الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ففيما يخص هذا الجانب يظهر أن (ماسنيون) يريد بطريقة غير مباشرة محاولة أن يثبت من خلال بحثه في شخصية (الحلَّاج) التطابق الذي يكاد يكون تامًّا بين فلسفة العبادة في الإسلام والنصرانية، وبما أن النصرانية هي السابقة فإنَّ الإسلام وأمته تكون في وضع المحاكي المقلد.
ولعل مِمَّا يدلُّ على صحة هذا الفهم والتفسير ما يأتي:
أ- ما ذكره عمر فروخ عن (ماسنيون) من أنَّه (جعل همَّه دراسة (التصوف المتطرف) وفيما يتعلق (بالحلَّاج خاصة)(1)، على الرغم من أنَّ (الحلَّاج) (كان أشد الناس عداوة للإسلام وأشد عداء للمسلمين من الكفَّار: ادَّعى الألوهيَّة فقتله العباسيون بذلك، ولكن أتباعه قالوا: إنَّه لم يمت ولكن (شبهه) ألقي على غيره، فقتل العباسيون شبهه هذا ولم يقتلوه هو (تشبيهًا بالمسيح)(2).
ويقول أيضًا: (ولَمَّا أصدرت كتابي (التصوف في الإسلام) في طبعته الأولى (1366 هـ - 1874 م) ثُمَّ زار (ماسنيون) بيروت عاتبني على ما كتبته عامَّة وخاصة، فلم أبدل رأيي في الضرر الذي أصاب المسلمين من حركة التصوف المتطرف والتصوف المعتدل أيضًا) (3)، مِمَّا يدل على الاهتمام البالغ من لدن (ماسنيون) بهذا الجانب ومحاولته إبرازه وترسيخه في واقع المسلمين، وقد التفت عمر فروخ إلى أمرين تجدر الإشارة إليهما:
الأول: أن (ماسنيون) كان مستشارًا في قسم المستعمرات بوزارة الخارجية الفرنسية (4).
(1) الاستشراق في نطاق العلم وفي نطاق السياسة: ص 135، (مرجع سابق).
(2)
المرجع السابق نفسه: 135.
(3)
الاستشراق في نطاق العلم وفي نطاق السياسة: ص 135، (المرجع السابق نفسه).
(4)
المرجع السابق نفسه: ص 135.
الثاني: أنَّ من طلاب (ماسنيون) من تابعه في الكتابة عن (الحلَّاج)(1).
وفي هذا وذاك ما يؤكد أن هناك رغبة في إبراز هذا الجانب الفلسفي وما يترتب عليه من تقليد ومتابعة للجانب الروحي في الديانة النصرانية التي تأتي (الرهبانية) في تضاعيفه وطياته (2).
ب- كتب بعض المستشرقين ما يوضح دخول التيارات النصرانية في الطرق الصوفية، وعدوا ذلك تأثرًا بالروحانية في الديانة النصرانية وتأثيرًا في دين الإسلام؛ يقول (آدم متز):(إنَّ الحركة التي غيرت صورة الإسلام في أثناء القرنين الثالث والرابع ليست في مجموعها سوى نتيجة لدخول التيارات الفكرية النصرانية في دين محمد)(3).
ويقول (آسين بلاثيوس): (إنَّ المنهج الصوفي بكل جوانبه الروحيَّة مستمد من النصرانية)(4).
ج - وذكر أنَّ أول من تأثر بهذا النهج وتلك الفلسفة هو (الحلَّاج)، وأنَّه سُمِّيَ (مسيح المسلمين)(5).
وعلى هذا فإنَّ الاهتمام بشخصية (الحلَّاج) من قبل (ماسنيون)
(1) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 135.
(2)
انظر: آدم متز: الحضارة الإسلاميَّة في القرن الرابع الهجري أو عصر النهضة في الإسلام، تعريب: محمد عبد الهادي أبو ريدة، الصفحات: 25، 27، 29، 31، 32، 34، 37، 38، 45، 43، 44، 82، 83، 95، (مرجع سابق).
(3)
المرجع السابق: ص 19.
(4)
نقلًا عن: سارة بنت عبد المحسن بن عبد اللَّه بن جلوي آل سعود: نظرية الاتصال عند الصوفية في ضوء الإسلام: ص 326، الطبعة الأولى 1411 هـ/ 1991 م، عن دار المنار - جدة.
(5)
انظر: المرجع السابق نفسه: ص 330، 331.
