الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التعاون والتكامل
التعاون والتكامل؛ بوصفه وسيلة من وسائل تحقيق تميُّز الأُمَّة الإسلامية وقيام حضارتها، وقد سبق تناول التعاون، وأنَّه من مقتضيات الأُخُوَّة الإسلامية ووحدة الأُمَّة، وتبين أنّ التعاون إنَّما يكون على البر والتقوى، وليس على الإثم والعدوان، قال تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، وبهذا تحقق الأُمَّة الإسلاميَّة تميزها بأنَّها أُمَّة تنطلق من الخير وتعمل من أجله، وتلتزم في أقوالها وأفعالها بتقوى اللَّه، وكلما التزمت بهذا المبدأ كانت آثارها في التاريخ والحضارة غايةً في الإبداع والتنمية الراشدة.
فبالتعاون على البر والتقوى تنهض الأُمَّة الإسلاميَّة بحمل رسالتها وأداء أمانتها في الحياة، وقد أثبت الواقع التاريخي والحضارة الإسلاميَّة (أنَّ المسلمين كانوا في حياتهم الاجتماعية مثالًا حيًا. . . حينما كان الإسلام قوة حيَّة فاعلة في قلوبهم وعقولهم، يستلهمونه في صياغة حياتهم، وفي إقامة العلاقات بينهم، وكان هذا من أعظم أسباب قوتهم القاهرة التي تفوقوا بها على غيرهم، على الرغم مِمَّا كان يملك من آلة الحرب الضخمة، والثروة الوفيرة، والخبرة العريقة التي كان المسلمون يفتقدونها، لقد كانوا كما وصفهم اللَّه تعالى بنيانًا مرصوصًا متلاحمًا ليس فيه ثغرات، بينما كان عدوهم بناءً منهارًا تتخلله الثغرات الناجمة عن فساد تركيبه الاجتماعي، الناشئ عن امتهان كرامة الإنسان فيه، نتيجة اعتبار تلك الكرامة رهينة أمور غير إنسانية، هكذا كانوا، ولكنهم حين تخلوا عن هدى اللَّه، ولم يعد الإسلام هو الذي يقرب بينهم تخلت عنهم قوتهم، وغلبهم
على أرضهم وأنفسهم غيرهم؛ لأنَّ سبب القوة فارقهم. إنَّ القوة شيءٌ ينبع من داخل النفس الإنسانية، وما الأموال، والأسلحة، والمؤسسات إلَّا وسائل تستخدم لتحويل تلك القوة إلى إنجازات عسكرية أو حضاريَّة، أمَّا الوسائل نفسها فلا تعطي الإنسان قوة يفقدها في داخل نفسه، إنَّ القفزات الحضارية. . العظمى في تاريخ كل أُمَّة ليست ناشئة من وجود قوة مادَّية طارئة كانت تفتقدها تلك الأُمَّة، وإنَّما هي ناشئة من روح أتدب، في أعماق الكثرة العظمى من أبناء تلك الأمَّة، فتحولها من مجرد كميَّة بشريَّة هائلة إلى قوة فاعلة في التاريخ، وكان الإسلام هو الروح التي غيرت العرب وغيرهم تغييرًا نوعيًا، فجعلت منهم -بعد أن كانوا كميَّة مهملة في تاريخ منطقتهم والعالم- قوة عالميَّة فريدة في تاريخ البشرية كله؛ بانية، هادية، مشعة، مصلحة) (1).
وعن هذا التحول الذي تحقق للأُمَّة الإسلاميَّة -بفضل اللَّه الذي رضي لها الإسلام دينًا وأكمله وأتمَّ به نعمته عليها- يقول جواد علي: (وعندي أنَّ الإسلام، هو الذي صيَّر قريشًا المذكورة في الكتب، وهو الذي سودها على العرب وجعل لها المكانة الأولى. . .، ولولا الإسلام، لكانت مكة قرية من القرى، لبعض أسرها ثراء حصلت عليه بفضل نشاطها، وتقرب رجالها إلى سادات القبائل، وحكام العراق، وبلاد الشام، واليمن، وبفضل دعوة رجال قريش القبائل المحيطة لحج البيت، والتقرب إلى الأصنام التي كدسوها فيه وحوله. . .)(2).
