الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
موقف المستشرقين من خصيصة العالَمِيَّة
تختلف آراء المستشرقين ومواقفهم حول هذه الخصيصة من خصائص تميّز الأُمَّة الإسلاميَّة، فمنهم من أقرَّ بها، مثل (جولدزيهر)(1) و (سيرتوماس أرنولد) وغيرهما (2)، ومنهم من أنكرها، ومنهم من أقرَّ بها، ولكنه نفى أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم فكر فيها أو عمل لها، وإنَّما أفضت إليها حركة الأمَّة الإسلاميَّة التاريخية، ومنهم من تأرجح بشأنها، قائلًا: لا يُمكن إثباتها أو نفيها، فهناك نصوص تثبتها ودلائل تؤكدها، وهناك نصوص أخرى تدل على عكس ذلك.
ويعرض هذا المطلب بعض آراء منكري هذه الخصيصة واستدلالاتهم سواء الذين أنكروها البتَّة، أو أنكروها كخصيصة تميّز بها الإسلام من حيث المبدأ وطبيعته الذَّاتيَّة، أو تأرجحوا بشأنها.
أمَّا الذين اعترفوا بها فسيجري الاستشهاد بأقوالهم في سياق الردود على المنكرين، وتفصيلُ ذلك وفق الآتي:
أولًا: موقف المنكرين لخصيصة العالَمِيَّة وأدلة إنكارهم مع الرد عليها:
أ- زعم (فنسك): (أن دعوة الإسلام خاصة بالعرب)، وحُجَّتُه في ذلك أنَّ (الرسول عربي، وظهر في جزيرة العرب، والقرآن عربي، وأحكامه عربية، ويجري العمل به في بلاد العرب، والدعوة ظهرت في
(1) اعترف (جولدزيهر) بعالمية الإسلام على الرغم من مزاعمه في القرآن الكريم والسنّة النبويّة، ولكنه لا يجد حرجًا أن يكون الإسلام عالميًا وهو من وضع محمد صلى الله عليه وسلم وليس وحيًا من عند اللَّه. انظر: جميل عبد اللَّه المصري: دواعي الفتوحات الإسلاميَّة ودعاوى المستشرقين: ص 31، الطبعة الأولى، عن دار القلم - دمشق، والدار الشامية - بيروت، 1411 هـ - 1991 م.
(2)
انظر: العقاد: الإسلام دعوة عالمية: ص 129، (مرجع سابق).
بلاد العرب) (1)، ويخلص من هذا إلى نتيجة محدَّدة هي (أنَّ الإسلام خاصٌّ بالعرب)(2).
واستدل (فنسك) على دعواه بعدّة آيات من القرآن الكريم زعم أنها تؤكد ما ذكر، منها قول اللَّه -جَلَّ وعَلَا-:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الشورى: 7]، وقوله تعالى:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 193 - 195]، وقوله تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2].
فهذه الآيات من وجهة نظره تؤكد خصوصية الإسلام لكون القرآن الكريم نزل باللغة العربية موجهًا إلى أم القرى ومن حولها، ويستدل بآيات أخرى يرى أنها تدل من وجهة نظره على أن الرسول صلى الله عليه وسلم عربي وبعث في أُمَّة عربية، منها قول الحق تبارك وتعالى:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة: 2]، وقوله جَلَّ وعلا:{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا} [البقرة: 151]، وقوله تعالى:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران: 164].
أمَّا الرد على هذا الزعم الذي قرره (فنسك) فمن وجوه عِدَّة من أبرزها الآتي:
1 -
هناك آياتٌ أخرى وأحاديث كثيرة تدل على عالمية الإسلام، كقول اللَّه تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28]، وقوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وقوله تعالى: {قُل
(1) نقلًا عن محمد أمين حسين: خصائص الدعوة الإسلاميَّة: ص 199، الطبعة الأولى 1403 هـ، عن مكتب المنار - الأردن، وانظر: محمد الراوي: عالمية الدعوة: ص 53، عن الدار العربي - بيروت.
(2)
انظر: محمد أمين حسين: المرجع السابق: ص 199.
يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158](1)، فهذه الآيات وغيرها ذكر ابن كثير أنها:(خطاب للناس جميعًا الأحمر والأسود، العربي والعجمي، وهذا من شرفه وعظمته صلى الله عليه وسلم؛ لأنه خاتم النبيين، وأنّه مبعوث إلى الناس كافة)(2).