و (جولدزيهر)(1) وغيرهما من المستشرقين تعني الانحراف بتميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة في مجال عقيدتها وعبادتها إلى الطرائق الفلسفية التي أفسدت العقائد النصرانية والعبادات فيها، وحولتها إلى مفاهيم خاطئة وممارسات شاذَّة، وإذا كان لقول (آدم متز) مصداقية في واقع تاريخ الأُمَّة الإسلاميَّة حيث انحرفت بعض الفرق الإسلاميَّة عن جادة الإسلام إلى الرهبانية النصرانية، فإنَّ ذلك ليس تغييرًا في الإسلام ذاته، وإنَّما في واقع تلك الفرق، أمَّا الإسلام فقد حفظه اللَّه من التبديل والتغيير، ممثلًا في الأُمَّة الإسلاميَّة؛ (أُمَّة الاتباع) وفقًا لما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم عن افتراق الأُمَّة، والتزام أُمَّة الاتباع بما كان عليه هو وصحابته الكرام (2).
8 -
أمَّا ما ذهب إليه (مونتغمري وات) حول تنوع المسميات التي تطلق على المسلم وعلى الأُمَّة الإسلاميَّة مثل (حنيف) و (حنيفية) و (مؤمن) و (مؤمنين) و (مسلم) و (مسلمين) وكذلك ما قاله عن (التزكي) فإنَّ ذلك مردود من وجوه عدَّة، منها:
أ- لا تعارض بين هذه المسميات بل هي -كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية- أسماء متعددة لدين واحد: (يسمى إيمانًا وبرًّا وتقوى وخيرًا ودينًا وعملًا صالحًا مستقيمًا، ونحو ذلك. . . وهو في نفسه واحد، لكن كل اسم يدل على صفة ليست هي الصفة التي يدل عليها الآخر، وتكون تلك الصفة هي الأصل في اللفظ والباقي. . تابعًا لها لازمًا لها، ثُمَّ صارت دالَّة عليه بالتضمن)(3).
(1) انظر: عبد الرحمن بدوي: موسوعة المستشرقين: ص 367، (مرجع سابق). وانظر: محسن عبد الحميد: تجديد الفكر الإسلامي ص 51، (مرجع سابق)، حيث ذكر أنَّ (جولدزيهر) و (نيكلسون) ذهبا إلى القول بتأثير الرهبانية النصرانية على الأمَّة الإسلامية ممثلًا في مظاهر الصوفية لدى المسلمين.
(2)
انظر: ص 98 - 102 (البحث نفسه).
(3)
كتاب الإيمان: 7/ 155، من (مجموع فتاوى شيخ الإسلام)، (مرجع سابق).
وهذا من البدهيات العقليَّة التي يتفق عليها جمهرة الناس ولا تقوم لمعترض عليها أدنى حُجَّة، يقول أحد الباحثين في سياق الرد على هذه المقولة:(إنَّ هؤلاء المستشرقين يعرفون ويعرف غيرهم أنّ الشيء قد يسمى بعدة أسماء، ويوصف بعدة أوصاف من غير تعارض، ولا يلزم من وجود أحدهما انتفاء الآخر، فمثلًا (جولدزيهر) يهودي ومجري وإنسان ورجل، ولا يلزم من وجود هذه الأوصاف جميعًا أن يكون أحدها معارضًا للآخر. . . وكذلك ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم يسمى بالإسلام، ويسمى بالإيمان والحنيفية، وغير ذلك، وليس في ذلك تعارض) (1).
ب- وإذا كان المستشرقون ينتزعون من تنوع هذه المسميات ما يستدلون به على محاكاة الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل الكتاب في عباداتهم ومداهنته لهم وبخاصة اليهود بعد هجرته إلى المدينة، وأنَّه استخدم في سبيل ذلك مسمى (المؤمنين) ليدخلوا فيه بعد أن اقتبس كثيرًا من شعائرهم في العبادة وطقوسها، ثُمَّ استخدم مسمى (التزكي)، وبعد يأسه من دخول اليهود والنصارى دينه ومصادمة اليهود لدعوته استخدم مصطلح (حنيف) و (حنيفية) ثُمَّ حلَّ مصطلح (مسلم) و (مسلمين) محلَّه فيما بعد؛ فإنَّ هذا الاستدلال متهافت وساقط من الناحية التاريخية، ومن الناحية العقليَّة، ذلك أنَّ منطق التاريخ ينسفه من أصله؛ حيث إنَّ هذه المسميات والمصطلحات قد أطلقت على دين الإسلام وأمته قبل الهجرة.
