المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أما الرد على أقوالهم وآرائهم فستتركز في النقاط الآتية: - دراسات في تميز الأمة الإسلامية وموقف المستشرقين منه - جـ ٢

[إسحاق السعدي]

فهرس الكتاب

- ‌الربانية وموقف المستشرقين منها

- ‌تمهيد

- ‌مفهوم الربانيَّة

- ‌أ- معنى الربانية لغة:

- ‌ب- معنى الرَّبَّانيَّة اصطلاحًا:

- ‌القرآن الكريم المصدر الأساس لربانية تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة

- ‌أ- تعريف القرآن الكريم وأشهر أسمائه:

- ‌ب- مصدر القرآن الحريم ونصه:

- ‌السنة الشريفة ومنزلتها من القرآن الكريم

- ‌أولًا: تعريف السنة:

- ‌ثانيًا: منزلة السُّنَّة من القرآن الكريم:

- ‌موقف المستشرقين من خصيصة الربَّانيَّة

- ‌أولًا: أقوالهم في القرآن الكريم:

- ‌ثانيًا: أقوالهم في السنة النبوية والسيرة النبوية:

- ‌العالمية وموقف المستشرقين منها

- ‌تمهيد

- ‌مفهوم العالمية

- ‌أ- تعريف العالميَّة لغة:

- ‌ب- تعريف العالميَّة في الاصطلاح:

- ‌دلائل عالمية الإسلام من الكتاب والسنة، ووقائع السيرة النبوية، وأحداث التاريخ الإسلامي

- ‌أولًا: القرآن الكريم:

- ‌ثانيًا: وأمَّا في السنة النبوية:

- ‌دلائل عالمية الأُمَّة الإسلاميَّة، من العقيدة والنظم

- ‌موقف المستشرقين من خصيصة العالَمِيَّة

- ‌أولًا: موقف المنكرين لخصيصة العالَمِيَّة وأدلة إنكارهم مع الرد عليها:

- ‌ثانيًا: موقف من نفى خصيصة العالمية من حيد حونها من المبادئ التي تميزت بها الأُمَّة الإسلاميَّة على الرغم من الإقرار بها تاريخيًّا بسبب ما أفضى إليها تطور الأمَّة، وتدل على هذا الموقف آراء بعض المستشرقين، كما يتضح مِمَّا يأتي:

- ‌ثالثًا: موقف المتشككين في عالمية الإسلام:

- ‌الوسطية وموقف المستشرقين منها

- ‌تمهيد

- ‌مفهوم الوسطية

- ‌أ- الوسطيَّة في اللغة:

- ‌ب- أمَّا عن معانيها

- ‌وسطية الأُمَّة في مجال العقيدة والعبادة

- ‌أولًا: في الجانب العقدي:

- ‌ثانيًا: في جانب العبادة:

- ‌وسطية الأُمَّة في مجال التشريع والأخلاق

- ‌أولًا: في مجال التشريع:

- ‌ثانيًا: في مجال الأخلاق:

- ‌موقف المستشرقين من خصيصة الوسطية

- ‌وفيما يأتي بعض النماذج على ذلك:

- ‌ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره بعض المستشرقين عن هذه الوسطية:

- ‌الإيجابية الخيرة وموقف المستشرقين منها

- ‌تمهيد

- ‌مفهوم الإيجابية الخيرة

- ‌أ- المسارعة:

- ‌ب- السبق:

- ‌جوانب مفهوم إيجابية الأمة الإسلامية

- ‌موقف المستشرقين من خصيصة إيجابيَّة الأُمَّة الإسلاميَّة

- ‌النموذج الأول:

- ‌النموذج الثاني:

- ‌تحقيق العبودية للَّه وموقف المستشرقين منها

- ‌تمهيد

- ‌مفهوم العبادة، ومقتضياتها

- ‌أ- العبادة في اللغة:

- ‌ب- العبادة في الاصطلاح:

- ‌ج- مقتضيات العبادة في الإسلام:

- ‌أنواع العبادة وصورها

- ‌ومن العبادات الاعتقاديَّة:

- ‌ومن العبادات القلبيَّة:

- ‌ومن العبادات اللفظيَّة:

- ‌ومن العبادات البدنيَّة:

- ‌أمَّا العبادات الماليَّة:

- ‌روح العبادة وأسرارها

- ‌آثار العبادة في الفرد وفي الأُمّة

- ‌أولًا: الصلاة:

- ‌ثانيًا: الزكاة:

- ‌ثالثًا: الصوم:

- ‌رابعًا: الحج:

