الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
طبقة تموت في أكواخ من البؤس والحرمان، بل تدخل الإسلام بتشريعاته القانونية، ووصاياه الروحيَّة والخلقيَّة لتقريب المسافة بين هؤلاء وأولئك، فعمل على الحد من طغيان الأغنياء، والرفع من مستوى الفقراء) (1).
وتأتي الزكاة في مقدمة ما شرعه الإسلام لتحقيق هذا الهدف النبيل، وأحاطها بالترغيب والترهيب، وقرنها بالصلاة والإيمان والطهر والتزكية والفضل والنماء، وغير ذلك من المبادئ والقيم والفضائل لتؤدي وظيفتها على أكمل وجه، ويكفي كنموذج على الترغيب في أداء الزكاة وفي الإنفاق بعامة قوله تعالى:{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261]، وأمَّا في الترهيب من التهاون فيها فقوله تعالى:{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [آل عمران: 180].
ثالثًا: الصوم:
وهو في اللغة: من الفعل صام يصوم صومًا (2)، قال ابن فارس بأنَّه:(أصل يدل على إمساك وركود في مكان، من ذلك صوم الصائم هو: إمساكه عن مطعمه ومشربه وسائر ما مُنِعَه، ويكون الإمساك عن الكلام صومًا. . . وأمَّا الركود فيقال للقائم صائم، والصوم ركود الريح، والصوم: استواء الشمس انتصاف النهار كأنها ركدت عند تدويمها، وكذلك يقال صام النهار)(3).
(1) يوسف القرضاوي: العبادة في الإسلام: ص 262، (مرجع سابق). وانظر: رفعت فوزي عبد المطلب: أركان الإسلام: ص 145، 151، (مرجع سابق).
(2)
انظر: ابن منظور: لسان العرب: مادة (صام)، (مرجع سابق).
(3)
معجم مقاييس اللغة: مادة (صام)، (مرجع سابق).
وعرّف الصيام أو الصوم في الشرع بتعريفات عدَّة، منها:(إمساك مخصوص، في وقت مخصوص، على وجه مخصوص)(1).
ومنها: (إمساك عن أشياء مخصوصة، بنيَّة في زمن معين من شخص مخصوص)(2).
ومنها: (الإمساك عن جميع المفطرات من أكل وشرب ونكاح بنيَّة، وذلك طيلة النهار، أي: من الفجر وحتى غروب الشمس)(3).
وكما سبق القول بأنَّ مثل هذه التعريفات يهدف لبيان مشمولات المعرَّف من ناحية الأحكام الفقهية، وما يندرج تحتها من صور للعبادة، وتفاصيل تلك الأحكام، أمَّا المراد هنا فهو أهمية الصيام بصفته عبادة تعدُّ من أركان الإسلام ممثَّلَة في شهر رمضان المبارك، وما يلحق به من أنواع أخرى من قضاء ونذر وكفَّارة وصيام التطوع، وعلى أيِّ حال من تلك الأحوال فإنَّ الصيام وفقًا لضوابطه الشرعية وسننه وآدابه؛ ذو آثارٍ عميقة (في مجالات الحياة: كالصحة، والشعور بحاجة الآخرين، والتعود على الصبر، والتربية، وغير ذلك. . . وهو عبادة قديمة كانت موجودة في الأديان السابقة على الإسلام، يقول سبحانه وتعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183]، التوراة فرضت الصيام أيامًا
(1) شمس الدين الزركشي: شرح الزركشي 2/ 549، تحقيق: عبد اللَّه بن عبد الرحمن الجبرين، (مرجع سابق).
(2)
شرف الدين المقدسي: الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل 1/ 302، تصحيح وتعليق: عبد اللطيف السبكي، عن المطبعة المصرية في الأزهر 1351 هـ - القاهرة. وانظر: محمد حسن أبو يحيى: أهداف التشريع ص 357، (مرجع سابق).
(3)
محمد حسن أبو يحيى: المرجع السابق نفسه: ص 357.