وعلى سبيل المثال فإنَّ مسمى (التزكي) وإن لم يكن علمًا على دين الإسلام (كحنيف) و (حنيفية) قد جاء في بعض الآيات التي نزلت في مكة قبل الهجرة كقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)} [الأعلى: 14]، كذلك مصطلح
(1) زيد العبلان: الدراسات الاستشراقية في ضوء العقيدة الإسلاميَّة: ص 425، 426، (مرجع سابق).
الإسلام ورد في آيات عدَّة قبل الهجرة كقوله تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [لقمان: 22]، وقوله تعالى:{كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} [النحل: 81]، وورد في روايات إسلام كثير من الصحابة كرواية إسلام أبي ذر وإسلام الطفيل بن عمرو الدوسي، بل ورد في دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم:"اللهم أعزّ الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك أبي جهل أو بعمر بن الخطاب"(1).
وجاء مصطلح (حنيف) و (حنيفيهَ) في آيات عدَّة -كذلك- نزلت قبل الهجرة منها قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123]، وقوله تعالى:{إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 79]، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية، ولكن بعثت بالحنيفية السمحة"(2).
وجاء الإسلام مقترنًا بالحنيفية في قوله تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 67].
وأمَّا من الناحية العقليَّة؛ فإنَّ هذه المسميات والمصطلحات تدل -فيما تدل عليه- على تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة في منطلقاتها وغاياتها وأهدافها ووسائلها في عقيدتها وعبادتها، وأنها ليست على منهج المشركين ولا على منهج اليهود ولا منهج النصارى، وإنَّما كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي
(1) رواه الترمذي: الجامع الصحيح 5/ 576، ورقم الحديث [3681]، تحقيق: كمال يوسف الحوت، (مرجع سابق)، وانظر: ابن هشام: السيرة النبوية 1/ 369 - 376، إسلام عمر بن الخطاب، (مرجع سابق)، وقد ورد في هذه القصة وتفاصيلها مسمى (الإسلام) ومشتقاته أكثر من ست مرات.
(2)
رواه الإمام أحمد في مسنده 5/ 266، بتحقيق: دار التراث العربي: 6/ 357، ورقم الحديث [21788]، (مرجع سابق).
وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 161 - 163].
إذًا فالأمَّة الإسلاميَّة ذات منهج متميِّز وصف بالتزكي في العبادات عن الشركيات والبدع، ووصف بالإيمان، ووصف بالإحسان، ووصف بالحنيفية، ولكل مسمى من هذه المسميات مفهومه ومعناه، وحينما تدبر الباحث في هذه المعاني، ويعمل عقله يفضي به منطق العقل وسياق الفكر إلى تأكيد معنى تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة، وأنَّ من أهم أهداف هذا التميُّز ما تدل عليه هذه المسميات من معان عميقة واسعة، منها على سبيل المثال:
• ما يدل عليه الإسلام من الاستسلام للَّه والانقياد له بالطاعة والخضوع له بعبادته وحده دون سواه (1).
• ما تدل عليه الحنيفية من ميل عن الشرك في العبادة والعقيدة إلى الإسلام والثبات عليه (2)، وقد وصفت أيضًا بأنها سمحة كما في قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"أحب الدين إلى اللَّه الحنيفية السمحة"(3)، وهي ملَّة إبراهيم عليه السلام وهو
(1) انظر: ابن منظور: لسان العرب: مادة (سلم)، (مرجع سابق)، وأبو البقاء: الكليات: ص 217، (مرجع سابق)، وابن تيمية: كتاب الإيمان (الجزء السابع من الفتاوى): ص 263، (مرجع سابق).
(2)
انظر: ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث 1/ 451، مادة (حنف)، وزاد أبو البقاء في كلياته، مادة (الحنيف) ص 359 قوله:(مخالفًا لليهود والنصارى، منصرفًا عنهما).
(3)
ترجم البخاري في كتاب الإيمان أحد الأبواب بهذا الحديث: صحيح البخاري: 1/ 15، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق)، ووصله البخاري في الأدب المفرد من طريق داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس (قيل لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أيُّ الأديان أحب؟ قال: "الحنيفية السمحة")؛ ص 87، وأخرجه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده من طريق أبي أمامة (جزء من حديث): 5/ 266، 6/ 33، (مرجع سابق) ومن طريق أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بلفظ:"أرسلت بحنيفية سمحة". قال السخاوي في =
الذي سمَّى أُمَّة محمد صلى الله عليه وسلم مسلمين، قال تعالى:{هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج: 78].
