الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الالتزام بالإسلام والاعتزاز به
يعد الالتزام بالإسلام والاعتزاز به من أهم وسائل تحقيق تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة؛ فإنَّ ذلك من أظهر ما يدعو لتميزها، فالقدوة الصالحة تحقق هذا التميُّز من خلال الالتزام بالإسلام والاعتزاز به، انطلاقًا من جعل مفاهيم الأُمَّة ومناهجها ومواقفها أساسًا لهذا الاعتزاز، وعناية به، وحرصًا عليه، وهذا ما طبقه الرسول صلى الله عليه وسلم، وسار عليه أصحابه والتابعون لهم بإحسان؛ فقد كان الرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يحرص على أن تكون الأُمَّة الإسلاميَّة ذات تميُّز في التزامها، بما يؤكد ذاتيتها، كما تدل على ذلك نماذج كثيرة في حياة المسلمين؛ تتضح في الآتي:
أ- في المفاهيم.
ب- في المناهج.
ج- في المواقف.
أ- أمَّا في المفاهيم
فإنَّ النماذج على ذلك في حياة الأُمَّة كثيرة جدًّا، منها تلك الحقبة التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم فيها بين ظهراني الأمة أو الحقب التي تلت ذلك، فقد جاء الإسلام و (العرب على إرث في جاهليتها من إرث آبائهم في لغاتهم ونسائهم وقرابينهم، فلما جاء اللَّه جل ثناؤه بالإسلام حالت أحوال، ونسخت ديانات، وأبطلت أمور، ونقلت من اللغة ألفاظ من مواضع إلى مواضع أخر بزيادات زيدت، وشرائع شرعت، وشرائط شرطت. . . فكان مِمَّا جاء في الإسلام: ذكر المؤمن والمسلم والكافر، وأنَّ العرب إنَّما عرفت المؤمن من الأمان والإيمان وهو التصديق، ثمَّ زادت الشريعة شرائط وأوصافًا، بها سُمّي المؤمن بالإطلاق مؤمنًا،
وكذلك الإسلام والمسلم، إنَّما عرفت منه إسلام الشيء، ثُمَّ جاء في الشرع من أوصافه ما جاء، وكذلك كانت لا تعرف من الكفر إلَّا الغطاء والستر.
فأمَّا المنافق فاسم جاء به الإسلام لقوم أبطنوا غير ما أظهروه، وكان الأصل من نافقاء اليربوع، ولم يعرفوا في الفسق إلَّا قولهم (فسقت الرطبة) إذا خرجت من قشرها، وجاء الشرع بأنَّ الفسق: الإفحاش في الخروج عن طاعة اللَّه جلَّ ثناؤُه.
ومِمَّا جاء في الشرع: الصلاة، وأصله في لغتهم الدعاء، وقد كانوا عرفوا الركوع والسجود، وإن لم يكن على هذه الهيئة (كما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم وطبقه وأمر أمته أن تفعل فيه كفعله). . . والذي عرفوه منه. . . (طأطأ وانحنى)، وهذا وإن كان كذا فإن العرب لم تعرفه بمثل ما أتت به الشريعة من الأعداد، والمواقيت، والتحريم للصلاة، والتحليل منها.
وكذلك الصيام: وأصله عندهم الإمساك. . . ثُمَّ زادت الشريعة النيَّة، وحظرت الأكل والمباشرة، وغير ذلك من شرائع الصوم.
وكذلك الحج لم يكن عندهم غير القصد، وسبر الجراح. . .، ثُمَّ زادت الشريعة ما زادته من شرائط الحج وشعائره.
وكذلك الزكاة، لم تكن العرب تعرفها إلَّا من ناحية النماء، وزاد الشرع ما زاده. . .، وعلى هذا سائر (أمور) العمرة والجهاد، وسائر أبواب الفقه) (1).
