الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العلم، ووجهوه إلى النفع، وإلى الإفادة، وكان منهجهم التجريبي خير مثل على ذلك) (1).
ثانيًا: التسخير:
وكان مفهوم الأُمَّة الإسلاميَّة للتسخير ذا أثر عميق في انطلاقتها العلميَّة، وإفادتها من موجودات الحياة والكون من حولها، ذلك أنّ الإسلام، ومن خلال آيات القرآن الكريم (أزال ما بين الإنسان والكون من حواجز، ودفعه إلى اكتشاف آفاقه، إنَّه أول كتاب (أي: القرآن الكريم) وضع الإنسان وجهًا لوجه أمام مشاهد الطبيعة، كما تبدو للحس وفي الواقع، مستعرضًا أجزاءها الكبيرة والصغيرة وأنواعها وأجناسها وحركتها وسكونها ومراحل نمو مخلوقاتها، من إنسان وحيوان ونبات، إنَّه يعرضها مجردة من أساطير اليونان، وخرافات الهنود، فلا تحرك أمواج بحارها آلهة البحر، ولا تهيج رياحها الشياطين (بل يعرضها) متصلة الأجزاء، متتابعة الحوادث، منتظمة السير، مطردة السنن) (2)، وفي خلال هذا العرض يحفز العقل على النظر والتفكير وإعمال العقل للإفادة من هذه المخلوقات والعلم بما يحكمها من سنن، ولا سيما أنّها مسخرة للإنسان ليحقق استخلافه في الأرض.
يقول أحد المفكرين: (وهل العلم إلَّا ملاحظة الحوادث واستقراؤها وجمعها وتصنيفها وضبط كمياتها ومقاديرها، وربط أجزائها بعضها في بعض في قانون عام مطرد، وذلك عن طريق الحواس من سمع وبصر، وعن طريق الفكر والعقل)(3). ويقول في مكان آخر: (وكان لهذه الفكرة
(1) توفيق يوسف الواعي: الحضارة الإسلاميَّة. . . ص 300، (مرجع سابق). وانظر: موقف المستشرقين من إيجابيَّة الأمَّة الخيرة: ص 809 - 827، (البحث نفسه).
(2)
محمد المبارك: نحو إنسانية سعيدة: ص 34، (مرجع سابق). وانظر له: دراسات أدبية: ص 64، (مرجع سابق).
(3)
محمد المبارك: نحو إنسانية سعيدة: ص 35، (المرجع السابق نفسه).
نتائج عظيمة جدًّا من الناحيتين الفكريَّة والعلمية في الإطار العربي والإنساني، وكانت نقطة الانطلاق للتفكير العلمي المبني على التجربة واستخراج سنن الطبيعة، وكان لها أثر عميق في توجيه الحضارة الإنسانية وجهة جديدة كما كانت دافعًا لاستثمار الطبيعة والانطلاق في آفاقها الواسعة) (1)، وقبل ذلك قال:(لقد نقلت هذه الفكرة العرب من نوع من التفكير المجزأة المشوب بالوثنيَّة والخرافة إلى نوع آخر من التفكير الشامل المتحرر من الخضوع للطبيعة)(2).
والحقيقة أن الأُمَّة الإسلاميَّة تميَّزت إلى جانب ذلك بتحقيق التوازن بين مفهوم العلم الشامل ومفهوم الاستخلاف الراشد. وتعد الحضارة الإسلاميَّة (في عصور الخلافة الراشدة، والدولة الأمويَّة، والعباسية هي الحضارة الإنسانية الكاملة الفذَّة في تاريخ الإنسانية، فقد عاشت البشرية -مؤمنها وكافرها- خلال عصور هذه الحضارة في ظل شريعة اللَّه ونظمه وحكمه، وكان العالم الإسلامي على أعلى درجة من التقدم العلمي والتقني في هذه العصور، فاكتمل للمسلمين أساسا، أو مقوما الحضارة، وما نعلم حضارة سواها اكتمل لها هذان الأساسان، ومن ثُمَّ نمت الحضارة الإسلاميَّة، وارتقت بجانبها الروحي والمادي بتوازن دقيق، فكانت وليدًا صحيحًا متناسقًا في ذاته، ومحققًا للأهداف الإنسانية العليا التي قامت من أجلها، وهي خلافة الإنسان. . في الأرض، وإن كان ذلك بدرجات متفاوتة كانت أقل دائمًا من عصر الخلافة الراشدة)(3).