معدودات، وكذا الإنجيل، وصام عيسى عليه السلام والحواريون، وكان الوثنيون يصومون. . . ولا يزال الوثنيون في الهند يصومون إلى الآن) (1).
ولمَّا جاء الإسلام أوجب صيام شهر رمضان (على كل مسلم بالغ عاقل قادر على الصوم برؤيته أو إكمال شعبان ثلاثين يومًا)(2)، ورتَّب على ذلك المغفرة ومضاعفة الأجر والرضى من اللَّه عز وجل، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه"(3)"من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه"(4) و"من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه"(5).
وإلى جانب صيام رمضان الذي هو الركن الرابع (من أركان الإسلام المعلومة من دين اللَّه بالضرورة، وقد شهد لذلك قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] إلى قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلَّا اللَّه وأنَّ محمدًا رسول اللَّه، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان" (6)
(1) مصطفى إبراهيم الزلمي: فلسفة الشريعة: ص 27، عن دار الرسالة للطباعة - بغداد، 1979 م.
(2)
عبد الرحمن بن عبد الكريم العبيَّد: أصول المنهج الإسلامي: ص 62، 63، الطبعة الأولى، 1405 هـ - 1984 م، مطابع الفرزدق - الرياض.
(3)
أخرجه البخاري: صحيح البخاري 1/ 22، كتاب الإيمان، باب [27] حديث رقم [38]، تحقيق: مصطفى ديب البغا، (مرجع سابق).
(4)
أخرجه البخاري: صحيح البخاري 1/ 22، كتاب الإيمان، باب [26] حديث رقم [37]، المرجع السابق نفسه.
(5)
أخرجه البخاري: صحيح البخاري 2/ 672، كتاب الصوم، باب [6] رقم الحديث [1802]، تحقيق: مصطفى ديب البغا (المرجع السابق نفسه).
(6)
أخرجه البخاري: صحيح البخاري 1/ 12، كتاب الإيمان، باب [2] الحديث رقم [8]، تحقيق: مصطفى ديب البُغا، (مرجع سابق)، وأخرج مسلم نحوه بألفاظ متقاربة، =
إلى غير ذلك من الأحاديث) (1).
إلى جانب صيام هذه الفريضة ندب الإسلام إلى الصيام الذي قد يبلغ صيام يوم وترك يوم، عدا أيَّام العيد والتشريق، والشاهد من ذلك أنَّ الإسلام حثَّ على الصيام لما ينطوي عليه من حكم وأسرار (نعرف منها ما نعرف، ونجهل ما نجهل، ويكشف الزمن عن بعضها ما يكشف)(2)، وقبل الكلام في آثاره على الفرد والأُمَّة ينبغي ذكر مراتب الصوم في الإسلام، وقد جعلها بعض الباحثين على ثلاث مراتب هي:
المرتبة الأولى: الإمساك عن الطعام والشراب والشهوات.
المرتبة الثانية: صوم الجوارح عن ارتكاب الآثام والإجرام؛ فصوم اليد: إمساكها عن الأذى، والاعتداء بها على حقوق الآخرين، وصوم الرجل: إمساكها عن المشي إلى الفساد، والذهاب بها إلى عمل الشر، وصوم اللسان: إمساكه عن كل قول يؤذي قلوب الآخرين، وصوم الأذن: إمساكها عن كل ما هو شر للفرد والمجتمع.
المرتبة الثالثة: صوم القلوب وتطهيرها عن كل ما لا يناسب الإيمان، ولا يلائم الإخلاص، تطهير النفس عن التفكير في إلحاق الأذى بالآخرين، والامتناع عن تصميم أعمال الشرور والجرائم، وتطهير النفس
= كتاب الإيمان الباب [5]، وعنوانه:(باب بيان أركان الإسلام، ودعائمه العظام): 1/ 45، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق).
(1)
شمس الدين الزركشي: شرح الزركشي: 2/ 549، (مرجع سابق)، وقد أورد الحديث بلفظ:(وحج البيت من استطاع إليه سبيلًا) وبترتيب الصلاة ثُمَّ الزكاة ثمَّ الصوم ثُمَّ الحج، ولم أجد الزيادة "من استطاع إليه سبيلًا" عند البخاري ومسلم.
