة عبد اللَّه بن عمر بن العاص لما يسمعه عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنَّ قريشًا نهته عن ذلك، وقالوا: تكتب كل شيء تسمعه من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الرضاء والغضب؟) (2)، فأمسك عن الكتابة، وذكر ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم القول المذكور آنفًا.

وفي تفسير قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} قال ابن قيم الجوزية: (أي ما نطقه إلَّا وحي يوحى. وهذا أحسن ما قول من جعل الضمير عائدًا إلى القرآن، فانَّه يعم نطقه بالقرآن والسنة، وأنَّ كليهما وحي يوحى)(3).

وللعلماء في كون السُّنَّة وحيًا من اللَّه تفصيلات طويلة تخرج عن إطار هذه الدراسة (4)، ويكفي منها ما يأتي:

(1) أخرجه الإمام أحمد: مسند الإمام أحمد. . . (مسند عبد اللَّه بن عمرو 2/ 192) الحديث رقم [6763] المجلد 2/ 395، عن دار إحياء التراث، (مرجع سابق)، وزيادة (وأشار بيده إلى فيه) لم ترد هنا، ووردت لدى الحاكم: المستدرك على الصحيحين 1/ 187، الحديث رقم (359/ 70)، (مرجع سابق).

(2)

انظر: الحاكم: المستدرك على الصحيحين: 1/ 187، 188، (المرجع السابق نفسه)، وانظر: ابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله 1/ 300، الحديث رقم [389]، تحقيق: أبي الأشبال، عن دار ابن الجوزي، الطبعة الأولى 1414 هـ - 1994 م - الرياض.

(3)

بدائع التفسير 4/ 276، 277، (مرجع سابق).

(4)

انظر: الشافعي: الرسالة: ص 93 - 103، (مرجع سابق). وانظر: محمد أبو شهبة: دفاع عن السنة ورد شبه المستشرقين والكتاب المعاصرين: ص 3، 4، الطبعة الثانية 1407 هـ - 1987 م، عن دار اللواء. . الرياض، وانظر: محمد محمد أبو زهو: الحديث والمحدثون (أو عناية الأُمَّة الإسلامية بالسنة النبوية): ص 11 - 19، طبعة 1404 هـ - 1984 م، عن دار الكتاب العربي - بيروت.

ص: 538

• أنَّ ما صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم قسمان: (وحيٌ -قطعًا- معصوم عن الخطأ والسهو فيه. . . وهذا القسم: إمَّا أن يكون قد أوحي إليه مصحوبًا بلفظ دال عليه أو لا، فإن كان مصحوبًا به: فإمَّا أن يكون قد قصد به التعبد والإعجاز والتحدي بأقصر سورة منه، وهو القرآن. وإمَّا أن لا يكون كذلك وهو الحديث القدسي. . . ولا شكَّ في أنَّه وحيٌ؛ لأنَّه يخبر به عن اللَّه. . . وهو خبر معصوم عن الكذب، فدلَّ أنه كلام اللَّه، كما دلَّ خبره على أن القرآن كلامه، وإن لم يكن مصحوبًا بلفظ فهو الحديث النبوي. . .، ثُمَّ إنَّ الموحى به إذا لم يكن مصحوبًا بلفظ: فإمَّا أن يكون قد دلَّ عليه الملك [جبريل عليه السلام]، بإشارة أو فعل من أفعاله. . .؛ القسم الثاني: ما صدر عن [النبي صلى الله عليه وسلم]، غير قاصد به التبليغ عن اللَّه، فإمَّا أن يكون قد أقره اللَّه عليه أو لا، فإنْ أقرَّه اللَّه عليه، فهو -وإن لم يكن في ذاته موحًى به- إلَّا أنَّه بمنزلته، وفي حكمه؛ لأنَّ التقرير المصاحب له يدلنا على صحته وحقيقته ومطابقته لما عند اللَّه، بل لم يقتصر الأمر على هذا التقرير: فإنَّ اللَّه تعالى أمرنا باتباعه فيما يصدر عنه؛ فإن كان بعض ما يصدر عنه ليس بوحي -فقد فرض اللَّه علينا- في الوحي اتباعه فيه: فمن قبل عنه فيما لم يوح إليه: فإنَّما قبل بفرض اللَّه. فكان ما يصدر عنه من هذا القبيل بمنزلة الموحى إليه في حقيقته وصوابه بلا شبهة. . . فتبين من هذا كله: أنَّ جميع ما صدر عن الرسول من قول أو فعل أو تقرير، وأقرَّه اللَّه عليه، فهو وحي من عند اللَّه أو بمنزلته)(1).