• ما يدل عليه الإيمان والإحسان من تدرج في مراتب الإسلام التي أدناها الإسلام ثمَّ الإيمان ثمَّ الإحسان، فهي مراتب ثلاث يترقى فيها المسلم بإخلاص العبادة للَّه والانقياد لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حتَّى يعبد اللَّه كأنه يراه (1)، ومن المعهود أن الإسلام والإيمان إذا ذُكِرَا مجتمعين دلَّ الإسلام على العبادات الظاهرة من النطق بالشهادتين وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان والحج لمن استطاع إليه سبيلًا، ودل الإيمان على العبادات القلبية كما وردت في الحديث:"أن تؤمن باللَّه وملائكته وبلقائه ورسله، وتؤمن بالبعث"(2)، وإذا ذكر أحدهما دون الآخر دل عليه، ففي الحديث:"الإيمان بضع وسبعون شعبة فأفضلها لا إله إلَّا اللَّه، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق"(3)، فدخل الإسلامُ في مسمى (الإيمان) ودخلت كذلك الأعمال الصالحة (4).
= المقاصد الحسنة: إنَّ إسناده حسن: ص 159، وكذا في كشف الخفا: 1/ 251، (مرجع سابق)، ولمزيد الاطلاع على طرقه ورواياته والحكم عليها،، انظر: مسند الإمام أحمد بن حنبل؛ بتحقيق: شعيب الأرناؤوط وآخرين: 4/ 17، ورقمه [2107]، (مرجع سابق).
(1)
انظر: البخاري: صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب: سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان 1/ 18، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق).
(2)
حديث جبريل: صحيح البخاري، كتاب الإيمان: 1/ 18، (المرجع السابق نفسه).
(3)
انظر: ابن تيمية: كتاب الإيمان: ص 9، (مرجع سابق)، وأصل الحديث عند مسلم ولفظه:"الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة" الحديث؛ صحيح مسلم: 1/ 63، باب: عدد شعب الإيمان، الباب (12)، ورقم الحديث [581]، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق).
(4)
المرجع السابق نفسه: ص 7.
ولئن كان الحديث يطول في هذه الفروق والدلالات عند افتراق مسمى الإسلام والإيمان والإحسان واقترانها؛ فإنَّ ما يتصل بهذا الرد في هذه النقطة هو أن النبي صلى الله عليه وسلم (جعل الدين ثلاث درجات أعلاها (الإحسان) وأوسطها (الإيمان) ويليه (الإسلام) فكل محسن مؤمن، وكل مؤمن مسلم، وليس كل مؤمن محسنًا، ولا كل مسلم مؤمنًا) (1).
وعلى هذا فإنَّ تعدد المسميات والمصطلحات التي توقف عندها (مونتغمري وات) تدلُّ على تحقيق العبودية للَّه وحده لا شريك له، وأدائها في أنصع صورة وأكملها، وهذا من أهم أهداف تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة.
9 -
وحادثة تحويل القبلة إلى بيت اللَّه الحرام بمكة جاء استجابة لأمر اللَّه جل وعلا من الرسول صلى الله عليه وسلم ومن أمته؛ لأن استقبال بيت المقدس كان أمرًا من اللَّه -على الأرجح من أقوال العلماء (2) - وكان صرف القبلة عنه إلى الكعبة أمرًا من اللَّه بالوحي والقرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وقد ذكر العلماء أن أول نسخ في القرآن كان نسخ القبلة، وقالوا: إن استقبال الكعبة في بيت اللَّه الحرام بمكة المكرمة قطعي الدلالة، قطعي الثبوت (3).
وقد استفاضت كتب السنة والسيرة وغيرها من المصادر الإسلاميَّة بذكر هذه الحادثة الكبيرة في تاريخ الأُمَّة الإسلاميَّة {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة: 143]، ولا يُمكن هنا ذكر تفصيلاتها وما يستفاد منها من عبر وعظات ومقاصد عدّة بشكل مفصل، ولكن يكفي القول بأن هذه
(1) المرجع السابق نفسه: ص 7.
(2)
انظر: ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 1/ 189، (مرجع سابق).
(3)
انظر: جميل المصري: أثر أهل الكتاب في الفتن والحروب الأهلية. . . ص 83، (مرجع سابق).
الحادثة في مجمل دلائلها، وخلاصة ما يستنتج منها تنسجم مع شخصية الأُمَّة الإسلاميَّة المتميِّزة، ولا سيما إذا أخذ بعين الاعتبار ما صاحبها من تمحيص وابتلاء وامتحان مايز بين المسلمين واليهود والنصارى ومايز كذلك بين المهتدين والناكصين (1) من الأُمَّة الإسلاميَّة، قال تعالى:{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143].
