الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومِمَّا يزيد الناحية الاقتصادية وضوحًا في عبادة الصيام النظر إليها من وجوهٍ عدّة منها: اقتران الصيام بالحث على الصدقة وزيادة النفقة والترغيب في إفطار الصائم، ففي الحديث الشريف:(كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان. . . كان أجود من الريح المرسلة)(1)، وورد أنه صلى الله عليه وسلم قال:"من فطَّرَ صائمًا كان له مثل أجره غيرَ أنَّه لا ينقص من أجر الصائم شيئًا"(2)، ولا يخفى أثر هذه الأعمال في الاقتصاد بصفة أو أُخرى.
رابعًا: الحج:
والحُجُّ في اللغة: القصد (3).
= وقد تناول في دراسته عن الحقائق العلمية في الصيام- أبحاث تجريبيَّة ودراسات على الصيام في الصحة والمرض شملت معظم وظائف الأعضاء في جسم الذكر والأنثى، وأظهرت منافع الصوم بما يُعَدُّ -حقيقة- معجزةٌ علميَّة تؤكد قول الحق تبارك وتعالى:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53].
ومما ينبغي الإشارة إليه أن المؤلف ربط تلك المعطيات بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية وشروح العلماء وأقوال المفسرين؛ انظر: المرجع السابق نفسه: ص 141 - 206، ص 29 - 51.
(1)
أخرجه البخاري: صحيح البخاري 2/ 672، 673، كتاب (الصوم) باب [7] الحديث رقم [1803]، تحقيق: مصطفى ديب البغا، (مرجع سابق).
(2)
أخرجه الترمذي: الجامع الصحيح 3/ 171، كتاب الصوم، باب [82] الحديث رقم [807]، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي (مرجع سابق). وقال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح)، وأخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الصوم، باب [45] حديث رقم [1746] بتحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق).
(3)
انظر: الراغب الأصفهاني: مفردات ألفاظ القرآن، مادة (حجَّ)، (مرجع سابق). وانظر: أبو البقاء الكفوي: الكليات. . . مادة (حَجَّ)، (مرجع سابق). وانظر: ابن فارس: معجم مقاييس اللغة: مادة (حجَّ)، (مرجع سابق).
وفي الشرع: (اسم لأفعال مخصوصة)(1)، وعُرِّفَ -كذلك- بأنَّه:(قصد بيت اللَّه تعالى إقامةً للنسك)(2)، وهو أحد أركان الإسلام الخمسة، والركن الخامس منها.
(والأصل في وجوبه الكتاب والسنة والإجماع، أمَّا الكتاب فقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97]، وقال تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، وأمَّا السنة؛ فقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس" (3) وذكر فيها الحج. . . وأجمعت الأُمَّة على وجوب الحج على المستطيع في العمر مرةً واحدة) (4).
ويشتمل الحج على (مجموعة عظيمة من الأعمال البدنية، والروحية التي إذا أديت على وجهها الصحيح انتهت بالمسلم إلى الدخول في جنّة عرضها السموات والأرض أعدَّها اللَّه لعباده المتقين)(5).
كما تتمثل في الحج وشعائره جملة العبادات التي سبق بيان أنواعها؛ من عبادات اعتقادية وقلبيَّة ولفظية وبدنية وماليَّة فهو (تربية للجسم والروح معًا، وترويض لهما على طاعة اللَّه تعالى، وفي الحج إظهار العبودية. . . لأن الحاج حال إحرامه يظهر الشعث، ويتخلى عن أسباب التزين، والتمتع، وفي حال وقوفه بعرفة يبدو كعبد عصى مولاه فوقف بين يديه
(1) ابن قدامة: المغني 5/ 5، تحقيق: التركي والحلو. . .، (مرجع سابق).
(2)
الراغب الأصفهاني: مفردات ألفاظ القرآن: مادة (حجَّ)، (المرجع السابق نفسه).
(3)
سبق تخريجه: ص 883، (البحث نفسه).
(4)
ابن قدامة: المغني: 5/ 5، 6، (المرجع السابق نفسه).
(5)
محمد سالم محيسن: أركان الإسلام. . . ص 225، (مرجع سابق). وانظر: محمد حسن أبو يحيى: أهداف التشريع الإسلامي: ص 370 - 378، (مرجع سابق). وانظر: رفعت فوزي عبد المطلب: أركان الإسلام. . . ص 196، 197، (مرجع سابق).
