المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ب- مصدر القرآن الحريم ونصه: - دراسات في تميز الأمة الإسلامية وموقف المستشرقين منه - جـ ٢

[إسحاق السعدي]

فهرس الكتاب

- ‌الربانية وموقف المستشرقين منها

- ‌تمهيد

- ‌مفهوم الربانيَّة

- ‌أ- معنى الربانية لغة:

- ‌ب- معنى الرَّبَّانيَّة اصطلاحًا:

- ‌القرآن الكريم المصدر الأساس لربانية تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة

- ‌أ- تعريف القرآن الكريم وأشهر أسمائه:

- ‌ب- مصدر القرآن الحريم ونصه:

- ‌السنة الشريفة ومنزلتها من القرآن الكريم

- ‌أولًا: تعريف السنة:

- ‌ثانيًا: منزلة السُّنَّة من القرآن الكريم:

- ‌موقف المستشرقين من خصيصة الربَّانيَّة

- ‌أولًا: أقوالهم في القرآن الكريم:

- ‌ثانيًا: أقوالهم في السنة النبوية والسيرة النبوية:

- ‌العالمية وموقف المستشرقين منها

- ‌تمهيد

- ‌مفهوم العالمية

- ‌أ- تعريف العالميَّة لغة:

- ‌ب- تعريف العالميَّة في الاصطلاح:

- ‌دلائل عالمية الإسلام من الكتاب والسنة، ووقائع السيرة النبوية، وأحداث التاريخ الإسلامي

- ‌أولًا: القرآن الكريم:

- ‌ثانيًا: وأمَّا في السنة النبوية:

- ‌دلائل عالمية الأُمَّة الإسلاميَّة، من العقيدة والنظم

- ‌موقف المستشرقين من خصيصة العالَمِيَّة

- ‌أولًا: موقف المنكرين لخصيصة العالَمِيَّة وأدلة إنكارهم مع الرد عليها:

- ‌ثانيًا: موقف من نفى خصيصة العالمية من حيد حونها من المبادئ التي تميزت بها الأُمَّة الإسلاميَّة على الرغم من الإقرار بها تاريخيًّا بسبب ما أفضى إليها تطور الأمَّة، وتدل على هذا الموقف آراء بعض المستشرقين، كما يتضح مِمَّا يأتي:

- ‌ثالثًا: موقف المتشككين في عالمية الإسلام:

- ‌الوسطية وموقف المستشرقين منها

- ‌تمهيد

- ‌مفهوم الوسطية

- ‌أ- الوسطيَّة في اللغة:

- ‌ب- أمَّا عن معانيها

- ‌وسطية الأُمَّة في مجال العقيدة والعبادة

- ‌أولًا: في الجانب العقدي:

- ‌ثانيًا: في جانب العبادة:

- ‌وسطية الأُمَّة في مجال التشريع والأخلاق

- ‌أولًا: في مجال التشريع:

- ‌ثانيًا: في مجال الأخلاق:

- ‌موقف المستشرقين من خصيصة الوسطية

- ‌وفيما يأتي بعض النماذج على ذلك:

- ‌ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره بعض المستشرقين عن هذه الوسطية:

- ‌الإيجابية الخيرة وموقف المستشرقين منها

- ‌تمهيد

- ‌مفهوم الإيجابية الخيرة

- ‌أ- المسارعة:

- ‌ب- السبق:

- ‌جوانب مفهوم إيجابية الأمة الإسلامية

- ‌موقف المستشرقين من خصيصة إيجابيَّة الأُمَّة الإسلاميَّة

- ‌النموذج الأول:

- ‌النموذج الثاني:

- ‌تحقيق العبودية للَّه وموقف المستشرقين منها

- ‌تمهيد

- ‌مفهوم العبادة، ومقتضياتها

- ‌أ- العبادة في اللغة:

- ‌ب- العبادة في الاصطلاح:

- ‌ج- مقتضيات العبادة في الإسلام:

- ‌أنواع العبادة وصورها

- ‌ومن العبادات الاعتقاديَّة:

- ‌ومن العبادات القلبيَّة:

- ‌ومن العبادات اللفظيَّة:

- ‌ومن العبادات البدنيَّة:

- ‌أمَّا العبادات الماليَّة:

- ‌روح العبادة وأسرارها

- ‌آثار العبادة في الفرد وفي الأُمّة

- ‌أولًا: الصلاة:

- ‌ثانيًا: الزكاة:

- ‌ثالثًا: الصوم:

- ‌رابعًا: الحج:

- ‌موقف المستشرقين من قضية العبودية للَّه

- ‌ويعالج هذا في نقطتين بارزتين:

- ‌فمن أقوال المستشرقين وآرائهم:

- ‌أمَّا الرد على أقوالهم وآرائهم فستتركز في النقاط الآتية:

- ‌ولعل مِمَّا يدلُّ على صحة هذا الفهم والتفسير ما يأتي:

- ‌تحقيق الاستخلاف وموقف المستشرقين منها

- ‌تمهيد

- ‌مفهوم الاستخلاف وأهميته

- ‌أ- معنى الاستخلاف في اللغة:

- ‌ب- مفهوم الاستخلاف عند بعض المفسرين والعلماء والباحثين:

- ‌ج- تعريف الاستخلاف في الاصطلاح:

- ‌د- أهمية الاستخلاف:

- ‌مقومات الاستخلاف بعامّة

- ‌أولًا: العلم:

- ‌ثانيًا: التسخير:

- ‌مقومات استخلاف الأمَّة الإسلامية بخاصة

- ‌أولًا: العلم:

- ‌ثانيًا: التسخير:

- ‌موقف المستشرقين من قضية استخلاف الأُمَّة الإسلاميَّة

- ‌وسيلة اللغة العربية وموقف المستشرقين منها

- ‌مكانة اللغة العربيَّة وارتباطها بالإسلام

- ‌موقف المستشرقين من اللغة العربيَّة

- ‌الرد على الشبهة الأولى:

- ‌الرد على الشبهة الثانية:

- ‌الرد على الشبهة الثالثة:

- ‌الرد على الشبهة الرابعة:

- ‌وسيلة تاريخ الإسلام وحضارته وموقف المستشرقين منه

- ‌تمهيد

- ‌الالتزام بالإسلام والاعتزاز به

- ‌أ- أمَّا في المفاهيم

- ‌ب- الالتزام بالإسلام والاعتزاز به في المناهج

- ‌1 - السببيَّة:

- ‌2 - القانونية التاريخيَّة:

- ‌3 - منهج البحث الحسي (التجريبي):

- ‌جـ- الالتزام بالإسلام والاعتزاز به من خلال المواقف

- ‌الوعي الثقافي الشامل

- ‌الناحية الأولى:

- ‌الناحية الثانية:

- ‌التعاون والتكامل

- ‌الدعوة والجهاد

- ‌1 - الجهاد التربوي:

- ‌2 - الجهاد التنظيمي:

- ‌3 الجهاد العسكري:

- ‌موقف المستشرقين من تاريخ الإسلام وحضارته

- ‌أولًا: نقد بعض المستشرقين للمنهج الاستشراقي:

- ‌ثانيًا: نقد بعض المفكرين والباحثين من العرب والمسلمين للمنهج الاستشراقي:

- ‌ثالثًا: نماذج لأهم القضايا التي تطرقت إليها دراسات المستشرقين لتاريخ الإسلام وحضارته:

- ‌1 - الدعوة والجهاد

- ‌2 - العادات والتقاليد:

- ‌3 - الجانب السياسي والحضاري من تاريخ الأُمَّة الإسلاميَّة:

- ‌رابعًا: استخلاص موازين البحث عند المستشرقين:

- ‌مبحث ختامي

- ‌تقويم الحركة الاستشراقية ومنهج الإسلام في مواجهتها

- ‌أساليب مواجهة تحدي الاستشراق والمستشرقين ووسائلها

- ‌الخاتمة

- ‌1 - في ضوء الدراسة التأصيلية لتميز الأُمَّة الإسلاميَّة، تبين الآتي:

- ‌أ- عقيدة التوحيد

- ‌ب- الشريعة الإسلاميَّة الغراء

- ‌ج- الأخُوَّة الإسلاميَّة ووحدة الأمَّة

- ‌د- الخصائص التي تفرد بها تَمَيُّز الأمَّة الإسلاميَّة؛ وأهمها:

- ‌هـ - أهداف تَمَيُّز الأمَّة الإسلاميَّة

- ‌و- وسائل تَمَيُّز الأُمَّة الإسلاميَّة

- ‌2 - وفي ضوء الدراسة النقديَّة لموقف المستشرقين من تَمَيُّز الأُمَّة الإسلاميَّة، تبين الآتي:

- ‌المصادر والمراجع

- ‌نبذة تعريفية الإدارة العامة للأوقاف

الفصل: ‌ب- مصدر القرآن الحريم ونصه:

مخلوق، منه بدأ، وإليه يعود، وهو كلام اللَّه حروفه ومعانيه، ليس الحروف دون المعاني، ولا المعاني دون الحروف، وبدَّعوا من قال: إنَّه فاض على نفس النبي من العقل الفعَّال، أو غيره كالفلاسفة والصابئية، أو أنَّه مخلوق في جسم من الأجسام، كالمعتزلة، والجهميَّة، أو في جبريل، أو محمد، أو جسم آخر غيرهما، كالكلابية والأشعرية، أو أنَّه حروف وأصوات قديمة أزليَّة كالكلاميَّة، أو أنه حادث قائم بذات اللَّه، ممتنع في الأزل، كالهاشميَّة والكراميَّة، ومن قال: لفظي بالقرآن مخلوق فجمهي، أو غير مخلوق فمبتدع) (1).