قال ابن كثير في تفسيرها: (يقول تعالى: إنَّما شرعنا لك يا محمد التوجه أولًا إلى بيت المقدس، ثمَّ صرفناك عنه إلى الكعبة ليظهر حال من يتبعك ويطيعك ويستقبل معك حيثما توجهت ممن ينقلب على عقبيه مرتدًّا عن دينه، وإن كانت لكبيرة، أي: هذه الفعلة -وهو صرف التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة-، أي: وإن كان هذا لأمرًا عظيمًا في النفوس إلَّا على الذين هدى اللَّه قلوبهم وأيقنوا بتصديق الرسول، وأنَّ كل ما جاء به فهو الحق الذي لا مرية فيه، وأنَّ اللَّه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فله أن يكلف عباده بما شاء وينسخ ما يشاء)(2).
وقال قبل ذلك: (ولَمَّا وقع هذا -يعني تحول القبلة- حصل لبعض الناس من أهل النفاق والريب والكفرة من اليهود ارتياب وزيغ عن الهدى وتخبيط وشك وقالوا: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} (3).
إلى أن قال: (الشأن كله في امتثال أوامر اللَّه، فحيثما وجهنا توجهنا، فالطاعة في امتثال أمره ولو وجهنا في كل يوم مرات إلى جهات متعددة،
(1) انظر: السعدي: تيسير الكريم الرحمن: 1/ 159 الحاشية رقم [10]، (مرجع سابق).
(2)
تفسير القرآن العظيم 1/ 191، (مرجع سابق).
(3)
المرجع السابق نفسه: 1/ 190.
فنحن عبيده وفي تصرفه وخدّامه حيثما وجهنا توجهنا، وهو تعالى له بعبده ورسوله محمد صلوات اللَّه وسلامه عليه وأمته عناية عظيمة، إذ هداهم إلى قبلة إبراهيم الخليل عليه السلام، ولهذا قال:{قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142](1).
جاء كلامه هذا في سياق تفسيره لقوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142].
وفي تفسيره لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] قال: (إنَّما حولناكم إلى قبلة إبراهيم عليه السلام واخترناها لكم لنجعلكم خيار الأمم لتكونوا يوم القيامة شهداء على الأمم؛ لأن الجميع معترفون لكم بالفضل. . . ولما جعل اللَّه هذه الأُمَّة وسطًا خصَّها بأكمل الشرائع، وأقوم المناهج، وأوضح المذاهب)(2).
وأورد في تفسير قوله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142] حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنهم لا يحسدوننا على شيء كما يحسدوننا على يوم الجمعة التي هدانا اللَّه لها فضلوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا اللَّه لها وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام: آمين"(3)، والمقصود بالضمير في "يحسدوننا" يعني: أهل الكتاب.
(1) تفسير القرآن العظيم 1/ 190، (المرجع السابق نفسه).
(2)
تفسير القرآن العظيم 1/ 190، (مرجع سابق).
(3)
رواه الإمام أحمد في مسنده 6/ 135، ورقم الحديث [24508] ترتيب: دار إحياء التراث: 7/ 194، (مرجع سابق). وانظر: ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 1/ 190، (المرجع السابق نفسه).
وقد تحدث ابن قيم الجوزية عن حادثة تحويل القبلة في كثير من المواضع من كتبه وما صاحب هذه الحادثة من إرهاصات، وما اشتملت عليه من حكم ودلائل، منها:
أ- إنَّ مشروعية الصلاة إلى بيت المقدس إنَّما كانت أولًا بسبب كونها قبلة الأنبياء وبعث محمد صلى الله عليه وسلم بما بعثوا به (وبما يعرفه أهل الكتاب، وكان استقبال بيت المقدس مقررًا لنبوته، وأنه بعث به الأنبياء قبله، وأنَّ دعوته هي دعوة الرسل بعينها، وليس بدعًا ولا مخالفًا لهم، بل مصدقًا لهم مؤمنا بهم، فلمَّا استقرت أعلام نبوته في القلوب، وقامت شواهد صدقه من كل جهة، وشهدت القلوب له بأنَّه رسول اللَّه حقًّا وإنْ أنكروا رسالته عنادًا وحسدًا وبغيًا، وعلم سبحانه أن المصلحة له ولأمته أن يستقبلوا الكعبة البيت الحرام أفضل بقاع الأرض وأحبها إلى اللَّه، وأعظم البيوت وأشرفها وأقدمها قرر قبله أمورًا كالمقدمات بين يديه لعظم شأنه فذكر النسخ أولًا)(1).