(1) أبو الحسين أحمد بن فارس: الصاحبي (في فقه اللغة العربيَّة ومسائلها وسنن العرب في كلامها): ص 79، 80، 81، تحقيق: عمر فاروق الطبّاع، الطبعة الأولى 1414 هـ - 1993 م، عن مكتبة المعارف - بيروت، وانظر: السيوطي: المزهر: 1/ 294، 303، (مرجع سابق)، وانظر: أبو عبد اللَّه الخوارزمي: مفاتيح العلوم حول أهميته =
يتضح من هذا أنّ الإسلام رسَّخ مفاهيم، وحدَّد مصطلحات في مجال العقيدة والعبادة والشعائر الأخرى، وما يتصل بذلك من مفاهيم ومصطلحات في مجال المعاملات وسائر العلاقات والسلوك والأخلاق، وكل ذلك يرتكز على عقيدة التوحيد، ويهدف إلى إخلاص العبادة للَّه، وهو مع ذلك من وسائل تميُّز الأمَّة الإسلاميَّة (1).
ولشيخ الإسلام ابن تيمية رؤية شاملة فيما يتعلق بمفاهيم الإسلام سواء في مجال العقيدة أو العبادة أو غيرهما مِمَّا يتصل بحياة الأُمَّة، وما كان منها قد حدده الرسول صلى الله عليه وسلم، وما ترك أمره للأُمَّة؛ فقام الصحابة الكرام بتحديد بعضه، وتُركَ بعضُه الآخر للأُمَّة الإسلاميَّة عبر تاريخها.
وعن ذلك قال: (الأسماء التي علق اللَّه بها الأحكام في الكتاب والسنّة منها: ما عرف حده ومسماه بالشرع، فقد بينه اللَّه ورسوله: كاسم الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والإيمان، والكفر، والنفاق، ومنه ما يعرف حده باللغة: كالشمس والقمر، والسماء والأرض، والبر والبحر، ومنه ما يرجع حده إلى عادة الناس، وعرفهم فيتنوع بحسب عاداتهم، كاسم البيع، والنكاح، والقبض، والدرهم، والدينار، ونحو ذلك من الأسماء التي لم يحدها الشارع بحد، ولا لها حد واحد يشترك فيه جميع أهل اللغة، بل يختلف قدره وصفته باختلاف عادات الناس؛ فما كان من النوع الأول فقد بينه اللَّه ورسوله، وما كان من الثاني والثالث فالصحابة والتابعون، المخاطبون بالكتاب والسنة، قد عرفوا المراد به، لمعرفتهم
= المصطلح: ص 13 - 15، الطبعة الثانية 1459 هـ - 1989 م، عن دار الكتاب العربي، تحقيق: إبراهيم الأبياري، وانظر: مطلب مدلول الأُمَّة في القرآن الكريم: ص 77، (البحث نفسه).
(1)
انظر: بكر بن عبد اللَّه أبو زيد: فقه النوازل: ص 161 - 196، (مرجع سابق).
بمسماه المحدود في اللغة أو المطلق في عرف الناس وعاداتهم من غير حدٍّ شرعي ولا لغوي، وبهذا يحصل التفقه في الكتاب والسنة. . .) (1).
إنَّ هذه الرؤية لشيخ الإسلام إزاء مفاهيم الأُمَّة الإسلامية تؤكد أصالة تلك المفاهيم وارتكازها على الحق، وأثرها في تحقيق تميُّز الأُمَّة، وهذا واضح في قوله:(فالصحابة كانوا يعلمون ما جاء به الرسول. . . وبيان ذلك بقياس صحيح أحق وأحسن بيانًا من مقاييس الكُفَّار؛ كما قال تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33]، أخبر سبحانه أنَّ الكفار لا يأتونه بقياس عقلي لباطلهم إلَّا جاءه اللَّه بالحق، وجاءه من البيان والدليل، وضرب المثل بما هو أحسن تفسيرًا وكشفًا وإيضاحًا للحق من قياسهم)(2).