متضرعًا حامدًا له مثنيًا عليه مستغرقًا مستقبلًا لعثراته، ولذا روي عن أم المؤمنين (عائشة) رضي الله عنها، أنَّها قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما من يوم أكثر من أن يعتق اللَّه فيه عبدًا من النَّار من يوم عرفة"(1)، وبالطواف حول البيت يكون الحاج بمنزلة عبد معتكف على باب مولاه، لائذ بحماه، وفي هذا ترويض للنفس، وتعويد لها على أنه ينبغي للإنسان ألا يلجأ إلَّا للَّه تعالى لا لأحد سواه مهما كان) (2).
وللحج منافع وآثار تخص الفرد وتعم الأُمَّة، ومن أبرزها الآتي:
أ- منافع وآثار ينتفع بها الفرد وتؤثر في حياته بعمق وإيجابيَّة فالحج بمثابة (شحنة روحيَّة كبيرة يتزود بها المسلم، فتملأ جوانحه خشية وتقى اللَّه، وعزمًا على طاعته، وندمًا على معصيته، وتغذي فيه عاطفة الحب للَّه ولرسول اللَّه، ولمن عزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه، وتوقظ فيه مشاعر الأُخوَّة لأبناء دينه في كل مكان، وتوقد في صدره شعلة الحماسة لدينه والغيرة على حرماته)(3).
ويؤثر الحج على أخلاق الفرد وسلوكه بعد أداء هذه الفريضة فينتقل من (حالة إلى حالة (ويظهر) بنعمة الأخلاق الفاضلة، الطاهرة الخالصة، من كل الشوائب؛ لأنّ الحاج إذا قصد الحج يتوب إلى اللَّه ويعزم على ألا
(1) أخرجه مسلم: صحيح مسلم 2/ 983، كتاب الحج، باب [79] الحديث رقم [1348]، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق).
(2)
محمد سالم محيسن: أركان الإسلام ص 226، (مرجع سابق).
(3)
يوسف القرضاوي: العبادة في الإسلام: ص 287، (مرجع سابق). وانظر: محمد حسن أبو يحيى: أهداف التشريع الإسلامي: ص 370، (مرجع سابق). وانظر: محمد بن أمين أبو بكر: العبادة وأثرها. . . ص 125، مجلة كلية الشريعة وأصول الدين بالجنوب (المرجع السابق نفسه)، ولم يشر لمرجعه فيما نقل عن القرضاوي قد تكرر منه ذلك في مواضع كثيرة من مقاله المشار إليه دون أن يعزو ما أخذه من القرضاوي إليه.
يعود إلى ارتكاب الذنوب، وفي هذا تكفير له عن ذنوبه إذا صدقت نيته في التوبة) (1)، روى أبو هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"من حجَّ للَّه فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أُمُّه"(2).
إضافة لما تترك رحلة الحج في أعماق المسلم من ذكريات لمناسكه وشعائره ودلالاته ومقاصده، وهي كما عبَّرَ عنها بعض الباحثين:(رحلة السلام إلى أرض السلام في زمن السلام)(3)، ويضيف إلى ذلك قوله:(إنَّ الأرض المقدسة وما لها من ذكريات، وشعائر الحج وما لها من أثر في النفس. . . كل هذا يترك أثره واضحًا في أعماق المسلم، فيعود من رحلته أصفى قلبًا، وأطهر مسلكًا، وأقوى عزيمة على الخير، وأصلب عودًا أمام مغريات الشر، وكلما كان حجه مبرورا خالصًا للَّه كان أثره في حياته المستقبلية يقينًا لا ريب فيه)(4).
ولعل مجيء فريضة الحج الركن الخامس من أركان الإسلام يعني -فيما يعنيه- بلوغ المسلم به قمَّة الاستقامة والتهذيب، وتمام العبوديَّة والتدريب كي يواجه المسلم متطلبات الدنيا والآخرة بهمَّة وعزم وإبداع مستكملًا مقومات ذلك من خلال برنامج محكم:{صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة: 138].
ب- أمَّا منافع الحج وآثاره على الأُمَّة فمنها: ذلك المظهر المعجز
(1) محمد سالم محيسن: أركان الإسلام. . . ص 228، (مرجع سابق).