كما أنّ ما آلت إليه الأُمَّة الإسلاميَّة من تراجع في ميادين العلم
(1) محمد المبارك: دراسات أدبية ص 64، (مرجع سابق).
(2)
المرجع السابق نفسه: ص 64.
(3)
فاروق الدسوقي: استخلاف الإنسان في الأرض. . . ص 124، 125، (مرجع سابق).
والسيادة يعود في مجمله إلى الاختلال في مفهوم العلم، ومفهوم الاستخلاف وتطبيقاتهما في حياتها، وعن هذا الجانب قال أحد المفكرين:(إنّ الأُمَّة الإسلاميَّة في بدء أمرها سادت بالعلم والتمسك بهذا المفهوم وإعلاء شأنه، وفي انحدارها انتكست بتنحيته، والإعراض عنه، وها هي اليوم تدفع ثمن المعرفة والعلم غاليًا، فهي مستهلكة لسلعة غيرها بأبهظ الأثمان، ليس من حيث القيمة الحقيقية، بل جراء ثمن المعرفة التي أنتجت السلعة، وهناك معارف يحاول الآخرون حجزها عنها، والحيلولة دون وصول الأمَّة الإسلاميَّة إليها، وتعاني من جراء ذلك ما تعاني، ولهذا لابُدَّ من إعادة مفهوم السيادة العلميَّة والمعرفيَّة. . . بتخطيط محكم، وتنظيم دقيق ينبثق من روح الأُمَّة وفكرها، ورغبتها في بلوغ المعالي، وإنّ من أوجب الواجبات على أهل العلم فيها شعورهم بأنهم حملة رسالة يستشعرون ثقل الأمانة التي شرفوا بالانتساب إليها منطلقين وملتزمين بمبادئ القرآن والسنة، متواضعين خاشعين، فهم منارات هداية للأُمَّة لتكون مسلمة حقًّا، مؤدية لما أراد اللَّه منها صدقًا. . . {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15، 16]) (1).
ويُمكن القول أنَّ مقومات استخلاف الأُمَّة الإسلاميَّة بخاصة إضافة لما ذكر من العلم والتسخير، وما يتبعهما من مقتضيات، جاء ذلك مجملًا في قول اللَّه عز وجل:{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41]، وقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا
(1) فاروق حمادة: أسس العلم وضوابطه ص 16، (مرجع سابق).
اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55]، وعلى هذا النحو جاءت الكثرة الكاثرة من الآيات المحكمات، وجاءت الأحاديث النبويّة الشريفة تبين مقومات استخلاف الأُمَّة الإسلاميَّة، وتعدها بالنصر والرفعة والسيادة على الأرض والشهادة على الناس إذا هي حققت تلك المقومات:
وأولها: الإيمان (فالإيمان بخصائصه هو منبع الاعتزاز باللَّه تعالى، والاعتزاز باللَّه هو مصدر الدوافع القياديَّة في الأمَّة الإسلاميَّة، وبهذا كان منصب الخلافة في أرض اللَّه بوضع إلهي، وتكليف سماوي، لا اختيار لها في فرضه عليها وتكليفها القيام بعبئه، وقد أوتيت هذه الأُمَّة من الوصايا الإلهية، والأوامر التكليفية، ومنحت من العوامل النفسية، والفضائل الخلقيّة، والحوافز التربويَّة ما مكن لها -يوم أن كان الإيمان والاعتزاز باللَّه يقودانها- من إعداد أقوى الدعائم الماديَّة للدفاع عن دعوة الحق، فكان يكفي أن تبلغ مسامع أحد خلفائها صيحة امرأة مسلمة من أبواب أسوار الأسر قائلة: "وامعتصماه" فيهب في تعبئة لكتائب الحق لا تعود إلى قلاعها حتى تريح الحق إلى ساحته، فهي أمَّة قد اختارها اللَّه لتكون خاتمة الأمم صاحبة الشرائع الإلهية، واختار نبيها صلى الله عليه وسلم ليكون أكمل رسول بأكمل رسالة ختمت الرسالات السماويَّة، فكان لابُدَّ أن تكون رسالة جامعة لكل خير جاءت به رسالة سابقة عليها، إلى جانب ما يقتضيه تطور الإنسانية الفكري والاجتماعي من حقائق لم تكن تتطلبها، ولا تطيقها الأمم في طورها الفكري والاجتماعي)(1).