‌ب- مصدر القرآن الحريم ونصه:

تبين من تعريفات القرآن الكريم -التي سلف ذكرها- أنَّ القرآن الكريم صادر عن اللَّه عز وجل قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [الأنعام: 114]، وقال تعالى:{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الأحقاف: 2]، وقال تعالى:{تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت: 2]، وقال تعالى:{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 163 - 166]، وقال:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48].

(1) حاشية مقدمة التفسير: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم الحنبلي النجدي: ص 13 - 18، الطبعة الثانية 1410 هـ - 1990 م، (لم يذكر المطبعة ولا الناشر).

ص: 509

وعلى هذا فإنَّ القرآن الكريم صدر عن اللَّه وأوحاه إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ليبشر الناس وينذرهم شأنه في ذلك شأن الرسل من قبله، وقد قصَّ اللَّه عليه قصص بعضهم وترك بعضهم الآخر، والقرآن أنزله اللَّه بعلمه على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم والملائكة يشهدون بذلك وشهادة اللَّه كافية، ومِمَّا امتاز به القرآن الكريم أنَّه إضافة لكونه مصدقًا لما بين يديه من الكتاب فهو مهيمنٌ عليه.

قال بعض المفسرين: (أمين وشاهد وحاكم على كل كتاب قبله جعل اللَّه هذا الكتاب العظيم الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها وأشملها وأعظمها وأكملها حيث جمع فيه محاسن ما قبله وزاده من الكمالات ما ليس في غيره فلهذا جعله شاهدًا وأمينًا وحاكمًا عليها كله وتكفل تعالى حفظه بنفسه الكريمة)(1).

وقد أحيط القرآن الكريم بعناية ربَّانيَّة خاصَّة تمثلت في مظاهر عدّة، منها:

1 -

حيث أوحاه اللَّه إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم عن طريق جبريل، قال تعالى:{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 102]، وقال تعالى:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 193 - 195].

2 -

وجعل اللَّه من أجله رصدًا يحرسون السماء ممن يسترق السمع من الشياطين، وعن ذلك رُوِيَ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:(كان لكل قبيل من الجن مقعد من السماء يستمعون منه الوحي فيخبرون به الكهنة، فلمَّا بعث اللَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم دحروا. . .)(2)، ورُوِيَ عنه أيضًا أنَّه قال: (لم تكن سماء

(1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 2/ 65، (مرجع سابق).

(2)

أخرجه ابن سعد والبيهقي وأبو نعيم؛ انظر: السيوطي: الخصائص الكبرى 1/ 110،=

ص: 510

الدنيا تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وكانوا يقعدون منها مقاعد للسمع، فلمَّا بعث اللَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم حرست السماء حرسًا شديدًا ورجمت الشياطين) (1).

ويؤيد هذه المرويات وأمثالها ما ورد في القرآن الكريم بشأن حراسة الوحي قبل وصوله إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد ذلك، وحفظ الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يبلغ رسالة ربه، قال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].

قال بعض المفسرين في تفسيرها: (أي: في حالة إنزاله وبعد إنزاله. ففي حال إنزاله حافظون له، من استراق كل شيطان رجيم، وبعد إنزاله أودعه اللَّه في قلب رسوله، واستودعه في قلوب أمته، وحفظ اللَّه ألفاظه كان التغيير فيها، والزيادة والنقص، ومعانيه من التبديل)(2).

وفي تفسير قوله تعالى: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن: 8 - 9]، قال السعدي: أي: أتيناها واختبرناها {فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا} عن الوصول إلى أرجائها، والدنو منها {وَشُهُبًا} يرمي بها من استرق السمع، وهذا مخالف لعادتنا الأولى فإنَّا كُنَّا نتمكن من خبر السماء ما شاء اللَّه، {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} أي: مرصدًا له، معدًّا لإتلافه وإحراقه) (3).

وفي تفسير قوله تعالى: {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ

= (مرجع سابق). وانظر: أبو نعيم الأصبهاني: دلائل النبوة 1/ 225 - 228، (مرجع سابق)، أورد خمسة أحاديث تنص على قصة حراسة السماء وارتباط ذلك بالقرآن الكريم ومبعث الرسول صلى الله عليه وسلم.

(1)

أخرجه البيهقي. دلائل النبوة: ص 111، (مرجع سابق).

(2)

السعدي: تيسير الكريم الرحمن. . 4/ 158، (مرجع سابق).

(3)

تيسير الكريم الرحمن. . 7/ 491، (مرجع سابق).

ص: 511

خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن: 27 - 28] قال رحمه الله: (أي: فإنَّه يخبره بما اقتضت حكمته أن يخبره به، وذلك لأن الرسل ليسوا كغيرهم، فإن اللَّه أيَّدَهُم بتأييد ما أيده أحدًا من الخلق، وحفظ ما أوحاه إليهم حتى يبلغوه على حقيقته من غير أن تقربه الشياطين فيزيدوا فيه أو ينقصوا، ولهذا قال: {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} أي: يحفظونه بأمر اللَّه هو {لِيَعْلَمَ} بذلك {أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} هو بما جعله لهم من الأسباب، {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ} أي: بما عندهم، وما أسروه وما أعلنوه)(1).

3 -

ومن مظاهر عناية اللَّه بالقرآن الكريم وحفظه ما تَمَّ على يد الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته من حفظ القرآن في صدورهم وكتابته في الصحف، وقد بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته في ذلك أرقى مناهج التوثيق، ذلك أن القرآن الكريم (نزل على رسول اللَّه -صلوات اللَّه وسلامه عليه- منجمًا في ثلاث وعشرين سنة (2)، حسب الحوادث ومقتضى الحال، وكانت السور تدون ساعة نزولها، إذ كان المصطفى صلى الله عليه وسلم إذا ما نزلت عليه آية أو آيات قال: "ضعوها

(1) تيسير الكريم الرحمن. . . 7/ 496، (مرجع سابق).

(2)

انظر: الزرقاني: مناهل العرفان. . ص 51، (مرجع سابق). وانظر: مناع القطان: مباحث في علوم القرآن: ص 105، (مرجع سابق). وانظر: إبراهيم الأبياري: تأريخ القرآن: ص 96، الطبعة الثانية 1402 هـ - 1982 م، عن دار الكتب الإسلاميَّة - القاهرة. وأخرجه البخاري في صحيحه 4/ 1905 الحديث رقم [4694]، ترتيب: مصطفى ديب البُغا، عن أبي سلمة قال:"أخبرتني عائشة وابن عباس رضي الله عنهما قالا: لبث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين ينزل عليه القرآن، وبالمدينة عشر سنين". وللعلماء في مدّة نزول القرآن عدّة آراء يُمكن التوفيق بينها على نحو أو آخر، فمن أنقص المدّة عن ثلاث وعشرين سنة كان سبب ذلك عدم احتساب المدّة التي كان ينقطع فيها الوحي عن الرسول صلى الله عليه وسلم. انظر: الأبياري: المرجع السابق: ص 96.

ص: 512

في مكان كذا. . . سورة كذا" (1)، فقد ورد أن جبريل عليه السلام كان ينزل بالآية والايات على النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول له: "يا محمد إنَّ اللَّه يأمرك أن تضعها على رأس كذا من سورة كذا" (2)، ولهذا اتفق العلماء على أن جمع القرآن توقيفي، بمعنى أن ترتيبه بهذه الطريقة التي نراه عليها اليوم في المصاحف، إنَّما هو بأمر اللَّه ووحي من اللَّه) (3).

وعلى الرغم من هذا التوفيق وما أحاط بالتنزيل من عناية اللَّه عز وجل والتأكيد على أنه تكفل بحفظه، كقدر أراده اللَّه، ومشيئة قضاها، فإنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته بذلوا جهدهم في حفظ كتاب اللَّه في الصدور والسطور،

(1) انظر: السيوطي: الإتقان في علوم القرآن 1/ 60، 61، عن المكتبة الثقافية - بيروت (بدون تاريخ).

