الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جوانب مفهوم إيجابية الأمة الإسلامية
هذه الخصيصة لها جوانب كثيرة لا يتسع المجال لاستقصائها والإلمام بجميعها، ويتناول هنا جانبان منها؛ أحدهما يبين تلك الخصيصة على مستوى الأفراد من خلال نماذج اتسمت بالمسارعة في الخير وأعمال البر وحققت السبق في ذلك، والآخر يبين تلك الخصيصة على مستوى الأُمَّة، وبعض مظاهر تلك الإيجابيَّة في نطاق العرب والشرق، والعالم بعامَّة.
فأمَّا الجانب الأول فإنَّ له شواهد عدَّة تمثلت فيما أقدم عليه أفراد من الصحابة من البذل والعطاء والجود بالأنفس والمال والأولاد في سبيل اللَّه بعد أن تمكن الإيمان في قلوبهم، وامتلأت نفوسهم بمحبَّة اللَّه ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، وصَغُرت الدنيا في أعينهم بما فيها من لذَّات ومطامع ومكاسب وزخارف، واشتاقوا للقاء اللَّه وما عنده من الثواب، فكان منهم من يقذف بالتمرات مسرعًا إلى الاستشهاد في سبيل اللَّه والسبق إلى الشهادة، ويرى أن الوقت الذي يمضيه في أكل تلك التمرات يؤخره عن لقاء ربه، وكان منهم من قدّم ماله في سبيل اللَّه ولم يترك منه شيئًا، وكان منهم من أخرج نفسه من أعز ما يملك لينال البر ويتقرب بذلك إلى اللَّه عز وجل؛ وقصة هذه النماذج في الآتي:
أ- ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في غزوة بدر: "قوموا إلى جنَّة عرضها السموات والأرض"(1)، فقال عمير بن الحُمام الأنصاري: يا رسول اللَّه! جنَّة عرضها السموات والأرض. قال: "نعم" قال: بخ بخ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"ما يحملك على قولك: بخ بخ" قال: لا، واللَّه يا رسول اللَّه إلَّا رجاءه أن
(1) صحيح مسلم 3/ 1510، كتاب الإمارة، الباب [41]، الحديث رقم [1901]، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق).
أكون من أهلها. قال: "فإنَّك من أهلها" فأخرج تمرات من قَرَنِه فجعل يأكل منهنَّ ثُمَّ قال: لئن حييت حتى آكل هذه إنَّها لحياة طويلة. قال: فرمى بما كان معه من التمر. ثمَّ قاتلهم (أي: مشركي قريش) حتى قتل) (1).
ب- وأخرج الترمذي: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (أمرنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن نتصدق فوافق ذلك مالًا، فقلتُ: اليوم أسبقُ أبا بكر، إنْ سبقته يومًا، قال: فجئت بنصف مالي، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما أبقيت لأهلك؟ " قلت: مثله، وأتى أبو بكر بكلِّ ما عنده، فقال: "يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك؟ " قال: أبقيتُ لهم اللَّه ورسوله، قلت: واللَّه لا أسبقه إلى شيء أبدًا)(2).
ج- وحينما نزل قول الحق تبارك وتعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، جاء أبو طلحة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يقول له:(يا رسول اللَّه، إنَّ اللَّه تبارك وتعالى يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}، وإنَّ أحبَّ أموالي إليَّ بَيْرُحاء، وإنَّها صدقة للَّه، أرجو برَّها وذخرها عند اللَّه، فضعها يا رسول اللَّه، حيثُ أراك اللَّه)(3) قال راوي الحديث أنس بن مالك
(1) المرجع السابق نفسه، (بقية الحديث).
(2)
الجامع الصحيح 5/ 574، كتاب المناقب، الباب [16]، الحديث رقم [3675]، وقال عنه:(حديث حسن صحيح)، (مرجع سابق). وانظر: الشاطبي: الموافقات 1/ 241، 242، بتحقيق: أبي عبيدة مشهور بن حسن آل سليمان، الطبعة الأولى 1417 هـ - 1997 م، عن دار ابن عفان، الخبر. وانظر: ابن الجوزي: صفة الصفوة 1/ 106، (مرجع سابق).
(3)
أخرجه البخاري: صحيح البخاري 2/ 530، 531، كتاب الزكاة، الباب [43]، رقم الحديث [1392]، تحقيق: مصطفى ديب البغا، (مرجع سابق). وأخرجه مسلم: صحيح مسلم رقم الحديث [998]، كتاب الزكاة، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (مرجع سابق)، وانظر: ابن الجوزي: صفة الصفوة 1/ 221، 222، (المرجع السابق)، وانظر: ابن العربي: أحكام القرآن 1/ 281، (مرجع سابق).
-رضي الله عنه: (فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "بَخْ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعتُ ما قلتَ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين"، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول اللَّه، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه)(1).
