الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التحليل والتحريم بين اليهوديَّة التي أسرفت في التحريم وكثرت فيها المحرمات، مِمَّا حرمه إسرائيل على نفسه، ومِمَّا حرمه اللَّه على اليهود، جزاء بغيهم وظلمهم كما قال تعالى:{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 160 - 161]، وبين المسيحية التي أسرفت في الإباحة، حتى أحلت الأشياء المنصوص على تحريمها في التوراة، مع أنَّ الإنجيل يعلن أن المسيح لم يجئ لينقض ناموس التوراة، بل ليكمله، ومع هذا أعلن رجال المسيحية أن كل شيء طاهر للطاهرين، فالإسلام قد أحل وحرم، ولكنه لم يجعل التحليل ولا التحريم من حق بشر، بل من حق اللَّه وحده، ولم يحرم إلَّا الخبيث الضار، كما لم يحل إلَّا الطيب النافع، ولهذا كان من أوصاف الرسول عند أهل الكتاب أنَّه:{يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157](1).
ثانيًا: في مجال الأخلاق:
وتتجلى الوسطيَّة كخصيصة من خصائص تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة في مجال الأخلاق والفضائل والآداب، ولعلماء الأُمَّة الإسلاميَّة أقوال عدَّة تبين مسلك الأُمَّة الإسلاميَّة في هذا المجال، ولا غرو في ذلك فالقرآن الكريم وسنة سيد المرسلين وسيرته الطَّاهرة ومسلك السلف الصالح تؤكد هذه الوسطية وتجليها في أنصع صورة، قال تعالى:{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء: 110]، وقال تعالى:{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء: 29].، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}
(1) يوسف القرضاوي: الخصائص العامَّة للإسلام: ص 146، (مرجع سابق).
[الفرقان: 67]، حيث دلت هذه الآيات على خصيصة الوسطية في الأقوال والأفعال.
وجاءت بعض الآثار تؤكد ذلك، فقد ورد في الأثر:"خير الأمور أوسطها"(1) قال ابن الأثير: (كلُّ خصلة محمودة فلها طرفان مذمومان، فإنَّ السخاء وسط بين البخل والتبذير، والشجاعة وسط بين الجبن والتهور، والإنسان مأمور أن يتجنب كل وصف مذموم، وتجنبه بالتعري منه والبعد عنه، وكلما ازداد منه بعدًا ازداد منه تعرِّيًا، وأبعد الجهات والمقادير والمعاني من كل طرفين وسطهما، وهو غاية البعد عنهما، فإذا كان الوسط فقد بعد عن الأطراف المذمومة بقدر الإمكان)(2).
والأخلاق الإسلاميَّة متسمة بالوسطيَّة، وكل خلق منها يُعَدُّ فضيلة بين رذيلتين، وعن ذلك قال الرازي:(إنَّ الخلق الفاضل إنَّما سُمِّيَ وسطًا لا من حيث إنَّه خلق فاضل، بل من حيث إنَّه يكون متوسطًا بين رذيلتين هما طرفا الإفراط والتفريط، مثل الشجاعة فإنَّها خلق فاضل، وهي متوسطة بين الجبن والتهور، فيرجع حاصل الأمر إلى أنَّ لفظ التوسط حقيقة فيما يكون وسطًا بحسب العدد، ومجازًا في الخلق الحسن، والفعل الحسن، من حيث إنَّه من شأنه أن يكون متوسطًا بين الطرفين اللَّذين ذكرناهما)(3).
(1) أخرجه ابن أبي شيبة: الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار، عن مطرف، برقم [35118]، وفي رواية أخرى عن أبي قلابة:"خير أموركم أوساطها" برقم [35174] ترتيب: محمد عبد السلام شاهين، الطبعة الأولى 1416 هـ - 1995 م، عن دار الكتب العلمية بيروت.
(2)
النهاية في غريب الحديث، مادة (وسط)، (مرجع سابق).
(3)
التفسير الكبير 2/ 487، الطبعة الأولى 1415 هـ - 1995 م، عن دار إحياء التراث العربي - بيروت. وانظر: أبو الحسن مسكويه: تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراف: ص 45 - 49 الطبعة الثانية، عن دار مكتبة الحياة - بيروت (بدون تاريخ).
