الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
315 - سئلت عن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة
؟
فأجبت: لم يصل إلينا ذلك عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم ولا عن من بعدهم من القرون الماضية ولا أئمة المذاهب الأربعة مع كونهم أجدر الناس بكل مكرمة، وإنما نقل عن بعض الصالحين مما حكوه عن أنفسهم حينما حكاه الشرف البارزي رحمه الله في "توثيق عرى الإيمان" وأبو عبد الله بن أبي جمرة في "بهجة النفوس" وعبارة أولهما: أنه سمع عن جماعة من الأولياء في زمانه وقبله أنهم رأوه صلى الله عليه وسلم في اليقظة حيًا من وفاته، وعقب ذلك بأبيات لأبي البيان نبا بن محمد بن محفوظ شيخ الطائفة البيانية بدمشق قال فيها:
وتشفع في مسيئتهم لي كفالا
…
وتحضر ذكرهم مرات طوالا
وأما الثاني، فإنه قال: وقد ذكر عن السلف والخلف إلى هلم جرا عن جماعة كانوا يصدقون بهذا الحديث، يعني:"من رآني في المنام فسيراني في اليقظة" وسألوه عن أشياء كانوا فيها متشوشين (متخوفين)
فأخبرهم بتفريجها ونص لهم على الوجوه التي يكون منها فرجها فجاء الأمر كذلك بلا زيادة ونقص ثم قال: والمنكر لهذا لا يخلوا إما أن يكون ممن يصدق بكرامات الأولياء أو لا؟ فإن كان الثاني، فقد سقط البحث عنه، فإنه مكذب ما أثبتته السنة بالدلائل الواضحة، وإن كان الأول، فهذا منها، لأن الأولياء يكشف لهم لخرق العادة عن أشياء ي العالمين العلوي والسفلي عديدة، مع التصديق بذلك. وفي الكلامين مناقشات يطول الأمر بذكرها منها: أن المنقول عنهم إن كان الحاكي عنهم ممن يعلم ثقة لم يبين لثقته ما اتفق لهم فهو محمول المعنى والنقل معًا، كالمحكي عن أبي البيان فإنه نظير ما رويناه عن أبي القاسم الجنيد أنه رأى صلى الله عليه وسلم في المنام فقال له: يا رسول الله نجتمع مع إخواننا فنقول القول وتظهر منا الحركات فما تقول في ذلك؟ فقال: ما اجتمعتم إلا وأنا معلم، ولكن ابتدؤوا بالقرآن واختموا به. ولكن القصد أن القول بوقوعها في الدنيا يقظة قد استشكله شيخنا رحمه الله جدًا وأنا معه في ذلك مع تصديق كل منا بكرامات الأولياء لاحتمال خطأ الرأي الناشئ عن الظن في كون المرئي هو الذات الشريفة كما اتفق لمن جاء من الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم هو وصاحبه أبو بكر الصديق المدينة في الهجرة ممن لم يكن رآه قبل ذلك حيث ظنوه أبا بكر إلى أن تبين لهم أنه غيره حيث أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأظله أبو بكر بردائه ومن ثم
توقف في التمسك لدعوى حياة الخضر عليه السلام يرويه جماعة له كالشيخ عبد القادر، الذي نقل ابن العماد في كتابه: نظم الدرر في هجرة خير البشر مما أستغربه ممن يعتمد أنه أدرك من الجن الذين أسلموا لسماع القرآن منه صلى الله عليه وسلم واحدًا، وقيل: إنه يحتاج إلى ثبوت كون المئي عين الخضر صاحب موسى عليه السلام سيما مع تغاير صفة المرئي بعينهم، والقول بأن لكل زمان خضر بحيث قيل: إن الخضر مرتبة من وصل إليها سمي الخضر، كالقطب والغوث، فقال أبو الخطاب ابن دحية: كيف يجوز لعاقل أن يلقى شخصًا لا يعرفه فيقول له: أنا فلان فيصدقه. ونحوه قول ابن الجوزي وغيره كالذهبي فإنه لما حكى في ترجمة أبي البيان المشار إليه من تاريخه: إن عبد الله البطائحي رأى الخضر قال: إن صح فهو ظن في أن ذلك الشخص هو الخضر، بل لما قيل للإمام أبي الفتح ابن دقيق العيد حين ذكر عن شيخ له أنه رأى الخضر وحدثه من أعلمه أي الشيخ بأنه الخضر وهل عرفت أنت ذلك؟ سكت. على أن في الاستدلال بها لمرادهم، وكذا في عدم التعرض للرد على المستدلين به من هذه الحيثية تسليم للأئمة ثم وجدت الإمام القرافي أحد الائمة المالكية قرر في قواعده أن رؤيته صلى الله عليه وسلم هنا إنما تصح لأحد رجلين إما صحابي أو عالم بصفته قال: وأما غيرهما فلا يحصل الجزم بها يعني ولو وجد في نسه أن المرئي
هو بل يجوز أن يكون رأي النبي صلى الله عليه وسلم تمثاله، ويحتمل أن يكون من عمل الشيطان ولا يفيده قول الذي يراه: أنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا صحة قول من يحضر معه: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الشيطان يكذب لنفسه ويكذب لغيره فلا يحصل الجزم به ويقصد بأن أهل التعبير على خلافه وما شكوا منه إبطال رؤية الإنس فرؤية الملائكة إذا تحقق لا صورة له حتى يتمثل صورة بصورة.
قلت: يمكن أن يقال: إنه يرى شيئًا لا يشبه المخلوقين وقد علم أنه لا يشبه شيئًا من مخلوقاته كما جزما قيل به في قوله: فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون، ولأن القول بوقوعها في الدنيا يقظة يستلزم أن يكون هو لأصحابه، وإمكان بقاء الصحابة إلى يوم القيامة، وهذا الذي استشكل به شيخنا القول به، ويمكن الجواب عنه بما أجبت به من قال بصحبة من اتفق أنه رآه في قبره الشريف أو قبل أن أدرج في أكفانه تكون هذه الحياة أخروية بدليل أن الشهيد مع كونه أيضًا حيًا قطعًا يقسم ميراثه وتنكح نساؤه، وكان شيخنا يرى أن الأمر هنا أوضح من أن يتكلف له برد ويتأيد ما ذهبنا إليه لصرف غير واحد من الأئمة قوله صلى الله عليه وسلم:"فسيراني في اليقظة" من حديث "من رآني" عن ظاهره وأنه على التمثيل والتشبيه بدليل قوله في الرواية الأخرى: "فكأنما رآني في اليقظة" ومنه قول الشافعي: إذا رأيت رجلاً من أصحاب الحديث فكأنما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم، وفي لفظ: أصحابه، أو يرى في اليقظة تأويلها وتفسيرها بطريق الحقيقة أو التعبير لأنه حق وغيب ألقاه الله الملك أو يراه يوم القيامة بمزيد خصوصية، لا
مطلق من يراه حينئذ ممن لم يره في المنام أو يخصه بأهل عصره الشريف ممن آمن به قبل أن يراه أو يراه في المرآة التي كانت له إن أمكنه، وممن ذهب إلى الثاني القاضي أبو بكر بن العربي في شرح الترمذي وضعف الثالث حيث أطلق فيه الرؤية في القيامة فقال: وهذا لا معنى له، ولا فائدة في هذا التخصيص يعني فإنه سيراه في القيامة في اليقظة جميع أمته من رآه في النوم ومن لم يره قال: وأما قوله: "فكأنما رآني"، فهو تشبيه ووجهه أنه لو رآه في اليقظة لطابق ما رآه في المنام فيكون الأول حقًا حقيقة، والثاني حقًا تمثيلا ومجازًا قال: وهذا كله إذ رآه على صورته المعروفة فإن رآه على خلاف صفته فهي أمثال، فإن رأى حسن الهيئة، حسن الأقوال حسن الأفعال مقبلاً على الرأي كان خيرًا له، وفيه: وإن