المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أولا: القرآن الكريم: - دراسات في تميز الأمة الإسلامية وموقف المستشرقين منه - جـ ٢

[إسحاق السعدي]

فهرس الكتاب

- ‌الربانية وموقف المستشرقين منها

- ‌تمهيد

- ‌مفهوم الربانيَّة

- ‌أ- معنى الربانية لغة:

- ‌ب- معنى الرَّبَّانيَّة اصطلاحًا:

- ‌القرآن الكريم المصدر الأساس لربانية تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة

- ‌أ- تعريف القرآن الكريم وأشهر أسمائه:

- ‌ب- مصدر القرآن الحريم ونصه:

- ‌السنة الشريفة ومنزلتها من القرآن الكريم

- ‌أولًا: تعريف السنة:

- ‌ثانيًا: منزلة السُّنَّة من القرآن الكريم:

- ‌موقف المستشرقين من خصيصة الربَّانيَّة

- ‌أولًا: أقوالهم في القرآن الكريم:

- ‌ثانيًا: أقوالهم في السنة النبوية والسيرة النبوية:

- ‌العالمية وموقف المستشرقين منها

- ‌تمهيد

- ‌مفهوم العالمية

- ‌أ- تعريف العالميَّة لغة:

- ‌ب- تعريف العالميَّة في الاصطلاح:

- ‌دلائل عالمية الإسلام من الكتاب والسنة، ووقائع السيرة النبوية، وأحداث التاريخ الإسلامي

- ‌أولًا: القرآن الكريم:

- ‌ثانيًا: وأمَّا في السنة النبوية:

- ‌دلائل عالمية الأُمَّة الإسلاميَّة، من العقيدة والنظم

- ‌موقف المستشرقين من خصيصة العالَمِيَّة

- ‌أولًا: موقف المنكرين لخصيصة العالَمِيَّة وأدلة إنكارهم مع الرد عليها:

- ‌ثانيًا: موقف من نفى خصيصة العالمية من حيد حونها من المبادئ التي تميزت بها الأُمَّة الإسلاميَّة على الرغم من الإقرار بها تاريخيًّا بسبب ما أفضى إليها تطور الأمَّة، وتدل على هذا الموقف آراء بعض المستشرقين، كما يتضح مِمَّا يأتي:

- ‌ثالثًا: موقف المتشككين في عالمية الإسلام:

- ‌الوسطية وموقف المستشرقين منها

- ‌تمهيد

- ‌مفهوم الوسطية

- ‌أ- الوسطيَّة في اللغة:

- ‌ب- أمَّا عن معانيها

- ‌وسطية الأُمَّة في مجال العقيدة والعبادة

- ‌أولًا: في الجانب العقدي:

- ‌ثانيًا: في جانب العبادة:

- ‌وسطية الأُمَّة في مجال التشريع والأخلاق

- ‌أولًا: في مجال التشريع:

- ‌ثانيًا: في مجال الأخلاق:

- ‌موقف المستشرقين من خصيصة الوسطية

- ‌وفيما يأتي بعض النماذج على ذلك:

- ‌ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره بعض المستشرقين عن هذه الوسطية:

- ‌الإيجابية الخيرة وموقف المستشرقين منها

- ‌تمهيد

- ‌مفهوم الإيجابية الخيرة

- ‌أ- المسارعة:

- ‌ب- السبق:

- ‌جوانب مفهوم إيجابية الأمة الإسلامية

- ‌موقف المستشرقين من خصيصة إيجابيَّة الأُمَّة الإسلاميَّة

- ‌النموذج الأول:

- ‌النموذج الثاني:

- ‌تحقيق العبودية للَّه وموقف المستشرقين منها

- ‌تمهيد

- ‌مفهوم العبادة، ومقتضياتها

- ‌أ- العبادة في اللغة:

- ‌ب- العبادة في الاصطلاح:

- ‌ج- مقتضيات العبادة في الإسلام:

- ‌أنواع العبادة وصورها

- ‌ومن العبادات الاعتقاديَّة:

- ‌ومن العبادات القلبيَّة:

- ‌ومن العبادات اللفظيَّة:

- ‌ومن العبادات البدنيَّة:

- ‌أمَّا العبادات الماليَّة:

- ‌روح العبادة وأسرارها

- ‌آثار العبادة في الفرد وفي الأُمّة

- ‌أولًا: الصلاة:

- ‌ثانيًا: الزكاة:

- ‌ثالثًا: الصوم:

- ‌رابعًا: الحج:

- ‌موقف المستشرقين من قضية العبودية للَّه

- ‌ويعالج هذا في نقطتين بارزتين:

- ‌فمن أقوال المستشرقين وآرائهم:

- ‌أمَّا الرد على أقوالهم وآرائهم فستتركز في النقاط الآتية:

- ‌ولعل مِمَّا يدلُّ على صحة هذا الفهم والتفسير ما يأتي:

- ‌تحقيق الاستخلاف وموقف المستشرقين منها

- ‌تمهيد

- ‌مفهوم الاستخلاف وأهميته

- ‌أ- معنى الاستخلاف في اللغة:

- ‌ب- مفهوم الاستخلاف عند بعض المفسرين والعلماء والباحثين:

- ‌ج- تعريف الاستخلاف في الاصطلاح:

- ‌د- أهمية الاستخلاف:

- ‌مقومات الاستخلاف بعامّة

- ‌أولًا: العلم:

- ‌ثانيًا: التسخير:

- ‌مقومات استخلاف الأمَّة الإسلامية بخاصة

- ‌أولًا: العلم:

- ‌ثانيًا: التسخير:

- ‌موقف المستشرقين من قضية استخلاف الأُمَّة الإسلاميَّة

- ‌وسيلة اللغة العربية وموقف المستشرقين منها

- ‌مكانة اللغة العربيَّة وارتباطها بالإسلام

- ‌موقف المستشرقين من اللغة العربيَّة

- ‌الرد على الشبهة الأولى:

- ‌الرد على الشبهة الثانية:

- ‌الرد على الشبهة الثالثة:

- ‌الرد على الشبهة الرابعة:

- ‌وسيلة تاريخ الإسلام وحضارته وموقف المستشرقين منه

- ‌تمهيد

- ‌الالتزام بالإسلام والاعتزاز به

- ‌أ- أمَّا في المفاهيم

- ‌ب- الالتزام بالإسلام والاعتزاز به في المناهج

- ‌1 - السببيَّة:

- ‌2 - القانونية التاريخيَّة:

- ‌3 - منهج البحث الحسي (التجريبي):

- ‌جـ- الالتزام بالإسلام والاعتزاز به من خلال المواقف

- ‌الوعي الثقافي الشامل

- ‌الناحية الأولى:

- ‌الناحية الثانية:

- ‌التعاون والتكامل

- ‌الدعوة والجهاد

- ‌1 - الجهاد التربوي:

- ‌2 - الجهاد التنظيمي:

- ‌3 الجهاد العسكري:

- ‌موقف المستشرقين من تاريخ الإسلام وحضارته

- ‌أولًا: نقد بعض المستشرقين للمنهج الاستشراقي:

- ‌ثانيًا: نقد بعض المفكرين والباحثين من العرب والمسلمين للمنهج الاستشراقي:

- ‌ثالثًا: نماذج لأهم القضايا التي تطرقت إليها دراسات المستشرقين لتاريخ الإسلام وحضارته:

- ‌1 - الدعوة والجهاد

- ‌2 - العادات والتقاليد:

- ‌3 - الجانب السياسي والحضاري من تاريخ الأُمَّة الإسلاميَّة:

- ‌رابعًا: استخلاص موازين البحث عند المستشرقين:

- ‌مبحث ختامي

- ‌تقويم الحركة الاستشراقية ومنهج الإسلام في مواجهتها

- ‌أساليب مواجهة تحدي الاستشراق والمستشرقين ووسائلها

- ‌الخاتمة

- ‌1 - في ضوء الدراسة التأصيلية لتميز الأُمَّة الإسلاميَّة، تبين الآتي:

- ‌أ- عقيدة التوحيد

- ‌ب- الشريعة الإسلاميَّة الغراء

- ‌ج- الأخُوَّة الإسلاميَّة ووحدة الأمَّة

- ‌د- الخصائص التي تفرد بها تَمَيُّز الأمَّة الإسلاميَّة؛ وأهمها:

- ‌هـ - أهداف تَمَيُّز الأمَّة الإسلاميَّة

- ‌و- وسائل تَمَيُّز الأُمَّة الإسلاميَّة

- ‌2 - وفي ضوء الدراسة النقديَّة لموقف المستشرقين من تَمَيُّز الأُمَّة الإسلاميَّة، تبين الآتي:

- ‌المصادر والمراجع

- ‌نبذة تعريفية الإدارة العامة للأوقاف

الفصل: ‌أولا: القرآن الكريم:

‌دلائل عالمية الإسلام من الكتاب والسنة، ووقائع السيرة النبوية، وأحداث التاريخ الإسلامي

توافرت الأدلة من الكتاب والسُّنَّة على عالميَّة الإسلام ممثلًا في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، (وهذا كله معلوم بالاضطرار من دين الإسلام. . . وفي القرآن من دعوة أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ومن دعوة المشركين، وعُبَّاد الأوثان، وجميع الإنس والجن ما لا يحصى إلَّا بكلفة)(1)، وكذلك في السنَّة النبويَّة.