وانظر: الزركشي: البرهان في علوم القرآن: 1/ 241، (مرجع سابق)، وأصل الحديث مرويٌّ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه قال لعثمان رضي الله عنه:(ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى البراءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ووضعتموها في السبع الطوال، ما حملكم على ذلك؟ فقال عثمان رضي الله عنه: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يأتي عليه الزمان تنزل عليه السور ذوات عدد، فكان إذا نزل عليه الثيء يدعو بعض من كان يكتبه فيقول: "ضعوا هذه في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا! وتنزل عليه الآية فيقول: "ضعوا هذه في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا" الحديث. أخرجه الحاكم: المستدرك على الصحيحين: 2/ 241، رقم الحديث 2/ 2875، (مرجع سابق)، وقال:"هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، وأخرجه الترمذي: الجامع الصحيح: 5/ 254، رقم الحديث (3086)، (مرجع سابق)، وقال:"هذا حديث حسن صحيح".

(2)

انظر: السيوطي: المرجع السابق نفسه 1/ 60، 61، وانظر: مناع القطان: المرجع السابق نفسه: ص 139 - 145. وانظر: الزركشي: المرجع السابق نفسه: ص 234، 235، وص 241.

(3)

محمد بيومي مهران: دراسات تاريخية من القرآن الكريم: ص 19، (مرجع سابق)، وانظر: الزركشي المرجع السابق نفسه: ص 237.

ص: 513

وكان ذلك من مظاهر حفظ اللَّه لكتابه، ولمزيد الإيضاح والبيان مع الاختصار والإجمال أورد بعض الجهود التي بذلت في تدوين القرآن الكريم إلى جانب حفظه واستظهاره في صفوف الأُمَّة:

أ- تخصص بعض الصحابة في كتابة الوحي، وذكر بعض العلماء أن عددهم بلغ تسعة وعشرين كاتبًا؛ منهم الخلفاء الراشدون، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت وغيرهم (1): كانوا يكتبون ما ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن (ويسجلونه آية بعد آية، حتى إذا ما كمل التنزيل، وانتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى كان القرآن كله مسجلًا في صحف (وكانوا يضعون ما يكتبونه في بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ثمّ يكتبون لأنفسهم منه صورًا أخرى يحفظونها لديهم)(2)، وإذا كانت مفرقة لم يكونوا قد جمعوها فيما بين الدفتين، ولم يلزموا القراء توالي سورها) (3).

ب- ثبت أن جبريل عليه السلام كان يعارض الرسول صلى الله عليه وسلم بالقرآن مرَّة واحدة

(1) انظر: محمد عبد العظيم الزرقاني: مناهل العرفان. . 1/ 246، (مرجع سابق). وانظر: مناع القطان: مباحث في علوم القرآن: ص 123، (مرجع سابق). وانظر: إبراهيم الأبياري: تأريخ القرآن: ص 95، (مرجع سابق). وانظر: الفهرست لابن النديم: ص 41، طبعة دار المعرفة، بيروت، (بدون تاريخ)، وانظر: ابن حزم: جوامع السير. . ص 26 - 27، (مرجع سابق). وانظر: ابن قيم الجوزية: زاد المعاد. . 1/ 29، وقد أفرد أحمد عبد الرحمن عيسى كتابًا بعنوان: كتاب الوحي، الطبعة الأولى، 1400 هـ - 1980 م، عن دار اللواء، الرياض، وأفرد محمد مصطفى الأعظمي كتابًا آخر عنوان: كُتَّاب النبي صلى الله عليه وسلم، الطبعة الثالثة، 1401 هـ، 1981 م، عن المكتب الإسلامي، بيروت، وقد أحصى فيه واحدًا وستين كاتبًا للرسول صلى الله عليه وسلم؛ (لمزيد الاطلاع).

(2)

انظر: الزركشي: البرهان. . 1/ 238، (مرجع سابق). وانظر: السيوطي: الإتقان. . 1/ 58 (مرجع سابق). وانظر: محمد عبد اللَّه دراز: مدخل إلى القرآن الكريم. . ص 36، طبعة دار القلم - الكويت، 1400 هـ - 1980 م.

(3)

محمد بيومي مهران: دراسات تاريخية من القرآن الكريم: ص 20، (مرجع سابق).

ص: 514

في كل سنة، ثم عارضه به في السنة التي توفي فيها صلى الله عليه وسلم مرتين (1)، ومعنى هذا أنَّ القرآن الكريم كان في صورته التَّامَّة في هذه السنة التي تَمَّ عرضه فيها مرتان، ولذلك شواهد كثيرة ذكرها العلماء، من أظهرها ما أورده البغوي عن أبي عبد الرحمن السلمي أنَّه قال:(كانت قراءة أبي بكر وعمر وعثمان، وزيد بن ثابت، والمهاجرين والأنصار واحدة، كانوا يقرؤون القراءة العامَّة فيه، وهي القراءة التي قرأها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على جبريل مرتين في العام الذي قبض فيه، وكان زيد قد شهد العرضة الأخيرة، وكان يقرئ الناس بها حتّى مات، ولذلك اعتمده الصديق في جمعه، وولَّاه عثمان كتبة المصحف)(2).

بيد أنَّه وردت أقوال وآراء أخرى حول جمع القرآن في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم اهتبلها بعض الباحثين وبخاصة بعض المستشرقين في العصر الحديث ليشككوا في نص القرآن الكريم من ناحيتين:

الأولى: من ناحية تواتره.

الثانية: من ناحية ضبط نصه وإجماع الأُمَّة على ذلك.

فأمَّا من ناحية التواتر فزعموا أن نص القرآن الكريم ليس متواترًا، وأنَّه خضع لفكرة التاريخيَّة (3) واستشهدوا بمثل ما رواه البخاري عن أنس أنه قال:

(1) روى البخاري في صحيحه 1/ 1911 الحديث رقم [4710]، ترتيب: مصطفى ديب البُغا، (مرجع سابق) عن مسروق عن عائشة عن فاطمة عليها السلام:(أسر إليَّ النبي صلى الله عليه وسلم: "أن جبريل كان يعارضني بالقرآن كل سنة، وإنه عارضني العام مرتين، ولا أراه إلَّا حضر أجلي").

(2)

شرح السنَّة؛ تحقيق: علي محمد عوض وعادل أحمد عبد الموجود، 3/ 50، الطبعة الأولى 1412 هـ - 1992 م، دار الكتب العلمية - بيروت.

(3)

انظر: آرثر جفري: مقدمتان في علوم القرآن؛ نقلًا عن أحمد خليل: دراسات في القرآن: ص 86، طبعة 1969 م، عن دار النهضة العربية - بيروت. =

ص: 515

"مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة: أبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد"(1)، وفي رواية أخرى عن قتادة قال:(سألت أنس بن مالك رضي الله عنه عن جمع القرآن على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؟ قال: أربعة كلهم من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد)(2).

وللعلماء في ذلك تخريجات كثيرة، منها: أن المراد بذلك مجرد التمثيل لا الحصر، ويدل على ذلك -كما قال الزرقاني-:(أنَّ أنسًا في هذه الرواية ذكر من الأربعة أبي بن كعب بدلًا من أبي الدرداء في الرواية السابقة، وهو صادق في كلتا الروايتين؛ لأنَّه ليس معقولًا أن يكذب نفسه، فتعين أنَّه من يريد الحصر الذي أورده الحصر الإضافي)(3).

ومنها: أن المقصود يقول أنس رضي الله عنه الكتابة لا الحفظ.

= وانظر: محمد عبد اللَّه دراز: مدخل إلى القرآن الكريم. . . ص 44 - 51، (مرجع سابق) تناول فكرة (آرثر جفري) بالرد والتفنيد، وأكد أنَّه حاول في فكرته تلك أن يقيس نص القرآن الكريم، وعمل الأُمَّة الإسلاميَّة في سبيل المحافظة عليه؛ بما حدث للأناجيل، وأنَّ النص القرآني مرَّ (بأطوار تشبه من جوانب كثيرة ما مرَّ به الإنجيل): ص 45، وأكد (دراز) بأن البحوث المسيحية الحديثة تنفي مزاعم (جفري)، واستشهد يقول (شوالي):(لقد أثبتنا فيما تقدم أن نسختي زيد متطابقتان، وأنَّ مصحف عثمان ما هو إلَّا نسخة من المصحف الذي كان عند حفصة)؛ المرجع نفسه: ص 46.

(1)

صحيح البخاري 4/ 1913 الحديث رقم [4718]، تحقيق: مصطفى ديب البُغا، (مرجع سابق)، وقد اختلف في أبي زيد، من هو؟ ولكن الأصح واللَّه أعلم أن اسمه: قيس بن السكن، وهذا ما حققه ابن حجر. انظر: فتح الباري 9/ 53، (مرجع سابق)، وانظر: المرجع نفسه: 7/ 127، 313.

