المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثانيا: وأما في السنة النبوية: - دراسات في تميز الأمة الإسلامية وموقف المستشرقين منه - جـ ٢

[إسحاق السعدي]

فهرس الكتاب

- ‌الربانية وموقف المستشرقين منها

- ‌تمهيد

- ‌مفهوم الربانيَّة

- ‌أ- معنى الربانية لغة:

- ‌ب- معنى الرَّبَّانيَّة اصطلاحًا:

- ‌القرآن الكريم المصدر الأساس لربانية تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة

- ‌أ- تعريف القرآن الكريم وأشهر أسمائه:

- ‌ب- مصدر القرآن الحريم ونصه:

- ‌السنة الشريفة ومنزلتها من القرآن الكريم

- ‌أولًا: تعريف السنة:

- ‌ثانيًا: منزلة السُّنَّة من القرآن الكريم:

- ‌موقف المستشرقين من خصيصة الربَّانيَّة

- ‌أولًا: أقوالهم في القرآن الكريم:

- ‌ثانيًا: أقوالهم في السنة النبوية والسيرة النبوية:

- ‌العالمية وموقف المستشرقين منها

- ‌تمهيد

- ‌مفهوم العالمية

- ‌أ- تعريف العالميَّة لغة:

- ‌ب- تعريف العالميَّة في الاصطلاح:

- ‌دلائل عالمية الإسلام من الكتاب والسنة، ووقائع السيرة النبوية، وأحداث التاريخ الإسلامي

- ‌أولًا: القرآن الكريم:

- ‌ثانيًا: وأمَّا في السنة النبوية:

- ‌دلائل عالمية الأُمَّة الإسلاميَّة، من العقيدة والنظم

- ‌موقف المستشرقين من خصيصة العالَمِيَّة

- ‌أولًا: موقف المنكرين لخصيصة العالَمِيَّة وأدلة إنكارهم مع الرد عليها:

- ‌ثانيًا: موقف من نفى خصيصة العالمية من حيد حونها من المبادئ التي تميزت بها الأُمَّة الإسلاميَّة على الرغم من الإقرار بها تاريخيًّا بسبب ما أفضى إليها تطور الأمَّة، وتدل على هذا الموقف آراء بعض المستشرقين، كما يتضح مِمَّا يأتي:

- ‌ثالثًا: موقف المتشككين في عالمية الإسلام:

- ‌الوسطية وموقف المستشرقين منها

- ‌تمهيد

- ‌مفهوم الوسطية

- ‌أ- الوسطيَّة في اللغة:

- ‌ب- أمَّا عن معانيها

- ‌وسطية الأُمَّة في مجال العقيدة والعبادة

- ‌أولًا: في الجانب العقدي:

- ‌ثانيًا: في جانب العبادة:

- ‌وسطية الأُمَّة في مجال التشريع والأخلاق

- ‌أولًا: في مجال التشريع:

- ‌ثانيًا: في مجال الأخلاق:

- ‌موقف المستشرقين من خصيصة الوسطية

- ‌وفيما يأتي بعض النماذج على ذلك:

- ‌ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره بعض المستشرقين عن هذه الوسطية:

- ‌الإيجابية الخيرة وموقف المستشرقين منها

- ‌تمهيد

- ‌مفهوم الإيجابية الخيرة

- ‌أ- المسارعة:

- ‌ب- السبق:

- ‌جوانب مفهوم إيجابية الأمة الإسلامية

- ‌موقف المستشرقين من خصيصة إيجابيَّة الأُمَّة الإسلاميَّة

- ‌النموذج الأول:

- ‌النموذج الثاني:

- ‌تحقيق العبودية للَّه وموقف المستشرقين منها

- ‌تمهيد

- ‌مفهوم العبادة، ومقتضياتها

- ‌أ- العبادة في اللغة:

- ‌ب- العبادة في الاصطلاح:

- ‌ج- مقتضيات العبادة في الإسلام:

- ‌أنواع العبادة وصورها

- ‌ومن العبادات الاعتقاديَّة:

- ‌ومن العبادات القلبيَّة:

- ‌ومن العبادات اللفظيَّة:

- ‌ومن العبادات البدنيَّة:

- ‌أمَّا العبادات الماليَّة:

- ‌روح العبادة وأسرارها

- ‌آثار العبادة في الفرد وفي الأُمّة

- ‌أولًا: الصلاة:

- ‌ثانيًا: الزكاة:

- ‌ثالثًا: الصوم:

- ‌رابعًا: الحج:

- ‌موقف المستشرقين من قضية العبودية للَّه

- ‌ويعالج هذا في نقطتين بارزتين:

- ‌فمن أقوال المستشرقين وآرائهم:

- ‌أمَّا الرد على أقوالهم وآرائهم فستتركز في النقاط الآتية:

- ‌ولعل مِمَّا يدلُّ على صحة هذا الفهم والتفسير ما يأتي:

- ‌تحقيق الاستخلاف وموقف المستشرقين منها

- ‌تمهيد

- ‌مفهوم الاستخلاف وأهميته

- ‌أ- معنى الاستخلاف في اللغة:

- ‌ب- مفهوم الاستخلاف عند بعض المفسرين والعلماء والباحثين:

- ‌ج- تعريف الاستخلاف في الاصطلاح:

- ‌د- أهمية الاستخلاف:

- ‌مقومات الاستخلاف بعامّة

- ‌أولًا: العلم:

- ‌ثانيًا: التسخير:

- ‌مقومات استخلاف الأمَّة الإسلامية بخاصة

- ‌أولًا: العلم:

- ‌ثانيًا: التسخير:

- ‌موقف المستشرقين من قضية استخلاف الأُمَّة الإسلاميَّة

- ‌وسيلة اللغة العربية وموقف المستشرقين منها

- ‌مكانة اللغة العربيَّة وارتباطها بالإسلام

- ‌موقف المستشرقين من اللغة العربيَّة

- ‌الرد على الشبهة الأولى:

- ‌الرد على الشبهة الثانية:

- ‌الرد على الشبهة الثالثة:

- ‌الرد على الشبهة الرابعة:

- ‌وسيلة تاريخ الإسلام وحضارته وموقف المستشرقين منه

- ‌تمهيد

- ‌الالتزام بالإسلام والاعتزاز به

- ‌أ- أمَّا في المفاهيم

- ‌ب- الالتزام بالإسلام والاعتزاز به في المناهج

- ‌1 - السببيَّة:

- ‌2 - القانونية التاريخيَّة:

- ‌3 - منهج البحث الحسي (التجريبي):

- ‌جـ- الالتزام بالإسلام والاعتزاز به من خلال المواقف

- ‌الوعي الثقافي الشامل

- ‌الناحية الأولى:

- ‌الناحية الثانية:

- ‌التعاون والتكامل

- ‌الدعوة والجهاد

- ‌1 - الجهاد التربوي:

- ‌2 - الجهاد التنظيمي:

- ‌3 الجهاد العسكري:

- ‌موقف المستشرقين من تاريخ الإسلام وحضارته

- ‌أولًا: نقد بعض المستشرقين للمنهج الاستشراقي:

- ‌ثانيًا: نقد بعض المفكرين والباحثين من العرب والمسلمين للمنهج الاستشراقي:

- ‌ثالثًا: نماذج لأهم القضايا التي تطرقت إليها دراسات المستشرقين لتاريخ الإسلام وحضارته:

- ‌1 - الدعوة والجهاد

- ‌2 - العادات والتقاليد:

- ‌3 - الجانب السياسي والحضاري من تاريخ الأُمَّة الإسلاميَّة:

- ‌رابعًا: استخلاص موازين البحث عند المستشرقين:

- ‌مبحث ختامي

- ‌تقويم الحركة الاستشراقية ومنهج الإسلام في مواجهتها

- ‌أساليب مواجهة تحدي الاستشراق والمستشرقين ووسائلها

- ‌الخاتمة

- ‌1 - في ضوء الدراسة التأصيلية لتميز الأُمَّة الإسلاميَّة، تبين الآتي:

- ‌أ- عقيدة التوحيد

- ‌ب- الشريعة الإسلاميَّة الغراء

- ‌ج- الأخُوَّة الإسلاميَّة ووحدة الأمَّة

- ‌د- الخصائص التي تفرد بها تَمَيُّز الأمَّة الإسلاميَّة؛ وأهمها:

- ‌هـ - أهداف تَمَيُّز الأمَّة الإسلاميَّة

- ‌و- وسائل تَمَيُّز الأُمَّة الإسلاميَّة

- ‌2 - وفي ضوء الدراسة النقديَّة لموقف المستشرقين من تَمَيُّز الأُمَّة الإسلاميَّة، تبين الآتي:

- ‌المصادر والمراجع

- ‌نبذة تعريفية الإدارة العامة للأوقاف

الفصل: ‌ثانيا: وأما في السنة النبوية:

هي الوحيدة التي تتجلَّى فيها العالميَّة؛ لأنها تؤمن بجميع الرسالات وتقر بجميع الأنبياء والمرسلين، وتؤمن بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل على جميع أنبياء اللَّه ورسله {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 84].

‌ثانيًا: وأمَّا في السنة النبوية:

فقد وردت أحاديث كثيرة تبين عموم رسالته صلى الله عليه وسلم وشمولها وعالميتها، منها الآتي:

أ- قوله صلى الله عليه وسلم: "أُعطيتُ خمسًا لم يعطهنَّ أحد من قبلي: نصرتُ بالرعب مسيرة شهر، وجعلت في الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيُّما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت في المغانم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيتُ الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثتُ إلى الناس عامَّة"(1).

والشاهد في هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثتُ إلى الناس عامَّة" حيث أخبر صلى الله عليه وسلم أنَّ مِمَّا خصَّه اللَّه به دون سائر المرسلين كونه بعث برسالة عامَّة لجميع الناس؛ لذلك فإنَّ من أهم خصائص تميُّز الأمَّة الإسلاميَّة العالميَّة في الخطاب إلى جميع الناس.

ب- وقال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأُمَّة، يهودي، ولا نصراني، ثُمَّ يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلتُ به إلَّا كان من أصحاب النار"(2).

(1) أخرجه البخاري: صحيح البخاري 1/ 128 الحديث رقم [328] تحقيق: مصطفى ديب البغا، (مرجع سابق)، وأخرجه مسلم: صحيح مسلم 1/ 370، 371، الحديث رقم (521)، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق).

(2)

أخرجه مسلم: صحيح مسلم: 1/ 134، الحديث رفم:(153)، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق).

ص: 598

والشاهد من هذا الحديث برواياته المختلفة أنَّ الأُمَّة الإسلاميَّة لا تقصر على قوميَّة بعينها، وإنَّما هي أُمَّة متميّزة، ومن أهم خصائص تميُّزها عالميتها، وأن هذه العالمية تمتد إلى اليهود والنصارى، ولا يسعهم الخروج عنها لكونهم أهل كتاب، وإنَّما دخلوا في عموم خطاب الإسلام، فهم ابتداءً من أمة الدعوة باعتبارهم مقصودين بدعوة الإسلام (1)، وفي هذا دلالة واضحة على عالمية الأُمَّة الإسلاميَّة.