تبين هذه النماذج الثلاثة -وهي غيض من فيض مِمَّا كان عليه السلف الصالح (2) - أنَّ المسارعة في أعمال البر والإحسان والسبق إليها من أهم خصائص تميّز الأُمَّة الإسلاميَّة، وأنَّ هذه الخصيصة تأتي منسجمة مع خصائص أخرى امتدح اللَّه عز وجل الأُمَّة الإسلاميَّة بها، وميَّزها بها عن غيرها، قال اللَّه تعالى:{الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 57 - 61]، فقد بينت الآيات الكريمة جوانب كثيرة لهذه الإيجابيَّة الخيّرَة للأُمَّة الإسلاميَّة، إذ هي إيجابيَّة نحو ربها جلَّ وعلا: تتمثل في خشيته تعالى، والشفقة منه تعالى والإيمان بآياته، وعدم الإشراك به، ومن الإيمان بآياته الإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الآيات والذكر الحكيم، والوعد والوعيد، والحلال والحرام، وما يتبع ذلك من وجوب طاعته ومحبته ومناصرته والرضى بحكمه، وهذه إيجابيَّة نحو رسول الأُمَّة محمد بن عبد اللَّه صلى الله عليه وسلم، وإيجابيَّة نحو الناس تتمثل في الصدقة والنفقة والإحسان، ونحو ذلك من وجوه البر.
ثُمَّ إنَّ هذه الإيجابيَّة لا تبعث على الركون إلى العمل والاغترار به، بل يمارس المؤمن تلك الإيجابيَّة الخيِّرَة وهو متواضع للَّه، يرجو رحمته ويخاف
(1) أخرجه البخاري: المرجع السابق نفسه (بقية الحديث).
(2)
لمزيد الاطلاع من النماذج الدَّالَّة على خصيصة الإيجابيَّة الخيِّرَة؛ انظر: أبا الحسن الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين: ص 111 - 113، وقبلها: ص 96 - 101، ص 103 - 109، الطبعة الرابعة عشرة 1412 هـ - 1992 م، عن دار القلم - الكويت.
عقابه، وقلبه (يستشعر يد اللَّه عليه، ويحس آلاءه في كل نفس وكل نبضة. . . ومن ثمَّ يستصغر كل عباداته وشمتقل كل طاعاته، إلى جانب آلاء اللَّه ونعمائه. . . ومن ثَمَّ يشعر بالهيبة ويشعر بالوجل، ويشفق أن يلقى اللَّه وهو مقصر في حقه، لم يوفه حقه عبادة وطاعة، ولم يقارب أياديه عليه معرفة وشكرًا)(1).
وفي الحديث أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه: (سألت الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60]، قالت عائشة: هُمُ الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: "لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون، وهم يخافون أنْ لا يقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات" (2).
وأمَّا الجانب الآخر من إيجابيَّة الأُمَّة الاسلاميَّة، على مستوى العالم من حولها بدءًا بالعرب ثُمَّ بمن جاورهم من الأمم الأخرى ثُمَّ العالم أجمع، فإنَّ الأُمَّة الإسلاميَّة انطلقت وهي تحمل عقيدة التوحيد وشريعة اللَّه، وما انبثق عنهما من قيم وأخلاق ومبادئ ومثل، في حركة إيجابيَّة خيِّرَة نال من خيرها العرب في الجزيرة العربيَّة، واتسع نطاقها شرقًا وغربًا حتى بلغت المحيط الأطلسي غربًا، إلى بلاد الهند والصين شرقًا، وفي خلال هذا الانتشار والفتح أسهمت الأُمَّة الإسلاميَّة: (في بناء حضارة جديدة ضخمة، قدر لها أن تصبح أعظم حضارة عرفها العالم أجمع طوال العصور الوسطى، وهي الحضارة الإسلاميَّة العربية، وكما يتضح من الاسم المركب لهذه الحضارة، فإنَّها استمدت عظمتها من مبادئ الإسلام ومثله وروحه، ومن المهد الذي ولدت فيه، وحسب العرب في عهدهم الجديد،
(1) سيد قطب: في ظلال القرآن 4/ 2472، (مرجع سابق).
(2)
أخرجه الترمذي: الجامع الصحيح 5/ 306، 307، كتاب تفسير القرآن، الباب [24]، رقم الحديث [3175]، تحقيق: كمال يوسف الحوت، (مرجع سابق).
أنَّهم أحسوا بكونهم بناة الدولة وحماتها، ودعاة الإسلام وحاملو رسالته، والمبشرون بعقيدته في مختلف أرجاء الأرض) (1)، ولكي تُعْرَفَ خصيصة الإيجابيَّة الخيِّرَة في محيط العرب بخاصة، ثُمَّ في محيط الأمم الأخرى بعامَّة، ينبغي أن يُنْظَرَ في حال هؤلاء وأولئك قبل الإسلام، ثُمَّ في حالهم بعد ظهوره وانتشاره.