(2)

صحيح البخاري 4/ 1913 الحديث رقم [4717]، تحقيق: مصطفى ديب البُغا، (مرجع سابق).

(3)

مناهل العرفان. . 1/ 243، (مرجع سابق).

ص: 516

ومنها: أن المراد حفظ القرآن بجميع أوجه القراءات، أو تلقي القرآن مشافهة عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو الجمع شيئًا فشيئًا حتى تكامل نزوله (1).

والسبب في هذه التخريجات دفع ما قد تحمله تلك الرواية وأمثالها من توهين في نص القرآن الكريم؛ من حيث تواتر جمعه سواء بمعنى حفظه في الصدور، أو كتابته في السطور، بل جاءت بعض ردود العلماء على الطاعنين في تواتر نص القرآن الكريم في المصادر القديمة، فقد نقل ابن حجر ردَّ (المازري) على الملاحدة إذ يقول:(وقد تمسك يقول أنس هذا جماعة من الملاحدة، ولا متمسك لهم فيه إنا لا نسلم حمله على ظاهره: سلمناه، ولكن من أين لهم أن الواقع في نفس الأمر كذلك؟ سلمناه لكن لا يلزم من كون كل من الجم الغفير لم يحفظه كله ألّا يكون حفظ مجموعه الجم الغفير، وليس من شرط التواتر أن يحفظ كل فرد جميعه، بل إذا حفظ الكل الكل ولو على التوزيع كفى)(2). ومعنى كلامه: أنَّ نصَّ القرآن الكريم متواتر بالحفظ في مجموع الأُمَّة (3).

وأمَّا من ناحية ضبط النص وإجماع الأُمَّة على ذلك، فقد اتكأ المشككون على بعض الروايات وما كان لدى بعض الصحابة من مصاحف خاصَّة بهم، فمن الروايات ما ورد عن زيد بن ثابت أنَّه قال:(قبض الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يكن القرآن جمع في شيء)(4).

ووجه ذلك: أنَّ القرآن الكريم لم يجمع في مصحف واحد (وإنَّما كان

(1) انظر: المرجع السابق نفسه: 1/ 244.

(2)

فتح الباري شرح صحيح البخاري 9/ 52، (مرجع سابق). وانظر: الزرقاني. .: مناهل العرفان: 1/ 244، 245، (مرجع سابق).

(3)

انظر: ابن حجر: فتح الباري. . 9/ 12، (المرجع السابق نفسه).

(4)

أورده ابن حجر: فتح الباري شرح صحيح البخاري 9/ 12، (المرجع السابق).

ص: 517

مكتوبًا كلُّه عند الصحابة، قد لا يكون الأمر كذلك عندهم جميعًا، أو عند واحد منهم بعينه، ولكنه كذلك عند الجميع، وما ينقص الواحد منهم يكمله الآخر، ومن ثَمَّ فقد تضافروا جميعًا على نقله مكتوبًا، وإن تقاصر بعضهم عن كتابته كمل الآخر، وكان الكمال النقلي جماعيًّا وليس أحاديًّا) (1).

أمَّا ما كان لدى الصحابة من صحف كتبوا فيها بعض القرآن أو كلَّه فرُبَّما حدث الاختلاف في ترتيب السور، وكتابتها بتمامها، فيما هو مكتوب لديهم، لاعتبارات متنوعة؛ منها: اعتماد بعضهم في ترتيبه لصحفه أو مصحفه نزول القرآن الكريم على الرسول صلى الله عليه وسلم، كما هو الحال فيما يروي عن مصحف الإمام علي رضي الله عنه (2)، أو تقديم سورة على سورة أخرى كتقديم سورة النساء على سورة آل عمران، كما هو الحال في مصحف عبد اللَّه بن مسعود، وأبي بن كعب (3)، ونحو ذلك.

ومنها: ما يحدث من النسخ لبعض الآيات، وتبقى مكتوبة عند بعض الصحابة لعدم علمه بالنسخ مثلًا كما حدث في كتابة آية الرجم، وما ذكر عمرو بن العاص عنها حين كتابة المصحف في عهد أبي بكر؛ من نسخها (4)، ومنها: كون ترتيب القرآن الكريم لم يكن موافقًا لترتيب نزوله

(1) محمد بيومي مهران: دراسات تاريخية من القرآن الكريم. .: ص 21، (المرجع السابق).

(2)

انظر: السيوطي: الإتقان. . 1/ 62، (مرجع سابق)، وانظر: صحيح البخاري 4/ 1910 الحديث رقم [4707]، تحقيق: مصطفى ديب البُغا، (مرجع سابق)، إذ ورد في الحديث ما يدل على أن لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مصحفًا مرتبًا حسب نزول القرآن الكريم.

(3)

انظر: السيوطي: الإتقان. .: 1/ 64، (المرجع السابق نفسه)، وانظر: ابن تيمية: فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 13/ 420، (مرجع سابق). وقد نقل عن الإمام مالك:(أن لكل واحد من أهل الشورى مصحفًا خاصًّا به؛ وهم: علي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف وعثمان)، ولم أجد هذا في الموطأ.

(4)

انظر: الحاكم: المستدرك على الصحيحين 4/ 401، (مرجع سابق). فقد أورد حديثًا =

ص: 518

وإنَّما كان توقيفيًّا، فبقيت الكتابة مفتوحة انتظارًا لما يحدث من زيادة، ومنها: ما يتعلق بالأحرف السبعة والقراءات الأخرى.

وأمر آخر يتعلق بالنسخ (لأن النسخ كان يرد على بعضه ويرفع الشيء بعد الشيء من تلاوته، كما ينسخ بعض أحكامه، فلو جمع ثُمَّ رفعت تلاوة بعضه أدى ذلك إلى الاختلاف، واختلاط أمر الدين، فحفظه اللَّه في القلوب إلى انقضاء زمان النسخ، ثُمَّ وفق لجمعه الخلفاء الراشدين)(1).

لهذه الاعتبارات ونحوها كانت كتابة المصحف تتسم بالكثرة، والتنوع، وكانت متناثرة لا يربطها نظام في كتاب واحد (2)، وقد عَدَّ بعض العلماء هذه الاعتبارات مجتمعة أو متفرقة أسبابًا لعدم جمع ما كتب من التنزيل في كتاب واحد في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ تَمَّ ذلك في عهد الخلفاء الراشدين، ومن المعلوم أنَّ سنتهم متممة لسنّة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومِمَّا ورد في ذلك ما أخرجه الإمام أحمد رحمه الله أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، وعضوا عليها بالنواجذ"(3).

ج- وفي عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أجمعت الأُمَّة على أهميَّة جمع

= عن كثير بن الصلت، قال:(كان ابن العاص وزيد بن ثابت يكتبان المصاحف فمرا على هذه الآية، فقال زيد: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة" فقال عمرو: لما نزلت أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: أكتبها، فكأنه كره ذلك. فقال له عمرو: "ألا ترى أن الشيخ إذا زنى وقد أحصن جلد ورجم، وإذا لم يحصن جلد، وأن الثيب إذا زنى وقد أحصن رجم" قال الحاكم: هذا الحديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه (المرجع السابق نفسه: الصفحة نفسها).

(1)

البغوي: شرح السنة 3/ 50، (المرجع السابق نفسه).

(2)

انظر: الزركشي: البرهان في علوم القرآن 1/ 238، (مرجع سابق).

(3)

مسند الإمام أحمد 4/ 126، الحديث رقم (16694)، طبعة دار الإحياء العربي: 5/ 109 (مرجع سابق).

ص: 519

القرآن الكريم عندما أدرك ولاة أمرها (الخطر الداهم الذي لاحت نذره في معركة اليمامة، ويوشك أن يلتهم كل حفاظ القرآن من الصحابة رضي الله عنهم وهم الشهود العدول على وثاقة النص المكتوب، وقد كان مفرقًا في لخاف وكرانيف وعسب وأضلاع وأكتاف (1)، إلى جانب ما كان في الصدور، ولم يأخذ بعد سورة الكتاب الواحد، اللهم في صدور الصحابة الذين جمعوه حفاظًا على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وقد بدأت الحرب تقرضهم واحدًا إثر واحد) (2).