(1) عبد الغني عبد الخالق: حجيَّة السُّنَّة: ص 334 - 341، الطبعة الأولى 1407 هـ - 1986 م، عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي في واشنطن، ونشر دار القرآن الكريم - بيروت. وانظر: توفيق يوسف الواير: الحضارة الإسلاميَّة مقارنة بالحضارة الغربية: ص 284، (مرجع سابق).

ص: 539

ومِمَّا ترتَّبَ على ذلك: أنَّ سُنَّة المصطفى صلى الله عليه وسلم (حجَّة على العباد يلزمهم العمل بمقتضاها)(1)، وهو ما أجمعت عليه الأُمَّة الإسلاميَّة، كما (أنَّ الإجماع قد انعقد على أنَّه كان يوحى [إلى الرسول صلى الله عليه وسلم] غير القرآن)(2)، وفي مثل قول اللَّه عز وجل:{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة: 2]، قال الشافعي:(الحكمة سُنَّة رسول اللَّه)(3).

• أمَّا بالنسبة لنقل السُّنَّة فإنها تختلف عن القرآن الكريم من حيث إنَّ القرآن الكريم (مقطوع به في الجملة والتفصيل)(4).

والسُّنَّة: (القطع فيها إنَّما يصح في الجملة لا في التفصيل)(5).

ب- تدخل السُّنَّة النبويَّة في حفظ اللَّه تعالى الذي دلَّ عليه قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون} [الحجر: 9]، فقد أكد بعض العلماء أن السُّنَّة داخلة في الذكر، وفي ذلك قال ابن حزم:(فصح أن كلام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كله في الدين وحي من عند اللَّه عز وجل، ولا شكَّ في ذلك، ولا خلاف بين أحدٍ من أهل اللغة والشريعة: في أن كل وحي نزل من عند اللَّه تعالى فهو ذكر منزل، والوحي كله محفوظ بحفط اللَّه تعالى له بيقين. . . لا سبيل البتة إلى ضياع شيء قاله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الدين، ولا سبيل البتة أن يختلط به باطل موضوع اختلاطًا لا يتميز عن أحد من الناس بيقين؛ لأنه لو جاز ذلك لكان الذكر غير محفوظ)(6).

(1) عبد الغني عبد الخالق. المرجع السابق نفسه: ص 341.

(2)

المرجع السابق نفسه: ص 338.

(3)

الرسالة: ص 32، (مرجع سابق). وقد ذكرها في مواضع كثيرة من الرسالة منها ما ورد في الفقرات التالية (96، 245 - 257، 305 - 307).

(4)

الشاطبي: الموافقات 4/ 6، (مرجع سابق).

(5)

المرجع السابق نفسه: ص 6.

(6)

الإحكام في أصول الأحكام 1/ 114، 115، (مرجع سابق).

ص: 540

وما قاله ابن حزم ينطبق على السُّنَّة من حيث الجملة لا على وجه التفصيل، كما ذكر الشاطبي فيما سبق ذكره.

وبالنظر لتاريخ السنة الشريفة تتجلى بعض صور ذلك الحفظ الرباني، فقد حفظ (الصحابة سُنَّة نبيهم في الصدور، ومن أمن منهم التباس السُّنَّة بالقرآن، كتب ما سمعه من رسول اللَّه بعد إذنه، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد نهى عن كتابة الأحاديث، ولا سيما إذا كتب هذا في صحيفة واحدة من القرآن، مخافة التباس أقواله وشروحه وسيرته صلى الله عليه وسلم بالقرآن، وقال: "لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوَّأ مقعده من النار" (1).