ج- وبالنظر إلى سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم يلحظ أنَّ عموم رسالته صلى الله عليه وسلم وعالميتها واضح من وقت مبكر ومن الأدلة على ذلك ما تفوه به صلى الله عليه وسلم حين الجهر بالدعوة، فقد ورد في مصادر السيرة أنه صلى الله عليه وسلم حينما أمر بالجهر بالدعوة، ونزل عليه قول اللَّه:{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94] جمع قومه وقال: "الحمد للَّه أحمده وأستعينه وأومن به وأتوكل عليه وأشهد أن لا إله إلَّا اللَّه وحده لا شريك له" ثُمَّ قال: "إنَّ الرائد لا يكذبُ أهله، واللَّه لو كذبت الناس جميعًا ما كذبتكم ولو غررت الناس ما غررتكم، واللَّه الذي لا إله إلَّا هو إني لرسول اللَّه إليكم خاصَّة وإلى الناس كافَّة. . . "(2).

د- وأخبر صلى الله عليه وسلم بأنَّه مرسل إلى الناس كافَّة بل إلى الثقلين، وهو ما تواترت به أخبار السيرة، وعن ذلك يقول ابن تيمية: (فإنَّه قد علم بالاضطرار من دين الإسلام: أن رسالة محمد بن عبد اللَّه صلى الله عليه وسلم لجميع

(1) انظر: مفهوم الأُمَّة فيما سبق من البحث.

(2)

الإمام محمد بن يوسف الصالحي الشامي: سبل الهدى والرشاد. . . 2/ 322، 223، تحقيق: عادل عبد الموجود وآخرون، (مرجع سابق)، وانظر: علي برهان الدين الحلبي: السيرة الحلبية: 1/ 459، (مرجع سابق)، والكامل لابن الأثير: 1/ 585، تحقَيق: أبي الفداء عبد اللَّه القاضي، عن دار الكلتب العلمية، الطبعة الثانية، 1415 هـ - 1995 م، بيروت، وانظر: أحمد زكي صفوت: جمهرة خطب العرب: 1/ 147، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، (بدون تاريخ).

ص: 599

الناس؛ عربهم وعجمهم، ملوكهم وزهادهم، وعلمائهم وعامتهم، وأنها باقية دائمة إلى يوم القيامة، بل عامَّة للثقلين الجن والإنس، وأنه ليس لأحد من الخلائق الخروج عن متابعته وطاعته وملازمة ما يشرعه لأُمَّته من الدين. . .، بل لو كان الأنبياء المتقدمون أحياء لوجب عليهم متابعته وطاعته) (1).

ومِمَّا يؤيد ذلك أنَّه صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله عنه وقد عرض عليه بمكتوب من التوراة: "والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى ثُمَّ اتبعتموه وتركتموني لضللتم. . . "(2)، وفي رواية أخرى:"لو أن موسى صلى الله عليه وسلم كان حيًّا ما وسعه إلَّا أن يتبعني"(3).

هـ - وأخبر صلى الله عليه وسلم أمَّته، إبان حفر الخندق: بأنَّ ملكها سيبلغ ما زُوِيَ له من الأرض، وقد وردت في هذه القصَّة روايات كثيرة يذكرها المؤلفون في دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم (4)، ولعل من أصح تلك الروايات ما أخرجه الإمام مسلم من حديث ثوبان رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ اللَّه زوى لي الأرض فرأيتُ مشارقها ومغاربها، وأنَّ أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيتُ الكنزين الأحمر والأبيض"(5).

(1) ابن تيمية: مجموع فتاوى ابن تيمية، 11/ 422، 443، (مرجع سابق).

(2)

أخرجه الإمام أحمد: مسند الإمام أحمد. . . 3/ 471، الحديث رقم:(15437)، ترتيب: دار إحياء التراث العربي: 4/ 513، 514، (مرجع سابق).

(3)

أخرجه الإمام أحمد: مسند الإمام أحمد. . . 3/ 387، الحديث رقم:(14736)، ترتيب: دار إحياء التراث العربي: 4/ 376، 377، (المرجع السابق نفسه).

(4)

انظر: أبو الحسن علي بن محمد الماوردي: أعلام النبوة: ص 127، 128، تحقيق: محمد شريف سكر، الطبعة الأولى 1408 هـ - 1988 م، دار إحياء العلوم - بيروت. وانظر: أبو نعيم الأصبهاني: دلائل النبوة: ص 498، 499، (مرجع سابق).

(5)

صحيح مسلم 4/ 2215 الحديث رقم [2889]، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق).

ص: 600

ففي هذا الحديث ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أنَّ اللَّه جمع له الأرض، وأطلعه على مشارقها ومغاربها، وبشَّرَه بأن ملك أمته سيبلغ ما رآه منها، وأنه سيورث هذه الأُمَّة الإسلاميَّة ملك كسرى وقيصر، حيث فسَّر العلماء قوله صلى الله عليه وسلم:"وأعطيت الكنزينْ الأحمر والأبيض" بأن المراد بهما الذهب والفضَّة، وفيهما رمز لملك كسرى وملك قيصر (1).

و- وفي قصة إسلام (عدي بن حاتم) أورد ابن إسحاق أنَّ عديًّا قال: (بعث رسول اللَّه، وكنتُ أشد الناس له كراهة -أو من أشد الناس- فلحقت بأقصى أرض العرب، من قبل الروم، وكرهتُ مكاني أشد من كراهتي الأمر الأول، فقلتُ: لآتين هذا الرجل، فلئن كان صادقًا لا يخفى عليَّ، ولئن كان كاذبًا لا يخفى عليَّ -أو لا يضرني، شك محمد- فقدمت المدينة، فاستشرفني الناس، فقالوا: عدي بن حاتم، فأتيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: "يا عدي بن حاتم، أسلم تسلم"، فقلت؛ إنَّ في دينًا، فقال: "أنا أعلم بدينك منك" (2).