(2)
أخرجه البخاري: صحيح البخاري 2/ 553، كتاب الحج، باب [4] الحديث رقم [1449]، تحقيق: مصطفى ديب البُغا (مرجع سابق).
(3)
يوسف القرضاوي: العبادة في الإسلام: ص 292، (مرجع سابق). وانظر: محمد بن أمين أبو بكر: العبادة وأثرها. . . ص 124، (المرجع السابق نفسه).
(4)
يوسف القرضاوي: المرجع السابق نفسه: ص 287، وانظر: محمد أمين أبو بكر: العبادة وأثرها. . . ص 124 (المرجع السابق نفسه).
لوحدة الأمَّة وعظمتها وقيمها ومثلها العليا، ويتجلَّى ذلك (عندما يقف الحجاج على صعيد واحد لابسين نوعًا واحدًا من الملابس متوجهين إلى مكان واحد، خاضعين لنظام واحد، خاشعين لرب واحد، طالبين هدفًا واحدًا، ففي هذه الحالة يشعرون بأن كلهم سواسية كأسنان المشط، لا فضل لأحد على أحد إلّا بالتقوى وتحقيق مصالح البشرية)(1).
ويأتي الحج من حيث اجتماع الأمَّة فيه ممثلًا لاجتماعها الأكبر في كل عام حيث (يتدرج الاجتماع بين المسلمين من اجتماع الحيِّ (الواحد) لأداء الصلوات الخمس، إلى اجتماع البلدة في الجمعة وعيد الفطر، ثُمَّ يكون الاجتماع الأكبر في عرفة حيث يجتمع الحجيج من شتّى بقاع الأرض مُلبِّين نداء أبيهم إبراهيم الخليل عليه السلام (2).
وهذا الاجتماع يحقق للأُمَّة منافع شاملة، قال تعالى:{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28]، (فجمع بين الدين والدنيا في ركن عظيم من أركان الإسلام، وهو فرصة لاجتماع المسلمين وولاة الأمر من الحكام في مؤتمر موسع يتشاورون فيه، ويتبادلون الرأي حول قضاياهم العامَّة والخاصَّة)(3)، ومهما كان ضعف الأُمَّة الإسلاميَّة وجور الأمم الأُخرى عليها فإنَّ الحجَّ يبرهن على قوة الأُمَّة في مواجهة كل
(1) مصطفى إبراهيم الزلمي: فلسفة الشريعة: ص 31، (مرجع سابق). وانظر: محمد عوض الهزايمة: التيسير في فقه العبادات: ص 137، 138، الطبعة الأولى 1410 هـ - 1990 م، عن دار عمان - الأردن، وانظر: محمد حسن أبو يحيى: أهداف التشريع الإسلامي: ص 373، 374، (مرجع سابق).
(2)
عبد الرحمن بن عبد الكريم العُبيِّد: أصول المنهج الإسلامي: ص 65، (مرجع سابق).
(3)
عبد الرحمن بن عبد الكريم العُبيِّد: المرجع السابق نفسه: ص 65.
التحديات بما يعنيه من خضوع وذلَّة للَّه، وأنَّ الأُمَّة منساقة إلى العبوديَّة للَّه بدواعي الفطرة ومقتضيات السنن الإلهية في النفوس البشريَّة (1).
ويأتي تبعًا لهذه العبودية التي هي المقصد الأول للحج ما تظهر به الأُمَّة في خلال الحج وشعائره من كونها (قوة سياسيَّة ضخمة)(2)، ويتمثل ذلك كما عبَّرَ عن الحج أحد الباحثين قائلًا:(بوصفه مؤتمرًا سياسيًّا دوريًّا يجتمع فيه كل قادة الدول الإسلاميَّة، ورجال الرأي وعلماؤها في كافة أنواع المعرفة، كتابها، وملوك الصناعة فيها، وتجارها وشبابها وشيوخها، ليضعوا خطوطًا عريضة لسياسة بلادهم وتعاونها معًا عامًا بعد عام)(3).
فهو: (مؤتمر عالمي في عالم الإسلام لتوحيد أهداف المسلمين، وتوجيههم إلى مصادر الحياة الصحيحة بما يقتبسه بعضهم من بعض الثقافات، ويمد قسم منهم قسمًا آخر بالفكر الثاقب، لبلوغ السيادة في كل مجالات الحياة كي لا يركن كلٌّ نحو السراب، ولا يخضع لنزوات وشهوات نفر تنقصهم تجربة الحياة، ويفوتهم الحرص على مستقبل الأُمَّة)(4).
