الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أمَّا العبادات الماليَّة:
فتتمثل في فريضة الزكاة، وهي قرينة الصلاة، ويأتي بعدها الوفاء بالنذر إذا كان المنذور به مالًا، لقوله تعالى:{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: 7]، ومنها النفقة في سبيل اللَّه ونحوها (1).
وقد قام ابن قيم الجوزيَّة بدراسة مستفيضة حصر من خلالها أنواع العبادات وصورها، وقسَّمَها على القلب واللسان والجوارح من المكلَّف، وأجرى عليها الأحكام الفقهيَّة الخمسة ما بين واجب ومستحب ومباح، ومحرم ومكروه؛ وبدأ هذه الدراسة بقوله:(ورحى العبوديَّة، وبيانها: أن العبودية منقسمة على القلب واللسان، وعلى كل منها عبوديَّة تخصه، والأحكام التي للعبوديَّة خمسة: واجب، ومستحب، وحرام، ومكروه، ومباح، وهي لكل واحد من القلب واللسان والجوارح)(2).
ثُمَّ شرع في بيان الأعمال القلبيَّة الواجبة والمستحبَّة مع ذكر أنواعها وصورها من إخلاص ونية وصدق وتوكل ومحبَّة وإنابة وصبر ورجاء وخوف وتحدث عن تفصيلاتها واختلاف العلماء فيما هو واجب منها ومستحب، وما اتفقوا عليه من ذلك (3).
ثُمَّ قال: (والقصد أن هذه الأعمال -واجبها ومستحبها- هي عبوديَّة القلب، فمن عطلها فقد عطل عبوديَّة الملك، وإن قام بعبوديَّة رعيته من الجوارح، والمقصود أن يكون ملك الأعضاء -وهو القلب- قائمًا بعبوديَّته للَّه سبحانه هو ورعيته)(4).
ثُم تطرَّق لما هو محرم على القلب لكي تتحقق عبوديته للَّه، فقال:
(1) انظر: عثمان جمعة ضميريَّة: مدخل لدراسة العقيدة الإسلاميَّة: ص 296، (مرجع سابق).
(2)
مدارج السالكين 1/ 123، (مرجع سابق).
(3)
انظر: المرجع السابق نفسه: 1/ 124 - 127.
(4)
مدارج السالكين 1/ 127، (المرجع السابق نفسه).
(أمَّا المحرمات التي عليه: فالكبر، والرياء، والعجب، والحسد، والغفلة، والنفاق، وهي نوعان: كفر، ومعصية، فالكفر: كالشك، والنفاق، والشرك وتوابعها، والمعصية نوعان: كبائر، وصغائر، فالكبائر: كالرياء، والعجب، والكبر، والفخر، والخيلاء، والقنوط من رحمة اللَّه، واليأس من روح اللَّه، والأمن من مكر اللَّه، والفرح والسرور بأذى المسلمين، والشماتة بمصيبتهم، ومحبة أن تشيع الفاحشة فيهم، وحسدهم على ما آتاهم اللَّه من فضله، وتمني زوال ذلك عنهم، وتوابع هذه الأمور التي هي أشد تحريمًا من الزنى، وشرب الخمر، وغيرهما من الكبائر الظاهرة، ولا صلاح للقلب ولا للجسد إلَّا باجتنابها، والتوبة منها وإلَّا فهو قلب فاسد، وإذا فسد القلب فسد البدن)(1).
وتناول أمورًا أخرى تعرض للقلب بعضها يصل إلى درجة الكفر كشهوة الكفر والشرك، وبعضها يكون فسقًا كشهوة البدعة، وبعضها الآخر يكون معصية (2).
ثُمَّ تحدث عن أنواع العبادات اللفظية التي يقوم بها اللسان فذكر ما هو واجب وهو النطق بالشهادتين، وتلاوة ما يلزم المكلف من القرآن، والتلفظ بالأذكار الواجبة في الصلاة ونحو ذلك من رد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على نحو ما سبق ذكره، وأضاف إلى ذلك إرشاد الضال، وأداء الشهادة المتعينة، وصدق الحديث، وتعليم الجاهل، وذكر
(1) المرجع السابق نفسه 1/ 127 - 128، وانظر: عثمان جمعة ضميرية: مدخل لدراسة العقيدة الإسلاميَّة: ص 311 - 354، (مرجع سابق).
(2)
انظر: مدارج السالكين 1/ 128، المرجع السابق نفسه، وانظر: إبراهيم بن محمد البريكان: المدخل لدراسة العقيدة الإسلاميَّة على مذهب أهل السنة والجماعة: ص 124 - 190، (مرجع سابق).