ويذكر تفاصيل الحوار الذي دار بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "هل أتيت الحيرة؟ " فقلتُ: لا، وقد علمت مكانها، قال:"توشك الظعينة أن تخرج من الحيرة حتى تطوف بالبيت بغير جوار، ويوشك أن تفتح كنوز كسرى بن هرمز" فقلت: كنوز كسرى بن هرمز؟ فقال: "كنوز كسرى بن هرمز -مرتين- ويوشك أن يخرج الرجل الصدقة من ماله، فلا يجد من يقبلها" قال: فقد رأيتُ الظعينة تخرج من الحيرة

(1) انظر: محمد فؤاد عبد الباقي في تعليقه على الحديث السابق: المرجع السابق نفسه 4/ 2215 (حاشية الصفحة).

(2)

سيرة ابن إسحاق: ص 267، 268، تحقيق: محمد حميد اللَّه، (مرجع سابق).

ص: 601

حتى تطوف بالبيت بغير جوار، وقد كنت في أول جيش أغار على المدائن، وأيمُ اللَّه لتكونن الثالثة، إنَّه لقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم) (1).

وفي رواية أخرى أخرجها الإمام أحمد جاء في قوله: "واللَّه ليُتِمَّنَّ اللَّه هذا الأمر"(2) من حديث خَبَّاب قال: (شكونا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا اللَّه عز وجل؟. . . قال: "قد كان الرجل فيمن كان قبلكم يؤخذ فيحفر له في الأرض فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيجعل بنصفين، فما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون العظمة من لم أو عصب فما يصده ذلك عن دينه، واللَّه ليتمن اللَّه هذا الأمر حتى يسير الراكب من المدينة إلى حضرموت لا يخاف إلَّا اللَّه عز وجل، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون" (3).

ز- ومن الأحاديث الصحيحة -في ذلك أيضًا- حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص عن فتح القسطنطينية، وأنَّه دعا بصندوق له حلق، وأخرج منه كتابًا ثُمَّ قال:(بينما نحن حول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نكتب؛ إذ سئل رسول اللَّه: أيّ المدينتين تفتح أولًا؟ قسطنطينية أو روميَّة؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "مدينة هرقل أولًا، يعني: قسطنطينية" (4).

(1) المرجع السابق نفسه: ص 268.

(2)

مسند الإمام أحمد 6/ 395، الحديث رقم:(26675)، ترتيب: دار إحياء التراث العربي، 7/ 542، (مرجع سابق).

(3)

بقية الحديث السابق: مسند الإمام أحمد: 7/ 542، الحديث رقم:(26675)، (المرجع السابق نفسه).

(4)

أخرجه الإمام أحمد: مسند الإمام أحمد: 2/ 176، تحقيق: أحمد شاكر: 10/ 131، 132، الحديث رقم:(6645)، (مرجع سابق). وانظر: المرجع نفسه 2/ 174، الحديث رقم [6632]، وفيه "وفتح مدينة" قالوا: يا رسول اللَّه، أي مدينة؟ قال: =

ص: 602

ح- ومن الأحاديث الصحيحة الدَّالة على عالميَّة الأُمَّة الإسلاميَّة ما أخرجه الإمام مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "تغزون جزيرة العرب، فيفتحها اللَّه، ثُمَّ فارس، فيفتحها اللَّه، ثُمَّ تغزون الروم، فيفتحها اللَّه، ثُمَّ تغزون الدَّجَّال، فيفتحه اللَّه"(1).

والحقيقة أنَّ ما ورد من الأحاديث الشريفة، وما تحدثت عنه مصادر السِّيرة النبويَّة الشريفة عن عالميَّة الإسلام وانتشاره من الكثرة بمكان، وقد جاء الواقع التاريخي مصدقًا لما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، ومؤكدًا صدق رسالته وصحة نبوته، وقد اجتهد العلماء في مؤلفاتهم في القديم والحديث لإظهار هذا الجانب وهو جانب تدعمه الآيات القرآنية الصريحة، والأحاديث النبويَّة المفسرة والشارحة والمفصلة لأمور الإسلام وشؤون أُمَّته، والوقائع التاريخية المتظافرة، ولعل فيما تقدم من إيراد الآيات والأحاديث وبعض وقائع السِّيرة ما يبرز جانب التميُّز، ولعل من المناسب -أيضًا- إيراد بعض الأحداث التاريخية الأخرى التي تؤكد هذه الخصيصة، وخلاصتها في الآتي:

أ- تكونت الأُمَّة الإسلاميَّة في بداية تاريخ السيرة النبوية وظهور الإسلام في مكة المكرمة من أجناس مختلفة، فكان منها علي بن أبي طالب، وأبو بكر الصديق، وأم المؤمنين خديجة بنت خويلد وإمامهم ومعلمهم وقائدهم محمد صلى الله عليه وسلم وهؤلاء من سادة قريش وعلية مجتمعها، وكان يقف معهم على قدم المساواة بلال الحبشي، وصهيب الرومي،

= "القسطنطينية"، ولكن في إسناده ضعف، كما ذكر المحقق. انظر: المرجع السابق نفسه: 10/ 116.

(1)

أخرجه مسلم: صحيح مسلم 4/ 2225، الحديث رقم [2900]، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق).

ص: 603

وسلمان الفارسي، مِمَّا يرمز إلى رابطة أخرى غير رابطة الجنس والوطن ونحوهما من الروابط الأخرى، وإنَّما قامت الأُمَّة على رابطة التقوى والإيمان باللَّه) (1).

ب- ومِمَّا يؤكد مفهوم عالميَّة الإسلام: (ما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ من إرسال الكتب، وبعث الرسل إلى من عاصره من ملوك وحكام، غير مستند في ذلك إلى قوته الماديَّة أو منعه جيشه إذ لم يكن يملك من ذلك [إلَّا الشيء القليل]. . . ولكنه كان يبشر بدعوة الخير، منطلقًا من يقينه بضرورة أن يشع نورها في أرجاء المعمورة فيمحو ظلام النفوس. . . ويعفي على فساد الواقع. . . معتمدًا قبل كل شيء على نصر اللَّه وتأييده)(2)، ومبلغًا رسالة ربه (3).