أمَّا عن أثر المفاهيم في تميُّز الأُمَّة فيشير إليها بقوله: (ولا ريب أن الألفاظ في المخاطبات تكون بحسب الحاجات كالسلاح في المحاربات، فإذا كان عدو المسلمين -في تحصنهم وتسلحهم- على صفة غير الصفة التي كان عليها فارس والروم: كان جهادهم بحسب ما توجهه الشريعة، التي مبناها على تحري ما هو للَّه أطوع وللعبد أنفع، وهو الأصلح في الدنيا والآخرة)(3).
وإذا كانت مفاهيم الأُمَّة الإسلاميَّة تنبثق من عقيدة التوحيد، وتلتزم بشريعة الإسلام وبسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وفهم الصحابة والتابعين ومن سار
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 19/ 235، 236، (مرجع سابق)، وانظر: محمد بن عمر بن سالم بازمول: الحقيقة الشرعية في تفسير القرآن العظيم والسنة النبوية: ص 13 - 32، الطبعة الأولى 1415 هـ - 1995 م، عن دار الهجرة. . . الرياض.
(2)
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 12/ 106، (مرجع سابق).
(3)
المرجع السابق نفسه: 12/ 107.
على نهجهم من سلف الأُمَّة الصالح، وهي بذلك وسيلة من وسائل تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة في تاريخها كلِّه، فإنَّ الإسلام أكد على أهميَّة سلامة هذه المفاهيم من اللبس والاختلاط في معناها بما قد يحمل معنى فاسدًا أو يكون وسيلة إلى محرم (1)، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا} [البقرة: 104]، حيث نهى عز وجل عن استخدام لفظ (راعنا)، التي يقصد بها في الأصل ما تعنيه كلمة ("راعيت الأمر": نظرت إلام يصير، ورعيت النجوم: رقبتها) (2)، وكان سبب النهي عن استخدامها اختلاط معناها بما يدل عليه لفظ "رعن" من (هوج واضطراب) (3)؛ ولأنَّها (كلمة كانت اليهود تنساب بها وهو من الأرعن؛ قرأها "راعنًا" منونة فتأويلها: لا تقولوا حمقًا من القول؛ لأنه يكون كلامًا أرعن: أي مضطربًا أهوج) (4).
يقول ابن قيم الجوزية في تفسيرها: (نهاهم سبحانه أن يقولوا هذه الكلمة مع قصدهم بها الخير؛ لئلا يكون قولهم ذريعة إلى التشبه باليهود في أقوالهم وخطابهم، فإنهم كانوا يخاطبون بها النبي صلى الله عليه وسلم ويقصدون بها السب، يقصدون فعلًا من الرعونة، فنُهيَ المسلمون عن قولها سدًّا لذريعة المشابهة، ولئلا يكون ذلك ذريعة إلى أن يقولها اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم تشبهًا بالمسلمين يقصدون بها غير ما قصده المسلمون)(5).
إنَّ هذا الحدث التاريخي يكشف عن أهميَّة المفاهيم كوسائل ينبغي
(1) انظر: السعدي: تيسير الكريم الرحمن 1/ 120، (مرجع سابق).
(2)
ابن فارس: معجم مقاييس اللغة، مادة (رعى)، (مرجع سابق).
(3)
المرجع السابق نفسه: مادة (رعن)، (مرجع سابق).
(4)
المرجع السابق نفسه: مادة (رعن).
(5)
بدائع التفسير 1/ 333، (مرجع سابق).
على الأُمَّة الإسلاميَّة أن تدرك خطورتها من ناحيتين؛ أولهما: باعتبارها وسيلة يستخدمها أعداء الأُمَّة في الكيد لها، ويربطونها بمقاصدهم الشريرة ولو على الصعيد النفسي على أقل تقدير، وأخراهما: باعتبارها وسيلة من وسائل تحقيق تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة، ويتضح هذا الأمر بجلاء إذا أُنْعِمَ النظرُ فيما جاء قبل تلك الآية وما جاء بعدها، فالآيات السابقة كانت تضع (المسلمين وجهًا لوجه أمام الهدف الحقيقي لأهل الكتاب من اليهود والنصارى. . . إنَّه تحويل المسلمين عن دينهم إلى دين أهل الكتاب ولن يرضوا عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتبع ملتهم، وإلَّا فهي الحرب والكيد والدس إلى النهاية، وهذه هي حقيقة المعركة التي تكمن وراء الأباطيل والأضاليل، وتتخفَّى خلف الحجج والأسباب المقنعة)(1).