وقال الألوسي في ذلك: (أمر صلى الله عليه وسلم بأن يصدع بما فيه تكبيت لليهود الذين حرموا أتباعه، وتنبيه لسائر الناس على افتراء من زعم منهم أنّه صلى الله عليه وسلم مرسل إلى العرب خاصة. . ببيان عموم رسالته صلى الله عليه وسلم وهي عامَّة للثقلين)(3).
ومن الأحاديث الشريفة قوله صلى الله عليه وسلم: "أعطيتُ خمسًا لم يعطهن أحدٌ قبلي"(4) وذكر منها: "وبعثتُ إلى الناس عامَّة"، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم:"والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمَّة يهودي ولا نصراني، ثمَّ يموت ولم يؤمن بالذي أرسلتُ به إلَّا كان من أصحاب النار"(5).
يقول الشوكاني في تفسيره لقوله تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} الآية: (بعث اللَّه محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم إلى الأحمر والأسود، فقال: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} والأحاديث الصحيحة الكثيرة في هذا المعنى مشهورة)(6).
ومن السنَّة -أيضًا- ما رواه البخاري عن عدي بن حاتم قال: (بينا أنا
(1) والغريب في أمر (فنسك) أنَّه اجتزأ آخر هذه الآية عن سياقه، وسياقه جاء خطابًا للناس جميعًا بأن النبي الأمي الذي يؤمن باللَّه وكلماته مرسلًا لجميع الناس وأن عليهم اتباعه.
(2)
تفسير القرآن العظيم: 2/ 255، (مرجع سابق)، وانظر: البيضاوي: أنوار التنزيل 1/ 363 (مرجع سابق).
(3)
روح المعاني 9/ 82، (مرجع سابق).
(4)
سبق تخريجه؛ ص 686، (البحث نفسه).
(5)
سبق تخريجه؛ ص 686، (البحث نفسه).
(6)
فتح القدير: 2/ 255، (مرجع سابق).
عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثُمَّ أتاه آخر فشكا قطع السبيل، فقال:"يا عدي، هل رأيت الحيرة؟ " قلت: لم أرها، وقد أنبئت عنها. قال:"فإنْ طالت بك حياة، لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ ترتحلُ من الحيرة، حتى تطوف بالكعبة، لا تخاف أحدًا إلَّا اللَّه" -قلتُ فيما بيني وبين نفسي: فأين دُعَّارُ طيءٍ الذين قد سعروا البلاد- "ولئن طالت بك حياة لتفتحنَّ كنوزُ كسرى". قلتُ: كسرى بن هرمز؟ قال: "كسرى بن هرمز، ولئن طالت بك حياة لَتَرَيَنَّ الرجلَ يخرجُ ملءَ كفه من ذهب أو فضَّة، يطلب من يقبله فلا يجد أحدًا يقبله منه، ولَيَلْقَيَنَّ اللَّهَ أحدُكم يومَ يلقاه، وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له، فيقولنَّ: ألم أبعث إليك رسولًا فيبلغك، فيقول: بلى. . . " الحديث (1).
2 -
وإلى جانب هذه النصوص من الكتاب والسنّة وغيرها هناك دلائل متنوعة منها ما يتعلق بطبيعة الإسلام من حيث عقيدته وشريعته وأخلاقه وقيمه التي تميّزت بالعالميَّة، ومنها تاريخ الأُمَّة الإسلاميَّة المجيد الذي كانت العالميَّة من الخصائص المميِّزة لهذه الأُمَّة فقد اشتملت على جميع الأجناس ومختلف الفئات وانتشرت في أصقاع المعمورة، واستمرت مع كر الجديدين متألقة متفردة (2).
فكيف ساغ لـ (فنسك) وأضرابه أن ينسوا كلَّ هذه الحقائق، ويحصروا أنفسهم في دائرة الاجتزاء وإغفال هذا الواقع الذي لا يحتاج إلى دليل.
وليس يصح في الأفهام شيءٌ
…
إذا احتاج النهار إلى دليل (3)
(1) أخرجه البخاري: صحيح البخاري: 3/ 1316، 1317، الحديث رقم:(3400)، ترتيب: البغا، (مرجع سابق).
(2)
انظر: المطلب السابق.
(3)
لأبي الطيب المتنبي من قصيدة مطلعها:
أتيت بمنطق العرب الأصيل
…
وكان بقدر ما عانيتُ قيلي =
3 -
ومن ناحية أخرى فإنَّ ما استدلَّ به (فنسك) من آيات موجَّهة إلى العرب فيما بدا له من ظاهرها عالميَّة الإسلام؛ وفي هذا يقول العقاد: (وإذا كان عرب الجاهليَّة قومًا لم يأتهم نذير من قبل فالدين الذي جاء به صاحب الدعوة المحمديَّة يعم المتدينين الذين سبقت إليهم الرسل، ويقوم النبي العربي بالدعوة إليه ليظهره على الأمر كله)(1)، ثُمَّ يستشهد يقول اللَّه تعالى:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف: 9].