وفي ذلك روى البخاري عن زيد بن ثابت رضي الله عنه عنه قصة جمع القرآن الكريم وهي قصة تنم عن وعي ولاة أمر الأُمَّة، وتحملهم مسؤولية مصالحها، وتثبتهم، وحرصهم الشديد على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يأتي ويذر بغاية الدقة والمحبة والإخلاص، وقد ورد في تلك القصة (أن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: أرسل إليَّ أبو بكر، مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبو بكر صلى الله عليه وسلم: إن عمر أتاني فقال: إنَّ القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستمر القتل بالقراء بالمواطن، فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. قلت لعمر: كيف

(1) قال السيوطي في معناه: (العُسْبُ: جمع عَسِيْب، وهو جريد النخل؛ كانوا يكشطون الخوص ويكتبون في الطرف العريض، واللخاف [بكسر اللام وبخاء معجمة خفيفة آخره فاء]: جمع لَخْفة [بفتح اللام وسكون الخاء] وهي: الحجارة الدقاق، وقال الخطابي: صفائح الحجارة. . . والأكتاف: جمع كتف؛ وهو العظم الذي للبعير أو الشاة؛ كانوا إذا جَفَّ كتبوا عليه) الإتقان 1/ 58، 59، (مرجع سابق). ولمزيد الاطلاع على مواد الكتابة في الجاهليَّة وصدر الإسلام؛ انظر: محمد قبيسي: القرآن الكريم الوثيقة الأولى في الإسلام: ص 113 - 118، الطبعة الأولى 1408 هـ - 1988 م، من منشورات دار الآفاق الجديدة - بيروت.

(2)

محمد بيومي مهران: دراسات تاريخية من القرآن الكريم. . . ص 27، (مرجع سابق).

ص: 520

تفعل شيئًا لم يفعله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ قال عمر: هذا واللَّه خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح اللَّه صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه. فواللَّه لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليَّ مِمَّا أمرني به من جمع القرآن. قلتُ: كيف تفعلون شيئًا لم يفعله رسول اللَّه؟ قال: هو واللَّه خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح اللَّه صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه اللَّه، ثُمَّ عند عمر حياته، ثُمَّ عند حفصة بنت عمر رضي الله عنه) (1).

وقد سلك زيد بن ثابت رضي الله عنه في جمع القرآن الكريم مسلكًا علميًّا حقق للأُمَّة الإسلاميَّة السبق في مجال التوثيق، وهو ما عبَّر عنه بعض الباحثين بقوله: (إنَّ زيدًا اتبع طريقة في الجمع نستطيع أن نقول عنها في غير تردد، أنها طريقة فذَّة في تاريخ الصناعة العقليَّة الإنسانية، وأنها طريقة التحقيق العلمي المألوف في العصر الحديث، وأن الصحابي الجليل قد اتبع هذه الطريقة بدقة دونها كل دقة، وأن هذه الدقة في جمع القرآن متصلة بإيمان زيد باللَّه، فالقرآن كلام اللَّه جل شأنه، فكل تهاون في أمره أو إغفال للدقة في جمعه وزر ما كان أحرص زيدًا -في حسن إسلامه وجميل صحبته لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يتنزه عنه، وقد شهد المنصفون من المستشرقين جميعًا

(1) صحيح البخاري 4/ 1907 كتاب فضائل القرآن - باب: جمع القرآن، رقم الحديث [4701]، تحقيق: مصطفى ديب البُغا، (مرجع سابق).

ص: 521

بهذه الدقة حتى ليقول (سير وليم موبر): "والأرجح أن العالم كله ليس فيه كتاب غير القرآن ظَلَّ أربعة عشر قرنًا كاملًا بنص هذا مبلغ صفائه ودقته"(1)(2).

إن ما قام به زيد بن ثابت رضي الله عنه بتكليف من خليفة المسلمين أبي بكر الصديق رضي الله عنه ومشورة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومعاونة عمر رضي الله عنه وأبي بن كعب ومشاركة جمهور الصحابة ممن كان يحفظ القرآن أو يكتبه (3)، وإقرار جمع من المهاجرين والأنصار، مظهرٌ من مظاهر العناية الربانيَّة بحفظ القرآن الكريم، وتوفيق من اللَّه للأُمَّة الإسلاميَّة، وتسديد منه لمسيرتها.

ويتضمن ذلك -أيضًا كما قال أبو زهرة-: (حقيقتين مهمتين، تدلان على إجماع الأُمَّة كلها على حماية القرآن الكريم من التحريف والتغيير والتبديل، وأنه مصون بصيانة اللَّه سبحانه وتعالى، ومحفوظ بحفظه، وإلهام المؤمنين بالقيام عليه وحياطته.

الأولى: أن عمل زيد رضي الله عنه لم يكن كتابة مبتدأة، ولكنه إعادة لمكتوب (4)، فقد كتب القرآن كله في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وعمل زيد الابتدائي

(1) نقلًا عن محمد بيومي مهران: دراسات تاريخية من القرآن الكريم: ص 31. وانظر: عماد الدين خليل: قالوا عن الإسلام: ص 7، 74، 75، 76، 85، (مرجع سابق).

(2)

محمد بيومي مهران: المرجع السابق نفسه: ص 30، 31.

(3)

انظر: توفيق يوسف الواعي: الحضارة الإسلاميَّة مقارنة بالحضارة الغربية: ص 281، 282، الطبعة الأولى 1408 هـ - 1988 م، عن دار الوفاء. . .، المنصورة، وقد جاء في فتح الباري لابن حجر: أن أبا بكر رضي الله عنه قال لزيد ولعمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين: "اقعدا على باب المسجد، فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب اللَّه فاكتباه" وقال: رجاله ثقات مع انقطاعه 9/ 14، (مرجع سابق). وانظر: فهد الرومي: دراسات في علوم القرآن. .: ص 90، الطبعة الرابعة، 1415 هـ - 1994 م، عن مكتبة التوبة، الرياض.

(4)

وكان يكتب على ورق كما ذكر ذلك السيوطي عن ابن أشته في كتابه (المصاحف) =

ص: 522

هو البحث عن الرقاع والعظام التي كان قد كتب عليها، والتأكد من سلامتها بأمرين، بشهادة اثنين على الرقعة التي فيها الآية والآيتان أو الآيات، وبحفظ زيد نفسه، وبالحافظين من الصحابة، وقد كانوا الجم الغفير والعدد الكبير، فما كان لأحد أن يقول: إن زيدًا كتب من غير أصل مادي قائم، بل إنَّه أخذ من أصل قائم ثابت مادي، وبذلك نقرر أنَّ ما كتبه زيد هو تمامًا ما كتب في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه ليس كتابة زيد، بل ما كتب في عصره عليه الصلاة والسلام، وأملاه، وما حفظه الروح القدس. . .

الثانية: أن عمل زيد لم يكن عملًا أحاديًّا، بل كان عملًا جماعيًّا من مشيخة صحابة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقد طلب أبو بكر إلى كل من عنده شيءٌ مكتوب أن يجيء به إلى زيد، وإلى كل من يحفظ القرآن أن يدلي إليه بما يحفظه، واجتمع لزيد من الرقاع والعظام وجريد النخل ورقيق الحجارة، وكل ما كتب أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وعند ذلك بدأ زيد يرتبه ويوازنه ويستشهد عليه، ولا يثبت آية إلَّا إذا اطمأنَّ إلى إثباتها، كما أوحيت إلى رسول اللَّه (1)، واستمر الأمر كذلك، حتى إذا ما أتَمَّ زيد ما كتب، تذاكره

= حيث قال: (لَمَّا جمعوا القرآن فكتبوه في الورق قال أبو بكر: التمسوا له اسمًا فقال بعضهم: السفر، وقال بعضهم: المصحف. .). الإتقان. . 1/ 51. وانظر: فهد الرومي: المرجع السابق نفسه: ص 93.

(1)

انظر: أحمد خليل: دراسات في القرآن: ص 90، طبعة 1969 م، عن دار النهضة العربية. .، بيروت، حيث أشار إلى أنَّ مِمَّا يعد (أصلًا من أصول النقد العلمي المحرر في الحكم على النصوص ثقة وزيفًا وصحة وفسادًا وهو لغة النص، وخصائصه المتميِّزة له والكاشفة عن سماته وملامحه التي لا يضل في معرفتها ما أشار إليه "الحارث المحاسبي" في كتابه: "فهم السنن" عن ثقة زيد ومن معه من المسلمين في النصوص التي تعرض عليهم من الرقاع ونحوها، إذ قال: "لأنهم كانوا يبدون عن تأليف معجز ونظم معروف وقد شاهدوا نزوله وسمعوا تلاوته من الرسول صلى الله عليه وسلم عشرين سنة، فكان تزوير ما ليس منه مأمونًا، وإنَّما الخوف من ذهاب شيء من الصحف؛ ولهذا جمع أبو بكر القرآن").

ص: 523

الناس، وتعرفوه وأقروه، فكان المكتوب متواترًا بالكتابة ومتواترًا بالحفظ في الصدور، وما تَمَّ هذا لكتاب في الوجود غير القرآن، وتلك -وايم اللَّه- عناية من الرحمن خاصة بهذا القرآن العظيم) (1)، وشرف للأمَّة الإسلاميَّة تميزت به على سائر الأمم، ووفقها اللَّه لخدمة كتابه في منهج علمي سبقت إليه جميع الأمم.