- ‌موقف المستشرقين من قضية العبودية للَّه

- ‌ويعالج هذا في نقطتين بارزتين:

- ‌فمن أقوال المستشرقين وآرائهم:

- ‌أمَّا الرد على أقوالهم وآرائهم فستتركز في النقاط الآتية:

- ‌ولعل مِمَّا يدلُّ على صحة هذا الفهم والتفسير ما يأتي:

- ‌تحقيق الاستخلاف وموقف المستشرقين منها

- ‌تمهيد

- ‌مفهوم الاستخلاف وأهميته

- ‌أ- معنى الاستخلاف في اللغة:

- ‌ب- مفهوم الاستخلاف عند بعض المفسرين والعلماء والباحثين:

- ‌ج- تعريف الاستخلاف في الاصطلاح:

- ‌د- أهمية الاستخلاف:

- ‌مقومات الاستخلاف بعامّة

- ‌أولًا: العلم:

- ‌ثانيًا: التسخير:

- ‌مقومات استخلاف الأمَّة الإسلامية بخاصة

- ‌أولًا: العلم:

- ‌ثانيًا: التسخير:

- ‌موقف المستشرقين من قضية استخلاف الأُمَّة الإسلاميَّة

- ‌وسيلة اللغة العربية وموقف المستشرقين منها

- ‌مكانة اللغة العربيَّة وارتباطها بالإسلام

- ‌موقف المستشرقين من اللغة العربيَّة

- ‌الرد على الشبهة الأولى:

- ‌الرد على الشبهة الثانية:

- ‌الرد على الشبهة الثالثة:

- ‌الرد على الشبهة الرابعة:

- ‌وسيلة تاريخ الإسلام وحضارته وموقف المستشرقين منه

- ‌تمهيد

- ‌الالتزام بالإسلام والاعتزاز به

- ‌أ- أمَّا في المفاهيم

- ‌ب- الالتزام بالإسلام والاعتزاز به في المناهج

- ‌1 - السببيَّة:

- ‌2 - القانونية التاريخيَّة:

- ‌3 - منهج البحث الحسي (التجريبي):

- ‌جـ- الالتزام بالإسلام والاعتزاز به من خلال المواقف

- ‌الوعي الثقافي الشامل

- ‌الناحية الأولى:

- ‌الناحية الثانية:

- ‌التعاون والتكامل

- ‌الدعوة والجهاد

- ‌1 - الجهاد التربوي:

- ‌2 - الجهاد التنظيمي:

- ‌3 الجهاد العسكري:

- ‌موقف المستشرقين من تاريخ الإسلام وحضارته

- ‌أولًا: نقد بعض المستشرقين للمنهج الاستشراقي:

- ‌ثانيًا: نقد بعض المفكرين والباحثين من العرب والمسلمين للمنهج الاستشراقي:

- ‌ثالثًا: نماذج لأهم القضايا التي تطرقت إليها دراسات المستشرقين لتاريخ الإسلام وحضارته:

- ‌1 - الدعوة والجهاد

- ‌2 - العادات والتقاليد:

- ‌3 - الجانب السياسي والحضاري من تاريخ الأُمَّة الإسلاميَّة:

- ‌رابعًا: استخلاص موازين البحث عند المستشرقين:

- ‌مبحث ختامي

- ‌تقويم الحركة الاستشراقية ومنهج الإسلام في مواجهتها

- ‌أساليب مواجهة تحدي الاستشراق والمستشرقين ووسائلها

- ‌الخاتمة

- ‌1 - في ضوء الدراسة التأصيلية لتميز الأُمَّة الإسلاميَّة، تبين الآتي:

- ‌أ- عقيدة التوحيد

- ‌ب- الشريعة الإسلاميَّة الغراء

- ‌ج- الأخُوَّة الإسلاميَّة ووحدة الأمَّة

- ‌د- الخصائص التي تفرد بها تَمَيُّز الأمَّة الإسلاميَّة؛ وأهمها:

- ‌هـ - أهداف تَمَيُّز الأمَّة الإسلاميَّة

- ‌و- وسائل تَمَيُّز الأُمَّة الإسلاميَّة

- ‌2 - وفي ضوء الدراسة النقديَّة لموقف المستشرقين من تَمَيُّز الأُمَّة الإسلاميَّة، تبين الآتي:

- ‌المصادر والمراجع

- ‌نبذة تعريفية الإدارة العامة للأوقاف

الفصل: ‌أما الرد على أقوالهم وآرائهم فستتركز في النقاط الآتية:

الطهارة والنماء، والحقيقة أن محمدًا استعارها بمعنًى أوسع من ذلك بكثير، أخذًا عن استعمالها عند اليهود (في العبرية - الأرميَّة: زكوات) (1).