رأى خلاف ذلك كان شرًا له، وفيه: لا يلحق النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك شيء وتفصيل هذا في كتب التعبير، وكذا اختار ابن بطال الثاني ورد الثالث وحكاهما القاضي عياض مضعفًا الثالث أيضًا، ثم وجهه بمزيد الخصوصية كما تقدم، قال: ولا يبعد أن يعاقب الله بعض المذنبين في القيامة بمنع رؤية نبية صلى الله عليه وسلم مدة وتبعه أبو عبد الله بن الحاج في المدخل، وحمله على الرابع ابن التين ونقله عن القزار، وكذا أورده المازري احتمالاً فقال: يحتمل أن يريد أهل عصره ممن لم يهاجر إليه صلى الله عليه وسلم وأنه إذا رآه في المنام فسيراه في اليقظة ويكون الباري جلت قدرته جعل رؤيته في المنام علمًا على رؤية اليقظة
أوحي إليه صلى الله عليه وسلم بذلك، وعلى الخامس ابن أبي جمرة مستدلاً له بما حكاه ظنًا منه عن ابن عباس أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فذكر بعد استيقاظه هذا الحديث وبقي متفكرًا فيه ثم دخل على بعض أمهات المؤمنين ـ أظنها ميمونة ـ فأخرجت له جبته صلى الله عليه وسلم ومرآته فنظر في المرآة فرأى صورة النبي صلى الله عليه وسلم ولم ير صورة نفسه انتهى.
وفي ثبوت هذا نظر، بل قال شيخنا: إن الحمل عليه من أبعد المحامل، قال: ويعكر على حمله على ظاهره أن جمعًا جمًا رأوه في المنام ثم لم يذكر واحد منهم أنه رآه في اليقظة، وخبر الصادق لا يتخلف، وكذا اشتد إنكار القرطبي على من قال: إنه يراه في المنام حقيقة ثم يراه كذلك في اليقظة، وقال الغزالي: ليس معنى "فسيراني في اليقظة" أنه يرى جمسي وبدني، وقال: والآلة تارة تكون حقيقية وتارة تكون خيالية والنفس غير المثال المتخيل، فما رآه من الشكل ليس هو روح المصطفى ولا شخصه بل هو مثال له على التحقيق، وكذا قال في بعض فتاويه: من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني منامًا ـ لم ير حقيقة شخصه الموضوع في روضة المدينة وإنما رأى مثالاً لا شخصه، ثم قال: وذلك المثال مثال روحه المقدسة عن الصورة والشكل، بل نقل القاضي أبو بكر بن العربي القول بأن الرؤية في المنام بعين الرأس حقيقية غلوًا وحماقة، ثم حكى ما نسب لبعض المتكلمين وهو القول بكونها مدركة
بعينين في القلب وأنه ضرب من المجاز نحو ما قاله الأستاذ ـ يعني ابن ورك ـ أو غيره. انتهى. وكذا أقول: إنه لا يمتنع عن خواطر أرباب القلوب القائمين بالمراقبة والتوجه على قدم الخوف حيث لا يسكنون لشيء مما يقع لهم من الكرامات، فضلاً عن التحدث بها لغير ضرورة، مع السعي في التخلص من الكدورات والإعراض عن الدنيا وأهلها جملة، وكون الواحد منهم يود أنه خرج من أهله وماله وأنه يرى النبي صلى الله عليه وسلم كالشيخ عبد القادر الكيلاني أن تتمثل صورته الشريفة صلى الله عليه وسلم في خاطره ويتصور في عالم سره أنه يكلمه بشرط استقرار ذلك وعدم اضطرابه، فإن تزلزل واضطرب كان له من الشيطان، فليس ذلك خادشًا في علو مناصبهم لعدم عصمة غير الأنبياء فقد قال التاج السبكي في جمع الجوامع تبعًا لغيره أن الإلهام ليس بحجة لعدم الثقة لمن ليس معصومًا بخواطره وحينئذ فمن قال ممن روينا عنه أو غيرهم بأن المرئي هو المثال لا يمتنع حمله على هذا، بل حمل كل من أطلق عليه هو اللائق وقريب منه ما قيل في قوله صلى الله عليه وسلم:"رأيت الجنة والنار" مع من يدفع استبعاده هناك أن المراد بالرؤية رؤية العلم، ونحوه ما قيل: هي حكمة العدول عن الغيبة إلى الخطاب في قول