وظل الحال على هذا المنوال في عصر الخلفاء الراشدين، ولم يتغير الحال كثيرًا، فأبو بكر رضوان اللَّه عليه يجمع بعض الأحاديث، ثُمَّ يحرقها (2)، وهذا عمر بن الخطاب لا يلبث أن يعدل عن كتابة السُّنَّة بعد أن عزم على تدوينها. . . "فاستشار في ذلك أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأشار عليه عامتهم بذلك، ثُمَّ عدل عن ذلك"(3).

وجاء في عصر التابعين، فمنهم من كان متشددًا في المنع. . . وما

(1) أخرجه مسلم: صحيح مسلم - الحديث رقم [3004]، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق)، والإمام أحمد 1/ 12، 21، 39، 56، (مرجع سابق)، والنسائي: فضائل القرآن 33، (مرجع سابق)، ولمزيد الاطلاع على طرق هذا الحديث ورواته وما قيل في التوفيق بينه وبين الأحاديث الواردة في جواز الكتابة، انظر: مسند أبي يعلى الموصلي، تحقيق: حسين سليم أسد، 2/ 446، 467، الحديث رقم (314/ 1288) وحاشيته، (مرجع سابق).

(2)

انظر: الذهبي: تذكرة الحفاظ 1/ 5، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، (بدون تاريخ).

(3)

انظر: ابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله 1/ 275، (مرجع سابق).

ص: 541

تزال الأخبار عن الخلفاء بمنعه مستفيضة (1)، ثُمَّ جاءت بعدهم طبقة بدأت تستسيغ التدوين. . .، ثُمَّ جاء عهد عمر بن عبد العزيز (101 هـ)، فأمر رسميًّا بالشروع في تدوين الحديث كما هو المشهور) (2)، وتوافر علماء الأُمَّة على كتابة السنَّة وجمعها (3). وقد اشتهر في القرن الثاني الإمام الزهري، (ثُمَّ شاع التدوين في الجيل الذي يلي جيل (الزهري). . .، ثُمَّ جاء القرن الثالث فكان أزهى عصور السُّنَّة وأسعدها بأئمة الحديث وتآليفهم العظيمة الخالدة، فقد ابتدأ التأليف في هذا القرن على طريقة المسانيد، وهي جمع ما يروى عن الصحابي في باب واحد. . . ولكنهم كانوا يمزجون فيها الصحيح بغيره، وفي ذلك من العناء ما فيه على طالب الحديث، فإنَّه لا يستطيع أن يتعرف على الصحيح منها إلَّا أن يكون من أئمة الشأن، فإن لم يكن له وقوف على ذلك اضطر إلى أن يسأل أئمة

الحديث، فإن لم يتيسر له بقي الحديث مجهول الحال عنده (4).

وهذا ما حدا بإمام المحدثين ودرّة السُّنَّة في عصره محمد بن إسماعيل البخاري (256 هـ) أن ينحو في التأليف منحًى جديدًا بأن يقتصر على الحديث الصحيح فقط دون ما عداه، فألف كتابه الجامع الصحيح

(1) انظر: المرجع السابق نفسه 1/ 286 - 297.

(2)

توفيق يوسف الواعي: الحضارة الإسلاميَّة مقارنة بالحضارة الغربية: ص 284، 285، (مرجع سابق).

(3)

انظر: مصطفى السباعي: السُّنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي: ص 104، 105، الطبعة الرابعة، 1405 هـ - 1985 م، عن المكتب الإسلامي، بيروت، المزيد من الاطلاع على بدايات جمع الحديث من الأمصار الإسلامية، ومن جمع الحديث في مكة والمدينة والبصرة والكوفة والشام وغيرها من البلاد الإسلاميَّة).

(4)

قام بعض العلماء بتحقيق مسند الإمام أحمد، كما فعل أحمد محمد شاكر ولم يتمه، وشرعت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلاميَّة بالمملكة العربية السعودية في الرياض، بتحقيقه، وقد أصدرت منه أجزاء عدَّة.