هذه نماذج من أقوال المستشرقين وآرائهم حول العبوديَّة في الإسلام، وإنْ كانت العبادة -كما سبق شرحها- أشمل من ذلك، ولكن الموضوع هنا هو استجلاء موقف عامَّة المستشرقين من قضية العبوديَّة باعتبارها من أهم أهداف تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة.

ولعل في هذه النماذج الواردة في الصفحات السابقة ما يؤكد موقف المستشرقين في مسارهم العام من تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة، وأنَّهم يصرون إصرارًا يجافي مناهج البحث العلمي ويقدح -بصفة واضحة- في مصداقيتهم؛ بل ويؤكد بما لا يدع مجالًا لحسن الظن بهم أنَّهم يتحاملون على الإسلام كمبدأ، وعلى الأمَّة الإسلاميَّة في هويتها وشخصيتها المميَّزة، فهم حريصون غاية الحرص على نسبة كلِّ جانب من جوانب تميُّزها إلى أُمَّة أخرى، وإظهار الإسلام بمظهر ملفق من الوثنية الجاهليَّة واليهودية والنصرانية، وغير ذلك من الملل والنحل.

‌أمَّا الرد على أقوالهم وآرائهم فستتركز في النقاط الآتية:

1 -

إن التشابه بين بعض الشرائع والشعائر في الإسلام وبين ما سبقها من الديانة اليهوديَّة أو النصرانية أو غيرهما من الملل والنحل لا يصح بأيِّ حال من الأحوال أنْ يكون دليلًا قاطعًا، وحُجَّة مقنعة بأنَّ الإسلام مقتبس من غيره، أو ملفق مِمَّا سبقه.

يقول أحد المفكرين: (إنَّ الأفكار التي تبدو متشابهة في دوائر

(1) نقلًا عن: محمد أنس الزرقاء: الزكاة عند شاخت. . . (بحث مدرج في مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلاميَّة) 2/ 207، (مرجع سابق)، وانظر: عبد العظيم الطعني: افتراءات المستشرقين: ص 136 - 139، (مرجع سابق).

ص: 793

الحضارات الإنسانية المختلفة لا تدل بالضرورة على الاقتباس، ومع ذلك ورغم التشابه الضئيل القائم بين تعاليم الإسلام واليهودية والمسيحية، فإنَّ هناك اختلافات جوهرية - (سواء كان) في الصورة والشكل (أم) في المحتوى والغاية- بين العبادات في الدين الإسلامي وبينها في المسيحية واليهودية) (1).

والمستشرقون الذين يتوافرون على ذكر تلك المتشابهات للنيل من تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة وأمته عن الأديان والأمم السابقة يهملون بطريقة تبدو متعمدة الحديث عن الاختلافات الجوهرية بين الإسلام وأمته وغيرها من الأديان والأمم الأخرى، ولا يذكرون من جهة أُخرى الأسباب الحقيقية في ما يبرزونه من التشابه، مع أنّ (هذا التشابه النسبي يفسر -وهو المعقول من وجهة النظر الدينية- بوحدة المصدر الإلهي الذي نبعت منه هذه التعاليم السماوية)(2).

تروي كتب التاريخ أنَّ النجاشي لما سمع آيات القرآن الكريم يتلوها على مسمعه جعفر بن أبي طالب هتف قائلًا: (إنَّ هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة. . . واللَّه ما عدا عيسى بن مريم ما قلت)(3)، وكان القسس والرهبان كلما سمعت آية يتلوها جعفر (انحدرت دموعهم مِمَّا عرفوا من الحق، وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى)(4).

(1) عرفان عبد الحميد: المستشرقون والإسلام: ص 26، (مرجع سابق).

(2)

عرفان عبد الحميد: المستشرقون والإسلام: ص 26، (مرجع سابق). وانظر: شوقي أبو خليل: كارل بروكلمان في الميزان: ص 53، (مرجع سابق).

(3)

ابن هشام: السيرة النبوية 1/ 362، 363، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري، (مرجع سابق).

(4)

الواحدي: أسباب النزول: ص 151، 152 (مرجع سابق)، وانظر: ابن هشام: المرجع السابق نفسه: 1/ 362، وانظر: عرفان عبد الحميد: المستشرقون والإسلام: ص 26، (مرجع سابق).