كذلك مهما كان القول في اللغة التي خاطب بها الرسول صلى الله عليه وسلم الناس فإنَّ العبرة بكونه خاطب الناس كافَّة، أم القرى ومن حولها، ولا يُمكن أن تعزل الهداية عن غير أهل أم القرى (2).
وعن هذا قال العقاد أيضًا: (إذا كان خطاب الناس كافَّة يمنع أن يكون الخطاب مقصورًا على أمِّ القرى ومن حولها، فإنَّ خطاب أم القرى ومن حولها لا يمنع أن يعم الناس أجمعين)(3).
4 -
وثَمَّة ناحيةٌ ثالثة قد لا يسَلِّمُ بها بعض المستشرقين ولكنها حُجَّة عقليَّة دامغة، وهي:(كيف يسيغ العقل أن يكون صاحب الدعوة المحمديَّة خاتم النبيين إذا كانت رسالته مقصورة على قوم لم يأتهم من قبل من نذير)(4).
5 -
وإذا كان بعض المستشرقين يعترف بأن محمدًا صلى الله عليه وسلم مرسلٌ إلى
= انظر: ناصيف اليازجي: العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب 2/ 142، الطبعة الأولى 1404 هـ - 1984 م، عن دار بيروت، بيروت.
(1)
الإسلام دعوة عالمية: ص 130، 131، (مرجع سابق).
(2)
انظر: العقاد: المرجع السابق نفسه: ص 131.
(3)
المرجع السابق نفسه: ص 131.
(4)
المرجع السابق نفسه: ص 131.
العرب فإنَّه (يلزم من تصديقهم بذلك أن يصدقوا ما جاء به من دعوة عامَّة وشاملة للعالمين)(1).
ب- وبلغ الأمر ببعض المستشرقين بقصد نفي عالميَّة الإسلام أن يعمَدَ إلى التحريف في الآيات القرانية التي وجَّهت الخطاب إلى الناس بعامة، وللمثال على ذلك فإنَّ (جورج سيل) ترجم قول اللَّه تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ} بقوله: (يا أهل مكة)(2).
ولا شك أن مثل هذا العمل ينم عن مجافاة واضحة للمنهجية والموضوعية والعلميَّة لدى (جورج سيل) وأمثاله من المستشرقين، ويؤكد ما ذكر من أن المنهجيَّة الاستشراقية في دراستها للإسلام تحدد الفكرة ابتداءً ثُمَّ تبحث عن أدلة تؤيدها، فإذا لم تجد لجأت إلى التحريف والتبديل، وليس قول (جورج سيل) هذا إلَّا أحد الشواهد الدّالّة على ذلك (3).
ج- وعَمَدَ بعض المستشرقين لتقرير دعواهم إنكار عالميَّة الإسلام إلى إنكار رسل النبي صلى الله عليه وسلم ورسائله إلى الملوك والعظماء في عصره المجاورين لدولة الإسلام من الأكاسرة والأقباط والروم وغيرهم، (ولقد اتكأ بعضهم في إنكاره على ما في الروايات ونصوص الرسائل المرويَّة من ثغرات)(4).
ولعل مِمَّا أُخِذَ على (توماس أرنولد) -الذي يعترف بعالمية الإسلام-
(1) انظر: ابن تيمية: الجواب الصحيح. . . 1/ 164، (مرجع سابق)، وانظر: الغزالي: الاقتصاد في الاعتقاد: ص 127، الطبعة الأولى، 1403 هـ - 1983 م، عن دار الكتب العلمية، بيروت، وانظر: ص 696 - 697، (البحث نفسه).
(2)
انظر: محمد دياب: أضواء على الاستشراق: ص 52، (مرجع سابق).
(3)
انظر: عبد الرحمن حبنكة: أجنحة المكر. .: ص 147، (مرجع سابق).
(4)
محمد عزّة دَرْوَزة: القرآن والمبشرون: ص 289، الطبعة الأولى 1392 هـ - 1972 م، عن المكتب الإسلامي.