ص: 542

المشهور، وتبعه في طريقته معاصره وتلميذه الإمام مسلم بن الحجاج القشيري (261 هـ) فألف صحيحه المشهور، وكان لهما فضل تمهيد الطريق أمام طالب الحديث ليصل إلى الصحيح من غير بحث وسؤال، وتبعهما بعد ذلك كثيرون، فألفت بعدهما كتب كثيرة.

ثُمَّ جاء القرن الرابع فلم يزد رجاله على رجال القرن الثالث شيئًا جديدًا إلَّا قليلًا مِمَّا استدركوه عليهم، وكل صنيعهم جمع ما جمعه من سبقهم، والاعتماد على نقدهم، والإكثار من طرق الحديث. . . بهذا تَمَّ تدوين السُّنَّة وجمعها، وتمييز صحيحها من غيره، ولم يكن لعلماء القرون التالية إلَّا بعض الاستدراكات على كتب الصحاح كمستدرك أبي عبد اللَّه الحاكم النيسابوري (ت 405 هـ) الذي استدرك على البخاري ومسلم أحاديث يرى أنها من الصحاح متفقة مع شرطيهما مع أنهما لم يخرجاها في صحيحهما، وقد سلم له العلماء -ومن أشهرهم الذهبي- قسمًا منها وخالفوه في قسم آخره) (1).

وخلاصة القول في ذلك: (أنَّ السُّنَّة حفظت زمن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته في الصدور، ودُوِّن بعضها في السطور، وبعد عصر الصحابة بذل العلماء جهودًا كبيرة في التثبت من صحة الأحاديث عن طريق دراسة سند الحديث

(1) مصطفى السباعي: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي: ص 104 - 107، (مرجع سابق). ومِمَّا ينبغي ذكره ما تشهد الأمَّة الإسلاميَّة من إقبال العلماء وطلبة العلم على خدمة السنة وعلومها ومتون الحديث والأثر وشروحها وتراجم أعلامها وخدمة معاجمها، وتحقيق المسانيد والصحاح والسنن والمصنفات المتنوعة. . مع الإفادة من الوسائل الحديثة، ولمزيد الاطلاع انظر: محاضرة لمحمد مصطفى الأعظمي؛ بعنوان: تقنية المعلومات وفك القيود عن كتب السنَّة، ألقاها في قاعة المحاضرات التابعة لمركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية - الرياض، بتاريخ 16/ 6/ 1414 هـ.

ص: 543

ومتنه، دراسة دقيقة، ودراسة السند من العلوم التي اختصت بها الأُمَّة الإسلاميَّة (1)، وهو علم هام يتوقف عليه قبول الحديث أو رده (2)، وبلغ من عناية السلف به اعتبروا (علم أسماء الرجال نصف علم الحديث)(3).

وإلى جانب ذلك فإن علماء الحديث طبقوا منهجًا علميًا نقديًّا شرعيًّا أفاد منه النقد التاريخي في العصر الحديث، واعترف المنصفون بأنَّ منهج علماء الحديث في نقد الرواة وبيان حالهم، وفي حفظ السُّنَّة وكتابتها، وتدوينها. . .؛ يعد تاجًا على رأس الأُمَّة الإسلاميَّة (4)، وقد كان من ثمرات تلك الجهود أن (استقام أمر الشريعة بتوطيد دعائم السُّنَّة التي هي ثاني مصادرها التشريعية، واطمأن المسلمون إلى حديث نبيهم، فأقصي عنه الدخيل، وميَّز بين الصحيح والحسن والضعيف، وصان اللَّه شرعه من عبث

(1) انظر: عاصم بن عبد اللَّه القريوتي: الإسناد من الدين ومن خصائص أُمَّة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، الطبعة الأولى 1406 هـ - 1986 م، عن مكتبة المعلا - الرياض. وانظر: عصام أحمد البشير: أصول النقد عند أهل الحديث، الطبعة الثانية 1412 هـ - 1992، عن مؤسسة الريان للطباعة والنشر - بيروت.

(2)

انظر: مقدمة صحيح مسلم: ص 14 - 29، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق).