ص: 794

إذًا فالتشابه إذا وجد فسببه أنَّ الكتب السماويَّة كلها مصدرها واحد وهو اللَّه عز وجل، والإسلام جاء ليكمل بناء الأديان من قبله وليس مناقضًا لما فيها، أو ما بقي لدى الجاهليين من بقايا الحق سواء في مجال العقيدة أو العبادة أو السلوك والأخلاق (1)، وقد ثبت صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"بعثتُ لأتمم حسن الأخلاق"(2).

2 -

إنَّه بالأدلة العقليَّة والبراهين المنطقية تسقط آراء المستشرقين وأقوالهم التي زعموا فيها أن الرسول صلى الله عليه وسلم لفق العبادات في الإسلام ممَّا عرفه من اليهود والنصارى، ومِمَّا عرفه هو ثُمَّ المسلمون من بعده من بقايا الوثنية الجاهليَّة وبعض الملل والنحل الأخرى، وذلك بالنظر إلى موقف الإسلام من تلك المصادر المتنوعة (ذلك أنَّ طبيعة المسألة تقضي -عادة- أن يضفي المقلد الآخذ أسباب الكمال ومعاني الأصالة وسمات الحق على المصدر الذي استقى منه أصول فكره وعلمه، وأن ينزل صاحبه منزلة العدل في الحكم، والنزاهة في الرأي، والسداد في الفكرة والعقيدة.

أمَّا إذا وجدنا الأمر معكوسًا فإنَّ المنطق يحتم خلاف ذلك، إذ كيف يجوز لعاقل أن يتصور النبي صلى الله عليه وسلم تلميذًا لأحبار اليهود ورهبان النصارى، يشكل قرآنه (نعوذ باللَّه) ويلفق عقيدته من توراتهم وإنجيلهم وسائر مصادرهم، وهو يرى القرآن الكريم يصدر في انتقاده لهذه المصادر عن

(1) انظر: سعيد عاشور: بحوث في تاريخ الإسلام وحضارته: ص 27، 28، (مرجع سابق).

(2)

أخرجه الإمام مالك: الموطأ، 2/ 690، كتاب حسن الخلق، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق)، وفي رواية الإمام أحمد في مسنده:"إنما بعثتُ لأتمم صالح الأخلاق": 2/ 381، ورقم الحديث [8952]، بتحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، (مرجع سابق)، ولمعرفة طرق الحديث والحكم عليه ووروده بلفظ "مكارم الأخلاق" راجع: حاشية الحديث لدى الأرنؤوط (14/ 513)، المرجع السابق نفسه.

ص: 795

موقف قوي صريح هو موقف الحاكم المتمكن من الأمر المتهم لأرباب تلك المصادر، المنتقد لما (أحدثوا فيها من التبديل والتحريف والزيادة والنقصان)، وهكذا فإنَّ القرآن الكريم إذ يستعرض آراء اليهود ومعتقدات النصارى لا يصدر عن موقف ضعيف متخاذل، وهو ما يتصف به المقلد للغير، بل يتبين الحق في هذه العقائد من باطلها، ويحمل وزر الباطل على أهله) (1).

لقد وصف اليهود (تارة بالتحريف والتبديل {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء: 46]، وباللبس والكتمان {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 42]، وبالافتراء وزور القول {يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [المائدة: 103]، والقرآن إذ يستعرض عقيدة المسيح عليه السلام باللَّه تعالى يبعده عن لوثة التثليث، ويعتبر ذلك مسخًا لحقيقة ما بشر به، وتلفيقًا من الرأي نسب إليه {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 116]. وإذا كان هذا شأن القرآن الكريم من تلك المصادر. . . فليس لعاقل سديد الرأي أن يورد هذا الزعم الباطل)(2).

3 -

أمَّا دعوى أنَّ الإسلام اقتبس بعض الأحكام التعبديَّة ممَّا كان عليه الجاهليون؛ فلا يُمكن أن يستنتج (من الإبقاء عليها تأثر الرسول بها باعتبارها أمورًا استمدها من بيئته ولم يوح بها اللَّه إليه في محكم كتابه، ولو كان الأمر خلاف ذلك لأبقى على سائر القوانين والأعراف الجاهليَّة ولما حرَّم بعضًا منها وأباح بعضها الآخر، ولكن التشريع يراعي دومًا

(1) عرفان عبد الحميد: المستشرقون والإسلام: ص 27، (المرجع السابق نفسه).

(2)

عرفان عبد الحميد: المستشرقون والإسلام: ص 27، (مرجع سابق).

ص: 796

مصالح الناس والعباد التي شرعت الأحكام لمصلحتهم، فتبقى الأحكام الصالحة، وتبطل الأحكام الفاسدة. . . إنَّ الإسلام احتفظ بالعديد من أعراف الجاهليين وتشريعاتهم؛ لأنها صالحة للتطبيق؛ ولأنها تحقق مصالح من شرعت هذه الأحكام لهم؛ ولأنَّه عندما ألغى الفاسد منها، فإنَّه قد راعى هذه التعاليم الإلهيَّة التي جاءت بالرسالة المحمدية) (1).