أ- فأمَّا العرب فقد كانوا قبل الإسلام: (في جاهليَّة جهلاء، وفي ضلالة عمياء، يسفكون الدماء، ويخيفون الطرق، وينتهبون الأموال، ويتعاطون كبائر الآثام، ليس لهم مَلِكٌ يَنْظم بَدْوَهم، ولا سائسٌ يقيم أَوَدَهم، فرزقوا رسولًا من اللَّه تعالى، مبعوثًا بالحق والهدى؛ ليعلمهم الكتاب والحكمة، ويأمرهم بالعدل والإحسان، وينهاهم عن الفحشاء والمنكر، ويدعوهم إلى ترك العصبيَّة، وحميَّة الجاهليَّة. فآواهم وأيدهم بنصره، ومكَّنهم من الممالك، بعد أن كانوا قنعوا من أربابها بالسلامة من سطوتهم، فضلًا عن الاستيلاء على خططهم، كما قال تعالى:{وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ} [الأنفال: 26]، فأصبحوا بمكان هذه الدعوة أصنافًا ثلاثة:
صنف منهم ملوك أَعزَّة، وولاة المنابر والأسرة، قد نفذ حكمهم على الأقربين والأبعدين؛ لتحصيلهم الرياسة في الدين، وتوسعهم في معرفة أحكامه، والتفقه في حلاله وحرامه، فسعدوا بأشرف خطوة، وأجل أُكْرُومة.
وصنف منهم توجهوا إلى الآفاق في المغازي، فسهَّل اللَّه لهم فتح البلاد، وذلَّل لهم رقاب العباد، فتقابلوا في النواحي التي فتحت لهم، وحازوا فيها نعمًا جسيمة، وأملاكًا عريضة، بعد أن كانوا مَمْنُوِّين في جاهليتهم بضيق الحال، وضنك العيش.
(1) سعيد عبد الفتاح عاشور: بحوث في تاريخ الإسلام وحضارته: ص 110، (مرجع سابق).
وصنف منهم -وهم الجمهور من أفناء العرب، المقيمون في ديارهم- قد اقتنوا بالنسبة التي جمعت بينهم وبين صاحب الدعوة شرفًا لا يجهل أن يقال لهذا الدين في رفعته وجلاله:"دين العرب"(1): ويقال لهذا الملك في اتساع رقعته، وعلو مكانه:"ملك العرب"(2)، فهذه مجامع ما سَعِدَ به جيل العرب في أيام هذا الدين) (3).
ب- وأمَّا الأمم المجاورة للجزيرة العربيَّة فإنَّها نالت من إيجابيَّة الأُمَّة الإسلاميَّة الخيِّرة ما حرَّرَها من العقائد الفاسدة والمظالم المستحكمة، وأخذ بها في مدارج الرفعة والشرف، وللمثال على ذلك فإن الفرس وهم إحدى الأمم المجاورة للعرب والسابقة لهم في الميدان الحضاري، كانت على حالٍ قبل الإسلام ثُمَّ تحولت بدخولها الإسلام إلى حال آخر؛ ولمعرفة ما كانت عليه قبل الإسلام وما صارت إليه بعده، أنقل ما ذكره أبو الحسن العامري في قوله: (وأمَّا العجم فإنَّهم -مع ما كانوا رزقوا في أيام الأكاسرة من الأَبْنِيَات الحميدة، والآداب المنقولة، والعناية الصادقة بحفظ رسوم العمارة. . . ابتلوا بمحنتين عظيمتين، لا يدانيهما شيءٌ من المحن الدنيويَّة في الفظاعة والنُّكر:
إحداهما: عَوْقُ المَوَابَذَة - (جمع موبذان وهو مثل (البابا) عند النصارى) (4) - لدهمائهم -بالقهر- عن اقتناء الحكمة الإلهية، التي بها
(1) باعتباره حكمًا عربيًا لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا} [الرعد: 37].
(2)
ولهذا القول شاهد من قوله صلى الله عليه وسلم: "وإنَّ أُمَّتي سيبلغ ملكها ما زوي لي"؛ سبق تخريجه: ص 689، (البحث نفسه)، وانظر: أبا نعيم الأصبهاني: دلائل النبوة 2/ 538، الحديث رقم [464]، (مرجع سابق).
(3)
أبو الحسن العامري: كتاب الإعلام بمناقب الاسلام: ص 173، 174، (مرجع سابق).
(4)
انظر: المرجع السابق نفسه: رقم [3]، في حاشية الصفحة [174]، وانظر: الشهرستاني: الملل والنحل 1/ 284، (مرجع سابق).
يُتَوَصَّلُ إلى كمال الإنسانيَّة، وباقتنائها تستحق الرتبة الروحانيَّة، وكان سببه أن (زرادشت) المتنبئ لَمَّا أسَّسَ لهم في الأبواب الاعتقاديَّة تلك الأصول الدَّالة على نزارة حظه من الحكمة النظريَّة: نحو كون العالم من قديمين، وحصول جبلَّته من امتزاج الضدين، وأنواع هذيانه في العفاريت والشياطين، وخطئه الفاحش في شكل الأرض، وتخطيط الأفلاك -صيرهم بالمأخذ التقليدي مزجورين عن الحكمة الإلهية، تحرزًا من أن يتنبه الناظر فيها، والمتحقق لبراهينها، على سخافة دعاوية، فابْتُلِيَ أَلِبَّاءُ العجم لمكان الدعوة المجوسيَّة -مع أفهامها الزكيَّة، وعقولها السريَّة- بالمنع القادح عن أشرف أبواب الحكمة، بل ثكلوا روح اليقين بالحقائق البرهانية.