(3)

عاصم بن عبد اللَّه القريوتي: الإسناد من الدين: ص 17، (مرجع سابق). وهذا القول منسوب إلى علي بن المديني. انظر: حاجي خليفة: كشف الظنون: 1/ 87، عن المكتبة الفيصلية، مكة المكرمة، (بدون تاريخ).

(4)

انظر: مصطفى السباعي: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي: ص 107، 108، 123، (مرجع سابق). وانظر: محمد مصطفى الأعظمي: دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه: مقدمة الكتاب، صفحة (س)، الطبعة الثالثة، 1401 هـ - 1981 م، عن شركة الطباعة العربية السعودية - الرياض، وانظر: توفيق يوسف الواعي: الحضارة الإسلاميَّة: ص 289، 290، (مرجع سابق).

ص: 544

المفسدين، ودسّ الدَّسَّاسين، وتآمر الزَّنادقة والشعوبيين، وقطف المسلمون ثمار هذه النهضة المباركة) (1).

ج- كونها مصدرًا من مصادر الأحكام وحجة على المكلفين: (اتفق علماء الأُمَّة على أن السُّنَّة بمجموعها حجّة، ومصدر من مصادر الأحكام)(2)، واستدلوا على ذلك بأدلة من الكتاب والسُّنَّة وما كان عليه الصحابة والسلف الصالح.

فمن الكتاب آيات كثيرة جاءت تأمر الأُمَّة بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يشرع لها، وتبين أنَّه مبين لما نزل عليه من القرآن، وحاكم، وقاضٍ، ومعلم يعلم الكتاب (القرآن)، والحكمة (السُّنَّة) كما فَسَّرَها الشافعي بذلك (3).

وقد جاءت تلك الآيات بصيغ عِدَّة كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، وجعل اللَّه تعالى محبة عباده له مرتبطة باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]، وكقوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، وكقوله تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، وقوله تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، وقوله تعالى:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2].

(1) مصطفى السباعي: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي: ص 103، 123، (مرجع سابق).

(2)

حسين مطاوع الترتوري: مصادر النظم الإسلاميَّة، مجلة البحوث الإسلاميَّة. . .، العدد [27]: ص 139، (مرجع سابق).

(3)

انظر: الرسالة للإمام الشافعي: ص 32، 76، 77، 78، 79، (مرجع سابق).

ص: 545

ومِمَّا ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم في وجوب الأخذ بالسُّنَّة أحاديث كثيرة؛ لعل من ألصقها بهذا السياق ما ورد من قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ألفينَّ أحدكم متكئًا على أريكته يأتيه الأمر من أمري، مِمَّا أمرتُ به، أو نهيت عنه، فيقول: لا ندري ما وجدنا في كتاب اللَّه اتبعناه"(1).

وقوله صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، لا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم [لحم] الحمار الأهلي ولا أكل ذي ناب من السبع، ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه"(2)، وقد وردت لهذا الحديث روايات أخرى جاء في بعضها:"وإن ما حرم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مثل ما حرَّم اللَّه"(3).

ثُمَّ إنَّه صلى الله عليه وسلم كان يؤى في وصاياه لأُمَّته على الالتزام بالكتاب والسُّنَّة، وكان يقول:"تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب اللَّه وسنتي"(4)، ويقول:"فإن خير الحديث كتاب اللَّه، وخير الهدي هدي [محمد صلى الله عليه وسلم]، وشر الأمور محدثاتها. . . "(5).

(1) أخرجه أبو داود: سنن أبي داود 4/ 199، الحديث رقم (4605)، (مرجع سابق).

(2)

أخرجه أبو داود: سنن أبي داود 4/ 199، الحديث رقم:(4604)، (مرجع سابق).

(3)

أخرجه الإمام أحمد: مسند الإمام أحمد 4/ 132 الحديث رقم: (1674)، ترتيب: دار إحياء التراث العربي: 5/ 118، 119، (مرجع سابق)، وانظر: الشافعي: الرسالة: ص 90 (مرجع سابق). وانظر: عبد الغني عبد الخالق: حجيَّة السنة: ص 308 - 338، (مرجع سابق).