ولا يتسع المجال هنا للتعرض لشعائر الجاهليين وعباداتهم، ومقارنتها بالعبادات الإسلاميَّة وشعائرها لمعرفة مدى التوافق بينهما والاختلاف، ولكن تُعْرَضُ بعض العبادات والشعائر التي كان العرب في جاهليتهم يمارسونها، ثُمَّ ما حدث من تعديل أو إبطال أو إقرار لبعضها وترك لبعضهما الآخر.

فمن شعائر الجاهليين التي أقرها الإسلام (الاختتان والاغتسال من الجنابة، وتغسيل الموتى وتكفينهم)(2).

وكان الجاهليون يؤدون الحج والعمرة ولهما شعائر عدَّة، وعندما جاء الإسلام أبقى على بعض تلك الشعائر وأبطل بعضها الآخر (3). . . (فالطواف كان معروفًا في الجاهليَّة، وهو عندهم ركن من أركان الحج، ومنسك من مناسكه، وعدده عندهم سبعة أشواط، وكان الطائفون على صنفين: صنف يطوف عريانًا، وصنف يطوف في ثيابه. ويعرف من يطوف بالبيت عريان (بالحلَّة)، أمَّا الذين يطوفون بثيابهم، فيعرفون (بالحمْس)، وعندما جاء الإسلام أقر الطواف حول الكعبة بسبعة أشواط، ومنع طواف العري، وحتم على الجميع لبس الإحرام) (4).

(1) ساسي سالم الحاج: الظاهرة الاستشراقية: ص 327، (مرجع سابق).

(2)

ساسي سالم الحاج: الظاهرة الاستشراقية: ص 324، (المرجع السابق نفسه).

(3)

انظر: المرجع السابق نفسه: ص 324.

(4)

المرجع السابق نفسه: ص 324.

ص: 797

ومِمَّا أبقى الإسلام من أعمال الحج التي كانت معروفة ومعمولًا بها في الجاهليَّة: السعي بين الصفا والمروة، والتلبية، والوقوف بعرفة اليوم التاسع من ذي الحجة، والإفاضة منها إلى مزدلفة والمبيت بمنى، ورمي الجمرات (1).

ولكن الإسلام أذهب ما علق بها من أمور الجاهليَّة سواء الشركيات في الاعتقاد أو المبتدعات في أشكال العبادة، ذكر اليعقوبي (أنَّ العرب إذا أرادت حج البيت الحرام، وقفت كل قبيلة عند صنمها، فصلوا عنده، ثُمَّ لبوا حتى يقدموا مكة، فكانت تلبياتهم مختلفة)(2)، فقد نقَّى الإسلام التلبية من أوضار الشرك، وجعلها خالصة للَّه، ولم يبطلها من حيث أصل المشروعيَّة.

(وكان الجاهليون يطوفون بين الصفا والمروة، ومنصوب عليها صنمان هما (أساف)، و (نائلة) وكانوا يطوفون بهما سبعة أشواط، ووصف الإسلام مشي الحاج بين الصفا والمروة بـ (السعي) وأبقى هذه الشعيرة) (3) بعد أن أزاح الأصنام، وشرع أدعية التوحيد وإخلاص العبادة للَّه.

ولا شك أنَّ ما أبقاه الإسلام من العبادات والشعائر التي كانت معروفة في الجاهليَّة هو الحق الذي شرعه اللَّه، وبلَّغَه الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم لأمته، ومنه ما كان من بقايا الحنيفيَّة السمحة، ومنه ما أوجبه اللَّه على عباده على لسان المصطفى صلى الله عليه وسلم أو أُمِرَ بفعله، وأمر هو صلى الله عليه وسلم أُمَّتَه أن تفعل كفعله، كما في الحديث:"صلوا كما رأيتموني أصلي"(4).

(1) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 324، 325.

(2)

أديان العرب 1/ 225، وانظر: المرجع السابق نفسه: ص 324.

(3)

ساسي سالم الحاج: المرجع السابق نفسه: ص 325.

(4)

سبق تخريجه: ص 868، (البحث نفسه).

ص: 798

وكما أمر المسلمين في حجة الوداع وقال: "لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه"(1).