ج- ومِمَّا يؤكد عالميَّة الأُمَّة الإسلاميَّة مجيء الوفود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، قال ابن إسحاق:(لما افتتح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مكَّة، وفرغ من تبوك، وأسلمت ثقيف وبايعت، ضربت إليه وفود العرب من كل وجه)(4).

وقال ابن هشام: (إنَّ ذلك في سنة تسع، وأنَّها كانت تسمى سنة الوفود)(5)، وقد علل المؤرخون في القديم والحديث أسباب توافد العرب

(1) انظر: موقف المستشرقين من عالميَّة تميز الأُمَّة الإسلاميَّة: في الصفحات (707 - 730) البحث نفسه.

(2)

محمد عقلة: الإسلام دعوة عالميَّة ونظام محكامل للحياة، مجلة المنهل، العدد [452]، رجب 1407 هـ: ص 8، (مرجع سابق).

(3)

للاطلاع على كتب الرسول صلى الله عليه وسلم ورسله إلى الملوك والعظماء والجبابرة في عصره؛ انظر: موقف المستشرقين من عالمية تميز الأمَّة الإسلاميَّة: ص (715 - 718)، البحث نفسه.

(4)

السيرة النبوية لابن هشام: 4/ 203، (مرجع سابق).

(5)

المرجع السابق نفسه: 4/ 203.

ص: 604

إلى عاصمة دولة الإسلام لإشهار إسلامهم ومبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم، والانضواء تحت مظلَّة الأُمَّة الإسلاميَّة وراية لا إله إلَّا اللَّه محمد رسول اللَّه، عللوا ذلك بسبب (سقوط مكة زعيمة الشرك بأيدي الفاتحين، وهزيمة التحالف الوثني الأخير في حنين [فكان ذلك] آخر ضربتين حاسمتين للوجود الوثني في جزيرة العرب، انهار بعدها جدار الكفر، وانطلقت حركة الإسلام بخفّة وسرعة، حيث أزيلت العوائق، إلى كل مكان، وأدركت القبائل العربية التي ظلت على وثنيتها ألَّا مناص لها من تحديد موقفها من الإسلام ودولته المتفردة بالحكم والسلطان في الجزيرة كلها، وأن عنادها وتشبثها بمواقفها السابقة فقد مبرراته بدخول مكة في الإسلام، وانتماء هوازن، أكبر القبائل الوثنية، للدين الجديد، فراحت هذه القبائل تتسابق في إرسال وفودها إلى المدينة قاعدة الإسلام، مبايعة على الإسلام أو مصالحة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولكثرة هذه الوفود التي انهالت على المدينة في العام التالي لفتح مكة ومطلع الذي يليه، سماه المؤرخون "عام الوفود" (1)، (2).

وواضح أنَّ هذا يتفق مع ما ذكره ابن إسحاق مؤرخ السيرة الأول، إذ قال:(وإنَّما كانت العرب تربّص بالإسلام أمر هذا الحي من قريش، كانوا إمام الناس وهاديهم، وأهل البيت الحرام، وصريح ولد إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام، وقادة العرب لا ينكرون ذلك، وكانت قريش هي التي نصبت لحرب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وخلافه، فلما افتتحت مكة ودانت له قريش، ودوّخها الإسلام، وعرفت العرب أنَّه لا طاقة لهم بحرب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولا عداوته، فدخلوا في دين اللَّه كما قال اللَّه عز وجل: {أفواجًا} يضربون إليه من كل وجه)(3).

(1) السيرة النبوية لابن هشام: 1/ 203، (المرجع السابق نفسه).

(2)

عماد الدين خليل: دراسات في السيرة: ص 257، (مرجع سابق).

(3)

السيرة النبوية لابن هشام: 1/ 203، (المرجع السابق نفسه).

ص: 605

وتاريخ هذه الوفود وما اشتمل عليه من معان عميقة ودلالات ذات أبعاد واسعة، فيما يتعلق بعالمية الإسلام وأمته، مِمَّا أسهب العلماء في ذكره ودراسته وتفسير أحداثه ومتعلقاتها (1)، بيد أنَّ مِمَّا ينطوي عليه بصفة خاصَّة التأكيد على عالميَّة الأُمَّة الإسلاميَّة، فقد وسعت قبائل وشعوب، وبلدان على الرغم مِمَّا كان بينها من الاختلافات، والتناقضات؛ على صعيد المصالح، وعلى سعيد الاتجاهات الفكريَّة، والتشريعية، والسلوكيَّة، وعلى الرغم مِمَّا تتسم به علاقاتُها من صراع واقتتال وتناحر وتناجز لأتفه الأسباب، وما كانت عليه من انحطاط، وتخلف في الثقافة والحضارة، وفي العقيدة والتصور، فإنَّ الإسلام صهرها في أُمَّة واحدة وأخرجها لتكون {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] بما لم يشهد له التاريخ مثيلًا، فدلَّ ذلك على خصيصة العالمية، وأنها إحدى خصائص تميُّز الأمَّة الإسلاميَّة.

د- ومن بين تلك الوفود بخاصّة نصارى العرب ممن كان منهم في جنوب الجزيرة أو شمالها، فقد كان لهم مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مواقف فيها الكثير من العبر، والدلائل على عالميَّة الإسلام والاعتراف بنبوة صلى الله عليه وسلم وأنَّه خاتم الأنبياء والمرسلين، وأنَّه هو الذي بشرت به كتبهم، وإذا كانت قصة عدي بن حاتم تشتمل على شيء من ذلك فإنَّ هناك شواهد أخرى من أبرزها:

1 -

ما حدث من وفد نجران من مجادلة الرسول صلى الله عليه وسلم ومناظرته حول المسيح عليه السلام، وقد ذكر بعض المفسرين أن صدرًا من سورة آل عمران نزل بهذا الشأن (2)، وجاءت فيه آية المباهلة، ولكنَّهم أحجموا عنها، واختاروا

(1) انظر: ابن قيم الجوزيَّة: زاد المعاد 3/ 595 - 687، (مرجع سابق).