المصلي: "السلام عليك" على طريق العرفان من أن المصلي لما استفتح باب المذكور بالتحيات أذن له في الدخول في حرم الحي الذي لا يموت فقرت عينه بالمناجاة نبه على أن ذلك بواسطة نبي الرحمن وبركة مبايعته فالتفت فإذا الحبيب حاضر ثم أقبل عليه قائلاً: السلام عليك إلى آخره، بل يحكي عن أبي العباس المرسي أنه قال؛ لو حجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما عددت نفسي من المسلمين، ويشير لما ذهبنا إليه قول شارح المصابيح: أو يراه في الدنيا حالة الذوق، والانسلاخ عن العوائق الجسمانية كما نقل ذلك عن بعض الصالحين أنه رآه في حالة الذوق والشوق، وحكي عن قيس المجنون أنه قيل له: ندعو لك ليلى؟ فقال: وهل غابت عني ليلى فتدعى؟ قيل: أفتحبها؟ فقال: المحبة ذريعة الوصل وقد وقعت الوصلة، فأنا ليلى وليلى أنا.
وأما ما حكاه التاج بن عطاء الله في كتابه "لطائف المنن" عن بعض أصحابه قال: لما رجع الشيخ أبو الحسن الشاذلي من الحج أتى إلى الشيخ الإمام عز الدين بن عبد السلام قبل أن يأتي منزله فقال له: الرسول صلى الله عليه وسلم يسلم عليك، فاستصغر العز نفسه أن يكون أهلاً لذلك. واتفق حضور محي الدين بن سراقة ـ يعني محمد بن محمد بن إبراهيم بن الحسين أحد أتباع ابن عربي، وأبو العلم ياسين أحد أصحاب محيى الدين ابن عربي، فقال أولهما للعز: ليهنكم ما سمعنا، والله إنا لنفرح أن يكون في هذا الزمن من يسلم عليك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال العز:
الله يسترنا، فقال أبو الحسن: الله يفضحنا حتى يبين الحق من الباطل، ثم أشار إلى القول، وكان بعيدًا بحيث لم يسمع ما دار بينهم أن يقول، فكان أول ما قال:
صدق المحدث والحديث كما جرى
فقام العز وطاب ويه، وقام الناس لقيامه. انتهى بمعناه.
فهي إن علمت نفسه المتهم الذي حكاها يحتمل أن يكون ما سمعه الشيخ أبو الحسن من السلام نشأ عن منام، ويحتمل أن يكون سمع ذلك من القبر الشريف كما وقع لجماعة كثيرين، وكذا ما حكاه ابن عطاء الله عن أبي العباس المرسي أنه كان مع الشيخ أبي الحسن بالقيروان في ليلة الجمعة سابع عشر رمضان فذهب معه إلى الجامع فلما دخل وأحرم بالصلاة رأى الأولياء يتساقطون عليه كما تتساقط الذباب على العسل، فلما أصبحنا وخرجنا من الجامع قال: ما كانت البارحة إلا ليلة عظيمة، كانت ليلة القدر ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا علي ظهر ثيابك من الدنس تحظ بمدد الله في كل نفس. قلت: يا رسول الله وما ثيابي؟ قال: اعلم أن الله يا على قد خلع عليك خمس خلع: خلعة المحبة، وخلعة المعرفة، وخلعة الإيمان، وخلعة التوحيد، وخلعة الإسلام، من أحب الله هان عليه كل شيء، ومن عرف الله صغر لديه كل شيء، ومن حد الله لم يشرك به شيئًا ومن آمن بالله أمن من كل شيء، ومن أسلم لله قلما يصيبه شيء، وإن عصاه اعتذر إليه، وإن اعتذر إليه قبل عذره، ففهمت حينئذ معنى قوله عز وجل:(وثيابك فطهر) يحتمل أيضًا لأن يكون منامًا.