4 -

أمَّا قول (بروكلمان) و (مونتغمري وات) عن صوم يوم عاشوراء فهو مردود من وجوه عدَّة، من أهمِّها:

أ- ما ذكره بعض الإخباريين (من أنَّ قريشًا كانت تصوم يوم عاشوراء، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصومه أيضًا، وعندما هاجر إلى المدينة استمر في صيامه له، وأمر أصحابه بذلك أيضًا حتى أول السنة الثانية للهجرة، وبعد أن فرض الصيام أصبح صوم يوم عاشوراء اختيارًا)(2)، فإذا صح هذا القول فإنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم صام عاشوراء قبل أن تكون هناك مظنَّة تأثر باليهود، كما أن بعض المستشرقين ادّعى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان متأثرًا في صوم يوم عاشوراء بما كان عليه قومه (3) وليس اليهود، وقد سبق الرد على هذا القول ضمنًا فيما ذكر من قبل.

(1) أخرجه مسلم: صحيح مسلم: 2/ 943، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا وبيان قوله صلى الله عليه وسلم:"لتأخذوا عني مناسككم" من كتاب الحج، (مرجع سابق)، وأخرجه أبو داود في سننه: 2/ 207، كتاب المناسك، باب: رمي الجمار باللفظ نفسه، (مرجع سابق)، وأخرجه النسائي في سننه بلفظ:"يا أيها الناس: خذوا عني مناسككم"، الحديث رقم (3062)، (مرجع سابق)، انظر: البحث نفسه: ص 90، 526.

(2)

انظر: ساسي سالم الحاج: الظاهرة الاستشراقية: ص 324، وفيما أخرجه البخاري؛ قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"من شاء أن يصمه فليصمه، ومن شاء أن يتركه فليتركه"، صحيح البخاري: 2/ 578، كتاب الحج، باب (47)، الحديث رقم (1515)، تحقيق: البُغا، (مرجع سابق). والحديث مرويٌّ عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وممَّا قالت:"كانوا يصومون عاشوراء قبل أن يفرض رمضان، وكان يومًا تُستر فيه الكعبة، فلما فرض اللَّه رمضان قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"(وذكرت الحديث)، فدلَّ ذلك على صحة ما ذكره الإخباريون عن كون صوم يوم عاشوراء عادة جرت عليها قريش من قبل.

(3)

انظر: عفاف صبرة: المستشرقون ومشكلات الحضارة: ص 66، (مرجع سابق). =

ص: 799

ب- أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم حينما قدم المدينة المنورة ووجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، سأل عن سبب صومهم له، فذكروا أنَّه يوم أنجى اللَّه فيه موسى عليه السلام وقومه وأغرق فرعون وجنده (1) فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بصيامه ولم يقتصر على ذلك وإنَّما قال -فيما رواه ابن عباس رضي الله عنه:"صوموا يوم عاشوراء، وخالفوا اليهود، صوموا قبله يومًا أو بعده يومًا"(2)، ففي هذا نفيٌ تام لما زعمه (بروكلمان) وتأكيد جازم على تميّز الأُمَّة الإسلاميَّة من بداية احتكاكها باليهود في المدينة المنورة، وتميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة هو الاستنتاج الأولي من هذه الحادثة وما يشبهها، ولكن (بروكلمان) يصدف عن هذا الاستنتاج الذي يفضي إليه العقل والمنطق، ويصر على محاولة النيل من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، والقدح في تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة.

5 -

وأمَّا ما ذهب إليه (بروكلمان) بشأن مشروعية الصلاة وصلاة الجمعة؛ فإنَّ ذلك كله كما قال أحد المفكرين يسجل على (بروكلمان)(تعصبًا مقيتًا ضد الإسلام)(3)؛ لأن المسلمين كانوا يصلون خمس صلوات في اليوم والليلة قبل الهجرة، وقد فرضت الصلوات الخمس ليلة الإسراء وورد في ذلك عدّة أحاديث، منها قوله صلى الله عليه وسلم: "ففرض اللَّه على أُمَّتي خمسين

= ولمزيد من الاطلاع على ما جرت به العادة. صيام الأنبياء ليوم عاشوراء، وصوم قريش له، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم صامه قبل الهجرة وأمر بصيامه بعدها إلى أن شرع صيام رمضان وأحواله مع هذا الصيام؛ راجع: الإمام الحافظ ابن رجب: لطائف المعارف: ص 102 - 113، تحقيق: ياسين محمد السَّواس، (مرجع سابق).

(1)

انظر: الحافظ ابن رجب: المرجع السابق نفسه: ص 103، 104.