والأخرى: أن طبقاتهم بأسرهم كانوا مضطهدين بسياسة الاستعباد، وإيالة الاستخوال؛ إذ كان ملوكهم وسَمُوا أنفسهم بسمة (الخُذَايكانية)(1)، ووسموا كافَّة من سواهم بسمة (الدهكانية)(2).
وليس يُشكُّ أن تسخير العاقل الحر بالقهر والغلبة على المنزلة الواحدة، وزجره عن اكتساب المحامد بالهمَّة العليَّة، والتمني باجتهاد سعيه إلى ما يتمناه من الجاه والمَعْلُوَة -في الغاية في الاتِّضَاع والخسَّة- وهي النهاية في الاستسلام للغضاضة.
وإذْ وجدت المحنتان مطبقتين على العجم: إحداهما من جهة ملوكهم، والأخرى من جهة مَوَابِذَتِهم -فمن الواجب أن نعلم أنَّ مجيء الإسلام قد أفادهم بشرفه واستعلاء مكانه عوائد ثلاث:
(1) مصطلح فارسي يعني طبقة السادة والعظماء والملوك.
(2)
مصطلح فارسي آخر يعني طبقة الفلاحين والمزارعين والقرويين، ولمزيد الاطلاع على هذه المسميات والتفرقة العنصرية، انظر: المسعودي: التنبيه والإشراف: 97، 103، 420، طبعة ليدن بمطبعة برلين 1893 م، وانظر: كتاب الإعلام بمناقب الإسلام: ص 175، 176 (الحاشية) تعليقات المحقق، (مرجع سابق).
إحداها: إفادة السلامة عن التسخير للعبوديَّة، وإزالة الحجر عنهم في التطلب للرفعة، إذ قيل لهم:"إن الناس كلهم لآدم، وآدم من تراب"(1) و {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، و"المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمَّتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم"(2).
الثانية: الهداية للحكمة الإلهية، وتحقيق مبادئها بالأدلة، ليقتنوا باقتباسها والتوسع في معالمها فضيلة روحانية، وغبطة نفسانيَّة، فتجلَّ بها مراتبهم عند الخلق، ويبقى لهم الذكرُ في العواقب.
الثالثة: فتح الطريق لهم إلى التفيُّؤ بظل هذه الدولة الميمونة، وقصد الأمم المصاقبة لهم باستخلاصها على شرائط الجهاد، ليعمروا بلادهم بما يفيدونه من الفيء، وينقلوا ذراريهم إلى أكناف ديارهم، فيأخذونهم بالآداب الحسنة، ويروضونهم على الأخلاق الحميدة، حتى إذا استحكمت دربتهم فيها، واستولت مِرَّاتهم عليها، منَّوا عليهم بالإعتاق، وأكرموهم بالإفضال، فيصيرون بذلك قائلين على الدوام:{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10]، فهذه هي عوائد جيل العجم في أيام هذا الدين) (3).
ج- وأمَّا إيجابيَّة الأُمَّة الإسلاميَّة الخيِّرَة على العالم، فإنَّها من المسلمات التاريخيّة لدى كثير من الباحثين المحققين، والمفكرين المنصفين، وقد تمثلت في مظاهر عدَّة من أبرزها:
(1) سبق تخريجه: ص 485 - 486، (البحث نفسه).
(2)
سبق تخريجه: ص 530، (البحث نفسه).
(3)
كتاب الإعلام بمناقب الإِسلام: ص 174 - 177، (مرجع سابق). وانظر: أبا الحسن الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين: ص 87 - 90، وقبلها: ص 53 - 57، 58 - 63، (المرجع السابق).
أولًا: الإقبال على العلم والمعرفة، فتعلم المسلمون (القراءة والكتابة، لينشروا دينهم ولغتهم، وتعلموا لغات أعدائهم، ليأمنوا مكرهم وشرهم، وبحثوا عن أيِّ علم يفيدهم وينفعهم؛ لأنَّهم يعلمون أن هذا جهاد في سبيل البشرية كالجهاد بالسيف لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، (حيث يوزن مداد العلماء بدماء الشهداء يوم القيامة)(1)، ومن هنا انطلق المسلمون يبحثون عن تراث الأقدمين، وعن علمهم في الأمم اللاهيَّة، التي لم تستطع الاستفادة أو الإفادة منه، ويجب أن يعلم أن العلوم التي اتصل بها المسلمون واستفادوا منها، كانت بعيدة عن العقائد والعبادات وعلوم الشريعة؛ لأنَّ هذه كانت لها مصادرها الموثوقة عند المسلمين، التي لا تقبل الإضافة أو التبديل أو التغيير، وإنَّما هي العلوم التي تدخل تحت قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"أنتم أعلم بأمر دنياكم"(2)، وانطلق المسلمون يأخذون كل مفيد، ويتعلمون كل نافع، فترجموا كتب الأقدمين في الطب، والهندسة، والكيمياء، والفلك، والحكمة، والجغرافيا، والحيوان، والنباتات، وكانت معرفتهم معرفة تمحيص وليست معرفة تبعيَّة أو تقليد) (3)، وسلكوا في أخذها والعلم بها منهجًا علميًّا يعتمد على الانتقاء والتجربة والتمحيص، وإعمال العقل والفكر، متأثرين في ذلك المنهج بما جاء به الإسلام من رؤية للكون والحياة والإنسان،
(1) ورد في ذلك حديث عن أبي الدرداء؛ قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يوزن يوم القيامة مِدَاد العلماء ودم الشهداء" وبقيته: "فيرجح مداد العلماء على دم الشهداه"، والبقية من حديث أنس وغيره، ابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله 1/ 150، 151، ورقمه [153]، بتحقيق: أبي الأشبال الزهيري، (مرجع سابق). وفي تخريجه للحديث قال:(ضعيف جدًّا)، ونقل عن بعض علماء الحديث قوله أنَّه موضوع.