(2)

انظر: ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 1/ 343، (مرجع سابق).

ص: 606

لأنفسهم دفع الجزية، وكانوا -كما ذكر العلماء- أول من دفع الجزية في الإسلام (1)، وقصة ذلك مذكورة في كتب السيرة والتفسير وأسباب النزول.

قال ابن كثير: (سورة آل عمران. . . مدنية؛ لأن صدرها إلى ثلاث وثمانين آية منها نزلت في وفد نجران، وكان قدومهم في سنة تسع من الهجرة. . . . .)(2)، ثُمَّ قال في تفسير قوله تعالى:{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِين} [آل عمران: 61]: (كان سبب نزول المباهلة وما قبلها من أول السورة إلى هنا في وفد نجران: أن النصارى لما قدموا فجعلوا يحاجون في عيسى، ويزعمون فيه ما يزعمون من النبوة والإلهية، فأنزل اللَّه صدر هذه السورة ردًّا عليهم)(3).

وبعد أن أورد ابن كثير تفاصيل ما حدث بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم من مناظرة وجدال قال: (فأنزل اللَّه في ذلك من قولهم واختلاف أمرهم صدر سورة اَل عمران إلى بضع وثمانين آية منها. . .)(4)، وذكر ما كان من أمر مشورتهم فيما سمعوا من القرآن الكريم، وما وقفوا عليه من حقيقة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن صاحب الرأي فيهم قال: (واللَّه يا معشر النصارى لقد عرفتم أنَّ محمدًا لنبي مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمت أنه ما لاعن قوم نبيًّا قط فبقي كبيرهم، ولا نبت صغيرهم، وأنّه الاستئصال منكم إن فعلتم، فإنْ كنتم أبيتم إلَّا ألف دينكم والإقامة

(1) انظر: ابن تيمية: الجواب الصحيح. . . 1/ 170، تحقيق: علي بن حسن وآخرين، (مرجع سابق)، وابن كثير: تفسير القرآن العظيم 1/ 370، (مرجع سابق).

(2)

تفسير القرآن العظيم 1/ 343، (مرجع سابق).

(3)

تفسير القرآن العظيم 1/ 368، (مرجع سابق).

(4)

المرجع السابق نفسه: 1/ 368.

ص: 607

على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل، وانصرفوا إلى بلادكم) (1).

والشاهد من هذا اعتراف وفد النصارى بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ومن المُسَلَّم به عندئذٍ الاعتراف بأصلين آخرين يتصلان بهذا الأصل؛ وهما: أنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، وأنَّه بعث للناس كافَّة؛ لأن الاعتراف بنبوته يلزمهم أن يعترفوا بهذين الأصلين الاخرين لكون النبي لا يكذب، وهذا مِمَّا يسلمون به فلزم أن يصدقوه فيما قال من كونه آخر الأنبياء والمرسلين، وأنَّ رسالته عامَّة وشاملة (2).

2 -

وحدث أنَّ (فروة بن عمرو الجذامي)، وكان ملك عرب الروم، وعاملًا لهم على من يليه من العرب، بعث برسوله إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، معلنًا إسلامه، وأهدى للرسول صلى الله عليه وسلم بغلة بيضاء، (وكان منزله (مَعَان) بأرض الشام، فلمَّا بلغ الروم ذلك من إسلامه، طلبوه حتى أخذوه، فحبسوه عندهم، فلما اجتمعت الروم لصلبه. على ماء لهم يقال له: عفراء بفلسطين قال:

بلغ سراة المسلمين بأنَّني

سلم لربِّي أعْظُمِي ومقامي

ثُمَّ ضربوا عنقه، وصلبوه على ذلك الماء يرحمه اللَّه) (3).

هـ - وتوافدت القبائل مرة أخرى في حجة الوداع لملاقاة الرسول صلى الله عليه وسلم والأخذ عنه أمور الإسلام ومناسك الحج وشعائر الدين، وقد كان أناب

(1) المرجع السابق نفسه: 1/ 368، ولقصتهم وما حدث لهم في شأن الرسول صلى الله عليه وسلم أوجه أخرى وردت في المصادر الإسلاميَّة؛ انظر: ابن قيم الجوزية: زاد المعاد 3/ 630، 636، (مرجع سابق).

(2)

انظر: حسن خالد: موقف الإسلام من الوثنية واليهودية والنصرانية: ص 562 - 580 الطبعة الأولى 1986، ومعهد الإنماء العربي - بيروت.

(3)

ابن هشام: السيرة النبوية 4/ 234، 235، (مرجع سابق). وانظر: ابن قيم الجوزية: زاد المعاد 3/ 646، (مرجع سابق).

ص: 608

عنه في حجَّة العام التاسع للهجرة أبا بكر الصديق، وألحق به علي بن أبي طالب رضي الله عنهما لنزول سورة (براءة) لإعلانها للناس في يوم الحج الأكبر (1)، وجاءت حَجَّة الوداع وقد علت كلمة اللَّه، واكتمل الدين، فالتقت الأُمَّة الإسلاميَّة برسولها صلى الله عليه وسلم في سورة مثاليَّة، بعد أن أصبحت مصطبغة بعقيدة التوحيد، داخلة تحت لواء الشريعة الإسلاميَّة.