(2)

أخرجه الإمام أحمد بن حنبل: مسنده: 1/ 241، بتحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين: 4/ 52، ورقم الحديث [2154]، (مرجع سابق)، وانظر: الحافظ ابن رجب: لطائف المعارف: ص 108، (المرجع السابق نفسه).

(3)

عبد الكريم علي باز: افتراءات فليب حتي وكارل بروكلمان على التاريخ الإسلامي: ص 107، (مرجع سابق).

ص: 800

صلاة، فرجعت بذلك حتى مررت على موسى، فقال: ما فرض اللَّه لك على أمتك؟ قلت: فرض خمسين صلاة. قال: فارجع إلى ربك فإنَّ أمتك لا تطيق ذلك" (1) إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "فراجعته، فقال: هي خمس وهي خمسون" (2). ومن الثابت تاريخيًا أن الإسراء حدث قبل الهجرة (3).

وممَّا ذكر المفسرون في أسباب نزول قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 17 - 18] أنَّها تعني الصلوات الخمس، وهذا التفسير عزاه القرطبي لابن عباس أنَّه قال:(الصلوات الخمس في القرآن، قيل له: أين؟ فقال: فسبحان اللَّه حين تمسون: صلاة المغرب والعشاء، وحين تصبحون: صلاة الفجر، وعشيًّا: العصر، وحين تظهرون: الظهر)(4)، ومن الثابت أن سورة الروم نزلت بمكة قبل الهجرة ببضع سنين (5).

ويتساءل أحمد حماني عن هذا الموقف لى (بروكلمان) قائلًا: (ما الذي يحمل (بروكلمان) على تزوير التاريخ وتشويه الحقائق؟!)، ثُمَّ يؤكد بأنَّه (يهاجم الإيمان في صدور أبنائنا ليزعزع العقيدة ويتركهم مذبذبين)(6).

وأمَّا قول (بروكلمان) أن المسلمين تأثروا بالفرس في جعل فروض

(1) رواه البخاري: صحيح البخاري: 1/ 92، كتاب الصلاة، باب [1] كيف فرضت الصلاة في الإسراء؟

(2)

المرجع السابق نفسه 1/ 93.

(3)

انظر: ابن هشام: السيرة النبوية: 1/ 277 - 279، (مرجع سابق).

(4)

الجامع لأحكام القرآن 14/ 11، (مرجع سابق).

(5)

انظر: الواحدي: أسباب النزول. . . ص 259، (مرجع سابق)، وا بن كثير: تفسير القرآن العظيم 3/ 422 - 426، (مرجع سابق).

(6)

مجلة جوهرة الإسلام: ص 48، نقلًا عن عبد الكريم علي باز: ص 107، (مرجع سابق).

ص: 801

الصلاة خمسة فروض في اليوم والليلة بعد زعمه أنهم تأثروا قبل ذلك باليهود، فإنَّ زعمه هذا كمزاعمه التي سبقت مناقشتها والرد عليها، وكلها تؤكد ما ذكره أحد الباحثين عن فئة من المستشرقين نذرت نفسها لإبراز الإسلام وأمته كذيل لليهود وأمتداد لتاريخهم (1).

وأمَّا زعمه بأن المسلمين فيما بعد تأثروا بالفرس فأوصلوا فروض الصلاة إلى خمسة فروض فليس في الأديان التي اعتنقها الفرس عبادة كصلاة المسلمين إلَّا أن المجوس كان منهم من يسجد للنجوم ومنهم من يسجد للنار (2)، وإذا حدث من بعض الفرق المنشقة عن الأمَّة الإسلاميَّة تأثرٌ بهم فإنَّ ذلك حدث في عصور متاخرة بعد أن استقرت شرائع الإسلام (3)، بل من الثابت تاريخيًا أن الإسلام أثَّرَ في الفرس، ودخل سوادهم تحت مظلته (4).

وأمَّا صلاة الجمعة فإنها شعيرة تميزت بها الأُمَّة الإسلاميَّة، وخصَّها اللَّه بها بعد أن ضلّ عنها اليهود والنصارى، وفضلت بها عليهما كما سبق بيان ذلك.

6 -

ومِمَّا ينبغي ذكره في الرد على سائر المزاعم الاستشراقية التي تحاول جاهدة أن تعود بأصول العبادات في الإسلام إلى ملل ونحل لدى أمم شتّى بغية إذابة تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة، والقول بأنها ملفقة من هنا وهناك:

(1) انظر: محمد أنس الزرقاء: الزكاة عند شاخت. . . مناهج المستشرقين: 2/ 213، (مرجع سابق).

(2)

انظر: الشهرستاني: الملل والنحل 1/ 274 - 302، (مرجع سابق).