‌أولًا: القرآن الكريم:

جاءت في كتاب اللَّه عز وجل آيات مستفيضة بصيغ متنوعة، وأساليب عديدة؛ منها:

أ- بوصف رسالته صلى الله عليه وسلم والإخبار عنها بأنَّها للناس أو كافَّة للناس؛ كقوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 79]، وقوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سبأ: 28]، فدلت الآيتان ونحوهما على عالميَّة الرسالة المحمَّدية، وهما من النصوص الصريحة على ذلك، وفي الآية الثانية جاء لفظ (كافَّة) لزيادة الدلالة في العموم، وقد قال بعض المفسرين:(في الكلام تقديم وتأخير؛ أي: وما أرسلناك إلَّا للناس كافة أي عامَّة)(2)، وقال آخر:(إلَّا رسالة عامَّة لهم فإنَّها إذا عمتهم كفتهم أن يخرج أحد منهم، أو إلَّا جامعًا لهم في البلاع، فهي حال من الكاف والتاء للمبالغة)(3)، ومهما كان تقدير الكلام وإعرابه فإنَّه دالٌّ على العموم والعالمية.

(1) ابن تيمية: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 1/ 336، 337، (مرجع سابق).

(2)

القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 14/ 300، (مرجع سابق).

(3)

أبو السعود: إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم: 7/ 133، طبعة دار إحياء التراث. .، بيروت، (بدون تاريخ).

ص: 593

ووصف اللَّه الرسالة المحمديَّة بأنها رحمة للعالمين، وأنَّه صلى الله عليه وسلم يهدي سبل السلام، وأن اللَّه أنزل عليه الفرقان ليكون للعالمين نذيرًا، وأخبر اللَّه عز وجل بأن محمدًا صلى الله عليه وسلم نذير للبشر، قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وقال تعالى يخاطب أهل الكتاب، ويخبرهم بأنَّهم مقصودون بدعوة محمد صلى الله عليه وسلم وملزمون بالإيمان برسالته:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15 - 16]، وقال تعالى:{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1]، وقال -أيضًا-:{نَذِيرًا لِلْبَشَر} [المدثر: 36].

ب- وجاءت آيات مستفيضة فيها أمر اللَّه تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يبلغ الناس رسالة ربه، وأنَّه أرسل إليهم جميعًا، وأن عليهم أن يؤمنوا به ويتبعوه، كقولى تعالى:{فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 20]، وقال تعالى:{قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]، وقبل هذه الآية أثنى اللَّه على الذين يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم وينصرونه ويعزرونه ويتبعون النور الذي أنزل معه وأنهم هم المفلحون؛ قال تعالى:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ. . .} [الأعراف: 157] الآية.

ج- وجاء الخطاب في آيات كثيرة موجهًا إلى أهل الكتاب -بخاصة- كالآية السابقة: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ

ص: 594

وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ} [الأعراف: 157]، وكقوله تعالى مخاطبًا بني إسرائيل:{وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 41 - 42].

وفي آيات عديدة بين اللَّه لأهل الكتاب أنهم مشمولون بدعوة محمد صلى الله عليه وسلم وأبلغهم بمبعثه، وأنه جاءهم على فترة من الرسل يبشرهم وينذرهم، وتأتي دعوتهم للإيمان به في بعض الأحوال مقترنة بالوعيد الشديد إن لم يقبلوها، كما بين لهم جلَّ وعلا أنها مصدقة لما معهم من الكتاب، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم مأمور بأن يظهر ما أخفوه من الكتاب؛ من ذلك قوله تعالى:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة: 15]، وقال تعالى:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 19]، وكقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [النساء: 47].

د- وممَّا جاء في القرآن الكريم وهو يدل على عالميَّة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم؛ بصفة تضرب في أعماق تاريخ البشريَّة، وتستمر عبر تاريخها المقبل إلى قيام السَّاعة في الآخرة؛ أخذ الميثاق على جميع الأنبياء والمرسلين، وعلى أتباعهم أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وأن ينصروه وأن يأمر بعضهم بعضًا بذلك، وبين اللَّه أنه أخذ عليهم هذا الميثاق وأقروا به، وأشهدهم عليه، وأكد شهادتهم بشهادته جلَّ وعلا، والدليل قوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)} [آل عمران: 81].