أنَّه رُبَّمَا تأثر بهذه الثغرات إذ عبَّر في سياق استشهاده بتلك الرسائل على عالميَّة الإسلام بقوله: (لم تكن رسالة الإسلام مقصورة على بلاد العرب، بل إن للعالم أجمع نصيبًا فيها. . . ولكي تكون هذه الدعوة عامة، وتحدث أثرها المنشود في جميع الناس وفي جميع الشعوب، نراها تتخذ صورة عمليَّة في الكتب التي قيل أن محمدًا بعث بها في السنة السادسة من الهجرة)(1)، فقد عبَّر (توماس أرنولد) بقوله:(قيل) التي تفيد التضعيف أو التشكيك، مع أنّه مقرٌّ بعالمية الإسلام وردَّ ردًّا قويًّا على منكري عالمية الإسلام بما ذكره في سياق كلامه.
أمَّا غالبية المستشرقين فإنهم لتأكيد إنكارهم عالمية الإسلام أنكروا أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد بعث برسله ورسائله إلى الملوك والأمراء خارج الجزيرة، ومنهم (مرجليوث) الذي (ادعى أن الرسول لم يوجه أي كتاب للملوك والأمراء خارج الجزيرة)(2)، و (موير) فإنَّه يقول:(لم يوجه الرسول دعوته منذُ بعث إلى أن مات إلَّا للعرب دون غيرهم)(3).
وأنكر (برنارد لويس) في كتابه: السياسة والحرب في الإسلام: (أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد أرسل الكتب والرسائل إلى الأمراء والملوك الذين عاصروه بحجة عدم العثور على ما يدل على شيء من ذلك في الوثائق التي خلفها هؤلاء)(4).
(1) الدعوة إلى الإسلام. . . ص 48، 49، ترجمة: حسن إبراهيم حسن وآخرين، الطبعة الثالثة، 1971 م، عن مكتبة النهضة المصرية - القاهرة 1970 م، وانظر: محمد فتح اللَّه الزيادي: انتشار الإسلام: ص 31، (مرجع سابق).
(2)
نقلًا عن: نذير حمدان: الرسول صلى الله عليه وسلم في كتابات المستشرقين: ص 164، (مرجع سابق).
(3)
نقلًا عن: المرجع السابق نفسه: ص 164.
(4)
انظر: جميل عبد اللَّه محمد المصري: دواعي الفتوحات الإسلاميَّة ودعاوى المستشرقين: ص 31، (مرجع سابق).
ويرد على هذه الأقوال من وجوه أبرزها:
1 -
إن تلك الكتب أو الرسائل والرسل التي بعث بها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والأمراء المجاورين لدولة الإسلام، سواء في داخل الجزيرة أو مخارجها حدث تاريخي (مدون في أقدم كتب السيرة التي وصلت إلينا ولم يكن هناك أيَّة ضرورة دينيّة أو سياسيّة تحمل أحدًا في القرن الأول والثاني على اختراع خبر هذا الحادث وروايته وتدوينه)(1).
وقد اعترف بها بعض المستشرقين مثل (إميل درمنغم) في قوله: (ثُمَّ بعث النبي السرايا فدانت للإسلام قبائل كثيرة، ثُمَّ أرسل الكتب إلى الملوك والأمراء الأجانب)(2).
وكتب المستشرق (د، م، دنلوب) إلى محمد حميد اللَّه الحيدرآبادي بأنَّه ظفر بأصل الكتاب الذي بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى (النجاشي)، وأنَّه سينشر
(1) محمد عزة دروزة: القرآن والمبشرون: ص 289، (مرجع سابق).
(2)
حياة محمد: ص 335، (مرجع سابق)، ولمعرفة مصادر هذه الكتب والرسائل والوقوف على نصوصها؛ انظر: محمد حميد اللَّه الحيدرآبادي: مجموعة الوثائق السياسية في العهد النبوي والخلافة الراشدة: ص 29 - 50، ص 57 - 108، (مرجع سابق)، وقد استعرض في هذه الصفحات وصفحات أخرى حتى الصفحة ص 226 جملة من الكتب والرسائل والعهود التي كتبها الرسول صلى الله عليه وسلم وأرسلها إلى الملوك والأمراء المجاورين لدولة الإسلام وكذلك ما أرسل إليه من إجابات على رسله ورسائله تلك، وأورد مصادر تلك الوثائق وصورًا لما وجد منها، وذكر أماكن حفظها في العالم، وانظر: عبد الجبار محمود السامرائي: الرسائل التي بعث بها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الدول المجاورة، مجلة الفيصل العدد [55]: ص 71 - 81، (مرجع سابق)، وقد تطرق لذكر وجهات نظر بعض المستشرقين حول صحة تلك الرسائل، وصحة ما حُفِظَ منها حتى العصر الحديث، وذكر ممن زعم بأنها مزورة من المستشرقين (بيكر، وأملينو، وكرابجك، وكيتاني، وفيت، وشفالي).