(وقد جاءت النبوة الخاتمة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم تحدد المنهاج النهائي
(1) محمد الصادق عرجون: الأمَّة الإسلاميَّة ص 47، 48 (مرجع سابق).
للخلافة، وتتوج الوحي المرشد الذي بصَّر الإنسان منذ خلقته بمسالكها، وهذا المنهاج النهائي سيظل الموجّه الأبدي للإنسان فيما ينبغي أن يعتقد من حقيقة الوجود، وفيما ينبغي أن يسلك في تصريف الحياة، ويتصف هذا المنهاج النهائي للخلافة بشمول البيان لكل مناحي التصرف الإنساني في فكرة وسلوكه، ومصدره الأوحد هو اللَّه تعالى الذي أنزله بطريق الوحي إلى نبي مختار، وكلَّفه أن يبلغه للناس، وأسفر هذا الوحي عن أصلين نصيين هما: القرآن والحديث، واشتملا على كل ما في منهاج الخلافة من مضمون، وجعلا المرجع الأبدي لهذا المنهاج، يرجع إليهما الإنسان ليصوغ حياته على قدر ما فيهما من التحديد والإرشاد) (1).
وثانيهما: تحقيق العبودية للَّه، وقد ذكرت الآية الأولى (محل الشاهد) الصلاة والزكاة، وهما العمل الصالح في الآية الأخرى (2)، والاقتصار على الصلاة والزكاة؛ لأنّ الصلاة عمود الإسلام، وتشتمل على مجمل العبادات وتأتي الزكاة لتؤكد الانتماء للإسلام بنوعٍ آخر من العبادة يعتمد على البذل والعطاء، وتعبيد المال للَّه، وقد سبق بيان ذلك.
والثالث: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وهذا من المبادئ الإسلاميَّة ذات الخطر في قضية استخلاف الأُمَّة الإسلاميَّة، لأنها بهذا
(1) عبد المجيد النجار: خلافة الإنسان بين الوحي والعقل ص 52، 53، (مرجع سابق).
(2)
انظر: ابن تيمية: دقائق التفسير 4/ 393، (مرجع سابق). والعمل الصالح، وكذلك المعروف ونحوهما من مثل الخير والبر والإحسان، كل ذلك يرد في سياق الاستخلاف بصفة كل مفهوم من هذه المفاهيم (اسم جامع لكل ما ينفع الجنس البشري، ويرتقي بسلوكهم والعلاقات المتبادلة بينهم) ماجد غرسان الكيلاني: إخراج الأمَّة المسلمة ص 59، (مرجع سابق) ولمزيد التفاصيل عن هدف الاستخلاف باعتباره من أهداف تميُّز الأُمَّة الأسلاميَّة. انظر: المرجع السابق نفسه: ص 58 - 62، 65 - 78.
المبدأ أو المقوم من مقومات استخلافها تضطلع بحمل المسؤولية (1)(لترفع راية الحق، ولتضع على الأرض موازين القسط بين الناس، إذا استقام أمرها على طريق اللَّه الذي رسمه منزلًا في كتابه، وذلك بقيام قادتها وولاة أمرها، وعلمائها العاملين، بما أوجبه اللَّه عليهم من العمل بكتاب اللَّه وسنة رسوله، وتنفيذ حدوده وزواجره، والصدع بقول الحق، وأطر الظالمين على الحق أطرًا، قيامًا بحق النصح للَّه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، والوقوف في وجه أعداء اللَّه وأعداء دينه، وأمته بعزائم صارمة أداءً لحق تمكين اللَّه لهم في الأرض بما وضع في أيدي الحاكمين من قوة السلطان، ورهبة الكلمة، وصولة الراح للخارجين على الحق المنحرفين عن طريق الاستقامة، وبما وضع في قلوب العلماء من نور شريعته وهدايته، وبما أخذه عليهم من الميثاق ليقولون كلمة الحق ولا يكتمونه، وأن يكونوا في سلوكهم أسوة للناس يدعونهم بأعمالهم وأخلاقهم إلى آفاق العزّة والكرامة وإخلاص الدين للَّه)(2).
