المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الدعوة والجهاد الدعوة والجهاد؛ باعتبارهما من أنجع الوسائل في تحقيق تميّز - دراسات في تميز الأمة الإسلامية وموقف المستشرقين منه - جـ ٢

[إسحاق السعدي]

فهرس الكتاب

- ‌الربانية وموقف المستشرقين منها

- ‌تمهيد

- ‌مفهوم الربانيَّة

- ‌أ- معنى الربانية لغة:

- ‌ب- معنى الرَّبَّانيَّة اصطلاحًا:

- ‌القرآن الكريم المصدر الأساس لربانية تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة

- ‌أ- تعريف القرآن الكريم وأشهر أسمائه:

- ‌ب- مصدر القرآن الحريم ونصه:

- ‌السنة الشريفة ومنزلتها من القرآن الكريم

- ‌أولًا: تعريف السنة:

- ‌ثانيًا: منزلة السُّنَّة من القرآن الكريم:

- ‌موقف المستشرقين من خصيصة الربَّانيَّة

- ‌أولًا: أقوالهم في القرآن الكريم:

- ‌ثانيًا: أقوالهم في السنة النبوية والسيرة النبوية:

- ‌العالمية وموقف المستشرقين منها

- ‌تمهيد

- ‌مفهوم العالمية

- ‌أ- تعريف العالميَّة لغة:

- ‌ب- تعريف العالميَّة في الاصطلاح:

- ‌دلائل عالمية الإسلام من الكتاب والسنة، ووقائع السيرة النبوية، وأحداث التاريخ الإسلامي

- ‌أولًا: القرآن الكريم:

- ‌ثانيًا: وأمَّا في السنة النبوية:

- ‌دلائل عالمية الأُمَّة الإسلاميَّة، من العقيدة والنظم

- ‌موقف المستشرقين من خصيصة العالَمِيَّة

- ‌أولًا: موقف المنكرين لخصيصة العالَمِيَّة وأدلة إنكارهم مع الرد عليها:

- ‌ثانيًا: موقف من نفى خصيصة العالمية من حيد حونها من المبادئ التي تميزت بها الأُمَّة الإسلاميَّة على الرغم من الإقرار بها تاريخيًّا بسبب ما أفضى إليها تطور الأمَّة، وتدل على هذا الموقف آراء بعض المستشرقين، كما يتضح مِمَّا يأتي:

- ‌ثالثًا: موقف المتشككين في عالمية الإسلام:

- ‌الوسطية وموقف المستشرقين منها

- ‌تمهيد

- ‌مفهوم الوسطية

- ‌أ- الوسطيَّة في اللغة:

- ‌ب- أمَّا عن معانيها

- ‌وسطية الأُمَّة في مجال العقيدة والعبادة

- ‌أولًا: في الجانب العقدي:

- ‌ثانيًا: في جانب العبادة:

- ‌وسطية الأُمَّة في مجال التشريع والأخلاق

- ‌أولًا: في مجال التشريع:

- ‌ثانيًا: في مجال الأخلاق:

- ‌موقف المستشرقين من خصيصة الوسطية

- ‌وفيما يأتي بعض النماذج على ذلك:

- ‌ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره بعض المستشرقين عن هذه الوسطية:

- ‌الإيجابية الخيرة وموقف المستشرقين منها

- ‌تمهيد

- ‌مفهوم الإيجابية الخيرة

- ‌أ- المسارعة:

- ‌ب- السبق:

- ‌جوانب مفهوم إيجابية الأمة الإسلامية

- ‌موقف المستشرقين من خصيصة إيجابيَّة الأُمَّة الإسلاميَّة

- ‌النموذج الأول:

- ‌النموذج الثاني:

- ‌تحقيق العبودية للَّه وموقف المستشرقين منها

- ‌تمهيد

- ‌مفهوم العبادة، ومقتضياتها

- ‌أ- العبادة في اللغة:

- ‌ب- العبادة في الاصطلاح:

- ‌ج- مقتضيات العبادة في الإسلام:

- ‌أنواع العبادة وصورها

- ‌ومن العبادات الاعتقاديَّة:

- ‌ومن العبادات القلبيَّة:

- ‌ومن العبادات اللفظيَّة:

- ‌ومن العبادات البدنيَّة:

- ‌أمَّا العبادات الماليَّة:

- ‌روح العبادة وأسرارها

- ‌آثار العبادة في الفرد وفي الأُمّة

- ‌أولًا: الصلاة:

- ‌ثانيًا: الزكاة:

- ‌ثالثًا: الصوم:

- ‌رابعًا: الحج:

- ‌موقف المستشرقين من قضية العبودية للَّه

- ‌ويعالج هذا في نقطتين بارزتين:

- ‌فمن أقوال المستشرقين وآرائهم:

- ‌أمَّا الرد على أقوالهم وآرائهم فستتركز في النقاط الآتية:

- ‌ولعل مِمَّا يدلُّ على صحة هذا الفهم والتفسير ما يأتي:

- ‌تحقيق الاستخلاف وموقف المستشرقين منها

- ‌تمهيد

- ‌مفهوم الاستخلاف وأهميته

- ‌أ- معنى الاستخلاف في اللغة:

- ‌ب- مفهوم الاستخلاف عند بعض المفسرين والعلماء والباحثين:

- ‌ج- تعريف الاستخلاف في الاصطلاح:

- ‌د- أهمية الاستخلاف:

- ‌مقومات الاستخلاف بعامّة

- ‌أولًا: العلم:

- ‌ثانيًا: التسخير:

- ‌مقومات استخلاف الأمَّة الإسلامية بخاصة

- ‌أولًا: العلم:

- ‌ثانيًا: التسخير:

- ‌موقف المستشرقين من قضية استخلاف الأُمَّة الإسلاميَّة

- ‌وسيلة اللغة العربية وموقف المستشرقين منها

- ‌مكانة اللغة العربيَّة وارتباطها بالإسلام

- ‌موقف المستشرقين من اللغة العربيَّة

- ‌الرد على الشبهة الأولى:

- ‌الرد على الشبهة الثانية:

- ‌الرد على الشبهة الثالثة:

- ‌الرد على الشبهة الرابعة:

- ‌وسيلة تاريخ الإسلام وحضارته وموقف المستشرقين منه

- ‌تمهيد

- ‌الالتزام بالإسلام والاعتزاز به

- ‌أ- أمَّا في المفاهيم

- ‌ب- الالتزام بالإسلام والاعتزاز به في المناهج

- ‌1 - السببيَّة:

- ‌2 - القانونية التاريخيَّة:

- ‌3 - منهج البحث الحسي (التجريبي):

- ‌جـ- الالتزام بالإسلام والاعتزاز به من خلال المواقف

- ‌الوعي الثقافي الشامل

- ‌الناحية الأولى:

- ‌الناحية الثانية:

- ‌التعاون والتكامل

- ‌الدعوة والجهاد

- ‌1 - الجهاد التربوي:

- ‌2 - الجهاد التنظيمي:

- ‌3 الجهاد العسكري:

- ‌موقف المستشرقين من تاريخ الإسلام وحضارته

- ‌أولًا: نقد بعض المستشرقين للمنهج الاستشراقي:

- ‌ثانيًا: نقد بعض المفكرين والباحثين من العرب والمسلمين للمنهج الاستشراقي:

- ‌ثالثًا: نماذج لأهم القضايا التي تطرقت إليها دراسات المستشرقين لتاريخ الإسلام وحضارته:

- ‌1 - الدعوة والجهاد

- ‌2 - العادات والتقاليد:

- ‌3 - الجانب السياسي والحضاري من تاريخ الأُمَّة الإسلاميَّة:

- ‌رابعًا: استخلاص موازين البحث عند المستشرقين:

- ‌مبحث ختامي

- ‌تقويم الحركة الاستشراقية ومنهج الإسلام في مواجهتها

- ‌أساليب مواجهة تحدي الاستشراق والمستشرقين ووسائلها

- ‌الخاتمة

- ‌1 - في ضوء الدراسة التأصيلية لتميز الأُمَّة الإسلاميَّة، تبين الآتي:

- ‌أ- عقيدة التوحيد

- ‌ب- الشريعة الإسلاميَّة الغراء

- ‌ج- الأخُوَّة الإسلاميَّة ووحدة الأمَّة

- ‌د- الخصائص التي تفرد بها تَمَيُّز الأمَّة الإسلاميَّة؛ وأهمها:

- ‌هـ - أهداف تَمَيُّز الأمَّة الإسلاميَّة

- ‌و- وسائل تَمَيُّز الأُمَّة الإسلاميَّة

- ‌2 - وفي ضوء الدراسة النقديَّة لموقف المستشرقين من تَمَيُّز الأُمَّة الإسلاميَّة، تبين الآتي:

- ‌المصادر والمراجع

- ‌نبذة تعريفية الإدارة العامة للأوقاف

الفصل: ‌ ‌الدعوة والجهاد الدعوة والجهاد؛ باعتبارهما من أنجع الوسائل في تحقيق تميّز

‌الدعوة والجهاد

الدعوة والجهاد؛ باعتبارهما من أنجع الوسائل في تحقيق تميّز الأُمَّة الإسلاميَّة، وهما جناحا انتشار الإسلام، ونشوء تاريخه وحضارته، فالأُمَّة الإسلاميَّة أُمَّة دعوة وجهاد، ولها منهجها المتميِّز في تطبيق هذين المبدأين اللذين أعطيا تاريخ الإسلام وحضارته طابعه الفريد، وبهما تحقق تميُّز الأُمَّة، فالدعوة إعلام بذاتية الأُمَّة، والجهاد تأكيد لها ودفاع عن وجودها من عدوان غيرها أو جعلها بالقهر والاستبداد تحت نير سيادة أمم أخرى.

أمَّا الدعوة فإنها تنبثق من قول الحق عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107](1)، (فهو إعلان تشمل مساحته الزمنية جميع الأجيال، ومساحته المكانية تسع العالم كلَّه. . .، ومسلك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده، وإجماع المسلمين في كل مكان يدل على عالميَّة هذه الدعوة. . ويترتب على ذلك. . مواصلة نشر الدعوة وإبلاغها للناس. . .، ولما كانت الدعوة الإسلاميَّة دعوة عالميَّة في الزمان والمكان جاءت أنظمتها شاملة لجميع شؤون الحياة، ومتطلبات المجتمعات في كل زمان ومكان، فهي تشمل أمور العقيدة، والعبادة وما يتفرغ عنهما من أنظمة للحياة)(2).

ولأنَّ الإسلام هو دين اللَّه المختار لجميع المكلفين، وهو الدين

(1) انظر: بكر بن عبد اللَّه أبو زيد: حكم انتماء. . . ص 157 - 168، (مرجع سابق)، بيَّن المؤلف في الصفحات المشار إليها (أن الدعوة إلى اللَّه توقيفية في حقيقتها ووسائلها، وبين منهاجها في ضوء الكتاب والسنة وتطبيق السلف الصالح لها).

(2)

محمد أمين حسين: خصائص الدعوة الإسلاميَّة: ص 338، 339، (مرجع سابق).

ص: 953

الخاتم إلى أن يرث اللَّه الأرض ومن عليها: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، ولا يقبل اللَّه من مكلف دينًا سواه:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] ولأنَّ دَعوة الإسلام ترتكز على عقيدة التوحيد الخالص للَّه وتحقيق العبوديَّة له، بما يتوافق مع الفطرة التي فطر اللَّه الناس عليها؛ فقد (دعا اللَّه تبارك وتعالى الناس جميعًا -في غير إكراه- إلى اتباعها؛ لأنها دعت إلى عقيدة التوحيد التي دعا إليها الرسل، وفاصلوا أقوامهم عليها، فوضح للناس جميعًا منذُ خلق آدم أبي البشر أن جميع ما أنزله، هو في حقيقته كتاب واحد ورسالة واحدة، تلخصت كلها في القرآن الكريم، فلا مدعاة للاختلاف بينهم إذا صدقوا العزم، وأخلصوا القصد، ونبذوا البغي والعصبيَّة، في هذا يقول جلَّ شأنه:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213]. . .، إنَّ الحق تبارك وتعالى لم يترك عباده هملًا دون أن يبين لهم ما يتقون، فما دام قد بين لعباده أنَّه قد ضمن لهم الرزق في حياتهم الدنيا، فلا بدّ أن يتضمن كتابه له ما يضرهم، وما ينفعهم في مسار حياتهم المتعددة الجوانب، في شتّى صورها بدءًا من واجب الفرد إلى نظام الأُسرة مرورًا بشرائع الأمَّة. .، ثُمَّ بعد ذلك لا يقف جهد النظام الإسلامي عند هذا الهدف وإنَّما يبني أحكامه على وحدة شاملة لجميع أهل الأرض أعلنها اللَّه تعالى في كتابه. .، فشمول الرسالة المحمديَّة للنظام يحكم الفرد والأسرة والمجتمع والدولة، فضلًا عما يدعو اللَّه إليه من وحدة أهل الأرض جميعًا تحت راية الإسلام، لا يستهدف علوًّا في الأرض ولا فسادًا، وإنَّما يستهدف تمكين سلطان الدين في الأرض. .، ثُمَّ يظل نداء اللَّه للمؤمنين والمؤمنات يعلو بخصوصية ما ميَّزهم