ص: 595

قال ابن كثير في تفسيرها: (يخبر تعالى أنه أخذ ميثاق كل نبي بعثه من لدن آدم عليه السلام إلى عيسى عليه السلام لمهما آتى اللَّه أحدهم من كتاب وحكمة وبلغ أي مبلغ، ثُمَّ جاء رسول اللَّه من بعده ليؤمنن به ولينصرنه. . . قال علي بن أبي طالب وابن عمه ابن عباس رضي الله عنهما: ما بعث اللَّه نبيًّا من الأنبياء إلَّا أخذ عليه الميثاق لئن بعث اللَّه محمدًا وهو حيٌّ ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بُعثَ محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه)(1).

وحيث إن نبي اللَّه ورسوله عيسى عليه السلام كان آخر الأنبياء والمرسلين قبل محمد صلى الله عليه وسلم فإنَّه قد بشَّرَ به، قال تعالى:{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الصف: 6](2).

ومن يتدبر الآيات التي جاءت بعد الآية التي ذُكِرَ فيها الميثاق يتبين له من منطوقها ومفهومها، ومِمَّا تدل عليه صراحة وضمنًا: أنَّ (الوفاء بهذا العهد هو الدين، فمن ابتغى سواه من الأديان والملل والنحل والمذاهب فقد ابتغى غير دين اللَّه، وهذا ما يفيده الاستفهام الإنكاري في قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 83] (3).

(1) تفسير القرآن العظيم 1/ 378، (مرجع سابق).

(2)

ووردت أحاديث كثيرة أخبر فيها الرسول صلى الله عليه وسلم بأنَّ نبي اللَّه عيسى عليه السلام سيرجع في آخر الزمان ويحكم بالإسلام أربعين سنة بعد أن يقضي على فتنة المسيح الدخال، وأنَّه يأتم في صلاته بإمام من أئمة المسلمين في الصلاة، وفي هذا دلالة عظيمة على عالميَّة الإسلام وأمته، حيث إن عيسى عليه السلام سيحكم بالإسلام على الأمتين (اليهودية والنصرانية) في وقت كادت الشادة على العالم أن تكون بأيديهم وتحت شعار العولمة والعالميَّة.

(3)

مناع القطان: الشريعة الإسلاميَّة (شمولها، عالميتها، ووجوب تطبيقها): ص 25، الطبعة الثانية 1404 هـ - 1984 م، الدار السعودية للنشر. . . - الرياض.

ص: 596

وقبل هذه الآية: (حكم اللَّه تعالى على المتولين الذين يعرضون عن الرسالة بالفسق)(1)، إذ قال تعالى:{فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 82]، ثُمَّ بين اللَّه تعالى في تلك الآيات أنه لا يقبل من أحد غير دين الإسلام فقال:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]، (وهذه الصيغة عامَّة، فإنَّ صيغة "مَنْ" الشرطية من أبلغ صيغ العموم، فيدخل فيها أهل الكتاب وغيرهم، وسياق الكلام مع أهل الكتاب، وهذا يدل على أنَّه تعالى أراد أهل الكتاب بهذه الآية كما أراد غيرهم، بل معظم صدر سورة آل عمران: في مخاطبة أهل الكتاب ومناظرة النصارى. . وذكر اللَّه تعالى في أول السورة أن الدين عنده هو الإسلام، وأنَّ أهل الكتاب أمروا بالإسلام كما أمر به الأميون الذي لا كتاب لهم)(2).

وملحظ آخر؛ وهو أنَّ ميثاق دينهم الذي واثقتهم عليه رسل اللَّه إليهم، وواثقهم اللَّه به، وأخذ عليهم إصرهم، والإصر -كما فسَّره العلماء- هو:(العهد المؤكد الذي يُثبِّط ناقضه عن الثواب والخيرات)(3): يأمرهم بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، أي: بالدخول في دين الإسلام، وأنَّ الذين يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم يؤمنون بجميع الرسالات ويؤمنون بجميع الأنبياء والرسل، وبهذا تتحقق للمسلمين العالميَّة الحقَّة وتكون الأُمَّة الإسلاميَّة ذات تميُّز من أهم خصائصه خصيصة العالميَّة، قال تعالى:{قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 84]، إنه الإسلام والإسلام -فحسب- الطريق الوحيد للعالمية، والأُمَّة الإسلاميَّة

(1) المرجع السابق نفسه ص 25.

(2)

مناع القطان: الشريعة الإسلاميَّة. . ص 26، (المرجع السابق نفسه).

(3)

الراغب الأصفهاني: مفردات ألفاظ القرآن: مادة (أصر)، (مرجع سابق).

ص: 597