وفي مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تشريف للأُمَّة الإسلاميَّة، إذ (لم يقف التوجيه الإسلامي بالأُمَّة عند هذا، ولكنه ناط بها أمانة القيام بأعباء الحق الذي تدعو إليه، فأشركها في أقوى دعائم الدفع القيادي على أسس الإخاء والمحبة تعززًا باللَّه تعالى وعزته، وقوته وقهره باعتبارها النموذج الأفضل لقوة الرقابة على تنفيذ معاقد الحق تنفيذًا يستند إلى القيم الخلقيَّة، والفضائل الإنسانية)(3).
(1) انظر: ابن تيمية: الحسبة في الإسلام: ص 69 - 117، تحقيق: سيد محمد بن محمد بن أبي سعدة، الطبعة الأولى 1453 هـ - 1983 م عن الرئاسة العامَّة لإدارات البحوث العلمية - الرياض.
(2)
محمد الصادق عرجون: الأُمَّة الإسلاميَّة ص 42، 43، (مرجع سابق).
(3)
المرجع السابق نفسه: ص 46.
وقد اجتهد علماء الأُمَّة في تطبيق هذا المبدأ ليحقق المراد منه وفقًا لضوابط الشريعة في جلب المنافعٍ، ودفع المفاسد، وحققوا تميُّزًا فريدًا في مراعاة أحوال المكلفين ودقة في الموازنة بين المصالح والمفاسد، وتعاملوا مع الأحوال بما تقتضيه من حكمة ولطف ورحمة.
وعن هذا المعنى قال أحد الباحثين: (ومثال ذلك في تنزيل الحكم الشرعي في التكليف بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أن ينظر في الوضع المعين الذي يكون فيه المكلف المأمور بالقيام بهذا الواجب، فرُبَّما أسفر ذلك النظر على أن هذا المكلف يتصف في نفسه بالقدرة على هذا الواجب، والتحمل لتبعاته نفسيًّا وبدنيًّا، وأن المخاطبين بالأمر والنهي يحدثون في أنفسهم، وفي المجتمع الضرر البالغ بما يأتون من المنكر وما يصدون عن المعروف، وأنهم يغلب على الظن أنهم يستجيبون عندما يُدعون، ورُبَّما أسفر ذلك النظر على عكس ذلك كليًّا أو جزئيًّا؛ من اتصاف المكلف بالضعف الذي لا يتحمّل معه تبعات هذا الواجب، واتصاف المخاطبين بحسب ما يغلب على الظن بالعناد الذي لا تجدي معه دعوة، أو بالشراسة التي يقابلون فيها الدعوة بالاعتداء الغليظ، أو بالحمق الذي ينهيهم إلى ترك ما نهوا عنه لفعل ما هو أبلغ ضررًا، وأشد مفسدة، وبحسب ما يحصل في العقل من هذه المعطيات يترجح أن ينزَّل على المكلف الحكم بوجوب القيام بفعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو الحكم بإسقاط هذا الواجب عليه)(1).
وما ذكر هنا سبق أن تطرق إليه العلماء، وفصلوا القول فيه وفي
(1) عبد المجيد النجار: خلافة الانسان بين الوحي والعقل ص 118، (مرجع سابق). وانظر: الشاطبي: الموافقات 3/ 70 - 76 تحقيق: عبد اللَّه دراز ومحمد عبد اللَّه دراز، (مرجع سابق) حين فصَّل القول عن الاجتهاد في النظر في كل مكلف بالنسبة إلى ما وقع عليه من الدلائل التكليفيَّة، وتحقيق: مناط الاجتهاد في ذلك.