ومن هنا يُمكن القول: إنَّ تعاون الأُمَّة الإسلاميَّة وتكاملها لا مناص
(1) محمد مهدي شمس الدين: بين الجاهلية والإسلام ص 176، 177، (مرجع سابق)، وانظر: جواد علي: تاريخ العرب قبل الإسلام 4/ 126، 127، (مرجع سابق).
(2)
تاريخ العرب قبل الإسلام 4/ 126، (مرجع سابق).
له من أن ينبع من (إحساس المسلمين العميق بوحدتهم السياسيَّة الجامعة رغم انقسامهم عمليًّا إلى دول وممالك، ورغم عمليات التقسيم والتجزئة التي فرضت عليهم، لقد كان المسلمون عشية اصطدامهم مع الغرب الاستعماري الحديث موزعين بين خمس دول رئيسة هي: الإمبراطوية المغوليَّة في الهند، والدولة الصفويَّة في فارس، والدولة المملوكيَّة في مصر والحجاز والشام، والدولة العثمانية في تركيا وآسيا الصغرى، والدولة السعدية في المغرب، وعلى الرغم من ذلك فقد كان إحساس المسلمين بوحدتهم الجامعة أقوى من أن تحده هذه التقسيمات السياسيَّة التي تقوم على أساس الصراع على السلطة بين الحكام، ذلك الصراع الذي كان من أعظم أسباب شقاء هذه الأُمَّة وضعفها، لكن هذا الصراع بكل آثاره السيئة لم يقضِ على إحساس المسلمين بوحدتهم، وأكبر دليل على ذلك أنَّه ما أن يتهدد العالم الإسلامي خطر خارجي داهم حتى تراهم جميعًا يتنادون للتوحيد أمام هذا الخطر، متجاوزين ما بينهم من خلافات)(1).
وستبقى مجالات التعاون ومقتضيات التكامل مفتوحة الأبواب بين شعوب الأُمَّة الإسلاميَّة ودولها على تباعد أقطارها، وتنوع دولها، وستجد الأُمَّة من الوسائل والأساليب الحضاريَّة المعاصرة ما يعزز ذلك التعاون والتكامل كلَّما التزمت بهدي الإسلام وشرعه شريطة أن يكون تعاونها منبثقًا من مفهوم البر والتقوى، وسيكون ذلك من أعظم ما يحقق للأُمَّة تميُّزها، ويتيح لها الفاعليَّة الخيِّرَة في التاريخ والحضارة، ولعل من النماذج الحيَّة في العصر الراهن ما تشهده الأُمَّة الإسلاميَّة من دعوات إلى التضامن الإسلامي، وغيرها من الأعمال والروابط التي يتحقق من خلالها التعاون
(1) محمد رشاد خليل: المنهج الإسلامي لدراسة التاريخ وتفسيره: ص 159، 160، الطبعة الأولى 1404 هـ - 1984 م، عن دار المنار - القاهرة.
والتكامل بأساليب عصريَّة، ووسائل متحضرة، مثل عقد مؤتمرات الفقه الإسلامي وما تقدمه من حلول لمشكلات الأُمَّة الإسلاميَّة المعاصرة، بل ومشكلات الإنسانية بعامَّة، ومثل رابطة العالم الإسلامي، ونحو ذلك من الأعمال التي تؤكد فاعليَّة الأُمَّة الإسلاميَّة في التاريخ والحضارة، وتثبت قدرتها على العطاء للإنسان قاطبة (1).
* * *
(1) انظر: عبد الواحد محمد الفار: الثقافة الإسلاميَّة (دراسة تأصيلية): ص 290 - 353، (مرجع سابق)، استعرض فيه ظاهرة التضامن بين الدول وموقف الإسلام منها، وأهمية التضامن الإسلامي وأهدافه وخصائصه وأشكاله، ومظاهر التضامن العربي الإسلامي في العصر الحديث، كما تطرق للحديث عن منظمة المؤتمر الإسلامي، ورابطة العالم الإسلامي باعتبارهما من مظاهر التضامن الإسلامي، وفي ذلك كله ما يؤكد وجود صيغ سياسيَّة وفكريَّة ودعويَّة وثقافية وإعلامية، يتحقق بها التعاون والتكامل بين دول الأُمَّة الإسلاميَّة وشعوبها.