(3)

انظر: شكيب أرسلان: إسلام الفرس ومبدأ التشيع: 1/ 161 - 193 من كتاب حاضر العالم الإسلامي، (مرجع سابق).

(4)

انظر: المرجع السابق نفسه: 1/ 180، 184، 187، 191، وانظر: الصفحة السابقة لهذه الصفحات: 1/ 156، (المرجع السابق نفسه).

ص: 802

(إنَّ العبادات الإسلاميَّة المعروفة من صلاة وزكاة وصيام وحج، عبادات قديمة، عرفتها الأديان قبل الإسلام على صورة من الصور، فاللَّه يقول عن بعض الأنبياء: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 73]، وفي الصيام يقول تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، وفي الحج يقول: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 26 - 27].

ولكن هذه العبادات الأربع كانت في تلك الديانات مناسبة لعصرها وبيئتها، فلمَّا جاء محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة الخاتمة الملائمة للبشرية في طور نضوجها، فرض اللَّه عليه هذه العبادات في أكمل صورة لها، ورقَّى كل نوع منها إلى غايته ومنتهاه، ونقَّاها من كل ما شابها خلال العصور وكر الدهور.

فالصلاة لم تعد مجرد ابتهال ودعاء فحسب، ولكنها ذكر ودعاء وتلاوة، وهي أقوال وأعمال يشترك فيها الفكر والقلب واللسان والبدن، واشترط الإسلام لها النظافة والطهارة، وأخذ الزينة، والاتجاه إلى قبلة واحدة، ووزعها على أوقات النهار والليل بمواقيت معينة، وحدد لكلِّ صلاة منها ركعات معدودة، ورتب كيفيتها على نسق فريد، وكملها بما شرع فيها من جماعة وجمعة، وزان ذلك كله بما شرع لها من أذان وإقامة، فالصلاة في الإسلام بهذه الصورة، وتلك الشروط، عبادة فذَّة لم تعرف هكذا في دين من الأديان.

والزكاة في الإسلام عبادة فذَّة -كذلك-، إنَّها ليست مجرد إحسان يتبرع بها متطوع، ولكنّها حق معلوم وفريضة مقدرة على كل من يملك نصابًا محددًا ناميًا من المال حال عليه الحول، فاضلًا عن الحاجات

ص: 803

الأصلية لمالكه، إنها حق اللَّه فيما أنعم به من مال أو تجارة أو زرع، حق يدفع الإيمان إلى أدائه، وتقوم الدولة على جبايته {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ} [التوبة: 103]، فمن أدَّاها طيبة بها نفسه، فقد كسب رضا اللَّه، وفاز بخيري الآخرة والأولى، ومن أبى قسرته الأُمَّة على أدائها قسرًا، فإن كانت له شوكة قوتل وجندت له الجنود حتى يؤديها، وهذا ما صنعه الخليفة الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه مع مانعي الزكاة، فالزكاة بهذا الوضع وبمصارفها التي بينها القرآن عبادة جديدة لم تعرف بهذا الكمال في دين من الأديان.

وكذلك الصيام والحج والذكر والدعاء عبادات قديمة مشتركة في أديان كثيرة، ولكن الإسلام نقَّى هذه العبادات جميعًا من كل شائبة، ورقَّى كل نوع منها إلى غايته، وركز فيها من الأسرار، وربط بها من الآثار، وجعل لها من التأثير في الحياة ما يليق بدين عام خالد، مهمته إصلاح الفرد والأُمَّة وهداية العالمين) (1).

7 -

يبدو أنَّ ما انتهجه (ماسنيون) من عشق وهيام بشخصية (الحلَّاج) وطريقته في الفلسفة الصوفية، ليس مجرد قناعة ذاتية أو اختيارًا لرأي شخصي، بل الأمر أعمق من ذلك، إذ يظهر من نهجه ذاك -واللَّه أعلم- إبراز التأثر والاقتباس بالنصرانية في تاريخ الأُمَّة الإسلاميَّة في جانبي العقيدة والعبادة، ففيما يخص العقيدة إبراز عقيدة الحلول وفلسفتها التي تتفق مع عقيدة الصلب والتثليث في الديانة النصرانية المحرَّفة. . . وهذا جانب لا يتسع المجال هنا للخوض فيه والرد عليه، وقد سبق أن أفردت العقيدة وموقف المستشرقين منها بمبحث مستقل (2)، وموضع الرد هنا على جانب العبادة.

(1) انظر: يوسف القرضاوي: العبادة في الإسلام: ص 205، 206، (مرجع سابق).

(2)

انظر: ص 347 - 371 (البحث نفسه).

ص: 804