يقول (لوبلوا) مشيرًا إلى هذا السبق العلمي للأُمَّة الإسلاميَّة: (من ذا الذي لم يتمنَّ لو أنَّ أحدًا من تلاميذ عيسى الذين عاصروه قام بتدوين تعاليمه بعد وفاته مباشرة)(2).

د- وفي عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه وقد اتسعت الفتوحات الإسلاميَّة وانتشرت الأُمَّة الإسلاميَّة في أرجاء المعمورة، وصاحب ذلك التوسع والانتشار خوف ولاة أمر الأُمَّة أن يختلف المسلمون في القرآن كما حدث لليهود والنصارى، فأقدم خليفة المسلمين رضي الله عنه وأرضاه على عمل آخر في صالح الأُمَّة الإسلاميَّة؛ إذ أمر أربعة من الصحابة الكرام وهم (زيد بن ثابت وسعيد بن العاص وعبد اللَّه بن الزبير وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام)(3) أن ينجزوا للأُمَّة مصاحف قيل أنَّ عددها خمسة، وقيل: سبعة،

(1) المعجزة الكبرى (القرآن، نزوله، كتابته، جمعه، إعجازه. .): ص 26، 27، طبعة دار الفكر، (بدون تاريخ)، وانظر: محمد بيومي مهران: دراسات تاريخية من القرآن الكريم: ص 31 - 32، (مرجع سابق).

(2)

نقلًا عن: محمد بيومي مهران: المرجع السابق نفسه: ص 29.

(3)

انظر: تراجمهم لدى: النووي: تهذيب الأسماء واللغات 1/ 200 - 202 (ترجمة زيد بن ثابت) و 1/ 218 (ترجمة سعيد بن العاص) و 1/ 266، 267 (ترجمة عبد اللَّه بن الزبير)، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، (بدون تاريخ)، (ولم أجد لعبد الرحمن بن الحارث بن هشام ترجمة)، وجاءت أسماؤهم على هذا النحو فيما أخرجه البخاري: صحيح البخاري 4/ 1906 - كتاب: فضائل القرآن، باب نزل القرآن بلسان قريش والعرب. . الحديث رقم [4699]، تحقيق:(البُغا)، (مرجع سابق).

ص: 524

وقيل: أربعة، ثُمَّ بعثها (إلى كل من مكة والشام واليمن والبحرين والبصرة والكوفة، وحبس بالمدينة واحدًا)(1).

وقد انتهج عثمان رضي الله عنه والجماعة التي كلَّفها بهذا العمل منهجًا علميًّا تجلَّت فيه مظاهر حفظ اللَّه لكتابه، حتى بلغ الأمر بكثير من المستشرقين أن يعترفوا بذلك المنهج، ويتوافر معظمهم على القول بأنَّ الفضل -بعد اللَّه- يعود لعثمان في المحافظة على نص القرآن الكريم كما هو الآن بين ظهراني الأُمَّة الإسلاميَّة كقول (بلاشير):(إنَّ الفضل -[بعد اللَّه]- يعود إلى الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه لإسهامه قبل سنة 655 م في إبعاد المخاطر الناشئة عن وجود نسخ عديدة من القرآن، وإليه وحده يدين المسلمون بفضل تثبيت نص كتابهم المنزل على مدى الأجيال القادمة)(2).

وله أيضًا مقولة أخرى تبين أنَّ هذا النص ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (ليس لدينا أي سبب يحملنا على الاعتقاد بأنَّ هناك أيَّة آية في القرآن كله لم ترد عن محمد)(3).

ويعترف كثير من المستشرقين أنَّ القرآن الكريم منذُ أنجز المصحف الإمام برسمه العثماني حتى العصر الحاضر تواتر نقله في غاية الضبط والمطابقة وعدم تحريف حرف منه أو تغييره أو تبديله؛ من ذلك قول (لوبلوا): (إنَّ القرآن هو اليوم الكتاب الرباني الوحيد الذي ليس فيه أي تغيير يذكر)(4).

(1) محمد بيومي مهران: دراسات تاريخية من القرآن الكريم: ص 32، (مرجع سابق)، وللاطلاع على ما قيل عن عدد المصاحف. انظر: الزركشي: البرهان. . 1/ 240. وانظر: الإتقان للسيوطي 1/ 60، والزرقاني. . 1/ 395، 396، ولديه أيضًا مبحث بعنوان (أين المصاحف العثمانية الآن؟) ص 397، 398.

(2)

نقلًا عن عماد الدين خليل: قالوا عن الإسلام: ص 52، (مرجع سابق).

(3)

نقلًا عن زقزوق: الاستشراق: ص 92، (مرجع سابق).

(4)

نقلًا عن محمد عبد اللَّه دراز: مدخل إلى القرآن الكريم. .: ص 40، (مرجع سابق).

ص: 525

ويقول (موير): (إنَّ المصحف الذي جمعه عثمان قد تواتر انتقاله من يد ليد حتى وصل إلينا بدون أي تحريف، ولقد حفظ بعناية شديدة بحيث لم يطرأ عليه أي تغيير يذكر، بل نستطيع أن نقول: إنه لم يطرأ عليه أي تغيير على الإطلاق في النسخ التي لا حصر لها والمتداولة في البلاد الإسلاميَّة الواسعة. . . فلم يوجد إلَّا قرآن واحد لجميع الفرق الإسلاميَّة المتنازعة، وهذا الاستعمال الإجماعي لنفس النص المقبول من الجميع حتى اليوم يعد أكبر حجَّة ودليل على صحة النص المنزل)(1).

أمَّا المنهج الذي طبقته الجماعة المكلفة بأمر أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه فإنَّه يرتكز على ما يأتي:

أولًا: تطبيق مبدأ الشورى فيما استجد في حياة الأمَّة من سعة الانتشار وتفرق علماء الأُمَّة في الأمصار المفتوحة، وما نجم عن تعلم القرآن لناشئة المسلمين من أوجه متعددة في قراءة القرآن؛ أخرج أبو داود في المصاحف عن طريق أبي قلابة أنه قال:(لما كانت خلافة عثمان، جعل المعلم يعلم قراءة الرجل، فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون حتى ارتفع ذلك إلى المعلِّمين حتى كفر بعضهم بعضًا، فبلغ ذلك عثمان، فخطب فقال: "أنتم عندي تختلفون، فمن نأى عني من الأمصار أشد اختلافًا" (2).

وأخرج البخاري: أن حذيفة بن اليمان قَدِم على عثمان، وكان يغازي أهل الشَّام في فتح أرمينيَّة، وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأُمَّة قبل أن يختلفوا في الكتاب، اختلاف اليهود والنصارى. . .) (3).

(1) نقلًا عن محمد عبد اللَّه دراز: مدخل إلى القرآن الكريم: ص 40، وقد عقَّبَ دراز على قول المستشرق المذكور من ناحيتين، انظر: المرجع السابق نفسه: ص 41 - 44.

(2)

ص 29. وانظر: الزرقاني: مناهل العرفان: 1/ 249، (مرجع سابق).

(3)

صحيح البخاري 4/ 1908، الحديث رقم [2702]، فضائل القرآن، باب: جمع القرآن، تحقيق:(البُغا)، (مرجع سابق).

ص: 526

عند ذلك جمع أمير المؤمنين رضي الله عنه (أعلام الصحابة وذوي البصر منهم، وأجال الرأي بينه وبينهم في علاج هذه الفتنة ووضع حدٍّ لذلك الاختلاف، وحسم مادة هذا النزاع، فأجمعوا أمرهم على استنساخ مصاحف يرسل منها إلى الأمصار، وأن يؤمر الناس بإحراق كل ما عداها، وألَّا يعتمدوا سواها)(1).

ثانيًا: الاعتماد على المصحف الذي تَمَّ جمعه في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، واستقر حفظه عند أم المؤمنين حفصة بنت عمر رضي الله عنهما، ورد في حديث حذيفة بن اليمان -آنف الذكر- (فأرسل عثمان إلى حفصة: أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان) (2).

ثالثًا: تشكيل جماعة من أربعة من الصحابة أحد أفرادها زيد بن ثابت، وفي ذلك دلائل عميقة، من أهمها: الارتكاز على ما أنجزه في عهد أبي بكر رضي الله عنه، والإفادة من علمه وخبرته، ثُمَّ مساعدته، وتوثيق عمله، وإنجازه على أكمل وجه، بجهود الثلاثة الآخرين -وكلهم من قريش- إلى جهوده، وقد جاء في بعض الروايات (أنَّ الذين ندبوا لنسخ المصاحف كانوا اثني عشر رجلًا)(3).

رابعًا: سلكت هذه الجماعة -سواء كانت من الأربعة أو أكثر- في نسخ القرآن الكريم منهجًا علميًّا، أطلق عليه بعض الباحثين -فيما بعد-

(1) الزرقاني. . .: المرجع السابق نفسه: 1/ 249، 250.