(2)
أخرجه مسلم: صحيح مسلم 4/ 1836، الحديث رقم [2363]، كتاب الفضائل، باب [38]، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي (مرجع سابق).
(3)
توفيق يوسف الواعي: الحضارة الإسلاميَّة مقارنة بالحضارة الغربية: ص 383، (مرجع سابق).
فكانت حركتهم العلميَّة في هذا المضمار حركة إيجابيَّة أفادت منها البشريَّة، ولعل المنهج التجريبي الذي شقَّ طريقه إلى الغرب، وأسهم في قيام الحضارة الحديثة، والنهضة الأوروبيَّة، يعد من فضائل الأُمَّة الإسلاميَّة على العالم، وهذا ما يعترف به المنصفون من مؤرخي الغرب ومفكريه.
يقول (جوليفة كستلو)(jolivet castelot) في كتابه (قانون التاريخ)(Lal oli de l'Histoire)(كان التقدم العربي بعد وفاة الرسول عظيمًا، جرى على أسرع ما يكون، وكان الزمان مستعدًّا لانتشار الإسلام، فنشأت المدنيَّة الإسلاميَّة باهرة، قامت في كل مكان مع الفتوحات بذكاء غريب، ظهر أثره في الفنون والآداب، والشعر والعلوم، وقبض العرب بأيديهم خلال عِدَّة قرون، مشعل النور العقلي، وتمثلوا جميع المعارف البشريَّة التي لها مساس بالفلسفة، والفلك، والكيمياء، والطب، والعلوم الروحيَّة، فأصبحوا سادة الفكر مبدعين ومخترعين، لا بالمعنى المعروف، بل بما أحرزوا من أساليب العلم التي استخدموها بقريحة وقَّادة للغاية)(1).
ويواصل قوله عن فضل الأُمَّة الإسلاميَّة على أوروبا في مجال العلم والمعرفة فيقول: (وإنَّ أوروبا لمدينة للحضارة العربية بما كتب لها من ارتقاء من القرن العاشر إلى القرن الرابع عشر، وعنها أخذت. . .، وأوروبا تدين بالهواء النافع الذي تمتعت به في تلك العصور للأفكار العربية، وقد انقضت أربعة قرون ولا حضارة فيها غير الحضارة العربية وعلماؤها هم حملة لوائها الخفاق)(2).
ويصحح (غوستاف لوبون) الخطأ الذي ارتكب في التاريخ الحضاري
(1) نقلًا عن محمد كرد علي: الإسلام والحضارة العربية 2/ 543، 544، الطبعة الثانية، 1950 م، عن مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، وانظر: أبا الحسن الندوي: الإسلام أثره في الحضارة وفضله على الإنسانية: ص 103، 104، (مرجع سابق).
(2)
المرجع السابق نفسه، وانظر: أبا الحسن: المرجع السابق نفسه: ص 104.
عندما ينسب المنهج التجريبي إلى (باكون (Baconfrancis)) فيقول: (ينسب الناس إلى "باكون" قاعدة التجربة والملاحظة والمنطق الاستقرائي، وهما الأصل في أساس البحث العلمي الحديث، بيد أن الواجب أن يُعْتَرف اليوم أنَّ هذه الطريقة كلها هي من مبتدعات العرب)(1).
ومِمَّا ينبغي الإشارة إليه في هذا الصدد أن الأُمَّة الإسلاميَّة كانت ملتزمة في تلك المعارف والعلوم إلى حدَّ كبير بمبادئ الإسلام وقيمه وضوابطه الأخلاقيَّة، أمَّا مفكرو الغرب فقد انطلقوا بالعلوم والمعارف التي اقتبسوها من الأُمَّة الإسلاميَّة، وتتلمذوا في بداية الأمر على علماء الأُمَّة الإسلاميَّة؛ انطلقوا بتلك المعارف والعلوم نحو (نظريات غير ملتزمة بالأخلاق الإنسانية في بعض جوانبها، ومتعارضة معها في بعضها الآخر)(2)، مِمَّا كان له الأثر البالغ على الإنسانية، فبقدر ما نالت من معطيات العلم ومكتشفاته، شقيت بتلك النظريات غير الملتزمة بالمبادئ الدينيَّة والأخلاقية، وما حملت من الشرور والمخاوف، التي لم تكن لتحدث لو أنَّ التطور العلمي سار وفقًا للمنهج الإسلامي الملتزم بالأخلاق والمبادئ والقيم.