ص: 954

اللَّه به على طوائف البشر جميعًا، وبما حققه المؤمنون أنفسهم من إدراك عملي لجوهر رسالة التوحيد في الأرض) (1).

والدعوة إلى هذا الحق وإلى صراط اللَّه المستقيم جوهر رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم للناس كافة {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28]، وقد حمل الرسول صلى الله عليه وسلم عبءَ الرسالة فبلغ عن ربه، واستفرغ في ذلك جهده، والدّارس لسيرته الشريفة يقف على حقيقة أنَّه صلى الله عليه وسلم كان يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، ويجادل بالتي هي أحسن في (جميع الأماكن والأزمان والأحوال، ودعا جميع أصناف الناس، كما استخدم جميع الأساليب والوسائل المشروعة المتاحة له. . .، ويدعو فوق الجبل، وفي المسجد، والطريق، والسوق، وفي منازل الناس في المواسم، وحتى في المقبرة، كما يقوم بالدعوة في الحضر والسفر، وفي الأمن والقتال، وفي صحته ومرضه، وحينما كان يزور أو يزار، وكان يوجه دعوته إلى من أحبوه، ومن أبغضوه، وآذوه، ومن استمعوا إلى دعوته، ومن أعرضوا عنها، وبعث عليه السلام: الرسائل والرسل إلى الملوك والرؤساء ممن لم يتمكن من الذهاب إليهم بنفسه، واستمر عليه الصلاة والسلام في أداء هذه المهمَّة الجليلة مشمرًا عن ساعديه، باذلًا كل ما في وسعه، حتى لحق بالرفيق الأعلى. . وما أكثر المواقف في سيرته المطهرة التي يتجلّى فيها حرصه الشديد على إخراج البشرية من الظلمات إلى النور، وإبعادهم عن

(1) صلاح شادي: الحريَّة مدخل إلى الدعوة الإسلامية، (من أبحاث اللقاء الخامس للندوة العالمية للشباب الإسلامي المنعقد في نيروبي بكينيا بتاريخ 26 من جمادى الآخرة إلى أول رجب 1402 هـ (الموافق 20 - 24 إبريل 1982 م)، مدرج في كتاب الدعوة الإسلاميَّة:(الوسائل، الخطط، المداخل): ص 126، 127، 132، الطبعة الأولى 1405 هـ، عن الندوة العالمية للشباب الإسلامي - الرياض.

ص: 955

كل ما يعرضهم لغضب الرب وعذابه) (1)، وسلك الصحابة الكرام وسلف الأُمَّة الصالح هذا المسلك متأسين برسولهم صلى الله عليه وسلم، فقد (حفظ تاريخ الدعوة الإِسلاميَّة المشرق مواقف السلف من هذه الأُمَّة من الصحابة ومن بعدهم رضي الله عنهم، وهي تدل على تحمسهم البالغ للدعوة الإِسلاميَّة، وحرصهم الشديد على إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وتعليمهم الكتاب والحكمة. . كانوا يبدؤون بدعوة الأعداء إلى الإِسلام قبل القتال معهم، كما كانوا يحثونهم على قبوله، ويفرحون عند استجابتهم لذلك، ويتأسفون ويحزنون لإعراضهم عنه. . بل كان الدعاة والمعلمون يُبْعَثُون إلى البلاد المفتوحة لنشر الإِسلام، وتفقيه الناس أمور دينهم)(2).

والدعوة على هذا النحو تسهم في تحقيق تميُّز الأُمَّة الإِسلاميَّة وهو ما اتسم به تاريخ الإِسلام وحضارته، وقد شهد بذلك بعض المنصفين من الغربيين مثل (سير توماس أرنولد) الذي ألف كتابًا وأسماه (الدعوة إلى الإِسلام)، وقال فيه:(إنَّ الذي دفع المسلمين إلى أن يحملوا رسالة الإِسلام معهم إلى شعوب البلاد التي دخلوها، وجعلهم ينشدون لدينهم بحق مكانًا بين ما نسميه أديان الرسالة لهي حماسة من ذلك النوع، من أجل صدق عقيدتهم، وليس موضوع هذا الكتاب، إلَّا صورة من تاريخ ظهور هذه الحماسة في تبليغ الدعوة، ودواعي وألوان نشاطها)(3).