(2)

جزء من الحديث الذي رواه البخاري (سبق تخريجه في الصفحة السابقة).

(3)

أبو داود: المصاحف: ص 33، وانظر: فهد الرومي: دراسات في علوم القرآن الكريم: ص 99، (مرجع سابق). وانظر: الزرقاني: مناهل العرفان. .: 1/ 250، (مرجع سابق).

ص: 527

مسمى: (دستور عثمان في كتابة المصاحف)(1)، ثُمَّ وصفه -أيضًا- بقوله:(ومِمَّا تواضع عليه هؤلاء الصحابة، أنَّهم لا يكتبون في هذه المصاحف إلَّا ما تحققوا أنه قرآن، وعلموا أنَّه استقر في العرضة الأخيرة، وأيقنوا صحته عن النبي صلى الله عليه وسلم مِمَّا لم ينسخ، وتركوا ما سوى ذلك)(2).

خامسًا: رسمت تلك المصاحف العثمانية بطريقة تحتوي القراءات المتعددة الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان من أهم سماتها؛ إهمال (النَّقْط والشَّكْل)(3)، واعتماد طريقة في الرسم غاية في الإبداع، حيث اشتملت على الأوجه والقراءات الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم مِمَّا لم ينسخ، وفي ضوء العرضة الأخيرة للقرآن الكريم، وهذا ما أجمعت عليه الأُمَّة، وقد وصف أحد الباحثين هذا الرسم العثماني بقوله:(فقد وهبهم اللَّه القدرة العظيمة والفكر الثاقب ليكتبوا القرآن بهذه الطريقة التي جمعت العرب والمسلمين على لسان واحد ولغة واحدة في قراءة القرآن الكريم، وبهذا تحققت الوحدة بين المسلمين جميعًا)(4).

سادسًا: كان من توجيه عثمان رضي الله عنه لهم في هذا الجمع أيضًا قوله

(1) الزرقاني: المرجع السابق نفسه: 1/ 250.

(2)

المرجع السابق نفسه: 1/ 250.

(3)

انظر: ابن تيمية: فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 3/ 402، (مرجع سابق). وانظر: محمد بن محمد أبو شهبة: المدخل لدراسة القرآن الكريم: ص 254، الطبعة الجديدة 1412 هـ - 1992 م، دار الجيل - بيروت، ولمزيد الاطلاع على المصاحف العثمانية وما قيل عن تطابقها أو تنوعها. انظر: المرجع السابق نفسه: ص 253، وعن اشتمالها على القراءات والأحرف السبعة انظر: أبا عمر الداني الأحرف السبعة للقرآن: ص 60 - 63، تحقيق: عبد المهيمن صمان، الطبعة الأولى 1408 هـ - 1988 م، عن مكتبة المنارة. وانظر: هامش ص 60، 61 (لمرجع السابق نفسه).

(4)

محمد حسين أبو الفتوح: ابن خلدون ورسم المصحف العثماني: ص 28، الطبعة الأولى 1992 م، مكتبة لبنان - بيروت.

ص: 528

لهؤلاء القرشيين (1): "إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش، فإنَّما نزل بلسانهم، ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ردَّ عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مِمَّا نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق"(2).

ومِمَّا ينبغي الإشارة إليه بصدد مظاهر العناية الربَّانيَّة بالقرآن العظيم من جهة ومن كونه المصدر الأول لتميز الأُمَّة الإسلاميَّة من جهة أخرى، أن الجهود التي بذلت في جمعه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ثُمَّ في عهد عثمان بن عفان صلى الله عليه وسلم كانت جهودًا متكاملة في حفظ كتاب اللَّه جاء بعضها ليكمل الآخر ويعتمد اللاحق على السابق؛ ففي عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كان القرآن الكريم مجموعًا بتمامه، وذلك بالنظر لمجموع الأمَّة -كما سبق الإشارة إلى ذلك- ثُمَّ كان جمعه في عهد أبي بكر -وحفظه لديه مدوَّنا في صحف- لا يقتصر على إيجاد سورة يسهل الرجوع إليها وتكون في مأمن من الأخطار فحسب، بل (إقرار الشكل النهائي لكتاب اللَّه الكريم وتوثيقه عن طريق حفظته الباقين على قيد الحياة، واعتماده من الصحابة الذين كان كل منهم يحفظ منه أجزاء كبيرة أو صغيرة)(3)، ثمَّ نسخت منه نسخٌ عِدَّة في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه برسم جامع أجمعت

(1) انظر: البغوي: شرح السنة 3/ 51 - 58، (مرجع سابق). وانظر: هامش: ص 52 - 54 لمزيد الاطلاع على أقوال العلماء حول هذه المسألة. وانظر: ابن تيمية: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 13/ 395، (مرجع سابق).

(2)

من حديث حذيفة بن اليمان؛ أخرجه البخاري: صحيح البخاري 4/ 1908، الحديث رقم [4702]، (مرجع سابق).

(3)

محمد بيومي مهران: دراسات تاريخية من القرآن الكريم: ص 28، (مرجع سابق)، وانظر: محمد عبد اللَّه دراز: مدخل إلى القرآن الكريم: ص 36، (مرجع سابق).

ص: 529

الأُمَّة على نصه، وجعلته المرجع لسائر القراءات التي حفظتها عن رسولها الخاتم صلى الله عليه وسلم.

وعلى ذلك فإن (المصحف الذي كتب على أيام أبي بكر -هو نفس المصحف الذي كتب على أيام الرسول- صلوات اللَّه وسلامه عليه- وهو نفسه الذي كتب على أيَّام عثمان، وبالتالي فإنَّ كل قراءة قرآنية يجب أن تكون متفقة مع نصه، وأن الشك فيه كفر، وأن الزيادة عليه لا تجوز، وأنَّه القرآن المتواتر الخالد إلى يوم القيامة)(1)، هذا من جهة.

أمَّا من حيث كون القرآن الكريم المصدر الأول لتميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة من جهة أخرى؛ فإنه ينبغي الإشارة إلى ذلك المنهج التربوي الفريد الذي صاحب نزول القرآن الكريم: (منجمًا في ثلاث وعشرين سنة حسب الحوادث ومقتضى الحال)(2)، وما تلا ذلك من عناية الأُمَّة بكتاب ربها، مِمَّا لا يتسع المجال للتفصيل فيه، ولكنني أكتفي بذكر أهم ما يتصل بربانية الأُمَّة الإسلاميَّة كخصيصة من خصائص تميّزها، فبالنظر إلى المعاني التي وردت في مفهوم الربانيَّة فيما سبق، وإلى ذلك المنهج المشار إليه آنفًا يتبين أن القرآن الكريم (تدرج في تربية الأُمَّة الإسلاميَّة تدرجًا فطريًّا لإصلاح النفس البشرية، واستقامة سلوكها، وبناء شخصيتها، وتكامل كيانها، حتى استوت على سوقها، وآتت أكلها الطيب بإذن ربها لخير الإنسانية كافة،

(1) محمد بيومي مهران: دراسات تاريخية من القرآن الكريم، ص 37، (المرجع السابق نفسه)، وانظر: ابن تيمية: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 13/ 389 - 403 (مرجع سابق). وانظر: الزرقاني: ماهل العرفان. . 1/ 161، (مرجع سابق).

(2)

محمد بيومي مهران: المرجع السابق نفسه: ص 19. وانظر: محمد أبو شهبة: المدخل لدراسة القرآن الكريم: ص 65 - 72، (مرجع سابق).

ص: 530

وكان تنجيم القرآن خير عون لها على حفظه وفهمه ومدارسته وتدبر معانيه، والعمل بما فيه) (1).

وقد عَوَّل هذا المنهج على حفظ القرآن الكريم في الصدور في المقام الأول، وربَّى الأُمَّة على ذلك وكان (الاعتماد على الحفظ في النقل من خصائص هذه الأُمَّة)(2)، وفي هذا قال ابن الجزري:(إن الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور، لا على خط المصاحف والكتب، أشرف خصيصة من اللَّه تعالى لهذه الأُمَّة)(3).

ومِمَّا ورد في وصف الأُمَّة الإسلاميَّة لدى أهل الكتاب أنَّ (أناجيلهم في صدورهم)(4).

ومِمَّا اشتهر عن الصحابة أنهم كانوا (يتسابقون إلى تلاوة القرآن ومدارسته، ويبذلون قصارى جهدهم لاستظهاره وحفظه، ويعلمونه أولادهم وزوجاتهم في البيوت، حتى كان الذي يصر ببيوت الأنصار في غسق الدجى، لا يسمع فيها إلَّا صوت القرآن يتلى، وكان المصطفى -صلوات

(1) مناع القطان: مباحث في علوم القرآن: ص 116، (مرجع سابق). وانظر: محمد أبو شهبة المرجع السابق نفسه: ص 68 - 77، وانظر: الزرقاني: المرجع السابق نفسه: 1/ 48 - 55.

