الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لتصور لا يرى في الطبيعة شيئًا آخر، سوى أنها مستودع ومعمل) (1)، أمّا الإسلام فإنَّه ينظر إلى العلم باعتباره يشتمل على (جميع أنواع المعارف الإنسانية، سواء كان مصدرها العقل -كالرياضيات- أم الحسّ والتجربة، بالإضافة إلى العقل -كالطب- أو النقل والسماع -كاللغة- أو الوحي والنقل -كعلوم الدين-)(2).
وعلى هذا فإنَّ الأُمَّة الإسلاميَّة هي الوارث الشرعي للخلافة، وهي الأحق بالاستخلاف، وما من شيء يحول دون ذلك إذا هي جدَّدت صلتها بدينها، وتلتزم صراط اللَّه المستقيم تحقيقًا لقوله تعالى:{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج: 78].
ثانيًا: التسخير:
وهو من المقومات العامَّة للاستخلاف في الأرض، ويعني ذلك أن اللَّه سخر ما في الكون من مخلوقات على نحو يتمشَّى مع استخلاف الإنسان في الأرض، قال تعالى:{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية: 13]، وقال تعالى:{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [لقمان: 20] وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحج: 65]، وفي سورة النحل وردت
(1) نقلًا عن: توفيق يوسف الواعي: الحضارة الإسلامية: ص 767، (المرجع السابق نفسه)، وانظرت فاروف الدسوقي: استخلاف الإنسان في الأرض: ص 131 - 149، (مرجع سابق) وقد ركَّز على رؤية (تويني) في سقوط الحضارة الغربية.
(2)
عبد الرحمن بن زيد الزنيدي: مصادر المعرفة ص 48، (مرجع سابق).
ئلاث عشرة آية على التوالي تعرض (صورة جامعة للكون في شيء من التفصيل بذكر أقسامه الكبرى "عالم الأفلاك، عالم النبات، عالم الحيوان، إلخ" أوضحت ما سخره اللَّه للإنسان من منافع الطبيعة)(1)؛ (فللإنسان في الأنعام دفء ومنافع، وفي الخيل والبغال والحمير وسائل للركوب، وفي الشمس والقمر فوائد، والبحر يأكل من حيتانه، وتسير فيه السفن ليبتغي من فضل اللَّه، إنّ وصف الطبيعة بهذه الأوصاف، وعرض هذا الجانب النافع منها تحريضًا على استغلالها والانتفاع بها وتسليطًا للإنسان عليها بعد أن كان الإنسان يخاف من الطبيعة، بل يعبد بعض أجزائها)(2).
وإضافة لهذا التسخير فإنَّ موجودات الكون تشتمل على عنصر الجمال الذي هو من عناصر الحضارة ممَّا يؤكد قضية الاستخلاف، وأنَّ التسخير مقومٌ من مقوماته العامَّة، ثُمَّ إنّ اللَّه عز وجل (أودع في الأرض من المنافع، والمعادن، والأنهار، والعيون، والثمرات، والحبوب، والأقوات، وأصناف الحيوانات، وأمتعتها، والجبال، والجنان، والرياض، والمراكب البهيَّة، والصور البهيجة)(3)(وأخبر عن منافعها، وأنه جعلها مهادًا وفراشًا وبساطًا وقرارًا وكفاتًا للأحياء والأموات)(4)، ما يتسق مع خلافة الإنسان وما يحتاج إليه ليحقق ذلك الاستخلاف، ويستوي في التمتع بهذا التسخير البر والفاجر، والتقي والشقي، ولكن النهاية للتقوى والمتقين والوراثة النهائية لعباد اللَّه الصالحين، وفي ذلك وردت آيات كثيرة منها -إضافة لما سبق- قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا
(1) محمد المبارك: دراسات أدبية لنصوص من القرآن: ص 58، 59، (مرجع سابق).
(2)
المرجع السابق نفسه: ص 63.
(3)
ابن قيم الجوزية: بدائع الفوائد 1/ 141، (مرجع سابق).
(4)
المرجع السابق نفسه 1/ 140.
عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105]، وقال تعالى على لسان نبيه موسى عليه السلام وهو يخاطب قومه في وقت كان فرعون يهددهم فيه بقتل الأبناء واستحياء النساء:{قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128].
هذان المقومان: العلم والتسخير، هما أبرز مقومات الاستخلاف بعامَّة مع ما يقتضيانه من العقل والأجل وعوامل القوة المختلفة والوسائل والأساليب، كذلك الإرادة والعزم، وكل ذلك ونحوه هيأه اللَّه للإنسان وزوده به، في إطار الفرد وعلى صعيد الأُمَّة، والآيات الدّالة على ذلك من الكثرة بمكان، وكذلك الأحاديث والآثار، والوقائع التاريخية مِمَّا لا يتسمع هذا المجال لذكره (1)، ولكن تكفي الإشارة إلى أن العلم والتسخير هما الأساس في كل ذلك، وأنهما مرتبطان بالاستخلاف الكوني القدري الذي قد يرتفع الإنسان به إلى أحسن تقويم، أو يرتد به إلى أسفل سافلين.
وعن هذا قال أحد الباحثين: (بيَّن سبحانه أنَّ آثار الإنسان في الأرض تشتد، وأن قوته تزيد على الأشياء والأحياء، ويتمكن منها بالعلم، وأن الناس في المجتمعات التي تكون على درجة متقدمة في مجال السيادة بسبب زيادة حصيلتهم من العلم عادة أو غالبًا ما يفتنون وينحدرون في جانب الأخلاق، ويتسفلون في الجانب الإنساني، أي: جانب العبودية،
(1) انظر تفاصيل ذلك لدى:
• فاروق الدسوقي: استخلاف الإنسان في الأرض ص 17 - 75، (مرجع سابق).
• عبد المجيد النجار: خلافة الإنسان بين الوحي والعقل. . . ص 47 - 72، (مرجع سابق).
• علي محمد نصر: استخلاف آدم عليه السلام: ص 8 - 63، 90 - 96، العدد [76]، من سلسلة دعوة الحق، السنة [7]، رجب 1408 هـ، فبراير 1988 م، رابطة العالم الإسلامي - مكة المكرمة.
ومن ثمَّ تجري عليهم سنة فناء الحضارات بهذا السبب، ولا يغني تقدمهم في الجانب المادي عن ارتدادهم إلى أسفل سافلين في جانب العبودية، قال تعالى -مبينًا ذلك كله-:{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 82 - 85].
ويتضح لنا من قوله تعالى: {كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ} أن التقدم المدني والتقني والعمراني يحدث في جانب السيادة بسبب زيادة حصيلتهم في العلوم والخبرات، وقد فتنهم هذا كله فلم يستجيبوا لدعوة الرسل للسمو في جانب العبودية والارتفاع إلى أحسن تقويم، فحقَّت عليهم سنة اللَّه في فناء الحضارات) (1)، وما يقال عن العلم كمقوم للاستخلاف في مفهومه العام يقال عن المقوم الآخر، وهو التسخير.
* * *
(1) فاروق الدسوقي: استخلاف الإنسان في الأرض. . . ص 57، 58، (مرجع سابق).