من الأقوال المستحبة: تلاوة القرآن الكريم ودوام ذكر اللَّه ومذاكرة العلم النافع (1).
ثُمَّ ذكر ما يحرم على اللسان النطق به بتعبير جامع، إذ قال:(وأمَّا المحرمة: فهو النطق بكل ما يبغضه اللَّه ورسوله، كالنطق بالبدع المخالفة لما بعث اللَّه به رسوله، والدعاء إليها، وتحسينها، وتقويتها، وكالقذف، وسب المسلم، وأذاه بكل قول، وشهادة الزور، والقول على اللَّه بلا علم، وهو أشدها تحريمًا)(2).
ويدخل في ذلك التلفظ بألفاظ الشرك، والاستهزاء باللَّه ورسوله وآياته لقوله تعالى:{وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس: 106]، وفي الحديث الشريف: قال الرسول صلى الله عليه وسلم لرجل قال له: (ما شاء اللَّه وشئت)(3) فقال له الرسول: "أجعلتني واللَّه عدلًا؟! بل ما شاء اللَّه وحده"(4).
وأمَّا الاستهزاء باللَّه وآياته ورسوله فقد نزل قول اللَّه تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65 - 66].
قال ابن العربي في تفسيرها: (لا يخلو أن يكون ما قالوه من ذلك جدًّا
(1) مدارج السالكين 1/ 128، 129، (المرجع السابق نفسه).
(2)
المرجع السابق نفسه 1/ 129.
(3)
أخرجه الإمام أحمد: مسند الإمام أحمد بن حنبل 1/ 214، ورقم الحديث [1839]، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، (مرجع سابق).
(4)
بقية الحديث: المرجع السابق نفسه. وانظر: تخريج الحديث وما قيل فيه: المرجع السابق نفسه: 3/ 339، 340، وحاشية الحديث رقم [1839]، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرون، (مرجع سابق).
أو هزلًا، وهو كيفما كان كفر؛ فإنَّ الهزل بالكفر كفر، لا خلاف فيه بين الأُمَّة، فإنَّ التحقيق أخو الحق والعلم، والهزل أخو الباطل والجهل) (1).
وتناول ما يكره من الأقوال وما يباح منها واختلاف العلماء في ذلك، وأنَّ كل ما يلفظ به الإنسان مكتوب إمَّا له وإمَّا عليه لقوله صلى الله عليه وسلم "كل كلام ابن آدم عليه، لا له، إلَّا ما كان من ذكر اللَّه وما والاه"(2).
ويصل إلى عبادات الجوارح فيرتبها على هذا النحو: (وأمَّا العبوديات الخمس على الجوارح: فعلى خمس وعشرين مرتبة -أيضًا- إذ الحواس خمسة، وعلى كل حاسة خمس عبوديات، فعلى السمع وجوب الإنصات،
(1) أحكام القرآن 2/ 976، (مرجع سابق). وانظر: محمد بن عبد الوهاب وبعض أبنائه وأحفاده وغيرهم من العلماء: مجموعة التوحيد؛ (الكلمات النافعة في المكفرات الواقعة): ص 282 - 299 - 332، عن شركة العبيكان للطباعة والنشر - الرياض، (بدون تاريخ).
(2)
أخرجه الترمذي: الجامع الصحيح 4/ 526، كتاب الزهد - باب [62] رقم الحديث [2412]، تحقيق: كمال يوسف الحوت (مرجع سابق). وانظر: تخريج الحديث، وما قيل فيه وطرقه: مسند أبي يعلى الموصلي 13/ 56، 57، (وحاشية الحديث رقم [7132] رقم [11] في مسند أم حبيبة)، تحقيق: حسين سليم أسد، وقال: إسناده حسن على شرط ابن حبان وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم، في سنده أم صالح ليس فيها جرح ولم ترد منكرًا فهي على شرط ابن حبان، وباقي رجاله ثقات.
وفي معناه: ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] قال: (يكتب كل ما تكلم به من خير وشر حتى أنه ليكتب قوله: أكلتُ، وشربتُ، وجئتُ، ورأيتُ (حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله، فأقرَّ منه ما كان فيه من خير أو شر، وألقي سائره، وذلك قوله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39]، صحيفة علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير القرآن العظيم: ص 462، (مرجع سابق). وانظر: مدارج السالكين 1/ 129، (المرجع السابق نفسه).