وممَّا ينبغي الإشارة إليه في هذا السياق أنَّ بعض التفسيرات للحج تأتي من خارج واقع العبادة، فتحمل معها بعض المحظورات، كالتعبير عن الحج بأنَّه برلمان إسلامي، أو مؤتمر، كالمؤتمرات المعهودة في التصورات السياسيَّة الحديثة، أو انتهاز فرصة لرفع شعارات ذات بريق خادع أو مذاهب ضالَّة أو عقائد منحرفة تمزق وحدة الأُمَّة، وتؤثر على
(1) انظر: مصطفى إبراهيم الزلمي: فلسفة الشريعة: ص 30، 31، (مرجع سابق).
(2)
مصطفى إبراهيم الزلمي: فلسفة الشريعة: ص 30، (المرجع السابق نفسه).
(3)
المرجع السابق نفسه: ص 30. وانظر: يوسف القرضاوي: العبادة في الإسلام: ص 292 - 295، (مرجع سابق). وانظر: محمد حسن أبو يحيى: أهداف التشريع الإسلامي: ص 376 - 378، (مرجع سابق).
(4)
مصطفى إبراهيم الزلمي: المرجع السابق نفسه: ص 30.
سلامة عباداتها وشعائرها، وتحدث من البلبلة والتشويش ما يتعارض مع غايات الحج ومقاصده التي أمر اللَّه بتعظيمها، وجعل ذلك من تقوى القلوب {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30]، {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].
أن الحج -شأنه شأن العبادات الإسلاميَّة- محدد الغاية محدد الوسيلة، ولا يصح بحال: أن تدخل في العبادات الإسلاميَّة أي بدعة؛ لأنَّ ذلك يخرج بها من منهجها الربَّاني التوقيفي، أمَّا ما يظهر من مقاصد سياسيَّة لهذه العبادة العظيمة فإنَّ ذلك يأتي ضمنًا لما تميَّزت به العبادات الإسلاميَّة من شمول لأمور الدنيا والآخرة، بيد أنّ الحج بخاصَّة ينبغي أن يتم تطبيقه وفقًا لقوله تعالى:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197].
جاء في تفسيرها لدى بعض المفسرين: (والجدال. . . هو: المماراة والمنازعة، والمخاصمة، لكونها تثير الشر وتوقع العداوة، والمقصود من الحج: الذل والانكسار للَّه، والتقرب إليه بما أمكن من القربات، والتنزه عن مقارفة السيئات، فإنَّه بذلك يكون مبرورًا، والمبرور ليس له جزاءٌ إلَّا الجنَّة، وهذه الأشياء وإن كانت ممنوعة في كل مكان وزمان، فإنَّه يتغلظ المنع عنها في الحج)(1).
ج- والحج منافع يفيد منها الأفراد وتفيد منها المجتمعات الإسلاميَّة قاطبة، ويتمثل ذلك في تبادل (المنافع الماديَّة بين المسلمين جميعًا على مختلف أجناسهم وألوانهم، فالمنافع الماديَّة ليست كل مقاصد الحج بل بعض مقاصده، وهي لا تخص أهل الحجاز بل تعم جميع المسلمين. . . . روى
(1) السعدي: تيسير الكريم الرحمن 1/ 244، (مرجع سابق).
البخاري عن ابن عباس قال: "كانت عكاظ ومجنَّة وذو المجاز أسواقًا في الجاهليَّة، فتأثموا أن يتَّجرُوا في المواسم، فنزلت: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198]، في مواسم الحج"(1)، وممَّا قبل في معنى قوله تعالى:{مِنْ رَبِّكُمْ} يشعر بأن ابتغاء الرزق مع ملاحظة أنه فضل من اللَّه تعالى نوع من أنواع العبادة) (2).