شروطه، وعلى سبيل المثال فإن ابن تيمية يقول:(ومن الصلاح أن يأتي بالأمر والنهي بالصراط المستقيم، وهو أقرب الطرق إلى حصول المقصود، ولابُدَّ في ذلك من الرفق. . . ولابُدَّ أيضًا من أن يكون حليمًا صبورًا على الأذى، فإنَّه لابُدَّ أن يحصل له أذى، فإن لم يحلم ويصبر كان ما يفسد أكثر مِمَّا يصلح)(1).
ثُمَّ يخلص إلى القول: (فلابد من هذه الثلاثة: العلم والرفق والصبر، والعلم قبل الأمر والنهي والرفق معه، والصبر بعده، وإن كان كل من الثلاثة مستصحبًا في هذه الأحوال)(2).
وفي موضع آخر قال: (ليكن أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر غير منكر، وإذا كان هو من أعظم الواجبات والمستحبات فالواجبات والمستحبات، لابد أن تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة، إذ بهذا بعثت الرسل، ونزلت الكتب، واللَّه لا يحب الفساد بل كل ما أمر اللَّه به فهو صلاح، وقد أثنى اللَّه على الصلاح والمصلحين، والذين آمنوا وعملوا الصالحات، وذم المفسدين في غير موضع، فحيث كانت مفسدة الأمر والنهي أعظم من مصلحته لم تكن مِمَّا أمر اللَّه به، وإن كان في ترك واجب وفعل محرم، إذ المؤمن عليه أن يتقي اللَّه في عباده، وليس عليه هداهم)(3).
بيد أنَّ شيخ الإسلام أشار إلى جانب له أهميته في التوسط في هذا المبدأ والتجرد في النظرة إلى إنفاذه تحقيقًا لأمر اللَّه، وطاعة له عز وجل، ولئلا يتخاذل المسلمون في القيام بهذا المقوم من مقومات استخلاف الأُمَّة الإسلاميَّة، قال: (وليعلم أن الأمر بهذه الخصال في الأمر بالمعروف
(1) الحسبة في الإسلام: ص 83، تحقيق: سيد بن محمد بن أبي سعدة (مرجع سابق).
(2)
المرجع السابق نفسه: ص 84.
(3)
المرجع السابق نفسه: ص 73، 74.
والنهي عن المنكر مِمَّا يوجب صعوبة على كثير من النفوس، فيظن أنه بذلك يسقط عنه فيدعه، وذلك مِمَّا يضره أكثر مِمَّا يضره الأمر بدون هذه الخصال أو أقل، فإنَّ ترك الأمر الواجب معصية، فالمنتقل من معصية إلى معصية أكبر منها "كالمستجير من الرمضاء بالنار"(1).
ومن الضوابط التي حدّدها العلماء -في ضوء قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد- أنَّهم جعلوا ما يتعلق بإزالة المنكر باليد: راجعًا إلى ولي أمر المسلمين، وليس إلى الرعيَّة، ونصوا على أن يتم التغيير باليد وليس بالسيف والسلاح، إلَّا ما كان من باب التعزير العائد لرأي السلطان، وذكروا -كذلك- أنَّ الأمر بالمعروف لا يليق بكل أحد، وإنَّما يقوم به السلطان. . . وينصب له من يرى فيه الصلاح والأمانة؛ وللعلماء في هذا نصوص كثيرة منها ما ذكره الإمام الجويني في قوله:(الشرع كله أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، والدعاء إلى ذلك يثبت لكافة المسلمين إذا أقدموا على بصيرة، وليس للرعية إلَّا الوعظ والترغيب)(2)، وقال البيهقي: (ينصب الإمام في كل بلدٍ رجلًا
(1) الحسبة في الإسلام: ص 84، 85، (المرجع السابق نفسه)، وانظر: فضل إلهي: شبهات حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ص 25 وما قبلها وبعده، حيث تعرض المؤلف لعدة شبهات مؤداها ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وردَّ عليها من وجوه كثيرة، ولكن يبقى الجانب الذي أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، مناطًا للاجتهاد في ضوء ما ذكره الإمام الشاطبي، وأشار إليها عبد المجيد النجار -فيما سبق ذكره-، وعن الحسبة وتطبيقاتها في العصر النبوي وعصر الخلفاء الراشدين؛ انظر: فضل إلهي: (الحسبة تعريفها، مشروعيتها، وحكمها) الطبعة الأولى 1410 هـ - 1990 م، عن مكتبة المعارف. الرياض.
