الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
موقف المستشرقين من خصيصة إيجابيَّة الأُمَّة الإسلاميَّة
إذا كانت الأُمَّة الإسلاميَّة من خلال تميّزها قد شيدت صروح المجد والحضارة، وأسهمت في رقي البشرية، والنهوض بعزيمة الشعوب والأفراد، وبالعمل الصالح، والإصلاح الشامل، وما تنطوي عليه رسالة الإسلام من قيم إيجابيَّة خيِّرَة استظلت الإنسانية بها ردحًا من الزمن، وتدرجت بها في معارج العلم والمعرفة والنور، ودفعت بعجلة التنمية الشاملة أشواطًا كبرى لم يشهد التاريخ لها مثيلًا، رعاية لحقوق الإنسان، وحفاظًا على مكانته، وإسعادًا له أنَّى كان، فإنَّ معظم المستشرقين -من خلال دراساتهم وأبحاثهم التي يروج لها بأنَّها علمية وتوصف بالنزاهة والمنهجية- قد درجوا على القول بأن الأمَّة الإسلاميَّة أُمَّة خاملة تفرض عليها قيمها الدينية -من خلال ما زعموا من الجبر في عقيدتها- واقعًا متخلفًا تهبط معه الهمم، وتستسلم بسببه لأيِّ مصير، ولا تحسن إلَّا الجمود والكسل والخمول والتهالك على الملذات الجسديَّة والدنيويَّة التي يفترون على الإسلام بأنَّه دعا إليها.
(فهذا "رينان" المستشرق الفرنسي يصور عقيدة التوحيد في الإسلام بأنَّها عقيدة تؤدي إلى حيرة المسلم، كما تحط به كإنسان إلى أسفل الدرك، على حين أنَّ عقيدة التوحيد مزيَّة الإسلام، وآية على أنَّه الرسالة الكاملة الواضحة لخالق الكون في كونه، كما أنَّها الطريق السليم والوحيد إلى رفع شأن الإنسان وتكريمه؛ لأن صاحب هذه العقيدة لا يخضع في حياته لغير اللَّه، ولا يتوجه في طلب العون إلى غير اللَّه سبحانه وتعالى (1).
(1) محمد البهي: الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي: ص 53، (مرجع سابق).
يقول (رينان) عن عقيدة القدر والاختيار: (المسائل الأساسية في كل دين هي التي ترتبط بالقدر، والمغفرة، والحساب، وهي كلمات ثلاث مصبوغة بصبغة دينيَّة تلقي في النفس الاعتقاد بوعورة المسالك في تفهمها. . . وقد ظهرت على أطلال العالم القديم بعد خمسمئة عام من انقضائه ديانتان: إحداهما ربانية، والثانية بشرية، تمثلان ذينك المذهبين المتناقضين، ولكن بتلطيف في التناقض. . . أمَّا الأولى (الديانة الربانية) -ويقصد بها النصرانية- ومن خصائص هذه الديانة ترقية شأن الإنسان بتقريبه من الحضرة الإلهية، على حين أن الديانة الثانية البشرية: وهي الإسلام المشوبة بتأثير مذهب الساميَّة، تنحط بالإنسان إلى أسفل درك، وترفع الإله عنه في علاء لا نهاية له) (1).
ويقول عن العقل الباطن في ظل الإسلام، وعن عقلية الأُمَّة المسلمة:(إنَّ الدين الإسلامي أخر العقل البشري، وحجبه عن التأمل في حقائق الأشياء بنفوذ زاد مفعول تأثيره عن الأديان الأُخرى، حتى جعل بعض البلاد التي انتشر فيها كميدان لا يعبر البحث عن حقائق الأشياء الذي به يتسع العقل، وزد على ذلك أن عقول أهل هذه البلاد قاصرة من نفسها، وما يتميز به المسلم هو بغضه للعلوم،، واعتقاده أن البحث كفر وقلة عقل لا فائدة فيه)(2).
(1) نقلًا عن: محمد البهي: المرجع السابق نفسه: ص 53، 54، 55، وانظر: محمد كرد علي: الإسلام والحضارة العربيَّة: 1/ 16، 17، 21، (مرجع سابق)، وقد ذكر أن سبب تحامل (رينان) على الإسلام والمسلمين خصومة وقعت بينه وبين أهل جزيرة (أرواد) حين زارها فهجا أهل الجزيرة بأسرهم بل الشاميين بأجمعهم بل المسلمين عامَّة، انظر: المرجع نفسه: 1/ 15، 16.
(2)
نقلًا عن: عفاف صبرة: المستشرقون ومشكلات الحضارة: ص 158، (مرجع سابق)، وانظر: محمد كرد علي: الإسلام والحضارة العربيَّة: 1/ 17، (المرجع السابق نفسه).