وتحسن الإشارة في ختام هذا إلى أن العبادة في الإسلام توقيفيَّة -كما سبق بيان ذلك-، وحق التشريع فيها مقصور على اللَّه وحده؛ (لأنَّه المتعبَّدُ، الذي خلق العباد لعبادته، وهو أعلم بما يتعبدهم به، وأخبر بما يصلح لهم من عبادات، وما يرضيه من أعمال. . . {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]، ولو ترك الناس وشأنهم في اختيار أنواع العبادات، لخبطوا فيها خبط عشواء، وهذا مظهر من مظاهر نعمة اللَّه في إكمال دينه، وإتمام نعمته، وحكمة إرسال رسله، وإنزال كتبه. . . وهذه الخصيصة التوقيفيَّة، متفق عليها بين العلماء جميعًا. . . وذلك عائد إلى توافر الأدلة عليها، وتضافرها على الأمر بالاتباع وذم الابتداع، من ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ" (3)، وقوله صلى الله عليه وسلم:"من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ"(4). . . . وقوله صلى الله عليه وسلم في شأن
(1) صحيح البخاري: 4/ 1643، كتاب التفسير، باب [36]، الحديث رقم [4247]، تحقيق: مصطفى ديب البغا (مرجع سابق).
(2)
محمد حسن أبو يحيى: أهداف التشريع الإسلامي: ص 375، (مرجع سابق)، وانظر: يوسف القرضاوي: العبادة في الإسلام: ص 288، 289، (مرجع سابق).
(3)
أخرجه البخاري: صحيح البخاري 2/ 959، كتاب الصلح، باب [5]، الحديث رقم [2550]، تحقيق: مصطفى ديب البغا (مرجع سابق)، وأخرجه مسلم، كتاب الأقضية، رقم الحديث:[1718]، (مرجع سابق).
(4)
أخرجه مسلم: صحيح مسلم 3/ 1344، كتاب الأقضية، باب [8]، الحديث رقم [1718]، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق).
الصلاة: "صلوا كما رأيتموني أصلي"(1)، وقوله -أيضًا- في شأن الحج:"لتأخذوا مناسككم"(2).
ومن هنا قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: (وجماع الدين أصلان:
أحدهما: ألا يعبد إلَّا اللَّه.
والثاني: أن يعبد بما أمر وشرع، لا بغير ذلك من البدع) (3).
فتبين من ذلك أنَّ منهج العبادة في الإسلام محدد في منطلقه وغايته ووسيلته وأسلوبه، وأنَّ من أهداف تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة تحقيق العبوديَّة للَّه خالصة من شوائب الشرك والرياء والنفاق.
يقول أحد المفكرين: (من مزايا العبادة في الإسلام أنَّها خالصة للَّه وحده، وقد أكَّدَ القرآن على حصر العبادة في اللَّه وحده فقال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23]، وقال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36]، وقال: {يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55]، {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]، فكل أنواع العبادة من ذكر ودعاءٍ وصلاة وذَبيحة، إنَّما تكون للَّه، ولا تجوز لغيره، فلا يصلي إلَّا له، ولا يدعو إلَّا اللَّه، ولا يذبح إلَّا باسم اللَّه، وكل ما فيه معنى العبادة والتقديس المطلق فلا يكون إلَّا للَّه)(4).
ويستمر في بيان الألفاظ التي خصها اللَّه بذاته ولم يجعلها لغيره، وما استعمله في حق رسوله صلى الله عليه وسلم إلى أن يقول: (ومن أجل المحافظة على هذا الأساس منع الإسلام كل ما يؤدي إلى عبادة البشر، أو يفسح المجال
(1) سبق تخريجه: ص 868، (البحث نفسه).
(2)
سبق تخريجه: ص 196، (البحث نفسه).
(3)
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: 10/ 172، 173 (مرجع سابق).
(4)
محمد المبارك: نظام الإسلام (العقيدة والعبادة): ص 183، (مرجع سابق).
لالتباس عبادة اللَّه بعبادة البشر؛ كتحريم الركوع والسجود لغير اللَّه، وتحريم الذبيحة التي ذكر عليها اسم غير اللَّه، أو جعلت لغير اللَّه، وتحريم الذبيحة التي ذكر عليها اسم غير اللَّه، أو جعلت لغير اللَّه، وكتحريم إشادة المساجد على قبور الأنبياء والصالحين، وتحريم تشييد القبور ورفعها، وكتحريم التماثيل والصور للأنبياء والصالحين والعظماء، وتحريم الحلف بغير اللَّه، والنذر لغير اللَّه) (1).