ويقول أحد المؤلفين في هذا الصدد: (إنَّ صلاته صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ثُمَّ تحوله إلى الكعبة في مكة ليوحي بأنَّه هو النبي الذي يجب أن يدين له أهل القبلتين، ويؤمن برسالته كل العالمين، حيث لم تكن دعوته دعوة محلية ولا رسالة إقليمية، وإلَّا لما احتاج إلى هذه السياحة التي جمعت له أطراف الأرض)(2).
والمؤلف يقصد بهذه السياحة قصة الإسراء وما حدث فيها من استقبال الأنبياء لمحمد صلى الله عليه وسلم وتقديمه عليهم إمامًا حيث صلى بهم في المسجد الأقصى، وقد انتزع المؤلف المذكور من هذه الحادثة: إقرار الأنبياء بنبوة
(1) ابن قيم الجوزية: بدائع التفسير 1/ 360، (مرجع سابق).
(2)
محمد السيد الوكيل: تأملات في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم: ص 81، (مرجع سابق).
محمد صلى الله عليه وسلم وتفوقه عليهم في المكانة وعلو القدر، وأنّ إقرار كلِّ نبي ملزم لأمته وموجب عليها أن تقر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن تقديمه في الصلاة بهم يوضح عالمية رسالته واعترافهم -صلوات اللَّه عليهم أجمعين (1) - (بحقه في التقدم عليهم، ودعوة صريحة لأممهم بطاعته والائتمام به)(2).
كما ذكر بعض المفسرين أنَّ توجه محمد صلى الله عليه وسلم بالصلاة إلى بيت المقدس ثُمَّ تحوله إلى الكعبة من دلائل نبوته التي أَخبَرت بها الكتب السابقة (3).
ب- أن حادثة تحويل القبلة جاءت مؤكدة على التمايز بين المسلمين وأهل الكتاب، وأنَّ لكل أُمَّة منهم قبلة توليها، وأنَّ بعضهم لن يتبع بعض، وأنَّه لا مصلحة ترجى في موافقته بعدما ظهر منهم من الكبر والحسد والسخرية بالمسلمين، وأنَّهُم لن يرضوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يتبع ملّتهم (4).
قال اللَّه تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 145].
ج- (إنَّه كما جعلهم أُمَّة وسطًا خيارًا اختار لهم أوسط وجهات الاستقبال وخيرها، كما اختار لهم خير الأنبياء، وشرع لهم خير الأديان، وأنزل عليهم خير الكتب، وجعلهم شهداء على الناس كلهم، لكمال فضلهم وعلمهم وعدالتهم، وظهرت حكمته في أن اختار لهم أفضل قبلة
(1) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 81.
(2)
المرجع السابق نفسه: ص 81.
(3)
انظر: السعدي: تيسير الكريم الرحمن: 1/ 161، (مرجع سابق).
(4)
انظر: ابن قيم الجوزية: بدائع التفسير 1/ 361، (مرجع سابق).
وأشرفها؛ لتتكامل جهات الفضل في حقهم بالقبلة والرسول والكتاب والشريعة) (1).
10 -
أمَّا ما زعمه (شاخت) في مفهوم الزكاة، وأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم استعارها من الاستعمال اليهودي لها بمعنًى أوسع ممَّا تعنيه في معناها العربي قبل الإسلام، فإنَّ زعمه هذا يأتي في سياق دراسته للزكاة في الإسلام، وقد أكد الباحثون بأنَّ دراسته تلك غير دقيقة، وأنها اتسمت بالآتي:
أ- انتهج فيها (إطلاق تعميمات تحتاج إلى تقييد، أو إغفال تفصيلات مهمة تتعلق بمبدأ عام، أو استعمال عبارات مجملة بينما يقتضي المقام التعبير عن معنى واحد لا غير، وعدم الدقة في العبارة والفكرة)(2).
ب- استحوذ على فكره ومنطلقه في تلك الدراسة الربط بين مفهوم الزكاة في الإسلام ومفهومها في اليهودية ليدلل بذلك على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذه من اليهود، وأنَّه في سبيل ذلك حجَّرَ واسعًا، وجعل نفسه حبيسًا في أغلال المباحث اللفظية، ولم يتعدها إلى مقارنة المعاني والأحكام (3).
ج- خضع في منهجه هذا لذلك المنهج الشائع بين علماء اليهود وهو (الإصرار على نسبة كل الكلمات المشتركة بين اللغات السامية إلى اللغة العبريَّة)(4).