ومنه ما حكاه الشهاب السهروردي في الباب الحادي والعشرين من
عوارفه قال: سمعنا أن الشيخ عبد القادر الكيلاني قال له بعض الصاحلين: لم تزوجت؟ قال: ما تزوجت، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: تزوج، بل يحتمل أن يكون أشار لقوله صلى الله عليه وسلم:"من استطاع منكم الباءة" وأنه استطاع التزوج امتثالاً لقوله. وقول الشيخ أبي عبد الله بن النعمان في كتابه: "مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام في اليقظة والمنام" أنه كان
قافلاً مع الحجاج في سنة سبع وستين وستمائة فغلبته عيناه فنام فما انتبه إلا وقد فاته الركب ولم ير أحدًا، فَهَالَه ذلك ولم يدر الطريق ودخل عليه الليل وعاين الهلاك وأيس من الحياة وأنه نادى في الظلام: يا محمداه يا محمداه أنا مستغيث بك، قال: فلم أتم الكلام حتى سمعت قائلاً يقول لي: أبشر، فنظرت فإذا أنا بشخص لم أتبين وجهه وعليه ثوب أبيض في سواد الليل فأخذ بيدي فلما وقعت يدي في يده زال عني ما كنت أجده من التعب والعطش وأنست به أنسًا عظيمًا ثم سار بي ويده في يدي فلم يزل سائرًا ساعة فبينما أنا كذلك إذ سمعت الحجاج والدليل ينادي بالناس وقد أوقدوا لهم نارًا يهتدون بها فنظرت فغذا أنا براحلتي قدامي واقفة فصحت من فرحي بها فلما صحت نزع ذلك الشخص يده من يدي وقال: دونك راحلتك، ثم رفعني فوضعني عليها وتركني وولى وهو يقول: نحن لا نخيب من طلبنا واستغاث بنا فعلمت بذلك أنه النبي صلى الله عليه وسلم فرأيت أنواره وهو ذاهب تلوح في ظلام الليل وقد لحقني من الشدة شيء عظيم كيف لم أقبل يديه ورجليه، فليس فيه أنه رآه مع احتمال كونه ملك، أو تأويل قوله: نحن لان نخيب إلى آخره، ولأجل ما طرق هذه الحكايات من الاحتمال فمن نسب من أجلها العز ابن عبد السلام وأبى الحسن الشاذلي وابن عطاء الله القول بالرؤية يقظة لموافقتهم عليها، فقد أخطأ. وقد انتقد الشيخ سراج الدين البلقيني من حكاية ابن عطاء الله وضعف أبا العلم ياسين بأنه أحد اصحاب العارف بالله محيى الدين بن عربي فقال كما قرأته بخطه: أخطأ مصنف هذا الكتاب في وصف ابن عربي بأنه عارف بالله، لأن ابن عربي المذكور من أجهل الجاهلين بالله، لقد جهل جهلاً قبيحًا وضل ضلالاً
بعيدًا، لم يأت أحد في أنواع الضلالة والكفر بما أتى به وكتبه محشوة بذلك وأخبر عن العلماء الأثبات بذلك وكتبنا ذلك لئلا يغتر به من يقف عليه والنصيحة مطلوبة ثم على ما قررته به يكون معنى فسيراني في اليقظة أي يتصور مشاهدتي وينزل نفسه حاضرًا معي، بحيث لا يخرج عن آدابه وسننه صلى الله عليه وسلم بل يسلك منهاجه ويمشي على شريعته وطريقته. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في الإحسان:"أن تعبد الله كأنك تراه" ويحمل العموم فيمن رآني على وإليه يشير بعض قول المعتمدين أي من رآني رؤية، معظم لحرمتي، ومشتاق لمشاهدتي وصل إلى رؤية محبوبه وظفر بكل مطلوبه.