(2)
يوسف القرضاوي: العبادة في الإسلام: ص 272، (مرجع سابق).
من الحقد والحسد، والأنانيَّة، والكبر، واللؤم، وروح العداء، والتفرقة، وسوء المعاشرة مع الآخرين) (1).
أمَّا آثار الصيام على الفرد والمجتمع فإنَّها بقدر ما تكتسب من هذه القيم والفضائل التي شملت القلب والعقل واللسان واليد والقدم -فيما ذكر أعلاه- بقدر ما ينعكس أثر ذلك على حياة الفرد فيعيش في أمن وسعادة وطمأنينة، وعلى الأُمَّة، فتحقق عبوديتها للَّه عز وجل وتلتزم صراطه المستقيم الذي يوصلها بالتقوى والسيادة والعلو، وتحقيق الخيريَّة المنوطة بها، وإلى ذلك فإنَّ من آثار الصوم في حياة الفرد والمجتمع الآتي:
أ- تَرْبِيةُ الفَرْد تربية قوية تتجلى فيها العبوديَّة للَّه في نواح عدَّة، منها: (تعويده على الصبر، وهو قمة الأخلاق وروح الفضائل الإنسانية، وعلى أن يراقب الإنسان نفسه بنفسه، وأن يحاسب نفسه بنفسه قبل أن يحاسبه غيره، وفي الصوم تعويد على أن يكون ظاهر الإنسان موافقًا لباطنه، وسره مطابقًا لعلنه؛ لأن الصيام عبادة بين العبد وبين اللَّه، يمتنع الصائم سرًّا عن كل ما هو محرم عليه، كما يمتنع علنًا، ومن هذه الناحية لا تشبه عبادة أخرى في مطابقة الظاهر للباطن وموافقه السر للعلن، وفي الصوم تعود المؤمن على أن لا يعرف الذلة والاستكانة، ولا الخضوع المطلق إلَّا للَّه.
وهنا نقطة جوهريَّة يجب أن ينتبه إليها المسؤولون في كل بلاد العالم؛ وهي: أنّ الوازع الديني يفعل في النفوس ما لا يفعله وازع القوة والسلطان، فإذا تعود الإنسان عن طريق الدين على أن يستمع إلى صوت ضميره، وأن يراقب نفسه بنفسه، وأن يحاسب نفسه قبل أن يحاسبه غيره،
(1) مصطفى إبراهيم الزلمي: فلسفة الشريعة: ص 28، (مرجع سابق)، وانظر: الغزالي إحياء علوم الدين (إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين لمحمد بن محمد الزبيدي) 4/ 405، (مرجع سابق).
فقد أمن المجتمع من بوائقه، واستراح الناس من شروره، أمَّا إذا كان الاعتماد على القوة والخوف والسجن والفصل والطرد والنفي، فإنّ الإنسان تزداد رُدودُ فعله، ويزداد غليان حقده على كل شيء، حتى على نفسه، وبذلك يتبع ألف حيلة وحيلة للتخلص من سلطان القانون، وتنفيذ ما تسول له نفسه سرًّا) (1).
ب- وللصيام آثارٌ تعود بالخير والنفع على المجتمع، من أهمها:(المساواة بين الأغنياء والفقراء، فالمسلمون حين يفطرون في وقتٍ واحد، لا يتقدم أحدٌ على الآخر، يمتنعون جميعًا عن المأكل والمشرب في وقت واحد، فما ذاك إلَّا مظهر اجتماعي عظيم من مظاهر الوحدة والمساواة، ومظهر المساواة ميزة وخاصيَّة امتازت بها الأُمَّة الإسلاميَّة، وتفردت به على جميع الأمم، فليس هناك دستور ولا قانون أمر بالمساواة، ودعا إليها، وطبقها الأفراد مثل ما فعل الدين الإسلامي الحنيف، وهذا يتجلى في كثير من العبادات التي أحدها الصيام)(2).