(1) فضل إلهي؛ الحرص على هداية الناس: ص 18، 19، الطبعة الأولى 1411 هـ - 1991 م، عن مكتبة المعارف - الرياض، وانظر: المرجع نفسه: ص 20 - 40، نماذج من أحوال دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأساليبها ووسائلها، ومَنْ توجَّه إليهم بالدعوة ومراحلها.

(2)

المرجع السابق نفسه: ص 41، وانظر: تطبيقات السلف في الصفحات: 42 - 83، المرجع السابق نفسه.

(3)

الدعوة إلى الإِسلام: ص 25، ترجمة حسن إبراهيم حسن وآخرين، (مرجع سابق)، وانظر: عماد الدين خليل: قالوا عن الإِسلام: ص 265، (مرجع سابق).

ص: 956

وقال -أيضًا-: (يرجع انتشار هذا الدين في تلك الرقعة الفسيحة من الأرض إلى أسباب شتى: اجتماعية وسياسيَّة ودينيّة، على أن هناك عاملًا من أقوى العوامل الفعَّالة التي أدت إلى هذه النتيجة العظيمة، تلك هي الأعمال المطردة التي قام بها دعاة المسلمين، ووقفوا حياتهم على الدعوة إلى الإسلام متخذين من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم مثلًا أعلى، وقدوة صالحة)(1).

ويلفت (توماس أرنولد) النظر إلى جهود التجار المسلمين والحجاج العائدين من مكة المكرمة، وطلبة العلم في نشر الدعوة إلى الإسلام، قائلًا:(وحيثما شق الإسلام طريقه نجد هناك الداعي المسلم حاملًا الدليل لعقائد هذا الدين؛ فالتاجر سواء أكان من العرب أم (الفلبي) أم (المندنجو) يجمع بين نشر الدعوة وبيع سلعته، وإن مهنته وحدها لتصله صلة وثيقة مباشرة بأولئك الذين يريد أن يحولهم إلى الإسلام، والحاج الذي عاد من مكة مليئًا بالحماسة من أجل نشر العقيدة الإِسلاميَّة التي وقف عليها كل جهوده متنقلًا من مكان إلى آخر، وطالب العلم الذي يلقى تكريمًا باعتباره رجل علم تفقه في الدين والشريعة الإِسلاميَّة) (2).

ويربط باحث آخر من الغربيين وهو (لوثروب ستودارد) بين نهضة الدعوة إلى الإسلام في العصر الحديث وبين بداية انتشارها فيقول: (لا شيءَ أدلَّ على هذه النهضة الإِسلاميَّة الحديثة "الكبرى" من هذه اليقظة الروحانية الدينيَّة التبشيرية، الناشئة والمنتشرة خلال مئة السنة الأخيرة، ولا غرابة في ذلك، فقد كان الإسلام على الدوام دين هداية الناس، وإخراجهم

(1) المرجع السابق نفسه: ص 94، وانظر: عماد الدين خليل: قالوا عن الإسلام: ص 26، (المرجع السابق نفسه).

(2)

الدعوة إلى الإسلام: ص 391، 392 (المرجع السابق نفسه)، وانظر: فضل إلهي: الحرص على هداية الناس: ص 61، (مرجع سابق).

ص: 957

من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد، هذا التاريخ شاهد حق على ما قام به المبشرون المسلمون في أول عهد الإسلام من الأعمال الجليلة التي لم يقم بمثلها غيرهم من المبشرين، ولا ننسى أن روح التبشير ونشر الدعوة في سبيل الرسالة لم تبرح حيّة على الدوام، على انحطاط الممالك الإسلاميَّة وتدنيها، فلذلك ما انفك الإسلام طيلة القرون الوسطى ينتشر في الهند والصين، وبينما كانت الرسالة المحمديَّة تنتشر في نائي تلك الأصقاع، كان الترك ينشرونها، ويرفعون أعلامها في شبه جزيرة البلقان، وبين القرنين الرابع عشر والسادس عشر، كان المبشرون المسلمون يفتحون بلاد غربي إفريقية، وجزائر الهند الهولندية، وجزائر الفليبين فتحًا دينيًا مبينًا) (1).