إذا علم هذا فقد تتراءى بعض الحور العين في اليقظة لبعض المجاهدين.
روينا في الجزء الثامن من الغيلانيات من حديث عبد الرحمن بن
يزيد بن معاوية قال: قال لي رجل ونحن نسير في أرض الروم أخبر أبا حازم ـ يعني سلمة ابن دينار ـ التابعي الشهير من شأن صاحبنا الذي رأى في العنب ما رأى ـ فقال الرجل لعبد الرحمن: بل أخبره فقد سمعت منه، فقال عبد الرحمن: نعم مررنا بكرم فقلنا لرجل: خذ هذه السفرة فاملأها من هذا العنب ثم أدركنا في المنزل فلما دخل الرجل الكرم نظر إلى امرأة على سرير من ذهب من الحور العين فغض عنها بصره ثم نظر في ناحية الكرم، فإذا هو بأخرى مثلها، فغض عنها بصره، فقالت له: انظر فقد حل لك النظر فإني والتي رأيت زوجتاك من الحور العين، وأنت تأتينا يومًا في هذا، فرجع إلى اصحابه ولم يأتهم بشيء، فقلنا له: مالك أجننت، فراينا له حالاً غير الحال التي فارقناه عليها من نور وجهه وحسن حاله، فسألناه: ما منعك من ذلك؟ واستعجم علينا حتى أقسمنا عليه فقال: إني لما دخلت الكرم وقص القصة، فما أدري أكان ذلك أسرع أو استنفر الناس العدو فأمرنا به إنسانًا يمسك دابته حتى أسرجنا ثم ركب وركبنا رجاء أن نصيب الشهادة معه فتقدم بين أيدينا، وكان أول الناس استشهد يومئذٍ.
ومن طريق عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال: حدثنا ابن أبي زكريا ـ يعني عبد الله الفقيه الدمشقي ومعنا مكحول أن رجلاً مر بكرم من أرض الروم فقال لغلامه: أعطني مخلاتي حتى آتيكم من هذا العنب، فأخذها ثم دفع فرسه فبينما هو في الكرم إذا هو بامرأة على مثل لم ير مثلها قط فلما رآها صد عنها فقالت: لا تصد عنا فإني زوجتك وامض أمامك فسترى ما هو أفضل مني، فمضى فإذا هو بأخرى فقالت له مثل
ذلك، وأظنه أبا مخرمة، قال عبد الرحمن بن يزيد: فأخبرني عطاء بن قرة السلولي قال: كنا مع أبي مخرمة السعدي فما عدا أن جاءنا من ذلك العنب فوضعه ودعا بقرطاس ودواة، فكتب وصيته فلما رآه أبو كريب الغساني كتب وصيته ثم قام مقاتل الليثي فكتب وصيته، ثم قام ابن أبيعمار فكتب وصيته ثم قام عوف اللخمي فكتب وصيته ثم لقينا برجان فما بقي أحد من هؤلاء الخمسة إلا قتل، قال: ولم نكتب نحن وصايانا فلم نقتل.