(4)

سبق تخريجه في مقدمة البحث: ص 22.

(5)

أخرجه مسلم: صحيح مسلم 2/ 592، الحديث رقم [867]، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق). وانظر: ابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله 2/ 1161 الحديث رقم [2300]، تحقيق: أبي الأشبال، (مرجع سابق).

ص: 546

أمَّا الصحابة رضوان اللَّه عليهم فكانوا يلتزمون بالسُّنَّة في جميع شؤون حياتهم، في العقيدة، والعبادة، والخلق، والسلوك، والحياة الخاصَّة والعامَّة، على المستوى الفردي، وعلى مستوى الأُمَّة، وكانوا يحتكمون إليها.

ومِمَّا ورد في تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]؛ ما قاله ابن قيم الجوزية: (وقد أجمع الناس على أن الرد إلى اللَّه إلى كتابه، والرد إلى الرسول هو الرد إليه في حياته، وإلى سنته بعد مماته)(1).

وقال بعض المفسرين عن تفسيرها: (ثُمَّ أمر برد كل ما تنازع الناس فيه؛ من أصول الدين وفروعه، إلى اللَّه والرسول؛ أي: إلى كتاب اللَّه وسنة رسوله؛ فإن فيهما الفصل في جميع المسائل الخلافية، إمَّا بصريحهما، أو عمومهما، أو إيماء، أو تنبيه، أو مفهوم، أو عموم معنى، يقاس عليه ما أشبهه)(2).

وبلغ الأمر بالصحابة رضوان اللَّه عليهم في التأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم أنَّ أحدهم يقتفي أثره في كل شيء حفظه عنه مِمَّا يفعله صلى الله عليه وسلم لم يكن فعله خاصًّا به صلى الله عليه وسلم (3)، تحقيقًا لقوله تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}

(1) بدائع التفسير 2/ 23، 24، (مرجع سابق).

(2)

السعدي: تيسير الكريم الرحمن. . . 2/ 89، (مرجع سابق).

(3)

انظر: السيوطي: مفتاح الجنَّة في الاعتصام بالسنة، (تحقيق: بدر بن عبد اللَّه البدر): ص 120، 121، (مرجع سابق)، حيث أورد من الآثار ما يؤكد شدّة متابعة عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما للرسول صلى الله عليه وسلم، وأنَّه كان يترسم خطأه في حله وترحاله، حتى في أيسر الأحوال. .، وانظر: المرجع نفسه: ص 60 - 79، فقد أورد جملة من القضايا التي كانت تعرض للخلفاء الراشدين فيقضون فيها بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم حين تظهر لهم، ويجتهدون في البحث عنها والسؤال عنها حتى تظهر لهم قبل أن يجتهدوا فيما يجد من القضايا. .، وانظر: محمد أبو شهبة: دفاع عن السنة. .: ص 17 - 19، (مرجع سابق).

ص: 547

[الأحزاب: 21]، وقد (استدل الأصوليون في هذه الآية، على الاحتجاج بأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الأصل أنَّ أمته أسوته في الأحكام، إلَّا ما دل الدليل الشرعي على الاختصاص به)(1).