كما أن العبادة في الإسلام تتسم باليسر والسهولة، والموازنة بين مطالب الروح والجسد، والدنيا والآخرة، وحررها الإسلام (من قيود الوساطة والمكان وكل مظاهر العبوديَّة (للكهنوت)، فالأرض كلها محراب كبير للمسلم، فحيثما توجه يستطيع أن يتجه بعبادته إلى اللَّه، وقد كانت هذه الخصيصة للعبادة الإسلاميَّة موضع الإعجاب العظيم، والتأثير البالغ من كثيرين من غير المسلمين، حتى من رجال الأديان (الأخرى) أنفسهم، وقد حرر الإسلام العبادة من القيود المكانية المتزمتة، ولم يشترط المكان الخالص في عبادة من عباداته إلَّا في الحج؛ لما فيه من فوائد تفوق فائدة التحرر من المكان، من التجمع العالمي للمسلمين حول أول بيت وضع للناس، وفي أرض الذكريات الإبراهيمية، والذكريات المحمديَّة، ومع اشتراط المكان لعبادة الحج، فليس فيه أي شائبة لتأثير (الكهنوت)، وليس فيه أيُّ ثغرة لتدخل الوسطاء والكهان بين المسلمين وبين اللَّه، شأنه في ذلك شأنه في سائر عبادات الإسلام) (2).
(1) نظام الإسلام (العقيدة والعبادة): ص 184، (المرجع السابق نفسه).
(2)
يوسف القرضاوي: العبادة في الإسلام: ص 151، (مرجع سابق). وانظر: عباس محمود العقاد: حقائق الإسلام وأباطيل خصومه: ص 98 - 102، طبعة 1989 م، عن نهضة مصر للطباعة والنشر، القاهرة، وانظر: القرطبي: الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام، وإظهار محاسن دين الإسلام، وإثبات نبوة نبينا محمد عليه السلام: ص =
وسلمت العبادات في الإسلام -لما فيها من الموازنة بين مطالب الدنيا والآخرة، والروح والجسد- مِمَّا آلت إليه العبادات لدى الأمم الأخرى من الغلو في أمور الدنيا لدى اليهود، وبلغ الأمر بالنصارى أن فرضوا على أنفسهم الرهبانيَّة، وتركوا أمور الدنيا، وبالغوا في ذلك إلى أن أفسدوا دينهم. . .؛ فأمَّا اليهود فقد جنحوا إلى الماديَّة، (ولا نكاد نجد (في اليهودية) للروحانية أثرًا، ولا نكاد نرى للآخرة مكانًا، حتى الوعد والوعيد في التوراة للمطيعين والعصاة، إنَّما يتعلقان بأمور دنيويَّة، وتكاد تستأثر بها النزعة الماديَّة الخالصة، فالخِصب والصحة والثراء وطور العمر، والنصر على الأعداء ونحوها من المكاسب الدنيويَّة الحسيَّة العاجلة، هي المثوبات التي تبشر بها التوراة، وأضداد هذه الأمور من الجدب والمرض والموت والوباء والفقر والهزيمة ونحوها للذين يعرضون عن الشريعة) (1).
وأمَّا الرهبانيَّة فعلى الرغم من كونها بدأت بصفتها ردَّا على تلك النزعة الماديَّة التي اتسمت بها اليهوديَّة بعد تحريفها، وانتهجتها الرومانيَّة في حكمها وتشريعها وحضارتها، فإنَّها (تطورت فيما بعد مع الزمن، وأصبحت خاضعة إلى أنظمة متبعة وأسس معتمدة يخضع لها الراغب فيها،
= 115 - 126، 396 - 437، تحقيق: أحمد حجازي السَّقَّا، عن دار التراث العربي، القاهرة، 1980 م، وانظر: عبد العال سالم مكرم: أثر العقيدة في بناء الفرد والمجتمع: ص 59 - 67، (مرجع سابق).
(1)
يوسف القرضاوي: العبادة في الإسلام: ص 175، (مرجع سابق). وانظر: المرجع نفسه: ص 176 - 200، وانظر: أبا الحسن الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين: ص 156 - 195، (مرجع سابق). تحدث في الفصل الأول من الباب الرابع عن (أوروبا الماديَّة، وكيف نشأت الرهبانية ردًا عليها ثُمَّ كيف أخفقت في مواجهة تلك الماديَّة وما ترتب على الرهبانيَّة من مفاسد في جميع مجالات الحضارة الغربية).