ثانيًا: ومن مظاهر إيجابيَّة الأُمَّة الإسلاميَّة الخيِّرَة على العالم،
(1) نقلًا عن محمد كرد علي: الإسلام والحضارة العربية: 2/ 202، (المرجع السابق نفسه)، وانظر: أبا الحسن الندوي: الإسلام أثره في الحضارة وفضله على الإنسانية: ص 104، 105، (المرجع السابق). وانظر: محمد الرابع الحسني الندوي: الثقافة الإسلاميَّة والواقع المعاصر: ص 44 - 46، الطبعة الأولى 1410 هـ - 1990 م، عن دار الصحوة - القاهرة، ولمزيد الاطلاع على أثر الإسلام وعلومه وحضارته في نشوء الحضارة الغربية وارتقائها؛ انظر: محمد شريف: الفكر الإسلامي، منابعه وآثاره: ص 67 - 88، 99 - 136، ترجمة: أحمد شلبي، (مرجع سابق).
(2)
انظر: محمد الرابع الحسني الندوي: المرجع السابق نفسه: ص 46.
ما اضطلعت به من إنقاذ الناس من فساد المعتقدات، وظلم بعضهم لبعضهم الآخر، ورد المسار البشري العام إلى صراط اللَّه المستقيم، والإسهام في إصلاح أوضاع البشريَّة وإرشادها، والنهوض بها في مجال الأخلاق والاجتماع وفي المجال الحضاري بعامَّة، وقد ظهرت آثار تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة وإيجابياته الخيِّرَة في جميع هذه المجالات.
كتب أبو الحسن الندوي؛ تحت عنوان (عشر معطيات هامَّة ومنح أساسيَّة)(1): (إذا كان لا بُدَّ من تحديد جوانب ومجالات في حياة الأمم والشعوب والحضارة، ظهرت فيها التأثيرات الإسلاميَّة في أجلى أشكالها، نحددها -على سبيل الاختصار والاختيار- في عشرة من المعطيات الهامَّة والمنح الأساسية الغالية، التي كان لها الدور الأكبر في توجيه النوع البشري وإصلاحه وإرشاده، ونهضته وازدهاره، والتي خلَّفت عالمًا مشرقًا جديدًا لا يشبه العالم الشاحب القديم في شيء، وهي كما يلي:
1 -
عقيدة التوحيد النقية الواضحة.
2 -
مبدأ الوحدة الإنسانية والمساواة البشرية.
3 -
إعلان كرامة الإنسان وسموه.
4 -
رد الاعتبار إلى المرأة ومنحها حقوقها وحظوظها.
5 -
محاربة اليأس والتشاؤم، وبعث الأمل والرجاء، والثقة والاعتزاز في نفس الإنسان.
6 -
الجمع بين الدين والدنيا، وتوحيد الصفوف المتنافرة والمعسكرات المتحاربة.
(1) انظر: الإسلام أثره في الحضارة وفضله على الإنسانية: ص 16 - 120، (مرجع سابق). وانظر: جلال مظهر: حضارة الإسلام وأثرها في الترقي العالمي: ص 174 - 533، عن دار مصر للطباعة (بدون تاريخ).
7 -
إيجاد الرباط المقدس الدائم بين الدين والعلم، وربط مصير أحدهما بالآخر، وتفخيم شأن العلم، والحث عليه، وتوجيهه إلى علم هادف نافع موصل إلى اللَّه.
8 -
استخدام العقل والانتفاع به حتى في القضايا الدينيَّة، والحث على النظر في الأنفس والآفاق.
9 -
حمل الأُمَّة الإسلاميَّة على قبول مسؤولية الوصاية على العالم، والحسبة على الأخلاق، والاتجاهات، وسلوك الأفراد والأمم، وتحمل مسؤوليَّة القيام بالقسط والشهادة للَّه.
10 -
الوحدة العقائدية الحضارية العالميَّة) (1).
ثُمَّ شرع المؤلف في شرح هذه المعطيات، في مقارنة لطيفة بين ما جاء به الإسلام وما كانت عليه الأمم من شرك ووثنيَّة، وتأثير الأُمَّة الإسلاميَّة على تلك الأمم في مجال التوحيد (2)، والأُخُوَّة الإسلاميَّة والإنسانية، وإقرار مبدأ المساواة البشرية، وأثره العالمي، كذلك إعلان كرامة الإنسان وسموه، وشرف الإنسانية وعلو قدرها، ورد الاعتبار للمرأة وإعطاؤها حقوقها وحظوظها والنظرة العادلة إليها من غير إفراط ولا تفريط، مع بيان ما كانت تعانيه في ظل العقائد والشرائع الأخرى من امتهان وحرمان، وبيَّن ما أحاق بالإنسان في ظل العقائد الفاسدة مثل العقائد القديمة في الهند التي دانت بعقيدة التناسخ وفلسفتها، والنصرانية
(1) الإسلام أثره في الحضارة وفضله على الإنسانية: ص 16 - 17، (مرجع سابق). وانظر: أبا الحسن العامري: كتاب الأعلام بمناقب الإسلام: ص 163 - 169، (مرجع سابق). وانظر: عماد الدين خليل: قالوا عن الإسلام: ص 265 - 327، (مرجع سابق).