وقبل هذا قال عن عقول المسلمين: (كل من ذهب معنا إلى المشرق أو إلى إفريقية رأى أنَّ عقولهم بلغت من الحمق غايته، حتى كأنَّ دينهم صار كنانًا على قلوبهم فحجبها عن أن تعي شيئًا من العلوم والأفكار الجديدة، فلا ترى إلَّا القليل من أولادهم من تشاهد فيه النباهة، لكن إذا بلغ العشر أو الاثنتي عشرة سنة وتعلم العقائد صار متعصبًا في الدين، وأخذ يختال حمقًا على غيره ظانًّا أنَّ هذا هو الحق فيعد نفسه سعيدًا بما اختصه مِمَّا هو في الحقيقة سببًا لانحطاطه)(1).
ولهذا المستشرق (رينان) أقوال كثيرة تحامل فيها على الإسلام وعلى الأمَّة الإسلاميَّة، وحاول أن يحجب بأقواله هذه إيجابيتها الخيِّرة التي شهد بها المنصفون من أبناء جنسه، وكتبوا فيها كتابات مشهورة، وقد يصعب الرد التفصيلي على ما ورد في أقواله من أفكار واتهامات التي إن صدقت على بعض البيئات الإسلاميَّة أو على بعض الفئات أو بعض المراحل التاريخيَّة في حياة الأُمَّة الإسلاميَّة فإنَّها لا تصدق على الإسلام بحال من حيث العقيدة والتشريع والأخلاق والنظام، وهي تتنافى مع تميز الأُمَّة الإسلاميَّة وما اختصَّ به من إيجابية خيِّرة أثبتها التاريخ، وسطَّرتها الأقلام المنصفة، وسيرد بعد قليل ما يوضح ذلك، ويُمكن أن يشار هنا بيانًا لموقف (رينان) وأمثاله إلى ما ذكره (غوستاف لبون) في مؤلفه (حضارة العرب) عن غالبيَّة المستشرقين حينما يكتبون عن الإسلام وتاريخ أُمَّته فكان مِمَّا قال: (نجد المقابلة مدهشة بين الإسلام وسائر المعتقدات التي تزعم مع هذا أنها أسمى منه. .، ورُبَّما تساءل القارئ: لماذا غمط اليوم حق
(1) نقلًا عن عفاف صبرة: المرجع السابق نفسه: ص 157، وانظر: عبد العظيم إبراهيم محمد المطعني: افتراءات المستشرقين على الإسلام (عرض. . . ونقد): ص 39 - 43 وص 95 - 98، الطبعة الأولى، 1413 هـ - 1992 م، مكتبة وهبة - مصر.
العرب وتأثيرهم، وأنكر حسناتهم علماء عرفوا باستقلال أفكارهم، وكانوا بحسب الظاهر بمعزل عن الأوهام الدينيَّة، وهذا السؤال قد سألته نفسي، وأرى أن الجواب عليه غير ما أنا كاتب ذلك أن استقلال آرائنا هو في الواقع صوري أكثر مِمَّا هو حقيقي؛ ونحن لسنا أحرارًا على ما نريد في خوض بعض الموضوعات، وهذا لأن فينا أحد رجلين: الرجل الحديث الذي صاغته دروس التهذيب، وعملت البيئة الأدبية والمعنويَّة في تنشئته، والرجل القديم المجبول على الزمن بخميرة الأجداد، وبروح لا يعرف قراره يتألف من ماضٍ طويل؛ وهذا الروح اللاشعوري هو وحده الذي ينطق في معظم الرجال، ويبدو في أنفسهم بمظاهر مختلفة، يؤيد فيهم المعتقدات التي اعتقدوها، ويملي عليهم آراءهم، وتظهر هذه الآراء بالغة حدًّا عظيمًا من الحريَّة في الظاهر فتحترم) (1).
ويواصل قوله: (لا جرم أن أشياع محمد كانوا خلال قرون طويلة من أخوف الأعداء الذين عرفتهم أوروبا، فكانوا بتهديدهم الغرب بسلاحهم في عهد شارل مارتيل، وفي الحروب الصليبية، وبعد استيلائهم على الآستانة، يذلوننا بمدنيتهم الساميَّة الساحقة، وإلى أمس الدابر لم ننج من تأثيراتهم، ولقد تراكمت الأوهام الموروثة المتسلطة علينا، والنقمة على الإسلام وأشياعه في عدة قرون، حتى أصبحت جزءًا من نظامنا، وكانت هذه الأوهام طبيعة متأصلة فيها، كالبغض الدوي المستتر أبدًا في أعماق قلوب النصارى لليهود، وإذا أضفنا إلى أوهامنا الموروثة في إنكار فضل المسلمين هذا الوهم الموروث أيضًا النامي في كل جيل، بفعل تربيتنا المدرسية الممقوتة، ودعوانا أن جميع العلوم والآداب الماضية أتتنا من
(1) حضارة العرب: D.Le Bon: La Divilisation dee Arabes نقلًا عن: محمد كرد علي: الإسلام والحضارة العربيَّة: 1/ 8،، (مرجع سابق).