وانظر: له -أيضًا-: الحسبة في العصر النبوي وعصر الخلفاء الراشدين؛ رضي الله عنه، الطبعة الأولى 1410 هـ - 1990 م، عن مكتبة المعارف - الرياض.
(2)
أبو بكر الخلَّال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، دراسة وتحقيق: عبد القادر أحمد عطا: ص 94، الطبعة الأولى: 1395 هـ - 1975 م، عن دار الاعتصام، جدة.
قويًّا، وأمينًا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويقيم الحدود) (1) وذكر نحو هذا القرطبي (2)، وأمَّا تغيير المنكر باليد وليس بالسيف والسلاح؛ فهو مرويٌّ عن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه.
ويستنتج من هذه النقول نتائج كثيرة من أهمها:
• أن تغيير المنكر باليد من حق الإمام وليس من حق الرعيَّة، وفي هذا ترسيخ الأمن واستتبابه، والقضاء على الفوضى، وما يؤدي إليها من الاجتهادات القاصرة ونحوها.
• أنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مشروط بالبصيرة، ولا تتأتى إلَّا بالعلم الشرعي والوعي الشامل لأوضاع المجتمع، مِمَّا يدل على أنه من مسؤولية العلماء، فلا يجوز لغيرهم القيام بذلك، ولضمان كفاءة من يقوم بهذه المهمة ينبغي أن تتم من خلال جهات رسميَّة بالكيفيَّة الملائمة للزمان والمكان في ضوء ما يراه ولاة أمر المسلمين، فيكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بتكليف من الإمام.
وخلاصة القول: إنَّ الأُمَّة الإسلاميَّة هي المعنيَّة بما ورد في الآيتين (محل الاستشهاد)، وهذا ما عليه أكثر المفسرين، وفي تفسير الآية الثانية وهي قوله تعالى:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} الآية.
قال ابن كثير: (هذا وعد من اللَّه تعالى لرسوله صلوات اللَّه وسلامه عليه بأنَّه سيجعل أمته خلفاء الأرض أي أئمة الناس والولاة عليهم، وبهم تصلح البلاد، وتخضع العباد، وليبدلنَّهم من بعد خوفهم أمنًا وحكمًا فيهم، وقد فعله تبارك وتعالى، وله الحمد والمنَّة فإنَّه صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى فتح اللَّه
(1) المرجع السابق نفسه: ص 94.
(2)
انظر: القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 2/ 31 (مرجع سابق). وانظر: البحث نفسه: ص 27 - 28.
عليه مكة، وخيبر، والبحرين، وسائر جزيرة العرب، وأرض اليمن بكاملها، وأخذ الجزية من مجوس هجر، ومن بعض أطراف الشام، وهاداه هرقل ملك الروم، وصاحب مصر وإسكندرية وهو المقوقس وملوك عمان، والنجاشي ملك الحبشة -الذي تملك بعد أصحمة- رحمه الله وأكرمه، ثُمَّ لمَّا مات رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، واختار اللَّه له ما عنده من الكرامة قام بالأمر بعد خليفته أبي بكر الصديق، فلَمَّ شعث ما وهى بعد موته صلى الله عليه وسلم، وأخذ جزيرة العرب ومهدها، وبعث جيوش الإسلام إلى بلاد فارس صحبة خالد بن الوليد رضي الله عنه ففتحوا طرفًا منها، وجيشًا آخر صحبة أبي عبيدة رضي الله عنه ومن تبعه من الأمراء إلى أرض الشام، وثالثًا صحبة عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى بلاد مصر؛ ففتح اللَّه للجيش الشامي أيامه بصرى ودمشق ومخاليفهما من بلاد حوران وما والاها، وتوفاه اللَّه عز وجل واختار له ما عنده من الكرامة، ومنَّ على أهل الإسلام بأن ألهم الصديق أن يستخلف عمر الفاروق؛ فقام بالأمر قيامًا تامًّا) (1).