وأصبح الرهبان يعيشون في شبه قلاع وحصون عيشًا جماعيًّا فقد الكثير من المعاني والأهداف التي وجدت الرهبانيَّة من أجلها) (1).
يقول أبو الحسن العامري: (إنَّ أحق الأديان بطول البقاء، ما وجدت أحواله متوسطة بين الشدَّة واللين، ليجد كلٌّ من ذوي الطبائع المختلفة ما يصلح به حاله في معاده ومعاشه، ويستجمع له منه خير دنياه وآخرته، وكلُّ دينٍ لم يوجد على هذه الصِّفَة، بل أسس على مثال يعود بهلاك الحرث والنسل، فمن المحال أن يسمَّى هيِّنًا فاضلًا، وذلك مثل ما تمسك به رهابين النصارى من هجران المناكح، والانفراد في الصوامع، وترك طيبات الرزق)(2).
أمَّا شيخ الإسلام ابن تيميَّة فإنَّه تحدث عن توسط المسلمين بين تقصير اليهود، وغلو النصارى في مجال العقيدة والعبادة وسائر الشعائر الدينيَّة، وربط ذلك بانحرافهم عن التميُّز الذي هو صراط اللَّه المستقيم، وهو الدين الذي شرعه اللَّه، والذي من أبرز أهدافه تحقيق العبوديَّة للَّه؛ قال رحمه الله:
(1) حسن خالد: موقف الإسلام من الوثنيَّة واليهوديَّة والنصرانية: ص 613، (مرجع سابق)، ولنبذة تاريخية عن الرهبانيَّة ومفهومها وتطبيقاتها المختلفة عند النصارى؛ انظر: المرجع نفسه: ص 612 - 614، وانظر: أبا الحسن الندوي: ماذا خسر العالم. . . ص 167، 168، 169، 170، 171، 172، 178، (مرجع سابق).
(2)
كتاب الإعلام بمناقب الإسلام: ص 137، (مرجع سابق). وقد عقد فصلًا بعنوان (القول في فضيلة الإسلام بحسب الأركان العبادية)، قارن بين العبادة في الإسلام والعبادة عند اليهود والنصارى، والمانوية، ونسَّاك الهند، وبين مزايا العبادة في الإسلام ومناقبها وعظمة شعائرها، وما اتسمت به من اليسر والوضوح والتوازن، وأنها عبادات تشمل النفس والبدن والمال، وقال في نهاية الفصل المذكور:(وإذ قد أتينا على المقابلة بين الإسلام وسائر الأديان في الأركان الاعتقادية، والأركان العباديَّة، وأوضحنا السبل في كيفية المقابلة بينه وبينها، ثُمَّ كان الطريق فيها رأي في دين الإسلام) أسهل، والمأخذ في أبوابها أقرب).
(أمَّا تعظيم المسيح وأمه فهو حق، وكذلك مدح من كان على دينه الذي لم يبدل قبل أن يبعث صلى الله عليه وسلم أو بقي على ذلك إلى أن بعث محمد صلى الله عليه وسلم، فآمن به، فإنَّ هؤلاء مؤمنون مسلمون مهتدون، كذلك من كان على دين موسى الذي لم يبدل إلى أن بعث المسيح فآمن به، فهؤلاء مؤمنون مسلمون مهتدون، وقد قدمنا أن المسلمين هم عدل متوسطون لا ينحرفون إلى غلو، ولا إلى تقصير، وأمَّا اليهود والنصارى: فهم على طرفي نقيض، هؤلاء ينحرفون إلى جهة، وهؤلاء إلى الجهة التي تقابلها -كما ذكرنا تقابلهم في النسخ-، وكذلك تقابلهم في التحريم والتحليل، والطهارة والنجاسة، فإنَّ اليهود حرمت عليهم الطيبات، وهم يبالغون في اجتناب النجاسات، وأمَّا النصارى: في مقابلتهم تجد عامتهم لا يرون شيئًا حرامًا، ولا نجسًا إلَّا ما كرهه الإنسان بطبعه، ويصلون مع الجنابة والحدث، وحمل النجاسات، ويأكلون الخبائث، والمسلمون وسط، أي: عدلًا خيارًا)(1).
* * *
(1) الجواب الصحيح 2/ 135 - 136، (مرجع سابق)، وانظر: المرجع نفسه 2/ 135 - 154.