يقول أحد المؤرخين عن هذه الصورة الجليَّة للأُمَّة الإسلاميَّة في حجة الوداع وعن دولة الرسول صلى الله عليه وسلم: (حَجَّ في العام العاشر حجَّته الأخيرة على النظام الإسلامي، وحجَّ معه فيها ما يزيد على مئة ألف (2) لم يكن من بينهم مشرك واحد، وفي الفترة التي تقع بين إعلان (البراءة من المشركين) ووفاة الرسول صلى الله عليه وسلم طبق الرسول (أمر البراءة) بحذر شديد وكياسة سياسية بارعة، وتجنب الاصطدام بالقبائل، ولذلك كان يكتفي من وفودها بإعلان إسلامهم، ويرسل معهم عند عودتهم مسلمين يعلمونهم الإسلام في بلادهم، والواقع أن (إعلان البراءة) بوقف الوثنيَّة نهائيًّا، أمر لا يُمكن إدراك أبعاده، إلَّا إذا نظرنا إلى المسألة من جانبها الحضاري و (الاستراتيجي) كضرورتين يرتبط بعضها ببعض، وتسوقان إلى اتخاذ إجراء حاسم كهذا.

فأمَّا أولاهما: فهي أنَّ الوثنية، على خلف سائر الأديان الأخرى، تمثل الدرك الأسفل في موقف الإنسان الديني من الكون، موقف يشده إلى الحجارة، ويصده عن التقدم إلى الإمام، ويحجب عن بصيرته الرؤية الشاملة لدور الإنسان في الأرض وعلاقته بالقوى الأخرى في الوجود، ولو بقي

(1) انظر: ابن هشام: السيرة النبويَّة: 4/ 187 - 190، (المرجع السابق نفسه).

(2)

انظر: المقريزي: إمتاع الأسماع بما للرسول صلى الله عليه وسلم من الأبناء والأموال والحفدة والمتاع: 1/ 512، تحقيق محمود محمد شاكر، عن لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1941 م.

ص: 609

العربي على وثنيته لظل بحكم موقفه هذا أسير جهله وتأخره، وسجين عالم تضيق آفاقه، ثُمَّ ما تلبث أن تعزله عن العالم وتحصره في قلب الصحراء.

وأمَّا ثانيتهما: فتقوم على أن الدولة (العقيدية) التي أنشئت في قلب المنطقة العربية، وامتد نفوذها السياسي إلى كافة أرجاء الجزيرة، وبدأت تحشد قواها وطاقاتها الجهادية للانتقال صوب الخطوة التالية في التحرك إلى العالم المحيط كله، هذه الدولة كان عليها أن تعتمد (استراتيجية) صارمة، واضحة المعالم من أجل أن تحمي وجودها في شبه الجزيرة العربية، من جيوب الوثنية العربية، ومراكز القوى الجاهليَّة، وأن تحيط مركز انطلاقها إلى العالم بسياج الوحدة العقيدية والسياسية على السواء، لئلا تضرب من الخلف وهي تمارس صراعها مع القوى الخارجيَّة، حاشدة له جل طاقاتها.

وهكذا يجيءُ إعلان (البراءة) نصرًا حضاريًّا واستراتيجيًا لدولة الإسلام، وهي تتهيأ للخطوة التالية في (تحضير) العالم و (جهاد) قياداته (الكافرة) جميعًا من أجل منح حريَّة الاعتقاد للإنسان حيثما كان) (1).

ورُبَّما يصدق هذا الوصف على مظهر الدولة الإسلاميَّة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وفي عهودها الأخرى، حينما يُنْظَرُ إليها من خارج الأحداث، وتفسر بطريقة فلسفية، ولكن من ينعم النظر في طبيعة التشريع الإسلامي؛ في جوانبه العقدية، والسياسيَّة، والأخلاقيَّة، وغيرها؛ يلحظ أنَّ مجرى الأحداث فيه، تختلف عن تلك التفسيرات، التي رُبَّما تستقيم من وجه، ولكنها لا تستقيم من كل وجه؛ ذلك أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم أبلغ رسالات ربه، وفعل ما أُمِر به، وبالنظر إلى قضية (البراءة من المشركين)؛ يدرك الناظر أن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ أمَّرَ أبا بكر الصديق على الحج في السنة

(1) عماد الدين خليل: دراسات في السيرة: ص 266 - 268، (مرجع سابق).

ص: 610

التاسعة، وبعد أن انطلق إلى حيث أمره، نزل أول سورة (براءة)، فألحق الرسول صلى الله عليه وسلم به عليًّا رضي الله عنهما، مِمَّا يدل على عدم التخطيط المسبق من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنَّما نزل الوحي بأمر جديد، وأسرع المصطفى صلى الله عليه وسلم في تنفيذه، كعادته في إجابة أمر ربه القائل:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]، وكان صلى الله عليه وسلم يتلقى أمر ربه فيهتدي به، ويسير في ضوئه منذُ بعثه اللَّه وحتى توفاه إليه، ولعل ما فعله صلى الله عليه وسلم في مبرك ناقته حين نزوله في المدينة، وقوله:"خلوا سبيلها فإنَّها مأمورة"(1) من الشواهد على ذلك؛ صحيح أنَّه صلى الله عليه وسلم يخبر عن أحداث ستقع ويعلم من الغيب ما علَّمَهُ اللَّه، ولكن لا يعني ذلك أن تفسير أحداث السيرة على نحو يصبغها بالعبقرية والسياسة وأساليب الحنكة والدهاء، وحقيقة تلك الأحداث مرتبط بالنبوة ومقتضياتها.