وبعد أن يذكر ما حدث للدعوة الإسلاميَّة من خمود في أعقاب ذلك، ثُمَّ ما حدث لها في العصر الحديث من يقظة أشار إلى حقيقة لازمت الدعوة إلى الإسلام، فيقول:(وعند اعتبار شأن انتشار الإسلام هذا الانتشار، يجب أن تعلم العلم اليقين أنّ كل مسلم هو بغريزته وفطرته مبشر بدينه، ناشر له بين الشعوب غير المسلمة ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، وعلى ذلك إن نشر الرسالة المحمديَّة لم يقم به رجال التبشير وحدهم. . بل شاركهم فيه جماعات عديدة من السياح والتجار والحجاج على اختلاف أجناسهم، ولا يؤخذن من هذا أن لم يقم في المسلمين مبشرون (دعاة) ارتشفوا كؤوس الحمام في سبيل الدعوة الإسلاميَّة، فعديد المبشرين الذين هم على هذا الطراز كثير. .، وقد اعترف عدد كبير الغربيين بهذا الأمر، فقد قال أحد الإنكليز -في هذا الصدد- منذ عشرين سنة: "والإسلام يفوز في أواسط إفريقية فوزًا عظيمًا حيث الوثنيَّة تختفي من أمامه اختفاء الظلام

(1) حاضر العالم الإِسلامي 1/ 300، 301، (مرجع سابق)، وانظر: عماد الدين خليل: قالوا عن الإسلام: ص 292، (مرجع سابق).

ص: 958

من فلول الصباح، وحيث الدعوة النصرانية باتت كأنها خرافة من الخرافات"، وقال مبشر بروستنتي فرنسي: "ما برح الإسلام (يتقدم) منذ نشوئه حتى اليوم فلم يعثر في سبيله إلَّا القليل، وما زال يسير في جهات الأرض حتى بلغ قلب إفريقية مذلّلًا أشق المصاعب، ومجتازًا أشد الصعاب، غير واهن العزم، فالإِسلام حقًّا لا يرهب في سبيله شيئًا، وهو لا ينظر إلى النصرانية، منازعته الشديدة، نظرة المقت والازدراء، فلهذا هو حقيق بالظفر والنصر، إذ بينما كان النصارى يحلمون بفتح إفريقية في نومهم، فتح المسلمون جميع بقاع القارة في يقظتهم") (1).

أمَّا الجهاد فله مفهوم واسع، يقول الراغب الأصفهاني:(الجهاد والمجاهدة: استفراغ الوسع في مدافعة العدو، والجهاد ثلاثة أضرب: مجاهدة العدو الظاهر، ومجاهدة الشيطان، ومجاهدة النفس وتدخل ثلاثتها في قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78] ، وقوله تعالى: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 41]، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال: 72]. . . والمجاهدة تكون باليد واللسان)(2).

وبهذا يتبين أنَّ الجهاد يبدأ من داخل المؤمن كي ينتصر على أهوائه وشهواته ويجاهد نزغات الشيطان ووسوسته، ليستقيم على صراط اللَّه المستقيم، وبذلك يكون فردًا صالحًا في مجموع الأُمَّة، ثُمَّ يرقى إلى إدراك مهمته في الحياة، وواجبه في نشر الدعوة والدفاع عنها، وبذلك يندرج في الأُمَّة الإسلاميَّة، ثُمَّ إنّ هذه الأُمَّة مضطرة إلى الجهاد للمحافظة على

(1) حاضر العالم الإِسلامي: 1/ 301، 302، (المرجع السابق نفسه)، وانظر: عماد الدين خليل: قالوا عن الإسلام: ص 293، (مرجع سابق).

(2)

مفردات ألفاظ القرآن، مادة (جَهَد)، (مرجع سابق).