وإذا كانت دراسة (شاخت) للزكاة قد اتسمت بعدم الدّقّة، وانتقدت
(1) ابن قيم الجوزية: بدائع التفسير 1/ 362، (المرجع السابق نفسه).
(2)
محمد أنس الزرقاء: الزكاة عند شاخت، مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلاميَّة 2/ 211، (مرجع سابق).
(3)
انظر: المرجع السابق نفسه 2/ 218.
(4)
المرجع السابق نفسه 2/ 213.
من حيث المنهج ومن حيث المضمون، وتصدَّى لذلك أهل الاختصاص من علماء الأُمَّة الإسلاميَّة (1)، فإنَّ ما يهم هنا هو الرد على زعمه الخاص بأنَّ مفهوم الزكاة في الإسلام مقتبس ومنقول عن اليهود، والرد على ذلك من وجوه أبرزها الآتي:
أ- إنَّ اللغة العبريَّة والآراميَّة والعربية وغيرها تعود إلى اللغة الساميَّة، فإذا وجدت جذور مشتركة لبعض الكلمات في هذه اللغات فلا يعني ذلك أن إحدى اللغات المذكورة نقلت من الأخرى، ولا يُمكن الجزم بذلك فقد يكون سبب ذلك الاشتراك عودتها جميعًا إلى أصل واحد (2).
ب- لو فرض أن لفظ (زكاة) مقتبس من العبرية فإنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم ليس هو الذي نقله من العبريَّة إلى العربية، إذ أنَّ هذا اللفظ موجود في اللغة العربية قبل الإسلام، ولئن كان من معانيه في العربية ما يوافق بعض معانيه في العبرية مثل الطهر فإنَّ له معاني أخرى استقل بها في العربية، منها:(النماء والزيادة والبركة والصلاح والزكا والمدح)(3).
ويشترك من ناحية ثانية مع كلمات عدّة، مِمَّا يدل على عمق دلالته في
(1) انظر: ما علَّق به محمد يوسف موسى على مادة (زكاة) التي حرَّرها يوسف شاخت: دائرة المعارف الإسلاميَّة؛ مادة (زكاة)، (مرجع سابق)، وانظر: أبا الحسن الندوي: الأركان الأربعة (الصلاة، الزكاة، الصوم، الحج): ص 95 - 175، الطبعة الثالثة 1394 هـ - 1974 م، عن دار القلم، الكويت، وانظر: يوسف القرضاوي: فقه الزكاة: 1/ 181 - 183 و 191 و 2/ 921، الطبعة الرابعة والعشرون، 1418 هـ / 1997 م، عن مؤسسة الرسالة، بيروت، وانظر: محمد أنس الزرقاء: المرجع السابق نفسه: ص 205 - 221.
(2)
انظر: محمد أنس الزرقاء: الزكاة عند شاخت: 2/ 213، (المرجع السابق نفسه).
(3)
انظر: ابن منظور: لسان العرب: مادة (زكى)، وانظر: ابن فارس: معجم مقايس اللغة: مادة (زكى).
اللغة العربية وأصالته، بينما الكلمات المقترضة من لغة أخرى تكون جامدة، ومقطوعة الصلة بغيرها من الكلمات الأخرى في تلك اللغة التي نقلت إليها (1).
ج- جعل الإسلام للزكاة مفهومًا شرعيًّا متميِّزًا وهو زكاة الأموال وعروض التجارة بصفة محدَّدة ومقررة شرعًا، ويؤكد الباحثون بأنّ الإسلام استخدم هذا المعنى أو المفهوم الشرعي قبل الهجرة وبعدها.
د- مِمَّا سبق الرد به على شبهات المستشرقين التي تدور حول دعوى التشابه تبين أنَّ التشابه حدث بسبب وحدة المصدر، وحيث إنَّ الزكاة قد فرضت في الأديان والشرائع السابقة للإسلام؛ فإنَّ ذلك مدعاة للتشابه فيما بين أحكام تلك الأديان والشرائع وبين أحكام الإسلام، وفي سياق قصص الأنبياء والرسل الذين ذكرهم اللَّه جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم ورد ما يبين مشروعية الزكاة في شرائعهم، كقوله تعالى:{وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ} [الأنبياء: 73]، وقوله عن عيسى عليه السلام:{وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: 31].