ومن حديث الحسن بن عبد العزيز يعني الجروي يعني أبي علي المصري قال: حدثنا أبو حفص قال: سمعت سعيدًا يقول: لا نعلم أحدًا رأى الحور العين عيانًا إلا في المنام إلا ما كان من أبي مخرمة فإنه دخل كرمًا لبعض حجاته فرأى الحور عيانًا في قبتها على سريرها، فلما رآها صرف وجهه عنها، فقالت: إلى يا ابا مخرمة فإني زوجتك، وهذه زوجة فلان، زوجة فلان، زوجة فلان، فانصرف إلى أصحابه فأخبرهم فكتبوا وصاياهم ولم يكتب أحد وصيته إلا استشهد". وروينا في رابع فوائد تمام بسند ضعيف عن أبي سابط عبد الرحمن عن جابر رفعه: "حدثوا عن بني إسرائيل فإنه كانت فيهم الأعاجيب وأنشأ صلى الله عليه وسلم يحدث، قال: خرجت طائفة من بني إسرائيل حتى أتوا مقبرة من مقابرهم فقالوا: لو صلينا ودعونا الله عز وجل يخرج لنا رجلاً ممن قد مات فنسائله عن الموت ففعلوا، فبينما هم كذلك إذ طلع رل رأسه من قبر من تلك المقابر بين
عينيه أثر السجود فقال: يا هؤلاء ما أردتم إني لقد مت من مائة عام فما سكنت روعتي من حرارة الموت فادعوا الله عز وجل أن يردني كما كنت". ونحوه ما رويناه في "كرامات الأولياء" للخلال عن أبي يوسف الغسولي قال: كنت مع إبراهيم بن أدهم فدخل عليَّ يومًا فقال: يا غسولي! لقد رأيت اليوم عجبًا. قلت: وما ذاك يا أبا إسحاق؟ قال: وقفت على قبر من هذه المقابر فانشق لي عن شخص خضيب فقال لي: يا إبراهيم سل فإن الله أحياني من أجلك، قال: ما فعل الله بك؟ قال: لقيت الله بعمل قبيح، فقال لي: غفرت لك بثلاث: لقيتني وأنت تحب من أحب، ولقيتني وليس في صدرك مثقال ذرة من شراب حرام، ولقيتني وأنت خضيب، وأنا أستحيى من الخضيب أن أعذبه بالنار، قال: والتأم القبر على الرجل قال الغسولي: فقلت: يا أبا إسحاق ألا تدفعني على هذا القبر؟ قال: ويحك يا غسولي عامل الله تعالى يريك العجائب.
وأما الملائكة عليهم السلام، فقد ثبت رؤية غير واحد لهم بل كانت تصاح عمران بن حصين رضي الله عنه قبل أن يكتوي.
وقال ابو هبيرة: كنت أصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وعيناي مطبقتان ـ فرأيت من خلفي كأسًا ملئت بمداد أسود صلاتي على النبي صلى الله عليه وسلم في قرطاس وأنا أنظر مواقع الحروف في ذلك القرطاس ففتحت عيني لأنظره ببصري
فرأيته وقد توارى عني حتى رأيت بياض يديه. وكذا رؤية غير واحد للجان، بل وقرأ الجان على غير واحد من صالحي العلماء. ورؤية إبليس أيضًا، وذلك مما لا نطيل بإيراده، سيما وقد روينا عن الشافعي أنه قال: من زعم من أهل العدالة أنه يرى الجن بطلت شهادته، لأن الله تعالى يقول: "إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم) إلا أن يكون نبيًا. وليس ذكر المسألة من عرضنا هنا.
وأما رؤية نبينا صلى الله عليه وسلم لمن شاء الله من الأنبياء ليلة الإسراء فحمله بعض العلماء على رؤية أرواحهم إلا عيسى عليه السلام لما ثبت أنه رفع بجسده وكذا قيل به في إدريس عليه السلام أيضًا، ومال إليه شيخنا، ولا يعارض ما صح عنه صلى الله عليه وسلم قال:"رأيت موسى ليلة أسري بي قائمًا يصلي في قبره" إذ يجوز أن يكون لروحه اتصال بجسده في الأرض فذلك يتمكن في الصلاة وروحه مستقرة في السماء، وجزم أبو الوفاء ابن عقيل بأن أرواحهم مشكلة باشكال أجسادهم، وأما الذين صلوا معه في بيت المقدس فيحتمل الأرواح خاصة، ويحتمل الأرواح بأجسادها، وهل ذلك قبل العروج أو بعده؟ قال شيخنا: الأظهر الأول، ثم صعد منهم إلى السماوات من ذكر أنه صلى الله عليه وسلم رآه، والمسألة محتملة للبسط. وقد صنف البيهقي:"حياة الأنبياء في قبورهم". والله المستعان.