وتأتي الآيات بعدها فتبين ما خصَّ اللَّه به الأُمَّة الإسلاميَّة من الفضل والرحمة، وترسخ اليقين في اللَّه في نفوس المسلمين، وأنَّ له ملك السموات والأرض، وهو وليهم ونصيرهم، وذلك تعليلًا -واللَّه أعلم- لما حدث من نسخ سواء في الآيات القرآنية أو الأحكام والشعائر الدينيَّة، وبخاصة حادثة تحويل القبلة التي اهتبل اليهود فرصتها للتشكيك في عقيدة المسلمين، وتابعهم المشركون وسائر أهل الكتاب، وجاءت الآيات -المشار إليها- لتحذر المسلمين مِمَّا وقع فيه اليهود مع نبيهم موسى عليه السلام من مُساءلة أدت بهم إلى الجحود والانحراف عن حقيقة التميُّز الذي ألزمهم اللَّه به، وأنَّهم إذ لم يحققوه وسلبهم اللَّه إياه وسلب غيرهم من أهل الكتاب والمشركين، واختار له المسلمين {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح: 26]، طفحت نفوس كثير من أهل الكتاب بالحسد الذي تحول إلى إرادة وعمل لصرف المسلمين عن دينهم إلى الكفر، كما جاء
(1) سيد قطب: في ظلال القرآن 1/ 100، (مرجع سابق).
ذلك في آية أخرى وهي قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 89]، ومِمَّا يلحظ في كثير من آيات الذكر الحكيم أنَّها: تجمع (بين أهل الكتاب والمشركين في الكفر. . . وكلاهما كافر بالرسالة الأخير فهما على قدم سواء من هذه الناحية، وكلاهما يضمر للمؤمنين الحقد والضغن، ولا يود لهم الخير، وأعظم ما يكرهونه للمؤمنين هو هذا الدين، هو أن يختارهم اللَّه لهذا الخير، وينزل عليهم هذا القرآن، ويحبونهم بهذه النعمة، ويعهد إليهم بأمانة العقيدة في الأرض، وهي الأمانة الكبرى في الوجود. . . وليس أعظم من نعمة النبوة والرسالة، وليس أعظم من نعمة الإيمان والدعوة إليه، وفي هذا التلميح ما يستجيش في قلوب الذين آمنوا الشعور بضخامة العطاء وجزالة الفضل، وفي التقرير الذي سبقه عمّا يضمره الذين كفروا للذين آمنوا ما يستجيش الشعور بالحذر والحرص الشديد، وهذا الشعور وذاك ضروريان للوقوف في وجه حملة البلبلة والتشكيك التي قادها -ويقودها- اليهود، لتوهين العقيدة في نفوس المؤمنين. . .)(1).
ومِمَّا ينبغي ذكره في سياق الالتزام بالإسلام والاعتزاز به في نطاق المفاهيم، أنَّ الأُمَّة الإسلاميَّة تعي ما كان منها موروثًا بشريًّا عامًّا تأخذ به أيُّ أُمَّة من الأمم، فهي بقدر حرصها على تأصيل مفاهيمها وتميُّزها فيما يتصل بعقيدتها وشريعتها وشعائرها وما يتصل بسلوك أفرادها ومجتمعاتها وآدابهم، فإنَّها لا ترد المفاهيم المتأصلة بمجهود الأمم الأُخرى في نطاق العلم التجريبي ونحوه، وقد تصدى لبيان ذلك بعض علماء الأُمَّة.
وعلى سبيل المثال ما بيَّنه ابن تيمية في قوله: (. . فإنَّ ذكر ما لا يتعلق بالدين مثل مسائل "الطب" و"الحساب" المحض التي يذكرون فيها ذلك،
(1) سيد قطب: في ظلال القرآن 1/ 101، 102، (مرجع سابق).