وما حدث من ردَّة بعض قبائل العرب عقب وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وموقف أبي بكر الصديق منها وعدم مهادنته لهم، أو النظر إليها من منطلق الموازنة بين قدرة دولة الإسلام على مواجهتهم، والتغاضي عن بعض ما أوجبه عليهم الإسلام، بل التمسك بالمبدأ، مهما آلت إليه الأوضاع، ومهما

(1) أخرجه ابن سعد بهذا اللفظ في الطبقات 1/ 160، (مرجع سابق)، ووردت ألفاظ كثيرة ذكرها الصالحي الشامي: سبل الهدى والرشاد. .: 3/ 372، 373، وعزاها لكتب السنَّة، وأمَّا مبرك الناقة وإقامة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه عليه المسجد النبوي الشريف، فقد ورد عند البخاري من حديث عروة بن الزبير ومنه:(فسار يمشي معه الناس حتى بركت به راحلته عند مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين، وكان مربدًا للتمر، لسهيل وسهل غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين بركت به راحلته: "هذا إن شاء اللَّه المنزل"، ثُمَّ دعا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدًا، فقالا: لا، بل نهبه لك يا رسول اللَّه، فأبى رسول اللَّه أن يقبله منهما هبةً حتى ابتاعه منهما، ثُمَّ بناه مسجدًا) الحديث. صحيح البخاري: 3/ 1421، 1422 الحديث رقم:(3694)، تحقيق: البُغاء، (مرجع سابق).

ص: 611

كانت النتائج، على الرَّغم مِمَّا أشار به عمر بن الخطاب، من التدرج معهم، ومهادنتهم (1)، إنَّ هذا الموقف مِمَّا يعزز ما سبقت الإشارة إليه من كون طبيعة الأحداث والمواقف في تاريخ الإسلام لها خصوصيتها ومنطلقها المشدود برباط الربانيَّة، والنظر في المستجدات وبحثها وفقًا للبحث عن مراد اللَّه فيها.

غير أنَّه يُمكن القول بأنَّ ما أشار إليه الباحث في قوله السابق يؤكد منطلق عالميَّة الأُمَّة الإسلاميَّة من خلال الناحيتين اللتين ذكرهما، وهما الوحدة العقيدية والوحدة السياسيَّة باعتبارهما أساس عالميَّة تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة، وهذا ما أكده تطور الأحداث وامتدادها.

وبالنظر لتاريخ الأُمَّة الإسلاميَّة منذُ أنْ أخرجها اللَّه للناس لتكون خير أُمَّة تؤمن باللَّه وتعلي كلمته وتطبق شرعه وتدعو لوحدانيته وطاعته، وجعلها بذلك شاهدة على الناس، انداحت دائرة امتدادها في مشارق الأرض ومغاربها من ذلك الحين وحتى العصر الراهن وإلى ما شاء اللَّه، وفي عهد الرسول صلى الله عليه وسلم تكونت الأُمَّة الإسلاميَّة من أفراد من العرب والروم والفرس والحبشة -كما سبق الإشارة إلى ذلك- ثُمَّ خرجت دعوتها إلى نطاق عالمي، إذ وصلت إلى (آذان) المسؤولين في الدولتين الكبيرتين في آسيا وأوروبا، وإلى الحبشة ومصر وإفريقية) (2).

(1) انظر: ابن كثير: البداية والنهاية 6/ 311 - 313، (مرجع سابق). وانظر: محمد حميد اللَّه: مجموعة الوثائق السياسية. .: ص 215 - 244، (مرجع سابق). وانظر: شوقي أبو خليل: في التاريخ الإسلامي: ص 223 - 228، الطبعة الأولى 1412 هـ - 1991 م عن دار الفكر - دمشق، وانظر: حسن إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام (السياسي والديني والثقافي والاجتماعي) 1/ 170، الطبعة [13] 1411 هـ - 1991 م، دار الجبل - بيروت.

(2)

عطية صقر: الدعوة الإسلاميَّة دعوة عالميَّة: ص 432، الطبعة الأولى 1400 هـ - 1980 م، مؤسسة الصباح للنشر.

ص: 612

وفي غضون بضعة عقود أصبحت الأُمَّة الإسلاميَّة؛ هي الأُمَّة العالميَّة التي دان لها الشرق والغرب أو كاد، واستظلت البشرية بحضارتها الزاهرة ردحًا من الزمن، تحررت فيها الضمائر والعقول، وراجت العلوم والمعارف، ثُمَّ دالت دولتها بسببٍ من ذاتها، وبسبب مكائد القوى المعادية لها، وما نالت من سيادتها، حتى تراجعت إلى الوراء، وغُلِبَتْ على أمرها، وفرض عليها التخلف والحرمان، إلى درجة غير معقولة، ومع ذلك (فإنَّ الإسلام بمبادئه السامية، وتشريعاته الملائمة وجد له أعوانًا وأنصارًا وقلوبًا في كل جهات العالم، وأن البيئات التي وجدوا فيها لم تكن حائلة دون تطبيق تعاليمه، وأن أجناسهم وألوانهم ولغاتهم لم تقف حائلًا دون اعتناق هذا الدين، والتفاعل مع مبادئه، كان له في بعضها تاريخًا قديمًا لازمها قرونًا عدَّة لم تزده الأيام إلَّا قوة في نفوسهم واعتزازًا به، وهذا من أكبر الأدلة على عالميَّة الإسلام وحيويته واتفاقه مع جميع الحاجات البشرية، فكل الجماعات الإنسانية التي جاء لينظمها ويسمو بها، دون النظر إلى الحواجز التي أقامها الناس فكانت سببًا في متاعبهم وآلامهم التي لن تنتهي إلَّا إذا عادوا إلى الأوضاع الصحيحة التي فطر اللَّه الإنسان عليها)(1).

وتبقى جوانب أخرى تعد من دلائل عالميَّة الأُمَّة الإسلاميَّة يأتي الحديث عنها في:

* * *

(1) المرجع السابق نفسه: ص 456، وانظر: حسن إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام 1/ 129 - 141، (مرجع سابق).

ص: 613