الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وسطية الأُمَّة في مجال التشريع والأخلاق
أولًا: في مجال التشريع:
أمَّا الوسطيَّة في مجال التشريع فإنَّ الشريعة إجمالًا كما قال الشاطبي: (جارية في التكليف بمقتضاها على الطريق الوسط الأعدل، الآخذ من الطرفين بقسط لا ميل فيه، الداخل تحت كسب العبد من غير مشقة ولا انحلال، بل هو تكليف جار على موازنة تقتضي في جميع المكلفين غاية الاعتدال كتكاليف الصلاة والصيام والحج والجهاد والزكاة، وغير ذلك مِمَّا شرع ابتداءً على غير سبب ظاهر اقتضى ذلك، أو لسبب يرجع إلى عدم العلم بطريق العمل. . . فإنْ كان التشريع لأجل انحراف المكلف، أو وجود مظنة انحرافه عن الوسط إلى أحد الطرفين، كان التشريع رادًّا إلى الوسط الأعدل)(1).
ويستمر الشاطبي في بيان الوسطية في التشريعات الإسلاميَّة، وأنَّها تتخذ نوعًا من المرونة ومراعاة الأحوال والظروف، وما سلكته في سبيل ذلك من أساليب متنوعة صاحبت تاريخ التشريع الإسلامي، ثُمَّ يصل إلى القول:(فإذا نظرت في كليَّة شرعيَّة فتأملها تجدها حاملة على التوسط، فإن رأيتَ ميلًا إلى جهة طرف من الأطراف، فذلك في مقابلة واقع أو متوقع في الطرف الآخر، فطرف التشديد -وعامَّة ما يكون في التخويف والترهيب والزجر- يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الانحلال في الدين، وطرف التخفيف -وعامَّة ما يكون في الترجية والترغيب والترخيص- يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الحرج في التشديد، فإذا لم يكن هذا ولا ذاك رأيت التوسط لائحًا، ومسلك الاعتدال واضحًا، وهو الأصل الذي يرجع إليه، والمعقل الذي يلجأ إليه)(2).
(1) الموافقات 2/ 124، (مرجع سابق).
(2)
الموافقات: 2/ 128، (المرجع السابق نفسه).
وقد ألمح الشاطبي في نهاية هذه المسألة إلى أن (التوسط يعرف بالشرع، وقد يعرف بالعوائد، وما يشهد به معظم العقلاء، كما في الإسراف والإقتار في النفقات)(1).
ولعل ما بينه الشاطبي عن وسطية الشريعة الإسلاميَّة يتضمن وصفًا بالغ الأهمية يضفي على الوسطيَّة في الإسلام نوعًا من المرونة، ومسايرة الأحداث بما يفي بحاجة تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة إلى الاستمرار والحركة الإيجابيَّة إزاء ما يجد في حياتها من قضايا ونظم (2)، على أنَّ الإسلام قد حدَّد مسلك الوسط في جميع تشريعاته في العبادات وفي المعاملات وفي الحلال والحرام، وأمر الحق تبارك وتعالى الأُمَّة أن تلتزم بذلك المسلك ولا تتجاوز حدوده، قال تعالى:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229]، وقد جاءت هذه الآية بعد أن بين اللَّه عز وجل أحكامًا كثيرة تناولت جوانب متنوعة على صعيد الأسرة، والنفقة، وبعض القضايا السياسيَّة والاجتماعية، والشعائر الدينية، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"إنَّ اللَّه عز وجل فرض فرائض فلا تضيعوها، وحرَّم حرمات فلا تنتهكوها، وحدَّ حدودًا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها"(3).
(1) المرجع السابق نفسه: 2/ 128.
(2)
لمزيد الاطلاع على وسطيَّة التشريعات الإسلاميَّة وأثرها على الأمَّة. . انظر:
• يوسف القرضاوي: الخصائص العامَّة للإسلام: ص 145 - 147، (مرجع سابق).
• محمد عقلة: الإسلام مقاصده وخصائصه: ص 57 - 62، (مرجع سابق).
• عبد الرحمن حبنكة: الالتزام الديني منهج وسط: ص 65 - 86، من سلسلة (دعوة الحق)، السنة [4]، العدد [34] محرم 1405 هـ - أكتوبر 1984 م، عن رابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة.
• وانظر: ما تقدم في مطلب (الشريعة)، من هذا البحث نفسه: ص 410 - 422.