والاستماع لما أوجبه اللَّه ورسوله عليه من استماع الإسلام والإيمان وفروضهما، وكذلك استماع القراءة في الصلاة إذا جهر بها الإمام، واستماع الخطبة في الجمعة في أصح قولي العلماء، ويحرم عليه استماع الكفر والبدع، إلَّا حيث يكون في استماعه مصلحة راجحة: من رده، أو الشهادة على قائله، أو زيادة قوة الإيمان والسنّة بمعرفة ضدهما من الكفر والبدعة ونحو ذلك) (1).
ويستمر في شرح هذه المراتب الخمس والعشرين في مختلف صورها وأحكامها ما بين واجب ومستحب ومكروه ومحرم وواجب إلى أن يقول (2): (وهذه المراتب -أيضًا- مرتَّبَة على البطش باليد والمشي بالرجل، وأمثلتها لا تخفى؛ فالتكسب المقدور للنفقة على نفسه وأهله وعياله: واجب، وفي وجوبه لقضاء دينه خلاف، والصحيح وجوبه ليمكنه من أداء دينه، ولا يجب لإخراج الزكاة، وفي وجوبه لأداء فريضة الحج نظر، والأقوى في الدليل: وجوبه لدخوله في الاستطاعة، وتمكنه بذلك من أداء المناسك، والمشهور عدم وجوبه، ومن البطش الواجب: إعانة المضطر، ورمي الجمار، ومباشرة الوضوء والتيمم. والحرام: كقتل النفس التي حرم اللَّه قتلها، ونهب المال المعصوم، وضرب من لا يحل ضربه ونحو ذلك)(3).
وقد تناول تفصيلات كثيرة، ألَمَّت بصور عدَّة (4)، وقال في نهايتها:(فهذه خمسون مرتبة على عشرة أشياء: القلب، واللسان، والسمع، والبصر، والأنف، والفم، واليد، والرجل، والفرج، والاستواء على ظهر الدَّابَّة)(5).
(1) مدارج السالكين 1/ 131، (المرجع السابق نفسه).
(2)
انظر: المرجع السابق نفسه 1/ 131 - 135.
(3)
مدارج السالكين 1/ 136، (المرجع السابق نفسه).
(4)
انظر: المرجع السابق نفسه 1/ 136، 137.
(5)
المرجع السابق نفسه 1/ 137.
والحقيقة أنَّ ما قام به ابن قيم الجوزية من تصنيف للعبادة، وحصر لمراتبها، وما ألحق بذلك من منازل لـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] (1)، وبالنظر للعبادة نفسها ووقتها وما يتعلق بها، كلُّ ذلك يعطي الدلالة الواضحة على شمول العبوديَّة في الإسلام، لكل ما يأتي المكلف ويذر من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة، وأنَّه مسؤول عن جميع تصرفاته:{إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]، {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18].
وبهذا المفهوم الشامل للعبادة (عَرَفَ المسلمون الأولون معنى العبادة فكانوا عبادًا للَّه حقًّا، وكان وصف العبوديَّة جليًّا في حياتهم وجميع أعمالهم، بل كانت عاداتهم عبادات. . . إذ كانوا لا يتحركون تحركًا ولا يسكنون سكونًا إلَّا ويستشعرون رضاء اللَّه عن ذلك التحرك والسكون، حتى أصبح هذا الشعور محور تركهم، ومبعث سلوكهم، لا تشوبه شائبة، ولا يغفلون عنه لحظة، ولمَّا ضعف هذا المفهوم في نفوس من بعدهم، وخفت ذلك الشعور في تصرفاتهم، بعدوا عن حقيقة العبادة تدريجيًّا حسب بعدهم عن ذلك المحور، وانقلبت كثير من عباداتهم إلى عادات، وكان هذا التحول والبعد متنوعًا فيهم، ومتفاوتًا بينهم، فهناك من المسلمين من انحصر مفهوم العبادة عندهم في جانب من جوانب الحياة، ففصلوا بين علاقة الإنسان بربه وبين علاقته مع نفسه وغيره. . . وحصروا معنى العبادة في علاقتهم مع اللَّه، فخرجوا بذلك عن الجادة)(2).
* * *
(1) وانظر: المرجع السابق نفسه 1/ 138 وما بعدها.
(2)
محمد أبو الفتح البيانوني: تحول العبادات إلى عادات. . . ص 189، (مرجع سابق). وانظر: سيد قطب: خصائص التصور الإسلامي: ص 131 - 135، الطبعة الرابعة، 1398 هـ - 1978 م، عن دار الشروق، بيروت، وانظر: الشاطبي: الاعتصام 2/ 443، تحقيق: أحمد عبد الشافي (مرجع سابق).