الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقبل ذلك بين ما عليه الآخرون من اعتقادات باطلة في الملائكة، وأنها تقع على طرفي نقيض، إذ يعتقد بعضهم أنهم بنات اللَّه، ويعتقد بعضهم الآخر أنهم آلهة (1)، وبهذا يتضح أن الوسطيَّة من خصائص تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة بصفة تجمع بين الوسط بمعنى البينيَّة من تلك الأقوال، والعدل والخيريَّة والأفضلية حيث كانت تلك العقيدة عين الحقيقة وجوهر الصواب، وما عداها فهو باطل.
وإذا كانت هذه وسطية الأُمَّة الإسلاميَّة في مجال الاعتقاد بين الأمم، فإنَّ تلك الوسطيَّة تتركز في عمقها وجوهرها وقمة الفضل والخيريَّة في أمَّة الاتباع (أهل السنة والجماعة)، وهذا ما أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: (كما أنَّ الأُمَّة هي الوسط في الأمم، فهم وسط في باب صفات اللَّه سبحانه وتعالى بين أهل التعطيل الجهمية، وأهل التمثيل المشبهة، وهم وسط في باب أفعال اللَّه بين الجبريَّة والقدريَّة وغيرهم، وفي باب وعيد اللَّه بين المرجئة والوعيديَّة من القدرية وغيرهم، وفي باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورَّية والمعتزلة، وبين المرجئة والجهميَّة، وفي باب أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بين الرافضة.
ثانيًا: في جانب العبادة:
أمَّا العبادة فقد حدَّد الإسلام لها منهجًا وسطًا لا يقلل من أهميتها أو
= الآجرّي: الشريعة؛ تحقيق: محمد حامد الفقي: ص 343 - 349، الطبعة الأولى 1413 هـ - 1992 م، مكتبة دار السلام - الرياض.
(1)
انظر: السعدي: تيسير الكريم الرحمن. . . 6/ 637، 638، (مرجع سابق). وانظر: ابن عطية: المحرر الوجيز. . 5/ 50، (مرجع سابق). ولمزيد الاطلاع على أدلة وجود الملائكة وحقيقتهم وصفاتهم والأعمال الموكلة إليهم فيما يخصه تعالى، وما يتعلق بعباده وملكوت السموات والأرض؛ انظر: محمد أحمد الخطيب ومحمد عوض الهزايمة: دراسات في العقيدة الإسلاميَّة: ص 96 - 109، (مرجع سابق).
يلغيها، ولا يبالغ في الانقطاع لها وترك ما سواها، والأدلة على ذلك كثيرة من الكتاب والسُّنَّة؛ قال تعالى:{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77].
قال ابن العربي في تفسيرها: (فيها مسألتان؛ المسألة الأولى في معنى النصيب، وفيه ثلاثة أقوال: الأول: لا تنس حظك من الدنيا للآخرة كما قال ابن عمر: احرث لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا، الثاني: أمسك ما يبلغك، فذلك حظ الدنيا، وأنفق الفضل، فذلك حظ الآخرة، الثالث: لا تغفل شكر ما أنعم اللَّه عليك. المسألة الثانية: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} ذُكر فيها أقوال كثيرة، جماعها: اسْتَعمِلْ نِعَمَ اللَّه في طاعته، وقال مالك: معناها تعيش وتأكل وتشرب غير مضيق عليك في رأي، قال القاضي: أرى مالكًا أراد الردَّ على من يرى من الغالين في العبادة التقشُّف، والتقصُّف، والبأساء؛ فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل الحلوى، ويشرب العسل، ويستعمل الشواء، ويشرب الماء البارد)(1).
والشاهد من هذه الأقوال ما علَّلَ به القاضي رأي مالك حيث يتضح منه وسطيَّة الأُمَّة الإسلاميَّة في عبادتها مع أنَّها غاية الخلق، قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
ومِمَّا يوضح هذه الوسطيَّة، ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم في شأن الثلاثة الذين اندفعوا نحو الترهب والتزيد في العبادة فذكر أحدهم أنَّه يريد أن يقوم الليل بمعنى أنه يحييه كلَّه بالصلاة دون أن ينام، وأراد الآخر أن يواصل الصيام فيصوم الدهر ولا يفطر، وعزم الثالث على أن يعتزل النساء فلا يتزوج، وكانوا قد تشاوروا في هذا المسلك بعد أن سألوا عن عبادة الرسول صلى الله عليه وسلم: (فلما أخبروا كأنهم تقالُّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر اللَّه ما تقدم من ذنبه وما
(1) أحكام القرآن، تحقيق: علي محمد البجاوي 3/ 1483، (مرجع سابق).
تأخر) (1)، ولَمَّا علم الرسول صلى الله عليه وسلم بقصدهم قال:"أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟، أما واللَّه إني لأخشاكم للَّه وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني"(2).
إنَّ مِمَّا يستفاد من هذا الحديث رسمه صلى الله عليه وسلم منهج الوسطيَّة في العبادة، وأنَّه المنهج الذي يحقق التقوى والخشية للَّه تعالى؛ لأن هذا المنهج ليس خاصًا بالرسول صلى الله عليه وسلم بل هو المشرع والقدوة في هذا لأمته، مِمَّا يعني أن الوسطيَّة هي الخيار، وهي الوسط، وأن ما سواها منحرفٌ عن الجادة ومنهي عنه (3).
(1) من حديث أخرجه البخاري: صحيح البخاري: 5/ 1949، كتاب النكاح، باب: الترغيب في النكاح، الحديث رقم:(4776) تحقيق: البُغا، (مرجع سابق)، وأخرجه مسلم، صحيح مسلم: 2/ 1020 الحديث رقم (1401)، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي (مرجع سابق).
(2)
من الحديث السابق نفسه: لدى البخاري، وانظر: الشاطبي: الموافقات 2/ 93 - 128، وانظر: 3/ 240 - 251، (المرجع نفسه، مرجع سابق).
وقد أورد الشاطبي شواهد عدَّة على وسطيَّة منهج الإسلام في العبادات من خلال فعل الرسول صلى الله عليه وسلم لتأخذ به الأُمَّة، وأنَّه كان يترك بعض العبادات التي تدخل في باب المستحبات لئلا يشق على أمته؛ وفي ذلك قال الشاطبي:(ومسلك آخر وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يترك العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم. . .) إلى أن يقول: (إنَّ الصحابة عملوا على هذا الاحتياط في الدين لَمَّا فهموا هذا الأصل من الشريعة وكانوا أئمة يُقْتَدى بهم فتركوا أشياء، وأظهروا ذلك ليبينوا أن تركها غير قادح وإن كانت مطلوبة. . . كان أئمة المسلمين استمروا على هذا الأصل على الجملة كان اختلفوا في التفاصيل). المرجع السابق نفسه 3/ 240، 241.
(3)
انظر: أبا الحسن العامري: الإعلام بمناقب الإسلام: ص 137 - 150، (مرجع سابق).
وانظر: ابن قيم الجوزية: إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان؛ تحقيق: محمد عفيفي 1/ 205 - 213، الطبعة الثانية 1409 هـ - 1989 م، عن دار الخاني. . .، الرياض حيث قرر بعض جوانب تميُّز الأُمَّة الأسلاميَّة في بعض الشعائر الدينيَّة. ولمزيد الاطلاع؛ انظر: مطلب العبودية، فيما يأتي من البحث ص 898 - 899.