ومِمَّا أورده بعضر المفكرين عن حال علماء الأُمَّة مع السُّنَّة من حيث التمسك بها، والعمل بمقتضاها، والاحتجاج بها قوله:(إذا تتبعنا آثار السلف، وأخبار الخلف، من ابتداء عهد الراشدين إلى هذا العهد؛ لم نجد إمامًا من الأئمة المجتهدين في قلبه ذرة من الإيمان وشيء من النصيحة والإخلاص: ينكر التمسك بالسنة من حيث هي سُنَّة والاحتجاج بها، والعمل بمقتضاها، بل بالعكس من ذلك: لا نجد متمسكًا بها، مهتديًا بهديها، حاثًّا غيره على العمل بها، محذرًا من مخالفتها. . . معتبرًا لها، مكملة للكتاب شارحة له؛ راجعًا عن رأيه الذي ذهب إليه باجتهاده في كتاب أو غيره من الأدلة، إذا ما ظهر له حديث صح عنده، واعتبر في نظره، ولقد رويت هذه العبارة المشهورة "إذا صح الحديث فهو مذهبي، واضربوا بقولي عرض الحائط"، وتواتر معناها عن الشافعي، ونقل ما يقرب منه عن كثير من المجتهدين. . . وما ذاك إلَّا لأمر عظيم الخطر، جليل الأثر، ألا وهو: أنه أصل من أصول الإسلام، وعليه مدار فهم الكتاب وثبوت الأحكام، فعلى حجية السُّنَّة انعقد إجماعهم، واتفقت كلمتهم، وتواطأت أفئدتهم)(2)، ثُمَّ في نهاية قوله بين أن الخلاف إنَّما حدث بين الأئمة في أمرين:

أولهما: الاقتناع بأن الحديث صح إسناده للنبي صلى الله عليه وسلم أو لم يصح.

(1) السعدي: تيسير الكريم الرحمن. .، 6/ 208، (مرجع سابق).

(2)

عبد الغني عبد الخالق: حجية السُّنَّة: ص 41، 342، (مرجع سابق).

ص: 548

وثانيهما: أن هذا الحديث أيدلُّ على هذا الحكم أم لا يدلّ؟) (1).

ومِمَّا يتصل بالسُّنَّة ما كان عليه الخلفاء الراشدون والصحابة من فهم للقرآن والسُّنَّة، وتطبيق لهما في شؤون دينهم ودنياهم، والدليل على ذلك ما ورد من قوله صلى الله عليه وسلم:"أوصيكم بتقوى اللَّه والسمع والطاعة، وإنْ عبدًا حبشيًا فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين: تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإنَّ كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة"(2).

وفي حديث آخر يحذر الرسول صلى الله عليه وسلم فيه أمته من متابعة بني إسرائيل في التفرق، والانحراف عن المنهج الرباني المتميِّز، ويخبر بأن أمته تفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النَّار إلَّا واحدة، وحينما قالوا: من هي يا رسول اللَّه؟ قال: "ما أنا عليه وأصحابي"(3).

فدلَّ هذا الحديث وما قبله على اتصال سُنَّة الصحابة والخلفاء الراشدين بسنته صلى الله عليه وسلم، ذلك أنهم صفوة الأُمَّة وخيارها، وحملة الرسالة وصفهم عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه وعنهم أجمعين بقوله:(أولئك أصحاب محمد أبرُّ هذه الأُمَّة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، قوم اختارهم اللَّه لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم فإنَّهم كانوا على الهدي المستقيم)(4).

(1) عبد الغني عبد الخالق: حجية السنة: ص 342، (المرجع السابق نفسه)، ولمزيد من الاطلاع على تمسك السلف -ومن تبعهم من أئمة الأُمَّة وعلمائها- بالسنّة واحتجاجهم بها، وإنكارهم على من خالفها، ورفعهم من شأنها، واحترامهم للحديث والتأدب في مجالسه، وعنايتهم بحفظه وكتابته؛ انظر: المرجع السابق نفسه: ص 341 - 382، فقد أورد عن ذلك آثارًا مستفيضة.

(2)

أخرجه أبو داود: سنن أبي داود 4/ 200، الحديث رقم:(4607)، (مرجع سابق).

(3)

سبق تخريجه: ص 370، 98، (البحث نفسه).