(3)
أخرجه الدارقطني: سنن الدارقطني 4/ 184، وبذيله التعليق المغني على الدارقطني، لأبي الطيب: محمد آبادي، الطبعة الرابعة 1406 هـ - 1986 م، عن عالم الكتب - بيروت.
شرح ابن رجب رحمه الله هذا الحديث، وبين طرقه في كتب السُّنَّة وما قيل عنه، وشواهده من طرق أخرى، وأفاض في شرحه بما تضمن إيضاح خصيصة الوسطية في التشريعات الإسلاميَّة وبيانها، وساق من الأدلة من القرآن الكريم والسنّة وفهم سلف الأُمَّة وتطبيقاتهم في عباداتهم ومعاملاتهم ما فيه جلاء هذه الخصيصة، ولعل من أجمع ما يبين ذلك قوله:(ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثل الإسلام بصراط مستقيم، وهو الطريق السهل الواسع الموصل سالكه إلى مطلوبه، وهو مع هذا مستقيم لا عوج فيه، فيقتضي ذلك قربه وسهولته، وعلى جنبتي الصراط؛ يمنة ويسرة سوران؛ وهما حدود اللَّه، وكما أنَّ السور يمنع من كان داخله من تعديه ومجاوزته، فكذلك الإسلام يمنع من دخل فيه من الخروج عن حدوده ومجاوزتها، وليس وراء ما حدَّ اللَّه من المأذون فيه إلَّا ما نهى عنه، ولهذا مدح سبحانه الحافظين لحدوده، وذم من لا يعرف حد الحلال من الحرام)(1).
فالوسطيَّة في هذه الأحكام والتشريعات سمة بارزة تؤكدها دلائل كثيرة من أهمها:
• الآيات والأحاديث التي تؤكد يسر الشريعة ورفع الحرج في تشريعاتها كقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقوله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقوله تعالى:{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157]، وفيما ذكره العلماء في مجمل تفسير هذه
(1) جامع العلوم والحكم: ص 305، 306، (مرجع سابق). وانظر: ابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله، تحقيق: أبي الأشبال الزهيري 2/ 1045، 1046، (مرجع سابق) ولديه تخريج واسع للحديث، وما قيل عن صحته وضعفه وكذلك ما قيل عن رفعه ووقفه، وشواهده.
الآيات، ما يدل على وسطيَّة التشريعات في الإسلام في جميع مجالات الحياة؛ مِمَّا كان له الأثر العميق في تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة واتسامه بالوسطيَّة.
وفي تفسير قوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ. . .} الآية؛ قال ابن كثير: (أي: يحل لهم ما كانوا حرموه على أنفسهم من البحائر والسوائب والوصائل والحام، ونحو ذلك، مِمَّا كانوا ضيقوا به على أنفسهم، ويحرم عليهم الخبائث. . . كلحم الخنزير والربا، وما كانوا يستحلونه من المحرمات من المأكل التي حرمها اللَّه تعالى)(1).
وجاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا"(2)، وقال صلى الله عليه وسلم:"إنَّ الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلَّا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا"(3)، حيث دلَّ هذا الحديث والذي قبله، ونحوهما على يسر التشريعات الإسلاميَّة، وبالتالي فإنَّ الأُمَّة الإسلاميَّة بالنظر لهذه التشريعات، وبالنظر إلى ما كانت عليه الأمم من قبلها تتسم بالوسطية العادلة الخيِّرَة.
• ومِمَّا يؤكد هذه الوسطيَّة ما كانت عليه الأمم من قبلها إذ إنَّها حادت عن هذه الوسطيَّة، وعلى سبيل المثال فإنَّ الأُمَّة الإسلاميَّة كانت وسطًا (في
(1) تفسير القرآن العظيم 2/ 254، (مرجع سابق).
(2)
أخرجه البخاري: صحيح البخاري 1/ 38، الحديث رقم [69]، كتاب العلم، باب: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا، تحقيق: مصطفى ديب البغا، (مرجع سابق)، وأخرجه مسلم: صحيح مسلم، برقم [1734]، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق).
(3)
أخرجه البخاري: صحيح البخاري 1/ 23، الحديث رقم [39]،كتاب الإيمان، باب: الدين يسر، وقد ترجم للباب بقوله:(أحب الدين إلى اللَّه الحنيفية السمحة). المرجع السابق نفسه.