ويتناول أحد العلماء الوسطيَّة في الأخلاق الإسلاميَّة بإحاطة وشمول فيقول: (وكل الفضائل منحصرة في التوسط بين الإفراط والتفريط، فإنَّ رؤوس الفضائل؛ الحكمة والعفَّة والشجاعة والعدالة، فالحكمة نتيجة تكميل القوة العقليَّة، وهي متوسطة بين (الجربزة)(1) والغباوة، فتوسطه أن تنتهي القوة العقليَّة إلى حد يُمكن للعقل الوصول إليه، ولا يتجاوز عن الحد الذي وجب أن يتوقف عليه، ولا يتعمق فيما ليس من شأنه التعمق، كالتفكير في المتشابهات والتفتيش في مسألة القضاء والقدر، والشروع بمجرد العقل في المبدأ والمعاد كما هو دأب الفلاسفة والعفَّة هي نتيجة تهذيب القوة الشهوانيَّة، وهي متوسطة بين الخلاعة والجمود، والشجاعة نتيجة تهذيب القوة الغضبيَّة وهي متوسطة بين التهور والجبن، وإنَّما يحمد فيها التوسط؛ لأن النفس الحيوانية هي مركب للروح الإنسانية، فلا بد من توسطها لئلا تضعف عن السير، ولا تجمع بل تنقاد للروح، ثُمَّ التوسط في هذا المجموع أي الحكمة والعفة والشجاعة هي العدالة،. . . فلهذا فسر الوساطة بالعدالة، فالعدالة تقتضي الرسوخ على الصراط المستقيم، وتنفي الزيغ عن سواء السبيل) (2).
وخلاصة القول: أن الوسطيَّة تعد من خصائص تميز الأُمَّة الإسلاميَّة،
(1) كلمة معربة تدل على الخب والخداع؛ انظر: أبا الحسن مسكويه: المرجع السابق نفسه: ص 46 "الحاشية".
(2)
سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني: شرح التلويح على التوضيح لمتن التنقيح فىِ أصول الفقه: 2/ 48، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، (بدون تاريخ)، وانظر: مسكويه: تهذيب الأخلاق. . ص 45 - 49، (المرجع السابق نفسه). وانظر: الراغب الأصفهاني: الذريعة إلى مكارم الشريعة: ص 409 - 411، 142 - 152، تحقيق: أبي اليزيد العجمي، الطبعة الثانية 1408 هـ - 1987 م، عن دار الوفاء للطباعة والنشر. . المنصورة - مصر.
لازمت مسيرتها بمفهومها الشامل المرتكز على معنى الخيريَّة والعدالة، واستمدتها من منهج الإسلام ونظامه، وهو منهج الوسط والاعتدال والتوازن (1)، الذي اختاره اللَّه شعارًا مميزًا لهذه الأُمَّة التي هي آخر الأمم، وللرسالة التي ختمت بها الرسالات، فحملته بتوفيق اللَّه، وعن ذلك قال الشاطبي:(إنَّ الحمل على التوسط هو الموافق لقصد الشارع، وهو الذي كان عليه السلف الصالح)(2).
* * *
(1) انظر: يوسف القرضاوي: الخصائص العامَّة للإسلام: ص 127 - 186، لمزيد الاطلاع على جوانب الوسطيَّة في الكون والحياة، ولمزيدٍ من معانيها ودلالاتها.
(2)
الشاطبي: الموافقات 4/ 258، (مرجع سابق). ولمزيد من الاطلاع على منهج الوسطية في الأخلاق وآراء العلماء في ذلك؛ انظر: محمد عبد اللَّه عفيفي: النظرية الخلقية عن ابن تيمية: ص 521 - 556، (مرجع سابق)، حيث اشتمل على رأي ابن تيمية: ص 521 - 545 ورأي ابن حزم: ص 546، 547، ورأي الفارابي: ص 547 - 556، وقارن فيما بين هذه الآراء فيما يتعلق بفكرة الوسطية وخرج بنتيجة تتفق مع ما توصل إليه: أحمد عبد الرحمن إبراهيم: الفضائل الخلقية في الإسلام، (مرجع سابق)، من كون مقولة الوسطية في الأخلاق الإسلاميَّة غير مطردة، وأن للأخلاق مقياسًا آخر أسماه (مبدأ التناسق) كما سبق ذكر ذلك وسبق أن علقتُ على ذلك بكون وسطية الأخلاق في الإسلام سمة وصفة ظهرت بها الأخلاق الإسلاميَّة فيما له طرفان منبوذان، وليس المقصود بها في البحث المعياريَّة.