(4)

ابن قيم الجوزية: أعلام الموقعين 2/ 141. وانظر: الشاطبي: الموافقات 4/ 58،=

ص: 549

ولأنهم تلقوا العلم عن معلم البشرية صلى الله عليه وسلم وعاصروا نزول القرآن الكريم، وشاهدوا بيان الرسول له وتطبيقه لأحكامه، فكانوا أقرب الأُمَّة فهمًا لمقاصده ومراده، وقد أجمل الإمام أحمد الحديث عن ذلك في كتاب صنَّفه في طاعة الرسول، وردَّ فيه -كما ذكر ابن قيم الجوزية- على من احتج بظاهر القرآن في معارضة سنن الرسول صلى الله عليه وسلم وترك الاحتجاج بها، ومِمَّا جاء فيه:(إنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُه وتقدست أسماؤه بعث محمدًا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأنزل عليه كتابه. الهدى والنور لمن اتبعه، وجعل رسوله الدَّال على ما أراده من ظاهره وباطنه، وخاصه وعامه، وناسخه ومنسوخه، وما قصد له الكتاب؛ فكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هو المعبر عن كتاب اللَّه، الدَّال على معانيه، شاهده في ذلك أصحابه الذين ارتضاهم اللَّه لنبيه واصطفاهم له، ونقلوا ذلك عنه، فكانوا أعلم الناس برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وبما أراد اللَّه من كتابه بمشاهدتهم وما قصد له الكتاب، فكانوا هم المعبرين عن ذلك بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال جابر: ورسول اللَّه بين أظهرنا عليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيء عملنا به)(1).

وخلاصة القول: أن الأُمَّة الإسلاميَّة أُمَّة ربانيَّة، وقد تبين ذلك حين الحديث عن كيفية تلقيها القرآن الكريم، على مدى ثلاث وعشرين سنة، وهي تتفاعل مع هديه وتوجيهاته، وأحكامه وأوامره ونواهيه، وكان قدوتها

= (مرجع سابق). وقد أورد نحوه عن غير عبد اللَّه ابن مسعود رضي الله عنه من أقوال الحسن وسعيد بن جبير، وحذيفة بن اليمان، وعن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم أجمعين، وأثر ابن مسعود أخرجه أبو نعيم في الحلية 1/ 305، 306، وانظر: ابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله: 2/ 947، رقم [1810]، وأخرج نحوًا منه للحسن البصري، برقم:[1807]، تحقيق: أبي الأشبال، (مرجع سابق).

(1)

ابن قيم الجوزية: أعلام الموقعين 2/ 207، (مرجع سابق).

ص: 550

في ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم حتى بلغت ذروة التمام والكمال، وفي ضوء المنهج الرباني، الذي تدرج في تربيتها من طور إلى طور، ومن مرحلة إلى أخرى، وستبقى الأُمَّة الإسلاميَّة أُمَّة متميِّزة، ما تمسكت بكتاب اللَّه وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين من بعده، وما دامت على ما كان عليه صلى الله عليه وسلم وما كان عليه أصحابه الغير الميامين، ففي ذلك الصلاح والفلاح، والخير والهدي والنور، لأنهم التزموا صراط اللَّه المستقيم، والمنهج الرباني القويم، ورسموا للأُمَّة السبيل إلى ربها (1).

يقول عمر بن عبد العزيز: "سنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننًا الأخذ بها تصديق لكتاب اللَّه واستكمال لطاعة اللَّه، وقوة على دين اللَّه، من عمل بها مهتد، ومن استنصر بها منصور، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين، وولاه اللَّه ما تولَّى، وأصلاه جهنَّم وساءت مصيرًا"(2)، وللصحابة أقوال متقاربة حول هذا المعنى؛ كقول ابن مسعود:"اتبعوا آثارنا ولا تبتدعوا فقد كفيتم"(3)، وقول حذيفة:"اتبعوا آثارنا، فإن أصبتم فقد سبقتم سبقًا بينًا، وإن أخطأتم فقد ضللتم ضلالًا بعيدًا"(4).

* * *

(1) انظر: ابن قيم الجوزية: أعلام الموقعين 2/ 172، (مرجع سابق). وانظر: الشاطبي: الموافقات 4/ 54 - 59، (مرجع سابق). وفيها بحث ما يتعلق بسنة الصحابة، وأورد الأدلة التي توجب العمل بها ومضامين ذلك.

(2)

الشاطبي: المرجع السابق نفسه: 4/ 58.

(3)

الشاطبي: المرجع السابق نفسه: 4/ 58.

(4)

الشاطبي: المرجع السابق نفسه: 4/ 58.

ص: 551