ومن آثار الصيام على المجتمع أنَّه يشعر الأُمَّة بوحدتها حيث فرض على جميع المسلمين صيام (شهر واحد بعينه ليصوموا جميعًا لا متفرقين، وفي ذلك أيضًا الكثير من المنافع حيثُ يكون فيهم الشعور العام بأنَّهم جميعًا جماعة واحدة، تلك وسيلة ناجحة لتنشأ فيهم عاطفة التحاب والإخاء والمساواة والتعاون والوحدة)(3).
(1) مصطفى إبراهيم الزلمي: فلسفة الشريعة: ص 28، 29، (مرجع سابق).
(2)
محمد سالم محيسن: أركان الإسلام في ضوء الكتاب والسنة وأثرها في تربية المسلم: ص 222، الطبعة الأولى 1407 هـ - 1987 م عن دار الكتاب العربي - بيروت. وانظر: يوسف القرضاوي: العبادة في الإسلام: ص 277، 278، (مرجع سابق).
(3)
محمد بن أمين أبو بكر: العبادة وأثرها. . . ص 123، مجلة كلية الشريعة وأصول الدين بالجنوب، (مرجع سابق).
ج- وللصيام آثارٌ صحيَّة ونفسية واقتصادية تعود فائدتها على الفرد وعلى المجتمع، وتحدثت عنها بعض الدراسات المتخصصة، وأثبتت أن الصيام علاوة على كونه شرع (تزكية لنفس الإنسان، وتهذيبًا لسلوكه)(1)، فإنَّه كذلك شرع (وقاية وعلاجًا ممَّا قد يصيبه من علل وآفات، في نفسه وجسده من جراء كثرة الأكل ودوامه)(2)، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رُويَ عنه:"صوموا تصحُّوا"(3)، وقال أيضًا:"الصوم جُنَّة"(4).
يقول أحد الباحثين عن أثر الصوم في الناحية الاقتصادية: (ليعلم الجميع أن الصيام مدرسة عملية للاقتصاد، وتعويد النفس الصبر، والجلد وقوة التحمل عند الأزمات والملمات، وضبط النوازع والرغبات، وكل هذا لا يريده أعداء المسلمين، فنناشد الجميع أن يفطنوا لذلك، ويحرصوا على جني ثمار صومهم بتزكية أنفسهم، وصحة أبدانهم، وتوفير وجبة طعام واحدة يقدمها المستغني عنها لإخوانه، الذين يعانون من وطأة الفقر، والتنصير في بعض بلاد المسلمين)(5).
(1) عبد الجواد الصاوي: الصيام معجزة علميَّة (دراسة عن الحقائق العلميَّة في الصيام): ص 208، الطبعة الأولى 1413 هـ / 1993 م عن هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة - رابطة العالم الإسلامي - مكة المكرمة، منشورات: دار القبلة للثقافة الإسلاميَّة. جدة.
(2)
المرجع السابق نفسه: ص 208.
(3)
ذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة 1/ 420، رقم الحديث [253]، مشكلة الفقر [35]، الطبعة الأولى 1412 هـ - 1993 م، طبعة مكتبة المعارف، الرياض، وأخرجه أبو نعيم في الطب [ق 24/ 1 و 2] عن أبي هريرة، وله شاهد عند الطبراني في الأوسط:"اغزوا تغنموا، وصوموا تصحوا، وسافروا تستغنوا"[2/ 225/ 1/ 8477].
(4)
أخرجه البخاري: صحيح البخاري 2/ 670، كتاب (الصوم) باب [2] الحديث رقم [1795]، تحقيق: مصطفى ديب البغا (مرجع سابق)، ومعنى (جنة): وقاية وسترة. وأخرجه مسلم: كتاب الصيام (باب فضل الصيام)، (مرجع سابق).
(5)
عبد الجواد الصاوي: الصيام معجزة علميَّة: ص 208 - 210، (المرجع السابق نفسه، =