ويستمر ابن كثير في ذكر الفتوحات الإسلاميَّة، وتمكين الأُمَّة الإسلاميَّة في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثُمَّ في عهد عثمان رضي الله عنه، وأن الدولة الإسلاميَّة بلغت في عهده أقصى بلاد الصين شرقًا، وأقصى بلاد المغرب والأندلس وقبرص، وأنَّه تحقق للأمَّة الإسلاميَّة ما وعدها به ربها عز وجل في الآية الكريمة، وما بشرها به الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال:"إنَّ اللَّه زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإنَّ أمتي سيبلغ ملكها ما زُويَ لي منها"(2)(3).
(1) تفسير القرآن العظيم 3/ 300، (مرجع سابق)، والدعاء بالرحمة يعود الضمير فيه إلى النجاشي، وليس إلى أصحمة.
(2)
سبق تخريجه: ص 688، (البحث نفسه).
(3)
انظر: تفسير القرآن العظيم 3/ 300 (المرجع السابق نفسه).
وتطرق في شرحه لما كانت على الخلافة الراشدة في عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين، وأورد أحاديث تتعلق بمستقبل الخلافة الإسلاميَّة من بعدهم (1)، وختم ذلك بقوله:(فالصحابة رضي الله عنهم أجمعين، لما كانوا أقوم الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم بأوامر اللَّه عز وجل وأطوعهم للَّه، كان نصرهم بحسبهم، أظهروا كلمة اللَّه في المشارق والمغارب، وأيَّدَهُم تأييدًا عظيمًا، وحكموا في سائر العباد والبلاد، ولمَّا قصر الناس بعدهم في بعض الأوامر نقص ظهورهم بحسبهم، ولكن قد ثبت في الصحيحين من غير وجه عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم إلى يوم القيامة" (2)، وفي رواية:"حتى يأتي أمر اللَّه وهم على ذلك"(3)، وفي رواية:"حتى يقاتلون الدجال"(4)، وفي رواية:"حتى ينزل عيسى ابن مريم وهم ظاهرون"(5)،
(1) انظر: المرجع السابق نفسه 3/ 301.
(2)
سبق تخريجه بلفظ مقارب، وله ألفاظ كثيرة عند البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه والإمام أحمد والطبراني والحاكم، وغيرهم، ولفظه عند مسلم:"لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر اللَّه وهم كذلك". صحيح مسلم 3/ 1523، كتاب الإمارة، باب:[53]، حديث رقم [1920]، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق)، وبلفظ آخر لدى مسلم أيضًا:"لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة"، صحيح مسلم 3/ 1524، كتاب الإمارة، باب [53]، حديث رقم [1923]، (المرجع السابق نفسه).
(3)
سبق تخريجه: مقدمة البحث نفسه: ص 21.
(4)
أخرجه الحاكم في مستدركه 4/ 450، (مرجع سابق) ووافقه الذهبي، ولفظه:"لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال".
(5)
أخرجه مسلم: صحيح مسلم 1/ 137، كتاب الإيمان، باب [71]، الحديث رقم [156]، ولفظه:"لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، قال: فينزل عيسى ابن مريم عليه السلام، فيقول أميرهم: تعال؛ صلِّ بنا، فيقول: لا. إنَّ بعضكم على بعض أمراءُ تكرمة اللَّه هذه الأمّة". (مرجع سابق). وانظر: أبا يعلى =
وكل هذه الروايات صحيحة، ولا تعارض بينها) (1).
على أنّ بعض الباحثين ركَّزَ مفهوم الخلافة والاستخلاف في جانبها السياسي، وأفضى به البحث إلى وجوب قيام الخلافة الإسلاميَّة، فهو يقول:(إنَّا نجد خلافة "الخلفاء" يتردد أمرها بين مدٍّ وجزر بحسب اقترابها أو ابتعادها من تعاليم الدين وقيمه، كما نلاحظ ذلك في تاريخ خلافة هذه الأُمَّة، وما انتهى إليه أمرها يوم أن تحطمت دولة الخلافة بعد أن فقدت مقوماتها الحقيقية، وانحرفت عن منهج اللَّه، فوقعت فريسة للقوى المتآمرة عليها المتربصة بها، وبذلك طويت صفحة من صفحات القوة في تاريخ هذه الأمَّة)(2).