ص: 959

ذاتيتها والدفاع عن وجودها والاضطلاع برسالة ربها في نشر دينه وإعلاء كلمته، وللجهاد في الإسلام معنى حضاري فريد؛ (فالجهاد يعكس مفهوم الأمن الإِسلامي الذي يركز على إيصال الرسالة وتبليغها إلى الآخرين بغية توفير الأمن الفكري والمادي والنفسي لبقاء النوع البشري ورقيه، ذلك أن مصدر الخطر على بقاء النوع البشري ورقيه -حسب التصور الإِسلامي- يكمن في (القيم) التي تَكْفُرُ -أي: تَحْجُبُ وتُخْفِي- قوانين الخلق في النشأة والمصير، وتقتصر على نوازع التمتع بالحياة وشهواتها، ومن هذا -الكفر- تتشوه جميع أشكال الاعتقاد والشعور والممارسات في ميادين السلوك والاجتماع والعلاقات، حتى إذا ظهر أهل الكفر في الأرض أشاعوا الفتن، والمظالم السياسيَّة، والمفاسد الاجتماعية، وردوا شبكة العلاقات الاجتماعية إلى عهود الغاب والهمجيَّة والتخلف، ولذلك كان طلب بذل النفس لمحاربة قيم الكفر ومؤسساته وممثليه، وبذل المال لنشر قيم الرسالة الإسلاميَّة وإقامة مؤسساتها والإنفاق على العاملين والدارسين فيها حتى يتحقق التفوق للقيم الإسلاميَّة فيشيع السلام ويكون الدين كله للَّه، وهذا المفهوم الإِسلامي للأمن والسلام يختلف تمام الاختلاف عن مفهوم الأمن القومي الذي ترفع لواءه المجتمعات المعاصرة، وتتخذ ذريعة لممارسة مختلف أشكال العدوان ضد بعضها. .) (1).

ويختلف مفهوم الجهاد في الإسلام -كذلك- تمام الاختلاف عن المفاهيم القديمة والحديثة، فهو مختلف عن مفهوم الغزو لدى العرب قبل الإسلام، ويختلف عن مفهوم الحرب المقدسة لدى الغرب (2)، وإنَّما هو

(1) مساجد عرسان الكيلاني: الأُمَّة المسلمة (مفهومها، إخراجها، مقوماتها): ص 71، 72، (مرجع سابق).

(2)

انظر: المرجع السابق نفسه: ص 72.

ص: 960

(بذل الوسع وغاية الجهد لنيل أكبر مطلوب وأكبر وطر للمسلم طاعة اللَّه ورضوانه، والخضوع لحكمه، والاستسلام لأوامره، وذلك يحتاج إلى جهاد طويل وشاق ضد كل ما يزاحم ذلك من عقيدة، وتربية، وأخلاق، وأغراض، وهوى، وكل ما ينافس في حكم اللَّه وعبادته من آلهة في الأنفس والآفاق، فإذا حصل ذلك للمسلم وجب عليه أن يجاهد لتنفيذ حكم اللَّه، وأوامره في العالم من حوله، وعلي بني جنسه، فريضة من اللَّه، وشفقة على خلق اللَّه؛ ولأنَّ الطاعة الانفراديَّة قد تصعب وتمتنع أحيانًا بغير ذلك، وذلك ما يسميه القرآن (الفتنة)، ومعلوم أنَّ العالم كله بما فيه من جماد ونبات وحيوان وإنسان، خاضع لمشيئة اللَّه وأحكامه التكوينيَّة، وقوانينه الطبيعية {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 83] ، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج: 18] فيتعين أن جهاد المسلم إنَّما هو لتنفيذ شريعته التي جاء بها الأنبياء، وإعلاء كلمته ونفاذ أحكامه، فلا حكم إلَّا للَّه، ولا أمر إلَّا له، وهذا الجهاد مستمر ماضٍ إلى يوم القيامة، وله أنواع وأشكال لا يأتي عليها الحصر، منها القتال، وقد يكون أشرف أنواعه، وغايته أن لا تبقى في الدنيا قوتان متساويتان متنافستان، تتجاذبان الأهواء والأنفس {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193].

ومن مقتضيات هذا الجهاد أن يكون الإنسان عارفًا بالإِسلام الذي يجاهد لأجله، وبالكفر والجاهلية التي يجاهد ضدها، يعرف الإسلام معرفة صحيحة ويعرف الكفر والجاهلية معرفة دقيقة، فلا تخدعه المظاهر، ولا تغره الألوان، ولا يجب على كل مسلم أن تكون معرفته دقيقة بالكفر والجاهلية، ومظاهرهما، وأشكالهما وألوانهما، ولكن على من (يتولى زمام الدعوة إلى الإسلام)، أو يتولى قيادة الجيش الإِسلامي ضد الكفر

ص: 961