(2)
انظر: الإسلام أثره في الحضارة وفضله على الإنسانية: ص 18 - 32، 33، 41، 47، 55، 71 - 73، (مرجع سابق).
وعقيدة الخطيئة والصلب والفداء والتثليث، ونحو ذلك من العقائد المنحرفة، حيث أصيب الإنسان تحت وطأتها باليأس من رحمة اللَّه وبسوء الظن بفطرته الإنسانية السليمة، فجاء الإسلام ليعيد للإنسان ثقته بفطرته السليمة، ومواهبه الطبيعية، إذْ (أعلن النبي صلى الله عليه وسلم بكل قوة وصراحة أن فطرة الإنسان هي كاللوح الصافي، الذي لم يكتب عليه بعد، ويُمكن أن ينقش فيه أروع نقش، ويحرر فيه أجمل تحرير، وأن الإنسان يستهل حياته بنفسه، ويستحق الثواب والعقاب والجنَّة والنار بعمله، وهو غير مسؤول عن عمل غيره، فقد ذكر القرآن في مواضع كثيرة أن الإنسان مسؤول عن عمله فحسب، وأنه مثاب ومشكور على سعيه: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} [النجم: 38 - 41](1).
وتحدث عن إيجابيَّة أخرى اضطلعت بها الأُمَّة الإسلاميَّة على غير مثال سابق؛ إذ يقول: (إنَّ مِمَّا شهد به التاريخ الإنساني الطويل وعلم النفس والأخلاق، أن الغايات والتعاليم الفاضلة والنماذج العملية الرفيعة، لا تقوم -وإذا قامت لا تدوم- إلَّا إذا كانت وراءها جماعة من البشر -وبالأصح أُمَّة من الناس- تحمل دعوتها، وترفع رايتها، وتجاهد في سبيلها وتمثلها عمليًّا)(2).
وبعد أن يستعرض ما آلت إليه تعاليم بعض الرسل صلوات اللَّه عليهم، وأنها لم تعش طويلًا لعدم وجود الأُمَّة التي تحمل تلك التعاليم وتمثلها في حياتها (3)، يؤكد خصيصة الأُمَّة الإسلاميَّة وإيجابية تميُّزها الخيِّرَة في هذا
(1) الإسلام أثره في الحضارة وفضله على الإنسانية: ص 71 - 72، (مرجع سابق).
(2)
المرجع السابق نفسه: ص 106.
(3)
انظر: المرجع السابق نفسه: ص 106.
المضمار؛ حيث أخرج اللَّه الأُمَّة الإسلاميَّة وربطها ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم لأنَّه آخر الأنبياء والمرسلين ورسالته الرسالة الخاتمة، (فكانت البعثة المحمَّديَّة بعثة مقرونة؛ بعثة نبي مرتبطة ببعثة أُمَّة، فإنَّ اللَّه سبحانه وتعالى يصف أمته بصفات لا تنطبق إلَّا على مبعوث -من غير نبوة- مأمور من اللَّه فيقول: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، ويقول: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]،. . . وجاء في الحديث: "إنَّما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين" (1). . . وقد نيطت بهذه الأُمَّة مسؤولية الوصاية على العالم، والحسبة والأخلاق، والاتجاهات، وسلوك الأفراد والأمم، ومسؤولية القيام بالقسط والشهادة للَّه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واعتبار نفسها أُمَّة تسأل يوم القيامة عن مدى قيامها بهذا الواجب) (2).
ثالثًا: ومِمَّا اكتسبه العالم من الأُمَّة الإسلاميَّة خلق الرفق والرحمة والتسامح، بعد أن حرَّرَ أممه من القهر والظلم والطغيان، وقد تبين في نقطة سابقة ما ناله الشرق وبخاصَّة الفرس من الخير والعدل والإحسان إبَّان حكم الأُمَّة الإسلاميَّة لهم وانتشار الإسلام فيهم، والآن تحسن الإشارة إلى بعض ما نالته الشعوب المحرَّرة من ربقة الاستعباد الرومي والبيزنطي من إيجابيَّة الأُمَّة الإسلاميَّة الخَيِّرَة، في مجال التسامح الديني، على سبيل
(1) أخرجه البخاري: صحيح البخاري، ولفظه:"فإنَّما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين" 1/ 89، كتاب الوضوء، الباب [57] رقم الحديث [217]، تحقيق: مصطفى ديب البغا، (مرجع سابق).
(2)
الإسلام أثره في الحضارة وفضله على الإنسانية: ص 107، 110، (مرجع سابق). وانظر: أبا الحسن العامري: كتاب الإعلام بمناقب الإسلام: ص 151 - 161، (مرجع سابق).
المثال فحسب، فمن المعروف: أنَّ تلك الشعوب كانت -كما قال أحد الباحثين- في حالة من (الذعر والقهر والعسف، والاضطهادات التي تعرضت لها. . . على أيدي الرومان، وطبقة رجال (الإكليروس). . . في الشرق وفي أوروبا) (1).