وإذا كانت هذه الأوجه كفيلة بدحض مزاعم (شاخت) وإسقاط الاحتجاج بها؛ فإنَّ هناك أوجهًا أخرى كثيرة تبين بجلاء استقلال تشريع الزكاة في الإسلام عما هو معهود في الشرائع السابقة للإسلام وعن النظم المعاصرة في المجتمعات الغربية، وهو ما يعرف بالضمان الاجتماعي، وأنَّه كما قال أحد الباحثين يُعَدُّ معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم الاقتصادية (2).
وهذا التميُّز الذي اتسم به تشريع الزكاة في الإسلام ليس محصورًا في
(1) انظر: محمد أنس الزرقاء: المرجع السابق نفسه: 2/ 213، 214.
(2)
انظر: محمد أنس الزرقاء: الزكاة عند شاخت: ص 221، (المرجع السابق نفسه)، وانظر: أبا الحسن الندوي: الأركان الأربعة: ص 95 - 175، (مرجع سابق).
ناحية دون أخرى بل في كل ناحية (سواء في صفته الإلزامية، أو في تحديده التفصيلي أو خصائصه الاقتصادية، أو في استخدامه للسلطة الاجتماعية في إعادة التوزيع من الأغنياء إلى الفقراء، أو في عزله الصارم لموارد الزكاة عن مالية الدولة العامَّة)(1).
ويُمكن الاقتصار في الرد على مزاعم (شاخت) بإيراد مثالين -فقط- يبين أحدهما أهمَّ الفروق بين تشريع الزكاة في الإسلام وبين الواجبات الدينية في الديانات الأخرى، ويبين الآخرُ الفارقَ بين تشريع الزكاة في الإسلام -أيضًا- وبين التشريعات المعاصرة للضمان الاجتماعي في الدول الصناعية (2).
أمَّا الأول: فإنَّ (الواجبات الدينية في الديانات الأُخرى هي أساس لتمويل وظيفة الوساطة الدينية، ولإعاشة رجال الدين وتشغيل وإنشاء المعابد)(3)، على حين تكون الزكاة في الإسلام مقصورة بالدرجة الأولى (على الفقراء، وقد حرمت الزكاة والصدقة عمومًا على النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله، وعلى العلماء بالشريعة إلَّا أن يكونوا فقراء فيتقاضونها بصفة الفقر لا بصفة العلم والدين، بل اتفقت المذاهب الأربعة على أنَّه لا يجوز صرف الزكاة حتى لبناء المساجد، بل ينبغي بناؤها من غير أموال الزكاة)(4).
(1) محمد أنس الزرقاء: المرجع السابق نفسه: 2/ 221.
(2)
انظر: المرجع السابق نفسه: 2/ 219 - 222.
(3)
محمد أنس الزرقاء: المرجع السابق نفسه: 2/ 219، وانظر: أبا الحسن الندوي: الأركان الأربعة: ص 128 - 129، (مرجع سابق).
(4)
محمد أنس الزرقاء: المرجع السابق نفسه: 2/ 219، وانظر يوسف القرضاوي: فقه الزكاة: ص 644 (مرجع سابق)، وانظر: ابن قدامة: المغني 2/ 497، (مرجع سابق).
وأمَّا الثاني: فإنَّ (التشريعات المعاصرة للضمان الاجتماعي في الدول الصناعية (تولدت) نتيجة تعاظم القوة السياسية للفئات الاجتماعية المستفيدة منه، وتهديدها الصريح أو الضمني للمجتمع إن لم يستجب لمطالبها) (1)، على حين كان تشريع الزكاة في الإسلام أحد أركان الإسلام الخمسة، وجاء (جزءًا من نظام حياة متكامل أوحي إلى نبي أمّي)(2).
وقد لفت نظر بعض الباحثين ذلك الموقف الحازم الحاسم الذي وقفه أبو بكر الصديق رضي الله عنه من مانعي الزكاة، وقال:(واللَّه لأقاتلنَّ من فرَّق بين الصلاة والزكاة)(3)، إذ كان ذلك الموقف (حدثًا فريدًا في تاريخ الإنسانية، وهو أن يخاطر مجتمع بوجوده فيدخل حربًا لمصلحة فقراء وضعفاء لم يكن لهم فيه وزن سياسي متميز، وما كانوا ليفكروا أو ليقدروا على التشويش أو إحداث القلاقل والاضطراب تأكيدًا لمصالحهم)(4).
* * *
(1) محمد أنس الزرقاء: الزكاة عند شاخت: 2/ 221، (المرجع السابق نفسه).
(2)
المرجع السابق نفسه: 2/ 221.
(3)
سبق تخريجه: ص 846، (البحث نفسه).
(4)
محمد أنس الزرقاء: المرجع السابق نفسه: 2/ 220.