صورته الشمسية في مجلة الجمعية الملكية الآسيائية (GRAS) الإنجليزية (1).
إنَّ مثل هذه الشواهد والتحقيقات تسقط حجّة (برنارد لويس) التي تنفي العثور على ما يدل على شيء من تلك الرسائل التي بعثها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والأمراء الذين عاصروه، وتكشف دخل تلك المنهجيَّة الاستشراقية التي تنفي حقائق التاريخ ومسلماته بالآراء العارية عن الأدلة الناصعة، والتي لا تعدو كونها مجرد الاحتكام للأهواء والتعصب الأعمى.
2 -
ويتصل بما سبق ما جرى من أحداث أخرى مثل توجيه الرسول صلى الله عليه وسلم سريَّة (زيد بن حارثة)(2) لقتال بني جذام لما حدث منهم (لدحية الكلبي) وهو في طريق عودته من هرقل (3).
ومثل تجييش الرسول صلى الله عليه وسلم جيش مؤتة بقيادة (زيد بن حارثة) أيضًا لما حدث من (عمرو بن شرحبيل) إذ قتل (الحارث بن عمير) رسول اللَّه رسول صلى الله عليه وسلم إلى ملك (بصرى)(4).
(ومثل قدوم (مارية القبطية) وأختها من مصر هدية من المقوقس، وقد تسرى النبي بأولاهما وأولدها ابنه إبراهيم، وهذه حقيقة يقينيَّة) (5).
ومثل (إسلام (باذان) عامل كسرى على اليمن. . .) (6).
(1) انظر: مجموعة الوثائق السياسية. . . (المرجع السابق نفسه) ص 30، 31.
(2)
انظر: محمد عزة دروزة: القرآن والمبشرون: ص 288، (مرجع سابق).
(3)
انظر: محمد عزة دروزة: المرجع السابق: ص 228.
(4)
انظر: محمد عزة دروزة: القرآن والمبشرون: ص 288.
(5)
انظر: محمد رزق اللَّه أحمد: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية: ص 520، 521، (مرجع سابق)، وقد تقصَّى مصادر هذا الحدث وما يتصل به ويماثله في معظم كتب السنة والسيرة والتراجم، وانظر: المرجع نفسه: ص 513 - 525.
(6)
محمد عزة دروزة: المرجع السابق نفسه: ص 288، 289.
وما ورد حول هذه الأحداث التاريخية ونحوها من قصص تؤكد عالميَّة الإسلام، وكونها من خصائص تميز الأُمَّة الإسلاميَّة (ومهما أحاط بها من زيادة أو نقصان في سياق الروايات وتفاصيلها وتواريخها ونصوصها وأسماء أعلامها، فإنَّ كل ذلك لا ينهض لتكذيب الحادث، بل الثابت أن الرسول صلى الله عليه وسلم عقب هدنة الحديبية مع قريش وما أعقبه من انتصارات على اليهود، ونزول بعض الآيات التي أمرت الرسول صلى الله عليه وسلم بنشر دعوته في الناس)(1) كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67].
وعلى الرغم مِمَّا أورده المفسرون حول زمن نزول هذه الآية إلَّا أن ابن كثير رجَّحَ أنها مدنية ومن أواخر ما نزل بالمدينة، إذ قال:(والصحيح أنّ هذه الآية مدنية بل هي من أواخر ما نزل بها، واللَّه أعلم)(2).
فمن الثابت أن الرسول صلى الله عليه وسلم (بادر إلى إبلاغ دعوته ورسالته إلى من هم خارج بيئته الخاصة)(3)، والمرجح أن ذلك حدث عقب (صلح الحديبية مع قريش وما أعقبه من انتصارات على اليهود)(4)، وكان الوقتُ مناسبًا لإبلاغ الناس بعامّة رسالة الإسلام، ولعل في قول اللَّه تعالى في نهاية الآية السابقة {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 67] ما يدلّ على صحة ما تقدم ذكره، وقد قال ابن كثير في تفسيرها:(وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} أي: بلغ أنت واللَّه هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء)(5).
(1) انظر: المرجع السابق نفسه: ص 289.
(2)
تفسير القرآن العظيم 2/ 79، (مرجع سابق).
(3)
محمد عزة دروزة: القرآن والمبشرون: ص 289، (المرجع السابق نفسه).
(4)
انظر: المرجع السابق نفسه: ص 289.
(5)
تفسير القرآن العظيم 2/ 79، (المرجع السابق نفسه).