وذكر أنَّ هذا الاضطهاد اصطبغ بقداسة دينيَّة، واستشهد على ذلك بمقولة (بولس):(باركوا على الذين يضطهدونكم باركوا ولا تلعنوا)(2)، وبلغ الأمر بهذه التعاليم ونحوها أن اعتنقها رجال الكنيسة ومن بعدهم رجال (الإكليروس)، وتمسك بها الملوك والإقطاعيون (3)، (وتعاونت طبقة رجال الدين مع الملوك والأمراء على إخضاع الجماهير وإذلالها، واستغلالها أبشع استغلال)(4).
وعندما سادت الأُمَّة الإسلاميَّة وسطع نورها على آفاق الدنيا بما فيها أوروبا (انتهت موجة الذعر والقهر والعسف والاضطهادات. . . وحلَّ محلها عصر جديد. . . من التسامح. . .، تلك الروح التي كانت هاديًا ومنارًا في عصور كثيرة للشعوب الأوروبية، والتي انبثقت منها روح التسامح في صورتها الحديثة، فالعرب كانوا في الحقيقة أول غزاة طبعوا حضارتهم بروح من العدل والتسامح -النسبي- أثارت إعجاب الشعوب التي اختلطوا بها)(5).
وقد شهد كثيرٌ من مؤرخي الغرب بعدل المسلمين وتسامحهم مع
(1) جلال مظهر: حضارة الإسلام: ص 221، 227، (مرجع سابق).
(2)
رسالة (بولس) إلى أهل رومية 12/ 14؛ نقلًا عن جلال مظهر: حضارة الإسلام: ص 227، (مرجع سابق).
(3)
انظر: جلال مظهر: حضارة الإسلام: ص 227، (المرجع السابق نفسه).
(4)
المرجع السابق نفسه: ص 227.
(5)
المرجع السابق نفسه: ص 221، 223.
أصحاب الديانات الأخرى وفق ضوابط شرعيَّة من شأنها إعلاء كلمة اللَّه، وإرساء قواعد العدل والخير والإحسان، وممن تحدث عن هذا الجانب المؤرخ (ول ديورانت) إذ قال:(كان أهل الذِّمَّة المسيحيون، والزردشتيون، واليهود، والصابئون يستمتعون في عهد الخلافة الأمويَّة بدرجة من التسامح لا نجد نظيرًا لها في المسيحية في هذه الأيام، فلقد كانوا أحرارًا في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم. . . وكانوا يتمتعون بحكم ذاتي يخضعون فيه لزعمائهم وقضاتهم وقوانينهم)(1).
ويقول -أيضًا-: (وعلى الرغم من خطة التسامح الديني التي كان ينتهجها المسلمون الأولون، أو بسبب هذه الخطَّة، اعتنق الدين الجديد معظم المسيحيين، وجميع الزردشتيين والوثنيين إلَّا عددًا قليلًا جدًا منهم، وكثيرون من اليهود. . . . وحيث عجزت (الهلينية) عن أن تثبت قواعدها بعد سيادة دامت ألف عام، وحيث تركت الجيوش الرومانية الآلهة الوطنية ولم تغلبها على أمرها، وفي البلاد التي نشأت فيها مذاهب مسيحية خارجة على مذهب الدولة البيزنطية الرسمي، في هذه الأقاليم كلها انتشرت فيها العقائد والعبادات الإسلاميَّة، وآمن السكان بالدين الجديد، وأخلصوا له، واستمسكوا بأصوله؛ إخلاصًا واستمساكًا أنسياهم بعد وقت قصير آلهتهم القدامى، واستحوذ الدين الإسلامي على قلوب مئات الشعوب في البلاد الممتدَّة من الصين وإلى مراكش والأندلس، وتملك خيالهم، وسيطر على أخلاقهم، وصاغ حياتهم، وبعث فيهم آمالًا تخفف عنهم بؤس الحياة ومتاعها، وأوحى إليهم العزَّة والأنفة، حتى بلغ عدد من يعتنقونه ويعتزون به
(1) قصة الحضارة 13/ 130، 131، ترجمة: محمد بدران، الطبعة الثالثة، 1974 م، عن لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، وانظر: عماد الدين خليل: قالوا عن الإسلام: ص 286 (مرجع سابق).
في هذه الأيام (نحو ثلاثمئة وخمسين مليونًا) من الأنفس، يوحد هذا الدين بينهم، ويؤلف قلوبهم مهما يكن بينهم من الاختلافات والفروق السياسيَّة) (1).
يتضح من هذا وما سبق الحديث عنه فيما قبله أن خصيصة الإيجابيَّة الخيِّرَة إحدى خصائص تميُّز الأُمَّة الإسلاميَّة نال من خيرها ونفعها العرب في المقام الأول، ثُمَّ جاورهم من الشعوب والأمم التي وصلها الفتح الإسلامي وانتشر فيها الإسلام، بل ونال من خيرها ونفعها العالم أجمع، وهي في ذلك كله موصولة باللَّه عز وجل لأن هذه الإيجابيَّة الخيِّرَة جاءت ضمنًا؛ من خلال سير الأُمَّة الإسلاميَّة إلى ربها، إجابة لقوله تعالى:{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 9].
* * *
(1) قصة الحضارة 13/ 133، (المرجع السابق نفسه). وانظر: عماد الدين خليل: قالوا عن الإسلام: ص 286، 287، (المرجع السابق نفسه).