اليونان واللاتين فقط، ندرك على أيسر سبيل أن تأثير العرب البليغ في تاريخ مدنية أوروبا قد عم تجاهله) (1).
ويؤكد (لوبون)(أنَّه كان للمدنية الإسلاميَّة تأثير عظيم في العالم، وتم لها هذا التأثير بفضل العرب، بل بصنع العناصر المختلفة التي دانت بالإسلام، وبنفوذهم الأدبي هذبوا الشعوب البربرية التي قضت على الإمبراطورية الرومانية، وبتأثيرهم العقلي فتحوا لأوروبا عالم المعارف العلميَّة والأدبيَّة والفلسفية، وهذا ما كانت تجهله، وعلى ذلك كان العرب ممدّنينا وأساتذتنا مدّة ستمئة سنة)(2).
وكان ثمة رد آخر خص به (غوستاف لوبون) المستشرقون (إرنست رينان) مفندًا زعمه أن الإسلام كان يقيم عائقًا حيال تقدم العلوم! ففي محاضرة ألقاها (رينان) في (السوربون) في 29 آذار (مارس) 1883 م، وضمنها فيما بعد كتابه:(الإسلام والعلم)، المطبوع في باريس سنة 1883 م، أراد إثبات مناقضة الإسلام للعلوم، ولكنه لم يستطع أن ينكر ما اتفق للعلوم من ازدهار في البلدان الإسلاميَّة في قرون كثيرة، وبما كان لمفكري الإسلام من نفوذ دائم مارسوه في أوروبا في القرون الوسطى، ولكنه عزا ذلك التقدم والنفوذ إلى تقصير البيزنطيين في حفظ التراث العلمي، وإهمالهم له بباعث من تدينهم القائم على الجهل، فحالوا بذلك دون نفوذ الحضارة القديمة التي كانوا مؤتمنين عليها فى الغرب مباشرة. ولو كانوا حفظةً على هذه الحضارة علمًا بها وفهمًا لها وحرصًا على الاستفادة منها؛ لما كان هنالك اضطرار إلى تلك (الدورة العربيَّة) التي
(1) المرجع السابق نفسه: 1/ 9.
(2)
المرجع السابق نفسه: 1/ 9.
وصل العلم اليوناني بها إلينا في القرن الثاني عشر مارًا من سورية وبغداد وقرطبة وطليطلة.
وكان مِمَّا رد به (غوستاف لوبون) على رينان قوله: (أراد مسيو رينان أن يثبت -في محاضرته- عجز العرب، ولكن ترهاته كانت تنقض بما يجيء في الصفحة التي تليها.
فبعد أن قال مثلًا: إن تقدم العلوم مدين للعرب وحدهم مدة ستمئة سنة؛ عاد فزعم أن الإسلام اضطهد العلم والفلسفة، وقضى على الروح في البلاد التي دانت له،. . .) (1).
ويرى بعض المستشرقين بأنَّ الأمَّة الإسلاميَّة بحكم سلبيتها ورجعيتها لا تصلح إلَّا أن تقاد، وقد كان الاستشراق وراء نشر هذا المبدأ الاستعماري، وفرض التبعيَّة للحضارة الغربية عليها يقول (جيب):(إنَّ العالم الإسلامي له حق الاختيار في تحديد طبيعته في الحياة، ولكن بعد أن يتابع الفكر الغربي، ويخضع لقوانينه الوضعية)(2).
(1) انظر: حيدر بامَّات، مجالي الإسلام، ترجمة: عادل زعيتر: ص 75 - 77، نشر دار إحياء الكتب العربيَّة، القاهرة 1956 م.
(2)
نقلًا عن عابد السفياني: أهميَّة أصول المعرفة في الإسلام، حاشية الصفحة [35] من مجلة (البيان) العدد [17] شعبان 1409 هـ.
وانظر: حلمي ساري: المعرفة الاستشراقية: ص 194 - 195، (مرجع سابق)، أورد فيها كثير من آراء المستشرقين التي تدور حول تبرير استعمار العالم الإسلامي حيث يدعو أحدهم بريطانيا إلى القيام بمهمتها الحضارية الضرورية الرامية إلى تثقيف ذلك العالم المتوحش.
انظر: ص 194، وفي ص 195، وصف الكاتب مبررات (كرومر) إزاء مطالب المصريين بالاستقلال (بأن الشرقيين لا يعرفون مصالحهم الحقيقية التي يعرفها الغربيون نيابة عنهم وبطريقة أفضل)، وعلى نحوٍ من هذا الادعاء مجَّد نفرٌ من المستشرقين الاستعمار، ورأى فيه هدفًا جليلًا شريفًا، إذ كان غرضه تنمية الإمكانات الاقتصادية، =