(2)

مناع القطان: المرجع السابق نفسه: ص 117، وانظر: محمد أبو شهبة المرجع السابق نفسه: ص 352، ولمزيد الاطلاع على العوامل المساعدة على حفظ القرآن الكريم؛ انظر: المرجع السابق نفسه ص 354 - 376.

(3)

نقلًا عن مناع القطان: المرجع السابق: ص 123، وقد عزاه إلى كتاب ابن الجزري: النشر في القراءات العشر (ولم أتمكن من الرجوع لقوله فيه).

(4)

نقلًا عن ابن تيمية: فتاوى شيخ الإسلام. . . 13/ 400، (مرجع سابق)، وانظر: الزرقاني: مناهل العرفان: 1/ 235، (مرجع سابق). وانظر: محمد أبو شهبة: المرجع السابق نفسه: ص 350.

ص: 531

اللَّه وسلامه عليه- يصر على بعض دور الصحابة، فيقف عند بعضها يستمع القرآن في ظلام الليل. . . وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل، وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار"(1).

وكان من منهجهم في حفظه ودراسته ما ذكره ابن كثير وغيره عن عبد اللَّه بن مسعود، وأبي عبد الرحمن السلمي، حيث ذكر أن عبد اللَّه بن مسعود كان يقول:(والذي لا إله غيره! ما من كتاب اللَّه سورة إلَّا أنا أعلم فيما أنزلت، ولو أعلم أحدًا هو أعلم بكتاب اللَّه مني، تبلغه الإبل، لركبتُ إليه)(2).

ونقل عنه أيضًا أنه قال: (كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن)(3)، وذكر أن عبد الرحمن السلمي كان يقول:(حدثنا الذين كانوا يقرئوننا [زاد ابن تيمية قوله: عثمان بن عفان وعبد اللَّه بن مسعود وغيرهما] أنهم كانوا يستقرئون من النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل، فتعلمنا القرآن والعمل جميعًا)(4).

ولأم المؤمنين عائشة رضي الله عنهما كلام حول هذا المعنى، فقد ورد عنها في

(1) أخرجه البخاري: صحيح البخاري 4/ 1547، الحديث رقم [3991] كتاب المغازي - باب: غزوة خيبر، (ترتيب البُغا)(مرجع سابق).

(2)

أخرجه مسلم: صحيح مسلم 4/ 1913، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل عبد اللَّه بن مسعود وأمه الحديث رقم [2463]، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق).

(3)

تفسير القرآن العظيم 1/ 3 (مقدمة الكتاب)، (مرجع سابق).

(4)

المرجع السابق نفسه: ص 3. وانظر: ابن تيمية: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 13/ 402، (مرجع سابق).

ص: 532

بعض الروايات أنها قالت: (كانت تنزل علينا الآية في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فنحفظ حلالها وحرامها، وأمرها وزجرها، قبل أن نحفظها)(1).

وما ورد عن جندب بن عبد اللَّه وعبد اللَّه بن عمرو وغيرهما أنهم كانوا يقولون: (تعلمنا الإيمان ثُمَّ تعلمنا القرآن فازددنا إيمانًا، وأنتم تتعلمون القرآن ثُمَّ تتعلمون الإيمان)(2).

والشاهد من هذا ونحوه مِمَّا تضافر عن كثير من الصحابة، وأصبح منهجًا في التربية والتعليم (3): أنَّ الأُمَّة تربت بالقرآن الكريم وصنعت على عينه تعالى وكان قدوتها الرسول صلى الله عليه وسلم الذي قال: "أدبني ربي فأحسن تأديبي"(4)، وكان تنزلُ القرآن منجمًا في ثلاث وعشرين سنة منذ نزول قول اللَّه تعالى:{اقرأ} وحتى نزل قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] الآية، وقوله تعالى:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} (5)[النصر: 1]، وغيرهما، وما بين ذلك من أمر ونهي، وتحريم وتحليل، ودعوة لمكارم الأخلاق، وزجر عن مرذولاتها، وتنظيم لشؤون المجتمع والأسرة

(1) أورده ابن عبد ربه في العقد الفريد (قولهم في حملة القرآن): 2/ 103، بتحقيق: مفيد محمد قميحة، طبعة دار الكتب العلمية، 1417 هـ، بيروت، ولم أجد هذا الأثر عند غيره فيما بحثت فيه من المسانيد والمأثورات، ولكنه يتقوى بما ذكر قبله.

(2)

ابن تيمية: المرجع السابق نفسه: 13/ 403.

(3)

انظر: عبد اللَّه بن إبراهيم بن عبد اللَّه الوهيبي: التفسير بالأثر والرأي وأشهر كتب التفسير فيهما، (مقال منشور بمجلة البحوث الإسلامية): ص 204 - 206، العدد [7] عن: رجب وشعبان ورمضان وشوال لعام 1403 هـ، الصادرة عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء. . . الرياض.

(4)

أخرجه الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة [72] آداب الزفاف: ص 3.

(5)

لمزيد الاطلاع على آخر ما نزل من القرآن الكريم، انظر: الزركشي: البرهان في علوم القرآن: 1/ 209، 210، (مرجع سابق)، وانظر: مناع القطان: مباحث في علوم القرآن: ص 69 - 74، (مرجع سابق).

ص: 533

والأموال والمواريث وقبل ذلك كله ما يتعلق بالعقيدة والعبادة (1)، (والمفاصلة التامة بين الإسلام والشرك)(2)، كل ذلك تَمَّ في مراحل متدرجة أخذت بالأمة من حال إلى حال، ومن طور لآخر، وتربت في خلالها حتى اكتمل الدين وتمت النعمة، واللَّه سبحانه وتعالى هو المربي والمنعم والقيم والمالك والسيد والمتصرف والمصلح والمدبر، وقد تجلت هذه المعاني في نشوء الأُمَّة الإسلاميَّة وتطورها وتمامها.

وعن هذا المعنى قال أحد المفكرين المسلمين: (لم تتجاوب -في التاريخ القديم والحديث- أُمَّة مع كتاب تجاوب العرب مع القرآن، فبعد أن اصطفى الخالد من مكارمهم، وأبطل الشائن من عاداتهم، وزكَّى ما عندهم من استعداد، وأنار لهم طريق الهداية بعد حيرة، واستجابوا له، فأصبح الكتاب الذي من خلاله ينظرون إلى الكون والحياة والوجود، وفي جوه الفكري والروحي يعيشون ويحيون، وبمفاهيمه في الحياة يأخذون.

ولذلك لم يكن القرآن كتابًا فلسفيًّا، ولا نظريات فكريَّة، بل كتابًا امتزج بحياتهم، ومدرسة حيَّة عاشوا في جوها، ورأوا فيه مراحل الدعوة التي قاوموها ثُمَّ أخذوا بها، ورأوا فيه أحزابهم ومواقفها من الدعوة ونماذج من

(1) لمزيد من الاطلاع على ما تضمنه القرآن الكريم من مواعظ وأحكام وقصص وتاريخ ومغيبات وإخبار عن اللَّه وأسمائه وصفاته وملكوت السموات والأرض والأرض والجَنَّة والنار وما كان وما يكون. . . إلخ. انظر: محمد أحمد العدوي: دعوة الرسل إلى اللَّه: ص 369 - 529، الطبعة الأولى 1354 هـ - 1935 م، مطبعة الحلبي - مصر.

وانظر: حسين مطاوع الترتوري: مصادر النظم الإسلاميَّة، مجلة البحوث الإسلامية، العدد (27] عن ربيع الآخر - جمادى الآخرة 1410 هـ: ص 123 - 125، الصادرة عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء. . .، الرياض، وانظر: محمد رشيد رضا: الوحي المحمدي: ص 175 - 193، الطبعة الثانية (بدون تاريخ).

(2)

مناع القطان: مباحث في علوم القرآن: ص 116، (مرجع سابق).

ص: 534

شخصياتهم. والقرآن على أنَّه وحيٌ نزل من السماء ليصور حياة أفضل ويدعو إليها، وقد وصف حوادث حدثت في الأرض فكان واقعيًّا ومثاليًّا في آن واحد) (1).

ولولا أنَّ اللَّه جل وعلا أحاط هذه الأُمَّة بعنايته ورعايته، وأصلح شأنها بالقرآن الكريم وبهدي سيد الأنبياء والمرسلين، لما بلغت هذه المرتبة الرفيعة من التربية والثقافة.

* * *

(1) محمد المبارك: دراسات أدبية لنصوص من القرآن: ص 91، الطبعة الرابعة 1392 هـ - 1973 م، دار الفكر، بيروت.

ص: 535