ثُمَّ يخلص إلى القول: (إن عصر الدول المعتمدة على نفسها، المكتفية بقوتها ومواردها، والتي لا ترى حاجة للتعاون مع غيرها قد ولَّى. . . لقد أصبح العالم بفعل التطور العلمي السريع كأنَّه بلد واحد، لقد قضت الاتصالات السريعة، والوسائل العلميَّة الحديثة، والمكتشفات على ما كان من عزلة بين الدول، فطويت المسافات البعيدة، وتداخلت مصالح الأمم والشعوب، فنشأت التكتلات العقائدية والفكرية، والتحالفات السياسية، ولم يعد مكان للدول المنعزلة، والدويلات الصغيرة في عالم الكبار.
إنَّ هذا التطور جاء ليؤكد ما جاء به الإسلام قبل أربعة عشر قرنًا حين أقام دولته على أساس العقيدة، وجعل أمته تضم شعوبًا وقبائل متعددة،
= الموصلي: مسند أبي يعلى الموصلي 4/ 59، 60، الحديث رقم [2078]، ورقمه في مسند جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنه[313]، ولفظه:"لا تزال أمتي ظاهرين على الحق حتى ينزل عيسى ابن مريم، فيقول إمامهم: تقدَّم فيقول: أنتم أحق بعضكم أمراء بعض، أمر أكرم اللَّه به هذه الأمة"، تحقيق: حسين سليم أسد، الطبعة الثانية 1412 هـ - 1992 م، عن دار الثقافة العربيّة - بيروت.
(1)
تفسير القرآن العظيم 3/ 302، (المرجع السابق نفسه).
(2)
الخلافة في الأرض: ص 54، (مرجع سابق).
تجمعها الأخُوَّة الإسلاميَّة، فكانت الخلافة الإسلاميَّة خلال التاريخ المظلَّة التي استظل بها المسلمون، والقوة التي حمتهم من بطش الغزاة) (1).
وينهي بحثه قائلًا: (إنَّ ما نراه في واقعنا المعاصر يؤكد لنا أن للخلافة الإسلاميَّة مكانًا في عالمنا، فلابُدَّ لنا أن نسعى من جديد ليكون للمسلمين ما ينظم شملهم، ويحقق مصالحهم، ويحفظ وجودهم ولن نجد مثل الخلافة)(2).
أمَّا شيخ الإسلام ابن تيمية فإنَّه تناول مسألة الخلافة والملك بشيء من التفصيل، وقال في خلاصتها:(قولان متوسطان: أن يقال: الخلافة واجبة، وإنَّما يجوز الخروج عنها بقدر الحاجة، أو أن يقال: يجوز قبولها من الملك بما ييسر فعل المقصود بالولاية ولا يعسره؛ إذ ما يبعد المقصود بدونه لابُدَّ من إجازته)(3).
وذكر في ضمن تفصيلاته في هذا الجانب أنّ من أنظمة الملك ما يكون متقيدًا بما كان عليه الخلفاء الراشدين، وفي ذلك فسحة واسعة للأُمَّة الإسلاميَّة؛ لأنّ العبرة ليست في قوانين وأنظمة لا تتغير ولا تتبدل تحت مسمى (الخلافة) بل العبرة بالمنهج الذي يلتزم بالقرآن والسنّة وما كان عليه سلف الأُمَّة حتى ولو لم يُسَمَّ (خلافة)، وإنَّما سُمِّي مُلكًا لظرف أو آخر، ولعل هذا واضح في قول ابن تيمية:(وتحقيق الأمر: أن يقال: انتقال الأمر عن خلافة النبوة إلى الملك: إمَّا أن يكون لعجز العباد عن خلافة النبوة، أو اجتهاد سائغ، أو مع القدرة على ذلك قولًا وعملًا؛ فإن كان مع العجز علمًا أو عملًا كان ذو الملك معذورًا في ذلك)(4).
(1) المرجع السابق نفسه: ص 55، 56.
(2)
المرجع السابق نفسه: ص 56.
(3)
فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 35/ 24، (مرجع سابق).
(4)
فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: 35/ 25، (المرجع السابق نفسه).